نسخ الأفلاج في عمان ونظائرها: المفهوم، والتاريخ، وقواعد العمل بها.
الباحث المراسل | د. nasser alsaadi | باحث |
د. Abdullah Al Ghafri | كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج- إركيوهيدرولوجي، جامعة نزوى. |
Date Of Submission :2023-01-31
Date Of Submission :2023-01-31
Date Of Submission :2023-02-11
Date Of Submission :2023-02-11
Date Of Acception :2023-02-15
Date Of Publication :2023-05-29
نسخ الأفلاج في عمان ونظائرها:
المفهوم، والتاريخ، وقواعد العمل بها
د. عبد الله بن سيف الغافري
د. ناصر بن عبد الله السعدي
كرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج- إركيوهيدرولوجي، جامعة نزوى.
الملخص
سعت هذه الدراسة إلى البحث في تاريخ نسخ الأفلاج، وتتبع الإشارات المتعلقة بنسخ الأفلاج من خلال كتب الجوابات والنوازل الفقهية بالاعتماد على المنهج التحليلي. وذلك بهدف إبراز هذا التقليد الذي عرفه المجتمع العماني منذ مئات السنين. وقُسّمت الدراسة إلى ثلاثة محاور، الأول يتناول مفهوم نسخة الفلج من الناحية اللغوية والاصطلاحية وتاريخ نسخة الفلج، ويتناول المحور الثاني نظائر وأشباه نسخ الأفلاج خاصة تلك السجلات التي تشترك مع نسخ الأفلاج في الجوهر من حيث كونها سجلات لتوثيق الملكية عرفها الإنسان العماني في تاريخ الطويل، ويتطرق المحور الثالث من الدراسة إلى ضوابط وقواعد العمل بنسخ الأفلاج، وقد اعتمدت الدراسة في المقام الأول على نصوص النوازل الفقهية بدءا من القرن (3هـ\9م) وحتى مطلع القرن (14هـ\20م). ومن خلال النتائج التي توصلت إليها الدراسة خاصة تلك المتعلقة بضوابط وقواعد العمل بنسخة الفلج، فإن هذه الدراسة توصي الجهات المسؤولة والمشرفة على الأفلاج العمانية بضرورة إيجاد سجلات قانونية توثق حصص الأفراد والجماعات في الفلج لمنع الخلافات، وحفظ الحقوق وصونها.
الكلمات المفتاحية: نسخة الفلج، سجلات توثيق الملكية، سلطنة عمان، الأفلاج، الزراعة.
Abstract
This study aims to discuss the history of the (Nuskha Aflaj) Aflaj records, and monitor its mention in Omani sources, specifically the books of Fiqh, and the study relies on the analytical approach. With the aim of highlighting this administrative tradition that Omani society has known for hundreds of years. The study was divided into three axes. The first discusses the concept of the Nuskha falaj from a linguistic and terminological point of view and the history of Nuskha falaj. The second axis provides a general overview of other property records. The third axis reviews the controls and rules for Nuskha aflaj, and the study relied primarily on the jurisprudential texts emerging from the century (3AH\9AD) until the beginning of the century (14AH\20AD). And through the results, especially those related to the controls and rules of working with the falaj records, this study recommends the authorities responsible and supervising the Omani falaj to find legal records that document the shares of individuals and groups in the falaj. To prevent disputes, preserve and preserve rights.
Keywords: Falaj Record, Property Documentation Records, Sultanate of Oman, Aflaj, Agriculture.
المقدمة
تميّز نمط العمران البشري للإنسان في عمان بالثبات نوعا ما، لا سيما في الواحات الزراعية، وكان الفلج مُنشِّطا ومُعززاً للاستيطان، وبمثابة رابطة من روابط العلاقات والمعاملات في المدينة العمانية، فهو يؤلف بين كلّ الفئات الاجتماعية في المنطقة التي يرويها، مما أدى أن تعددت أنواع الملكية في الفلج فهناك ملكية الأفراد والجماعات، والملكية الخاصة بالمؤسسات الثقافية والدينية والاجتماعية، بالإضافة إلى الأوقاف التي خصصت لبعض الفئات كالفقراء، وقد استدعى هذا النمط من أنماط الاستقرار وجود شكل من أشكال التنظيم والقيم والمبادئ؛ بهدف تعزيز وضبط العلاقات والمعاملات، وتوثيق الحقوق والملكية.
عرفت عمان عبر تاريخها أنماطًا من التنظيم السياسي على مستوى المركز بوجود دولة تبسط سيادتها على كلّ عمان أو وجود تنظيمات محلية تتمثل في القبيلة، ومن رحم هذه التنظيمات السياسية لا سيما المحلية منها، ولطبيعة الاستقرار في المدينة العمانية ظهرت العديد من التقاليد والقيم الإدارية التي تهدف إلى إدارة الروابط والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وتعدُّ سجلات توثيق الملكية والحقوق في الفلج من أهم التقاليد التي ابتدعها الإنسان العماني حيث تعرف في الثقافة العمانية بنسخة الفلج، كما أن لهذا التقليد نظائر وأشباه.
تسعى هذه الدراسة إلى البحث في هذه التقاليد مع التركيز بشكل خاص على نسخ الأفلاج؛ بهدف إبراز هذا التقليد الذي عرفه المجتمع العماني منذ مئات السنين، لا سيما وأن الباحثين لم يقفا حتى الآن على دراسة وافية تناولت تاريخ نسخ الأفلاج في عمان تكشف جوانبها، وتجلي تاريخها باستثناء ما تناوله الباحث سلطان الشيباني والذي هَدفَ في الأساس إلى الحديث عن مخطوطات نسخ الأفلاج، إلا أنه قدّم نبذة مهمة حولها ضمن تأليفه المشترك مع الباحث محمد العيسري، والمعنون بـ " نوادر المحطوطات العمانية المحفوظة في دار المخطوطات بوزارة التراث والثقافة"، بالإضافة إلى بعض المقالات في الصحف والمجالات، وهي محاولات استقت أغلب مادتها من كتاب " نوادر المخطوطات العمانية"؛ لذا تحاول هذه الدراسة تناول تاريخ نسخ الأفلاج، وتتبع الإشارات من خلال كتب الجوابات والنوازل الفقهية بالاعتماد على المنهج التحليلي.
قُسّمت الدراسة إلى ثلاثة محاور، الأول يتناول مفهوم نسخة الفلج من الناحية اللغوية والاصطلاحية وتاريخ نسخة الفلج، ويتناول المحور الثاني نظائر وأشباه نسخ الأفلاج خاصة تلك السجلات التي تشترك مع نسخ الأفلاج في الجوهر من حيث كونها سجلات لتوثيق الملكية عرفها الإنسان العماني في تاريخ الطويل، ويتطرق المحور الثالث من الدراسة إلى ضوابط وقواعد العمل بنسخ الأفلاج، وقد اعتمدت الدراسة في المقام الأول على نصوص النوازل الفقهية بدء من القرن (3هـ\9م) وحتى مطلع القرن (14هـ\20م)، وهي مثبتة في هوامش هذه الدراسة، وقائمة مراجعها ومصادرها.
أولا: نسخة الفلج، المصطلح والتاريخ
- جذور المصطلح
النسخة من الناحية اللغوية، كما جاء في كتاب " التهذيب" نسخ عن الأصل "حرفا بحرف، والمكتوب عنه نسخة لأنه قام مقامة" ، وهذا المعنى يشير إلى وجود أصل متقدم والنسخة قامت مكان ذلك الأصل، ودلالة استخدام مفردة النسخة للإشارة إلى السجل الذي يتضمن حصص ملاك مياه الفلج وما يطرأ على تلك الملكية من تغيرات، يقودنا إلى النظر في جذور نشأة مصطلح " نسخة الفلج"، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إن مصطلح نسخة الفلج ليس هو المصطلح المجمع على استخدامه في كلّ منظومة الأفلاج العمانية، فهنالك مصطلحات أخرى مثل: العرضة، والجامعة، ويستخدم أيضا مصطلح دفتر الفلج، إذ جاء في جوابات الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي (ت: 1871م) بما نصه " فأمر الذي بيده دفتر الفلج أن ينقل له أثر ماء من ماء الهالك لهذا الموصى له" ، وهذه المفردات الأربعة تتفق من حيث المعنى الاصطلاحي، إلا أن جذرها اللغوي يتباين بين مفردة وأخرى.
والجذر اللغوي للعرضة: عرض، بمعنى بسطه وطرحه، وأظهر الشيء. أما المعنى الاصطلاحي للعرضة لكونها عرضة للفلج، فهو يشير إلى وجود فرع عرض على أصله، بمعنى مقارنة الشيء بقرينه أو مقابلة الشيء بأصله ، ومن خلال البحث وقفنا على عدة استخدامات لمفردة العرضة بمعنى أنها نسخة عن أصل، ومن ذلك ما ورد في كتاب إنباه الرواة على أنباه النحاة، فقد جاء " فمن روى عني في هذه النسخة وهذه العرضة حرفا وليس هو من قولي فهو كذاب عليّ" . وفي الثقافة العمانية استخدم مصطلح العرضة كذلك، فالناسخ الذي نسخ " صفة عقد البيعة للإمام بلعرب بن حمير اليعربي"، علّق بعد أن أكمل نسختها بما يلي: " كتبت هذه العقدة وهذه الشروط من عرضة وجدتها مع أحد من المسلمين كما وجدتها- حرفا بحرف- ... كتبه الفقير إلى الله خلف بن أحمد بن خلف العبادي بيده، وذلك نهار السبت لليلة بقيت من جمادى الأولى سنة 1146هـ\1733م" . وجاء مصطلح العرضة كذلك في إشارة إلى وثائق الصلح، ففي الرسالة التي كتبها سلطان بن محمد البطاشي(ق:12هـ\18م) إلى أخيه عمر بن محمد يخبره عن صلح بين متخاصمين على يد خلفان بن محمد الوكيل، قال البطاشي مخبراً عما حدث " ... ثم كتب الوكيل عرضة بالصلح، وبهدم الحدث ببلد قر، وليأتي حاكما من الرستاق لينظر الحدث بوادي الطائيين، والذي تحدثه المضرة يقشع" .
وأما مفردة الجامعة: من جمع، يجمع، ضم الشيء بعضه إلى بعض، وألف بينه، وجمع المتفرق . وبالتالي يصح أن نقول جامعة الفلج هي ما جمعت حصص ملاك الفلج مكتوبة في قرطاسة واحدة، وعليه يظهر مما سبق أن النسخة والعرضة متقاربتان في المعنى اللغوي من حيث إنهما قامتا مقام الأصل أو صورة منه ونسخة له، وهو الفلج. وأخيرا يتضح أن نسخة الفلج يراد بها السجل الذي يتضمن حصص ملاك مياه الفلج، وما يطرأ على تلك الأملاك من تغيرات، كالبيع والشراء والهبات والإرث ، وهو بذلك شكل من أشكال توثيق الملكية.
- تاريخ المصطلح
هذا التقليد الإداري الذي عرفته الثقافة العمانية موغل في القدم وذُكر في أوائل المدونات العمانية لاسيما نصوص النوازل الفقهية، إذ ورد ذكره في نص يعود إلى القرن (4هـ\10م) وتحديداً في مسألة فقهية تنسب إلى أبي الحسن البسيوي، نصها كما يلي: " وعندكم تنسخون الأفلاج وفيها مياه الناس ليس يعرف أصحابها. أملى عليك صاحب الديوان فكتبت المياه. فعلى ما وصفت فإن كنت أنت إنما أملى عليك صاحب الديوان شيئا من مياه الفلج من خبائر معروفة. وكتبت ما أملي عليك عن رأيه ولم تأمر أنت ولم تنه فيه ولم تسد ذلك الماء برأيك ولا يؤخذ بكتابك لم أرَ عليك فيه بأسا إن شاء الله" .
وفي نص يعود إلى القرن (9هـ\15-16م)، وتحديداً في مسألة حول قضية من قضايا الفلج رفعت للشيخ أحمد بن مداد، جاء حول نسخة الفلج ما نصه: " في فلج يحوزه العرفاء ويولفوا الماء للهناقرة بادة إلى بادة، وكان ذلك من سنته السالفة، وكل من الهناقرة يحوز ما عنده من الماء ثم يموت الحائز. أيكون حوزه حجة لورثته حتى يصح أنه يحوزه بغصب أو قعادة- الإيجار- أو منحة، والفلج له نسخة أيكون عليه العمل أم لا ؟ قال: العمل على الحوز والمنع وحوز الهالك حجة لورثته حتى يصح ما ذكرت والنسخة لا عمل عليها" . وتواصل ذكر نسخ الأفلاج في القرون اللاحقة مما يدل على رسوخ هذا التقليد الإداري كجزء من نظام الأفلاج في عمان، ففي القرن (12هـ\16-17م) رفعت مسألة للشيخ حبيب بن سالم أمبوسعيدي حول قضية تخص نسخ الأفلاج ذاتها، ومما جاء في تلك المسألة:" إذا أراد أهل الفلج أن يجعلوا له نسخة فلا يجوز شراء القرطاس من ماله، وذلك من مصالحهم لا من مصالحه" .
وفي القرون المتأخرة، لا سيما بعد القرن (12هـ\16م) تزايد الاهتمام بنسخ الأفلاج، وبدأت تظهر نوازل وقضايا وأحداث استوجبت أن ترفع إلى الفقهاء للحكم فيها أو الفتوى، ومن ذلك على سبيل المثال ما هو مرفوع للشيخ سعيد بن خلفان الخليلي(ت:1287هـ\1871م)، وهي مسألة طويلة، إلا أن لها علاقة مباشرة بنسخ الأفلاج، وهي كالآتي:" ... في فلج قديم سالف أصلي مربوب- مملوك-، وله خباير معروفة وآثار مقتسمة لملاكها، وفيه بيع وشراء وارث بعد وارث يتداولونه ويتناقلونه من مالك إلى مالك ... وله نسخة قديمة صحيحة ثابتة لمياهه، ومرسومة فيها على الترتيب لأهلها ووقوفاتها، وهي بخط من يجوز خطه عند المسلمين الذي لا نشك فيه وهو ثقة عالم...ومن عادتهم إذا اشترى المشتري نقل له في النسخة، فباع هذا أثرا بعد أثر إلى أن فاض الماء وبرح المشترون يسقون به ويمنعونه بالبيع والشراء والكتابة من الكاتب والإملاء على البائع" .
ومنذ القرن (14هـ\19م) بدأت المدونات الفقهية تنحو منحى آخر، وصارت تشير إلى نسخ أفلاج بعينها، ومن ذلك ما ورد في جوابات الشيخ نور الدين السالمي، فقد ذكرت نسخة فلج عبري في مسألة فقهية، وهي كما يلي : " نجد في نسخة فلج عبري شيئا من الماء لدامه بن لالاه البانيان، ودامه قد غاب عنا اسمه ومعرفته ومعرفة ورثته" ، وفي الجوابات نفسها جاءت إشارة إلى نسخة تنتمي إلى فلج من الأفلاج الميتة والتي اختفى رسمها، ويسمى فلج " دوس مد"، ومما ورد بشأن الفلج ونسخته، ما نصه" ما تقول شيخنا في فلج بنزوى اسمه دوس مد وكان سقيه سهيلي سقي أموال دارس فلما خدم دارس وزيد فرض من أعلاه يبس ماء هذا الفلج، وله نخل وأروض فصارت في أيدي الجبابرة من قديم الزمان فلما أخرجت من أيديهم وجد لهذا الفلج نسخة ومكتوب فيها الفلج دوس مد نخلة الفلانية وأرض الفلانية" .
وإن كان الغالب على نصوص النوازل الفقهية أنها تشير إلى سجل الفلج بمصطلح النسخ، إلا أن مصطلح العرضة هو الآخر نصت عليه النوازل الفقهية المتعلقة بالأفلاج، ومن ذلك ما ورد في نص مسألة فقهية رُفعت للشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، إذ يقول السائل" ...أعدنا عليك السواد من قبل العرضة المرسوم بها فلج سوني القديمة المبتلي بها أسير ذنبه إن لم يعفُ عنه ربه هلك مع الهالكين، هل يسعه كتمانها ما دام خائفا على نفسه أو ماله ؟" . وذُكر مصطلح العرضة في الإشارة إلى سجل أملاك المساجد من أراضي ومياه، ومما قاله السائل حولها:" في رجل عنده عرضة في ماء أموال المساجد، وطلبها منه عريف هذا الماء ودفعها إليه لينظرها، وهذا الرجل العريف غير ثقة من المتغلبين" ، ومن أهم نماذج نسخ الأفلاج التي حفظتها خزائن المخطوطات العمانية ما يلي :
- نسخة فلج الملكي، ولاية إزكي : تعد نسخة فلج الملكي من أقدم نسخ الأفلاج الموجودة في خزائن المخطوطات العمانية، وتعود إلى القرن العاشر الهجري، وهي بخط أبي القاسم بن صالح في 12 ذي الحجة 995هـ\1587م .
- نسخة فلج الميسر، ولاية الرستاق، وهي مؤرخة في صفر، 1219هـ\1804م
- نسخة فلج العوابي، وهي بخط الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي(ت: 1263هـ\1847م) ثم رتبها الشيخ يحيي بن خلفان بن أبي نبهان الخروصي(ت: 1324هـ\1906م).
- نسخة فلج العزيزي، ببلدة سيق من الجبل الأخضر، بخط ربيعة بن ماجد بن سليمان الكندي، بتاريخ 8 رجب 1308هـ\1890م.
- نسخة فلج فروض، بوادي قريات بولاية بهلا، وهي مؤرخة بين سنتي 1361 و1369هـ\1942-1946م.
هذه النسخ وغيرها تؤكد أن نسخة الفلج من التقاليد الراسخة في نظام الأفلاج العمانية عبر القرون، وأداة من أدوات توثيق الملكية وحفظ الحقوق وصونها من الضياع، ودَرْءًا للنزاعات والخصومات التي قد تحدث بين المُلّاك بسبب غياب التوثيق. وأما بخصوص الأوعية أو الأدوات التي استخدمت للتوثيق فقد تكون ألواحاً، واللوح عادة يكون صفيحة من معدن أو عظم، واستخدمت أيضا الرقاع، والرقعة قد تكون قرطاسا أو جلداً.
ثانيا: نظائر وأشباه نسخ الأفلاج
تعدُّ نسخة الفلج شكلا من أشكال توثيق الأملاك، وعرف التاريخ العماني لها نظائر وأشباه، منها ما هو مرتبط بالأفلاج كسجلات أموال الأوقاف والمساجد حيث تحتفظ خزائن المخطوطات العامة والخاصة بالعديد من هذه الأشكال ، كما أنّ هنالك أشكالاً من سجلات التوثيق تُعنى بتوثيق السهام والأنصبة والحصص، منها ما يخص النظام السياسي كسجلات من عليهم الخراج، وسجلات عطايا الشراة، ونفقات بيت المال، إضافة لسجلات تخص العشائر والقبائل، ومنها السجلات التي توثق أنصبة الأفراد في الملكية المشاعة؛ لكنّ هذه السجلات لم يترك لها الزمن من أثر، ووصل إلينا اسمها دون رسمها، ومن ذلك لوح "سهام الرم"، ورقاع السلطان، ورقاع صاحب الساحل، ودفتر الشراة، وبيت المال، فهذه الأوعية سواء أكانت رقاعاً أو ألواحا أو قرطاسا، فهي سجلات تهدف إلى توثيق الحقوق والحصص والأنصبة، وهي سجلات لا تبتعد من حيث الإطار الداخلي والخارجي عن معنى نسخ الأفلاج بل إن الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي اعتبر نسخ الأفلاج كدفاتر التجار وغيرها.
- لوح سهام الرم
اللوح كل صفيحة عريضة، والكتف إذا كتب عليه يسمى لوحا، ويكون إمّا من " خشب أو معدن أو عظم". ويقول ابن دريد في الجمهرة " وسمي لوح الصبي لوحا، لأنهم كانوا يكتبون في أكتاف الإبل، والجمع ألواح" . واستخدم أهل عمان الألواح للكتابة، وكانت حتى فترة متأخرة مستخدمة في الكتاتيب والمدارس التقليدية، وفي الجزء السابع من بيان الشرع، ما يشير إلى اللوح الذي يكتب فيه . وأما مفهوم الرموم هي " أروض مملوكة محيية بالماء موقوفة على عشيرة من مات منهم، مات سهمه منها، ومن ولد منهم، حي سهمه منها، هكذا معنى الرموم المذكورة في الأثر المعروفة بين أهلها" . وهناك إشارات عديدة للألواح التي استخدمت كسجل لتوثيق سهام الرم، ومن أوائل هذه الإشارات تعود إلى القرن (3هـ\9م)، وهي إشارة إلى لوح سهام أهل عقر نزوى من الرم، فقد ورد ما يلي " وأما تراب العقر، فبلغنا أن رجلا حمل ترابا من عقر نزوى، فجاء رجل من عقر نزوى، فحرم عليه ذلك، فوصلا إلي محمد بن محبوب - رحمة الله - فقال اذهب إلى اللوح الذي فيه سهام أهل القرية، فأعطوه سهمه. وإنما قال هذا غضبا على الذي منع الحامل من التراب" .
وفي كتاب " إيضاح الأحكام" ذكر أيضا لوح سهام الرم مما يدل على استخدامه كأداة للتوثيق، والمسألة الفقهية تشير إلى إمكانية إضافة في اللوح اسم من يدّعي أن له نصيب في الأملاك التي يوثقها ذلك اللوح، إذ جاء بما نصه" ... وقد دخل في اللوح يطلب هذا الطالب الدخول، ولم يصح أنه من أهل البلاد إلا نسبه" .
- رقاع السلطان وصاحب الساحل
الرقعة قطعة من الجلد، وقد يسمى الورق رقاعاً، والرقاع لا يلحقه معنى الكتاب، إلا إذا كتب فيه، وهذا المعنى للرقاع جاء في كتاب " منهج الطالبين"، وأما الرقاع " فما كان منها مكتوبا فيه، لحقه معاني الكتب، وما لم يكن مكتوباً فيه، فلا يلحقه معاني الكتب" . وتأكيدا لهذا المعنى استخدم ناسخ كتاب " الإبانة في اللغة العربية" مفردة الرقعة في الإشارة إلى الجزء الأول من الكتاب، إذ قال بعد أن انتهى من نسخه: " تم رقاع القطعة الأولى من كتاب الإبانة" وكان تمام النسخ 13 جمادى الأولى سنة 967هـ\1559م" . واستخدمت مفردة الرقاع في الإشارة إلى رقاع السلطان، وهي سجلات تستخدم لتدوين أسماء من عليهم الخراج والضرائب، وقد أشارت مسألة فقهية في كتاب الجامع المفيد إلى هذا النوع من السجلات، ونصها كالآتي" سئل عن رجل أخذ رقعة فيها أسماء الناس من عند عون من أعوان السلطان، فأبصر فيها أسماء ورده إليه" . وبالإضافة إلى رقاع السلطان هنالك رقاع صاحب الساحل في صحار، وهو المسؤول عن تحصيل الرسوم على السلع والبضائع في الميناء، ومن تقليد عمل هذا المسؤول أنه يدون سلعة كل تاجر في رقعة، والمسألة التالية توضح عمل صاحب الساحل، بما يلي" وأول ما يعمل به صاحب الساحل بصحار الذي يأخذ زكاة من قدم من البحر أنه إذا سمع بسفينة قد أقبلت وجّه أميناً له من عنده وكان فيها وحفظها ولا يجد فيها رقيق ولا متاع لأحد إلا كتبه عنده وكتب مال كل رجل في رقعة باسمه وأعطاها صاحب القارب وأمره أن يذهب بها إلى صاحب الساحل حيث كان فيعطيه الرقعة ويكتب ما فيها عنده" .
- الدفاتر
استخدم مصطلح الدفتر في الإشارة إلى العديد من سجلات التوثيق، كدفتر بيت المال، ودفتر الدين والجنايات، ودفتر الدلال، ودفاتر الدولة ونفقاتها ونفقات العمال والموظفين ، ودفاتر الولاة والقضاة فالوالي إذا "أنفذ الحاكم لبعض القرى حكماً وسمه عنده في الدفتر وحرزه بالأقلام والمداد من جوف المحابر ليعرف كيفية ما منه صدر من الأحكام" ، ودفتر الأحكام حجة، وعلى القاضي إذا حكم بين الخصمين أن "يثبته في دفتر حكمه" . وبالإضافة إلى استخدام مفردة الدفتر في الإشارة إلى دفاتر القضاة والولاة وردت كذلك الإشارة إلى سجلات بيت المال، وسجلات عطايا الجنود أو ما يعرف في التاريخ العماني بالشراة، وكان على دفتر الشراة مسؤولاً يدون أجرة الشاري، والتغيرات التي تطرأ عليها من زيادة ونقصان، وتشير المسألة الفقهية الآتية إلى طبيعة دفتر الشراة، إذ تنص على ما يلي:" والوالي إذا قال لمن جعله على دفتر الشراة أقطع على فلان كذا وكذا من أجرته المفروضة له في بيت المال لأجل تقصيره في كذا وكذا" ، وكانت وظيفة القائم والمسؤول على دفتر الشراة أن " يكتب ما يأخذه الشراة من بيت مال المسلمين ... (و) يعطيه قراطيس فيها بيان ما يعطيه الوالي للشراة من يده من بيت مال المسلمين" ، ويظهر من بعض المسائل الفقهية أن بعض القائمين على دفاتر الشراة يتحرج من تعطيل حقوق الشراة بأمر من الولاة، لذلك نجدهم يسعون إلى إزالة هذه الشكوك من خلال رفعها إلى الفقهاء، إذ نجد أحدهم يسأل ذلك فيما يلي "أيجوز لهذا الرجل إذا نقل ما في هذه القراطيس في الدفتر أن يعطل ما كتبه الوالي على الشراة إذا كان ذلك بلفظ ثابت والوالي ممن يكاتب بين الناس، وصاحب الدفتر ليس بمأمور بالكتابة، أمره الوالي أن يعطل ذلك أو لم يأمره ؟" ؛ ولأن القائم على دفتر الشراة ليس إلا موظفًا، فعليه أن ينفذ ما يطلب منه الوالي " على طريق الاطمئنانة والعادة الجارية" .
وأشار الشيخ نور الدين السالمي إلى الدفتر الذي تدون فيه الأسلحة والبنادق في خزائن الدولة، إذ قال عن عدد البنادق المسجلة في خزينة السلطان فيصل بن تركي (ت: 1913م) بما نصه "وأما جند السلطان فكان عندهم من الصمع- نوع من البنادق- شيء كثير قيل أن عددها في دفتر السلطان كان أربعة وعشرين مائة تفق- بندقية-" . وهنالك دفتر آخر كذلك استخدم كسجل يوثق النفقات، وإلى هذا النوع من السجلات كان معمولاً به " وكان الأمير – عيسى بن صالح الحارثي- ومن معه قد أخرجوا دفتر القوم الذي فيه كتابة نفقاتهم، وأخرجوا كيس القروش وكلّ من رأى ذلك من البدو قعد" .
هذه السجلات وإن اختلفت المفردات المستخدمة في الإشارة إليها من عصر إلى آخر، فهي تدل على أهمية توثيق الحقوق والأملاك في الثقافة العمانية، وهذا ليس فقط على مستوى إطار الدولة، فالتقليد المعروف بنسخ الأفلاج تقليدٌ من التقاليد التي أنشأها المجتمع المدني بعيداً عن تأثيرات الدولة.
ثالثا: العمل بنسخ الأفلاج، الضوابط والقواعد
ظهرت أهمية نسخ الأفلاج كسجلات للتوثيق من خلال النقاشات التي حملتها نصوص النوازل الفقهية بدءا بضرورة وجودها، والضوابط والقواعد التي تحكمها، سواء أكانت في معاملات أهل الفلج أو في حالات التنازع، فقد كان يحدث أن يلتبس على الناس حقوقهم من مياه الفلج، في حالة عدم وجود سجل يضبط تلك الحقوق، مما يؤدي إلى الاجتهاد في أخذ نصيبه من جملة الفلج ، ودَرْءًا للنزاعات، وتوثيقا للحقوق والمعاملات في البيع والشراء شدّد الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي على ضرورة ضبط نقل المياه وتوثيقه " بالعرض والدفاتر الصحيحة خوف الغلط والنسيان، لأن أكثر الناس لا يقفون على الحدود ولا يمتنعون من بسط الأيدي فيما ليس لهم بحق" . ولهذه العوامل التي شدد عليها الفقهاء ظهرت نسخ الأفلاج، إلا أن هذا التقليد احتاج إلى ضوابط دقيقة للعمل به، كما أنه واجه صعوبات وتحديات. سوف نناقشها فيما يلي:
- إلزامية العمل بنسخ الأفلاج
واجهت نسخ الأفلاج عدة مواقف فيما يتعلق بإلزامية الأخذ بها عند التقاضي، وإلى مدى اعتبرها القضاة والفقهاء حجة عند التنازع والتخاصم، فعندما سئل الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي عن نسخ الأفلاج ، قال إنها" قد تختلف أحكامها باختلاف الناقل والمنقول له من لفظ صحيح، وكاتب عدل مجتمع عليه في الإجازة ممن ثبتت إجازته" . وفي موضع آخر قال " يجوز العمل بها في الواسع لا في الحكم" ، وما ينطبق على نسخة الأفلاج ينطبق كذلك على النسخة المتضمنة أموال ومياه المساجد، يجوز العمل بها فقط " على الاطمئنانة ... ولم تعارضها حجة حق ببطلان ذلك" ؛ بمعنى لا يؤخذ بما فيها إلا بالبينة أو الإقرار، ويشرط أن تكون مكتوبة "بخط ثقة مشهور" .
تشير النصوص السابقة إلى عدم إلزامية العمل بنسخ الأفلاج عندما تحدث الخصومات، وتتفق أغلب النصوص التي وقف عليها الباحثان في عدم الأخذ بنسخ الأفلاج إلا على سبيل الاطمئنان لا على سبيل الحكم، ومع ذلك فهذا الموقف من الفقهاء لا يطال ما تعارف عليه الناس وتراضوا به، وهذا ما يؤكده الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، فقال: "... وأما في المتعارف عليه عند الورى والأمصار أو القرى، فذلك مما قد تراضوا عليه لا غير، ومتى رجعوا إلى أمر المحاكمات بطل التراضي عند المخاصمات" . وهذا التراضي سار عليه الناس، وصارت نسخ الأفلاج حجة يعتمد عليها " مع أرباب الأمواه " منذ لحظة ظهور الفلج في بعض الحالات ، وأصبحت نسخة الفلج دليلاً، فمن " كان له فيها رسم ماء فله في الفلج، ومن ليس له بها رسم ماء فقد عدم خوف الادعاء" .
هذه الأهمية التي تمثلها نسخة الفلج في نظام الأفلاج استدعى أن تحاط بالضوابط والقواعد، بدءا بالقائم على النسخة، وفي الغالب تكون في يد وكيل\ عريف الفلج.
- المسؤول عن نسخة الأفلاج
عادة ما يكون المسؤول عن كل ما يتعلق بشؤون الفلج من قعد ومعاملات وخدمة هو وكيل الفلج\ عريف الفلج، إلا أن هناك بعض الأحوال أظهرت أن القائم على نسخة الفلج غير الوكيل كما هو الحال في نسخة فلج العوابي، ولكن هذه الحالة قد تكون استثناء وليست قاعدة، وبمجرد أن يتولى الوكيل مسؤولية الفلج يفترض أن يتولى كذلك إدارة نسخة الفلج، وعليه تقع مسؤولية توثيق حصص المياه وانتقالها سواء بالبيع والشراء أو الهبات في النسخة، وهذا التوثيق لا يكون عن طريق الادعاء الشفوي، وإنما يتبع شروطاً وُضعت لذلك، فمن بيده النسخة سواء أكان وكيلاً للفلج أو كاتبا، لا يغيّر ولا يبدّل في نسخة الفلج إلا بورقة البيع والشراء، أو الإقرار، وهذا شرط أساسي، بل عليه أن " لا ينقل إلا ما ثبت بإقرار صريح أو حكم شرعي صحيح" .
ونسخة الفلج شأن أساسي من شؤون الفلج، ولا يستقيم أمر أكثر الأفلاج إلا بها، لذلك يجب أن يتوفر شرط الثقة والأمانة، فيمن يتولى أمرها ، وتولي وكالة الفلج والقائم على نسخته من هو أهلا للمسؤولية، وتحقيقا لهذا الشرط يستدعي ذلك مناقشة الجهة المناط بها تعيين الوكلاء، وهذه القضية من المسائل التي أخذت نصيباً من النوازل التي عرضت على الفقهاء، فالأصل أن يختار ملاك الفلج وكيلا لفلجهم، وهذا ما يؤكده حتى الإطار الفقهي، ففي كتاب بيان الشرع، المسؤول عن تنصيب الوكلاء هم جباه الفلج، وإذا ما قُدِّم رجلٌ من قبل اثنين " فصاعدا من جباه البلد من أهل الفلج في القيام في مصالح الفلج جاز ذلك. وكان له ذلك على أهل البلد ممن تلزمه مصالح الفلج" ، والمقصود بجباه الفلج هم " الثقات، وقيل الرؤساء النافذ أمرهم" . وأكد العديد من الفقهاء هذا المعنى الذي جاء في كتاب بيان الشرع، فالشيخ حبيب بن سالم أمبوسعيدي يذهب أيضا إلى أن إقامة وكيلا للفلج من " أربابه أولى" ، ورأي الثقات من جباه الفلج هو المعتمد، ويصبح أمرهم نافذا على الجميع، سواء من حضر أو غاب ومن لا يملك أمره، وهذا ما يؤكده الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي حين سئل عن قضية وكالة الفلج، إذ قال: "الوكالة من الفلج تثبت من الجباه وهي كافية وجائزة عن الأيتام وغيرهم، وإنما قلت لك تستأذن الجميع الذين يمكن رضاهم ويجوز عليهم فعلهم احتياطا ووثيقة" .
ومع ذلك، فقد يحدث الخلاف بين أرباب الفلج، ولا يتفقوا على وكيل لفلجهم، ففي حالة الخلاف والتنازع، سمح الفقهاء للسلطة بالتدخل في تعيين الوكلاء أو عزلهم، وقد رفعت للشيخ سعيد بن بشير الصبحي قضية حدث فيها خلاف حول أحد وكلاء الأفلاج، فكان جوابه أن قال يعجبني "للحاكم أن ينظر فيه وفي أمره فإن كان من العدول أثبته الحاكم على ما كان ولإن لم يكن من العدول خيّركم الحاكم على إقامة عدل . فإن لم يفعلوا أقام لهم الحاكم عدلا " .
ويفهم من هذا الرأي أن السلطة السياسية لا تتدخل في مسألة وكلاء الأفلاج إلا عندما يعجز أهل الفلج عن الاتفاق حول الوكيل أو التنازع حوله، وفي حالة الفراغ السياسي، واحتاجت الأفلاج إلى وكلاء، فالمسؤولية تقع على جماعة المسلمين ، ويقصد بجماعة المسلمين اثنان فصاعدا من أهل الفضل والعلم والفقه .
- أجرة الوكالة والكتابة
من القضايا المرتبطة بالأفلاج أجر الوكالة وكتّاب النسخ، والأجرة حق للقائم على شؤون الفلج مقابل الجهد الذي يبذله، وقد أشارت نوازل الأفلاج التي رفعت للفقهاء إلى مقدار الأجر الذي يتقاضه وكلاء وكتّاب النسخ، فبعض الوكلاء حدد أجره بالعشر، ولكن البعض اشترط قيمة بعينها، ومن ذلك ما اشترطه خميس بن جاعد الخروصي مقابل قيامه بمهمة نسخة الفلج، فقد طلب منه أهل الفلج إدارة شؤونها، ويكتب " فيها على ما مضى أسلافه، فأجابهم: أريد أجرة على عنائي وتعطيل أشغالي ووصول الناس إلىّ بمقابلتي بإكرامهم... والأجرة على نقل كل أثر قرش، وعلى نصفه نصفه، وعلى ربعه ربعه، فأعطوه فقبض ما قبض على هذا الشرط" .
ويظهر من مواقف الفقهاء الذين رفعت إليهم هذه القضية أنهم اعتبروا الكتابة في نسخة الفلج بمنزلة الشهادة " وليس للشاهد أن يأخذ أجرا على شهادته" ، ولكن الكتابة تحتاج إلى جهد، وقد تشغل القائم بها عن عمله، ويلحقه الضرر، ففي هذه الحالة له " أن يأخذ بقدر عنائه" ، ونصح الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي السائل الذي سأله عن أجرة الكتابة بالتنزه عنها مع السعة، وألا يبالغ في الأخذ أكثر مما يجب، وإن حدث التجاوز في أخذ الأجرة على الآخذ أن يرده " لأهله، وإلا احتاط به للفقراء أو لبيت المال " . وهذا الموقف من الخليلي طال حتى أجرة وكالة الفلج، ومع أنه نصح أحد الوكلاء بأخذ العشر مقابل القيام بشؤون الفلج، إلا أنه نصح الوكيل في الوقت نفسه أن يضعه وفاء عن كلّ ضمان يلحقه منه أو تقصير أو تضييع عن أن يضمنه من ماله .
ومصدر أجرة وكلاء الأفلاج عادة تكون من بادة الفلج، وله العشر منها " حلالا محضا برضى أهل البلد على عادتهم السابقة" ؛ لأنها من السنن الموقفة لذلك، لا سيما إذا كانت سنة وعادة وقفها " تبيح ذلك للمحتسب فيها والقائم بها، فعسى أن لا يبعد الجواز؛ لأنها تكون كغيرها من السنن الموقوفة لها" . وفي كتاب " عنوان الآثار" أجرة وكيل الفلج من " بادته التي تقعد" .
- إشكاليات واجهت نسخ الأفلاج
واجهت نسخ الأفلاج العديد من الإشكاليات والصعوبات عبر تاريخها، وقد حملت نصوص النوازل الفقهية المتعلقة بالأفلاج بعضا من تلك الإشكاليات، منها ما هو متعلق بالأخطاء التي تعترض عملية النسخ والنقل أو الإهمال من قبل الكاتب بعدم توثيق الحصص والأملاك، والنص الآتي يظهر حالات الخطأ والإهمال التي قد يحدث لنسخ الأفلاج، إذ يقول النص "...قام المشترون يطالبون نقل مياههم في النسخة فنقل الكاتب لأحد، وواحد لم ينقل له، تعلل بأنه لم يأتِ بالورقة، ومن عادتهم أنهم لا ينقلون الماء إلا بمقابلة الورقة في النسخة وعسى الورقة أنها غير حاضرة أو ذاهبة. ومكثوا ما شاء الله من المدة كلّ يسقي بما اشتراه المنقول لهم أو غير المنقول لهم ثم بعد مدة زعم العريف أني طالعت النسخة فوجدت ماء البائع ناقصا عما بايعكم إياه أيها المشترون وقطع على أحدهم الماء. فقالوا نحن اشترينا وكتب الكاتب لنا أوراقا" . والخطأ كثير في مثل هذا، لذلك على الناسخ أن يكون حريصاً في ضبط عمله وتوثيقه دَرْءًا للنسيان والغلط، وحِفظا لحقوق الناس، وهذا ما نصح به الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي أحد وكلاء الأفلاج إذ قال " والغلط كثير في مثل هذا ولذلك يحتاج إلى معرفته وضبطه بالعرض والدفاتر الصحيح خوف الغلط والنسيان" .
وقريبا من هذه القضية، أيضا واجهت نسخ الأفلاج في بعض الأحيان انعدام الكتّاب الذين يتولون الكتابة، مما يؤدي إلى مرور سنين طويلة دون أن يحدث توثيقا لأملاك وحصص الناس من مياه الفلج، والمسألة الآتية تشير إلى نازلة تخص عدم وجود الكاتب، إذ تقول "للفلج عرضة تجمع ماء الفلج كله وبقي مدة من الأعوام لم ينسخ في العرضة ماء لأحد لعدم القائم بها ولما وجد من يكتب فيها أوتي له بهذا الصك لينسخ المقر به فيه من الماء في العرضة للبائع" .
ومع أن النص السابق يشير إلى عدم وجود الكاتب، ولكن قد يحدث عدم الكتابة لعدم جواز المكاتبة في بعض الأفلاج، وقد عرف تاريخ الأفلاج حالات كثيرة رفض الفقهاء والقضاة والكتّاب توثيق عمليات البيع والشراء، وهذه قضية واسعة تحتاج إلى دراسة مستقلة، إنما نشير إليها هنا إلماماً، فقد تعددت أسباب امتناع الفقهاء والقضاة عن المكاتبة في بعض الأفلاج، ومن ذلك وجود شبهة كأن يكون الفلج تم الاستيلاء عليه غصباً من أهله أو حدث ظلم لبعض ملاكه، وموقف الفقهاء هنا موقف أخلاقي حتى لا يكونوا شركاء في ذلك الظلم الواقع على أهله عن طريق توثيق حقوق مغتصب الفلج سواء أكان فردًا أم جماعة، وهناك العديد من الأفلاج التي لم يكن يكاتب فيها، منها على سبيل "بسيا وعز وحبوب والمحيول والروضة والمضيبي" .
وقد واجه كتّاب النسخ قضايا تتعلق بشرعية نقل وبيع مياه الجبابرة وأهل الظلم في نسخة الفلج، ودفع هذا الشك بالكتّاب إلى رفع هذه القضية إلى الفقهاء بهدف إيجاد مخرج شرعي لها، وللتخلص من التبعات الأخلاقية التي قد تلحق الكاتب، ومن القضايا التي جاءت بها كتب الفقه في هذا الشأن، بما يلي " هل لمن عنده نسخة شيء من الأفلاج أن يكتب نقل ما بيع من مياه الجبابرة في نسخة الفلج كمثل غيرها من المياه على هذه الصفة أم لا ؟" ، وكان الموقف من هذه القضية لا يوجد مانع من نقل أموال الجبابرة، إلا إذ كان هناك مانع شرعي أو يكون النقل زيادة أو نقصان، فهنا يصبح الناقل خائن . ومسألة التزوير الذي قد يطال نسخ الأفلاج أيضا كانت حاضرة لا سيما من قبل الجبابرة الذين قد يحصلون على النسخ بالحيل أو القوة ، وبالإضافة إلى التحديات هناك تحدي آخر قد يكون أقل صعوبة من التحديات السابقة، وهو مصدر تمويل شراء الأوراق وأدوات الكتابة لنسخة الفلج، وهذه القضية طرحت للنقاش، ويبدو أن الموقف يتلخص في أن يكون مصدر تمويلها من أموال أصحاب الفلج لا من أموال الفلج، كما يتضح من النص التالي، إذ ورد ألا يصح "شراء القرطاس من ماله- أي الفلج- وذلك من مصالحهم..." .
وكل هذه التحديات والصعوبات لم تحول دون وجود سجلات للأفلاج، بل على العكس تماما يبدو أن المجتمع كان قادراً على تجاوزها، وخصص لكل فلج نسخة توثق الحصص والأسهم والملكية، فكانت سببا لحفظ الحقوق وصونها من الضياع.
الخاتمة والتوصيات
استعرضت الدراسة تاريخ نسخ الأفلاج في ثلاثة محاور، تضمنت الإشارات التي جاءت بها كتب الجوابات والنوازل الفقهية من حيث مفهوم نسخة الفلج وتاريخها، ونظائر وأشباه نسخ الأفلاج، بالإضافة إلى القواعد والضوابط التي وضعت للعمل بها، وخرجت بعدة نتائج وتوصيات، نلخصها في الآتي:
- أظهرت الدراسة أن نسخة الفلج من التقاليد الأساسية في نظام الأفلاج العمانية، ولا يستقيم الفلج إلا بها، ودلّت على هذه الأهمية الإشارات المتعددة في مدونات ونصوص التراث العماني عبر القرون.
- أوضحت الدراسة وجود العديد من أشكال توثيق الملكية والسهام والأنصبة في التاريخ العماني مثل: سهام الرم، سجلات الخراج، إلا أن هذه السجلات لا تزال في عداد المفقودات.
- كشفت الدراسة أن هناك ضوابطًا وقواعد وُضعت للعمل بنسخة الأفلاج، وإن كانت جزءا من شؤون الفلج، ويمكن العمل بها على سبيل التعارف والاطمئنان إلا أنها أثناء التنازع وفي الأحكام لا تعتبر حجة في نظر الفقهاء.
وأخيراً ومن خلال هذه النتائج خاصة تلك المتعلقة بضوابط وقواعد العمل بنسخة الفلج، فإن هذه الدراسة توصي الجهات المسؤولة والمشرفة على الأفلاج العمانية بضرورة إيجاد سجلات قانونية توثق حصص الأفراد والجماعات في الفلج لمنع الخلافات، وحفظ الحقوق وصونها.
قائمة المصادر والمراجع
- أبو زكريا، يحيي بن سعيد، كتاب الإيضاح في الأحكام، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 1984م.
- البطاشي، سيف بن حمود، الطالع السعيد نبذ من تاريخ الإمام أحمد بن سعيد، مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي، مسقط: 2014م.
- البطاشي، سيف بن حمود، إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء أهل عمان، مسقط: مكتبة السيد أحمد البوسعيدي، بدون تاريخ.
- البوسعيدي، مهنا بن خلفان، لباب الآثار الواردة على الأولين والمتأخرين الأخيار، وزارة التراث والقومي والثقافة سابقا، سلطنة عمان: 1985م.
- الخليلي، سعيد بن خلفان، أجوبة المحقق الخليلي، مكتبة الجيل الواعد، مسقط: 2010م.
- الخليلي، سعيد بن خلفان، تمهيد قواعد الإيمان وتقييد شوارد مسائل الأحكام والأديان، تحقيق حارث بن محمد البطاشي، مسقط: مكتبة الشيخ محمد بن شماس البطاشي، بدون تاريخ.
- السالمي، عبدالله بن حميد، جوابات الإمام السالمي، تحقيق عبد الستار أبو غدة، مكتبة الإمام السالمي، بدية، سلطنة عمان: 2010م.
- السالمي، عبدالله بن حميد، تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، مكتبة الاستقامة، مسقط، بدون تاريخ.
- السعدي، جميل بن خميس، قاموس الشريعة الحاوي طرقها الوسيعة، مسقط: مكتبة الجيل الواعد، 2014م.
- الشقصي، خميس بن سعيد، منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، تحقيق سالم بن حمد بن سليمان الحارثي، وزارة التراث والثقافة، مسقط، بدون تاريخ.
- الشيباني، سلطان بن مبارك، والعيسري محمد بن عامر، نوادر المحطوطات العمانية المحفوظة في دار المخطوطات بوزارة التراث والثقافة، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 2015م.
- الكندي، محمد بن إبراهيم، بيان الشرع، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 1984م.
- الكدمي، أبو سعيد، الجامع المفيد من أحكام أبي سعيد، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 1985م.
- العوتبي، سلمة بن مسلم، الضياء، تحقيق الحاج سليمان بن إبراهيم الوارجلاني، ودواد بن عمر الورجلاني. مسقط: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، 2015م.
- الحضرمي الصحاري، عبد الله بن بشير، الكوكب الدري والجوهر البري، تحقيق ماجد بن محمد الكندي، بدون دار نشر، 2017م.
- المحيلوى، سالم بن خميس، فواكه البستان الهادي إلى طريق طاعة الرحمن، وزارة التراث والثقافة، مسقط: 1988م.
- العبري، سالم بن خميس، فواكه البستان، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان: 1982م،
- العوتبي، سلمة بن مسلم، الإبانة في اللغة العربية، نسخة الكترونية على موق المكتبة الشاملة على الرابط التالي: https://shamela.ws/
- الفارسي، منصور بن ناصر، عنوان الآثار، نسخة إلكترونية.
- Al-Ghafri, Abdallah, and other, Irrigation Scheduling of Aflaj Of Oman Methods and its Modernization, proceeding of a Joint UNU-UNESCO-ICARDA International Egypt 21-25 September 2002.