العولمة وأثرها على اللغة العربية ومستقبل الهوية: التحديات وسبل المواجهة

الباحث المراسلد. غصاب الصقر جامعة التقنية والعلوم التطبيقية بصلالة

تاريخ تسليم البحث :2024-08-12
تاريخ قبول البحث :2024-11-28
تاريخ نشر البحث :2025-04-08
الإحالة إلى هذه المقالة   |   إحصائيات   |   شارك  |   تحميل المقال

 

1- مقدمة:

تولَّدت رغبتنا في دراسة هذا الموضوع من أهمية اللغة العربية، كونها مقومًا أساسيًا من مقومات الشخصية العربية، ولسان القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والأمة المعبرة، وسجل حضارتها وثقافتها. وهي وسيلة التعبير عن المشاعر والأحاسيس، ووعاء للتفكير، وهي لغة العلم والإعلام، والبحث العلمي والتدريس. واللغة العربية عنوان الهوية القومية والانتماء، ومكون رئيس من مكوناتها؛ فالهوية هي السمة الجوهرية لثقافتنا، وهي التي تحمي ذاتنا الفردية والجماعية، من عوامل التعرية والذوبان. فاللغة العربية اليوم تعاني أزمة كبيرة، في ظل عصر العولمة، وتقف أمام تحديات جسيمة، على المستويين التنظيري والتطبيقي.

يهدف هذا البحث إلى تبيان التحديات التي تواجه اللغة العربية، ومستقبل الهوية القومية في عصر العولمة، وكيفية الحفاظ عليها. ولتحقيق ذلك أثرنا سؤالًا رئيسًا شكَّل في جوهره إشكاله: ما مستقبل الهوية العربية في ظل تحديات العولمة؟ وانبثق عن هذا السؤال سؤالان فرعيان، هما: ما التحديات التي تواجه اللغة العربية والهوية القومية في ظل عصر العولمة؟ وكيف نحافظ على اللغة العربية التي هي رمز هويتنا القومية والثقافية والحضارية أمام هذه التحديات الكبيرة؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة، اتَّبعنا المنهج الوصفي التحليلي؛ لاستقراء وتتبع وتحليل ظاهرة العولمة، من حيث مفهومها، وأسباب نشأتها، ومجالاتها. ودرسنا الهوية، من حيث مفهومها، وعلاقتها باللغة العربية، ومستقبلها في ظل عصر العولمة، لعله يفتح لنا مدخلًا جديدًا يساعدنا على الوقوف على التحديات التي تواجه اللغة العربية، ووضع حلول إبداعية خلاقة لها، لاستعادة المجد الحضاري العربي، والحفاظ على هويتنا العربية

2- العولمة (Globalization): 

تعد ظاهرة العولمة من الظواهر المثيرة للجدل في عصرنا الحالي؛ لما لها من تأثير على الناس في المجالات كافة، وفي جميع أقطار المعمورة، فما مفهومها؟ وما أسباب نشأتها؟ وما مجالاتها؟.

  1. المفهوم:

العولمة هي عملية التفاعل والتكامل بين الأشخاص والشركات والحكومات، في جميع أنحاء العالم. ظهر مصطلح العولمة لأول مرة في أوائل القرن العشرين، ليحل محل المصطلح الفرنسي السابق Mundialization))، وتطور معناه الحالي في النصف الثاني من القرن العشرين، ودخل حيز الاستخدام الشائع في التسعينيات، لوصف الاتصال الدولي غير المسبوق لما بعد العولمة- عالم الحرب الباردة. يمكن إرجاع أصولها إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بسبب التقدم في تكنولوجيا النقل والاتصالات. وقد أدت هذه الزيادة في التفاعلات العالمية إلى نمو التجارة الدولية، وتبادل الأفكار والمعتقدات والثقافة. العولمة هي، في المقام الأول، عملية اقتصادية للتفاعل والتكامل، ترتبط بالجوانب الاجتماعية والثقافية. ومع ذلك، فإنَّ النزاعات والدبلوماسية الدولية تشكل أيضًا جزءًا كبيرًا من تاريخ العولمة والعولمة الحديثة.

إنَّ مفهوم العولمة يستمد معظم قوته من تكثيف الارتباطات عبر المستويات الأربعة الآتية لتشكيل المعنى الاجتماعي ((Paul & Manfred, 2014, PP. 431-432:

 أولًا، على مستوى الأفكار: تدور الأفكار والمفاهيم بطرق غير محددة على مستوى تكوين المعنى. يعد المتكلمون الفرديون المعنى أمرًا حاسمًا لتعميم المعاني المشتركة، لكن قوة البقاء وانتشار المفاهيم تعتمد على مستويات أعمق من المستوى الاجتماعي - الذاتية والموضوعية على حد سواء. 

ثانيًا، على مستوى الأيديولوجيات: إنَّ التنافس حول المعاني والتفاهمات والتفسيرات، يأخذ هذا التداول وتوحيد المعنى إلى منطقة "سياسية". وهنا، يعد ازدهار مفهوم "العولمة" أمرًا نموذجيًا، كما قد تضع المجموعات السياسية المختلفة، وذلك ضمن الإطار المفاهيمي، الذي يوفر الذخيرة لبرامج وأجندات سياسية ملموسة. وظهر هذا المستوى نتيجة لتكثيف الحوارات في العلوم الإنسانية والاجتماعية، خاصة في مجالات الدراسات الدولية، والدراسات الدينية، والأنثروبولوجيا. وببساطة، فإنَّ هذا التنافس الأيديولوجي يضع المفهوم في مجموعة من ارتباطات المعنى الأخرى.

 ثالثًا، على مستوى التخيلات: منذ بضعة عقود مضت، بدأ خيال العولمة الجديد في الظهور، وما يزال يحمل أجزاء كبيرة من الميراث المفاهيمي للخيال الوطني المهيمن سابقًا. من المؤكد أنَّ علاقات العولمة لا تزال تُناقش اليوم من حيث العلاقات الدولية، والاتصالات العابرة للحدود الوطنية، و"النظام العالمي". لقد بُنيت المهن الفردية على مصطلح "العلاقات الدولية"، ومن الأكثر أمانًا لهؤلاء الأفراد إعادة تعريف المصطلح كما لو كان "الوطني" حرفًا ساكنًا صامتًا.

 رابعًا، على مستوى الوجود: تصبح المفاهيم ذات أهمية حاسمة عندما توفر وسيلة لوصف المعنى العميق للحالة الإنسانية. لقد استغل مفهوم العولمة على هذا المستوى من الأنطولوجيات، جوهر المعنى الاجتماعي حول التحولات المعاصرة في الزمان والمكان، والأبعاد الأخرى للعلاقات الاجتماعية. 

يظهر مفهوم العولمة في أدبيات العلوم الاجتماعية، على أنَّه أداة تحليلية لوصف عمليات التغيير في مجالات مختلفة. لكن العولمة ليست محض مفهوم مجرد، فهي عملية مستمرة، تلاحظ باستعمال مؤشرات كيفية وكمية، في مجالات الثقافة والسياسة والاقتصاد والاتصال. ويمكن القول: إنَّ صياغة تعريف دقيق للعولمة تبدو مسألة صعبة، نظرًا إلى كثرة تعريفاتها، التي تتأثر بمواقف الباحثين الإيديولوجية، واتجاهاتهم نحو العولمة قبولًا أو رفضًا (يس، وآخرون، 1989، ص25).

وإذا أردنا أن نقترب من صياغة تعريف شامل للعولمة لا بُدَّ أن نضع في الاعتبار ثلاث عمليات تكشف عن جوهرها:

العملية الأولى: تتمثل في انتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة بين البشر جميعهم. 

العملية الثانية: تتعلق بتذويب الحدود بين الدول.

العملية الثالثة: هي زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والجماعات. وكل هذه العمليات قد تؤدي إلى نتائج سلبية لدى بعض المجتمعات، ونتائج إيجابية لدى بعضها الآخر (يس، وآخرون، 1989، ص27). فيمكن القول: إنَّ جوهر عملية العولمة يتمثل في سهولة انتقال الناس والمعلومات والسلع، بين الدول على النطاق الكوني.

العولمة هي ترجمة للمصطلحين الإنجليزي: (Globalizationوالفرنسي: (Mundialization)؛ وبهذا يكون مفهوم العولمة لغويًا: الحمل والإجبار والإكراه على العالمية، فهي على وزن الأسلمة، أي الحمل على الإسلام أو الكاثوليكية، أو القولبة، أي الإجبار على التقولب بقوالب جاهزة (البنا، 2006، ص ص230- 231).

أما اصطلاحًا، فقد تعددت التعريفات واختلفت باختلاف المنطلقات والتوجهات، ومن هذه التعريفات: "الغطاء النظري أو الفلسفة النظرية لاقتصاد السوق، ولمجموعة الدول الصناعية، والشركات متعددة الجنسيات، من أجل فتح أسواق العالم أمام الصناعات الغربية، بدعوى المنافسة، والانفتاح، وتشجيع الدول الأقل نموًا على التنمية" (البنا، 2006، ص231). ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور التلقائي للنظام الرأسمالي، بل إنها أيضًا دعوة إلى تبني نموذج معين، وهي أيضًا إيديولوجيا هدفها الهيمنة على العالم وإقصاء الخصوصي (مراد، 2002، ص23). 

والعولمة تعني: "إزالة الحواجز والمسافات بين الشعوب بعضها وبعض، وبين الأوطان بعضها وبعض، وبين الثقافات بعضها وبعض. وبذلك يقترب الجميع من (ثقافات كونية) و (سوق كونية) و(أسرة كونية)". وهي كذلك العملية التي تؤثر من خلالها الثقافات على بعضها البعض، وتصبح أكثر تشابهًا من خلال التجارة والهجرة، وتبادل المعلومات والأفكار (Doku & Oppong, 2011, P.2).

والعولمة أيضًا: اصطباغ العالم بصبغة واحدة شاملة للدول والشعوب كافة، وكل من يعيش فيها، وتوحيدها في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، دون اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات والجنسيات والأعراق، وهي أيضًا تغير لما هو مألوف، وترك الأمور تتحرك ضمن أنساق جديدة غير محدودة عبر العالم (جميل، 2001، ص29).

العولمة -في وقتنا الحاضر- تعني نفي الآخر، وإحلال الاختراق الثقافي محل الصراع العقائدي. وتُبنى ثقافة الاختراق على أوهام متعددة، هدفها التطبيع مع الهيمنة، وتكريس الاستتباع الحضاري، وإفراغ الهوية الجماعية من كل محتوى، وجعلها مشتتة ومفتتة من أجل إبعاد الناس عن أوطانهم وأمتهم، وجعلهم متحاربين)السيد، د.ت، ص2).

من الصعوبة بمكان، الإحاطة بالمفهوم والتعاريف المطروحة لمصطلح العولمة؛ بسبب حداثة المصطلح، وعدم بلورته حول معنى مستقر ثابت، فبعضهم يحصره في الدور الاقتصادي، وهيمنة النظام الرأسمالي على أسواق العالم، والسيطرة عليها باسم النظام العالمي الجديد، وعليه تكون السيطرة للقطب الواحد، ممتلك المعلومة والتكنولوجيا وأدوات الاتصال، وبعضهم لا يرى فيه إلا البعد الثقافي، وما ينتج عنه من طمس وإلغاء للثقافات الوطنية والدينية والقومية، وبعضهم لا يرى إلا الهيمنة والسيطرة السياسية والاحتواء لحركة العالم؛ لأنَّ الحروب القادمة صراع ثقافات وحضارات، وكذلك فإنَّ الأسرة بوصفها نمطًا اجتماعيًا قد انتهت، والإيديولوجيا أيضًا انتهت....إلخ، فهو عصر النهايات التي لا بدَّ أن تصطبغ بلون النظام العالمي ورؤيته، وبعضهم يتوقف عند قراءة اللفظ من الناحية اللغوية، فيرى أنَّها مشتقة من الفعل (عولم)، أي صيّر العالم وفق رؤيته، ومنهم من يعد العولمة صفة لشكل العالم الجديد (مراد، 2002، ص ص24-25). ومن زاوية متعددة التخصصات يمكن التفاعل مع العولمة بوصفها ظاهرة وفلسفة وعملية، تؤثر على البشر بعمق مثل أي حدث سابق ((Khan,2023.

وعلى العموم، فإنَّ ما عرضناه من تعريفات لمصطلح العولمة لا يخرج عن محاولة منا لفتح أفق جديدة، من وجهات نظر مختلفة؛ لعلها تسهم بقدر من التصور والفهم، الذي يمنح قدرًا، لإدراك ثقافة العولمة وآلياتها، ومعرفة إيجابياتها وسلبياتها، لكي نعرف كيف نتعامل معها، لنحمي لغتنا العربية وهويتنا القومية. 

2-2- النشأة:

يمكن أن نعزو نشأة العولمة إلى الأسباب الآتية: 

2-2-1- البعد التقني القائم على إلغاء حواجز الاتصال والنقل بين البلدان. لقد بدأت عجلة العولمة تسير بشكل متسارع، وأصبحت تظهر في كل مكان، وذلك بما قدمته التكنولوجيا، ووسائل الاتصال، وأوعية الإعلام، والشبكة المعلوماتية "الإنترنت"، من إمكانات أسقطت الحدود، وطوت الزمان، واختزلت المكان، فنشأت منظمات تحمل إيقاع العولمة، مثل: "أطباء بلا حدود"، و"مراسلين بلا حدود"، و"صحفيين بلا حدود"، وغير ذلك (مراد، 2002، ص26).

2-2-2- انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، ونهاية الحرب الباردة (يس، وآخرون، 1989، ص23)، وتفكيك المنظومة الشيوعية، لم يضع حدًا للصراع التقليدي فحسب، بل يضع نهاية للتاريخ أيضًا، بوصفه صراعًا مريرًا مدمرًا، وتلك النهاية تجعل التاريخ يميل إلى الاستقرار عند الرأسمالية العالمية، بوصفه نظامًا للديمقراطية الليبرالية الغربية، ونظامًا اجتماعيًا وسياسيًا عالميًا أمثل (مراد، 2002، ص30).

2-2-3- ظهور الشركات المتعددة الجنسيات، وهيمنتها على المقدرات والفعاليات الإنتاجية والمالية عبر العالم (خلف، 1998، ص61). نظمت الشركات متعددة الجنسيات مجموعة من الأنشطة التجارية، بما في ذلك البحث والتطوير، وتصميم المنتجات، وتوريد المدخلات والتصنيع والتوزيع، وتم تشكيل خدمات الدعم، مثل: السيارات، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كما جلبت هذه الشركات معها تقنيات جديدة؛ مما أدى إلى زيادة الإنتاجية في البلدان المستفيدة (Globalization: Opportunities and Challenges, P.4). وتمثل أنماط السلوك والممارسات التجارية للعاملين، في هذه الشركات العالمية، مصدرًا هامًا لثقافة تمتد عبر القوميات، وقد رافق ذلك تشكيلات ثقافية على مستوى العالم ككل، يشار إليها اليوم باسم "الثقافة العالمية" (خلف، 1998، ص61).

2-2-4- بزوغ نجم القوة البحرية الأوروبية في البرتغال، وقضائها على النظام الاقتصادي العالمي العربي(يس، وآخرون، 1989، ص23).

2-2-5- توسع نشاط الشركات العالمية أدى إلى تغيير جذري في نظم الإنتاج والإدارة، وفي تقسيم العمل الدولي، وفي دور الدولة، وأهداف السياسة العامة (يس، وآخرون، 1989، ص26).

2-2-6- تكوين حركات سياسية تعمل على مستوى عالمي. لقد تكونت أممية اشتراكية على مستوى العالم كله، تعمل جنبًا إلى جنب مع حركات سياسية، ومنظمات أعمال ومنظمات إنسانية عالمية (مراد، 2002، ص80)، مثل: منظمة التجارة الدولية (WTO)، ومنظمة الأمم المتحدة (UN)، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (UNESCO وغيرها.

2-2-7- تطورات النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها قوة قيادية للعالم الرأسمالي بلا منازع، أدى إلى تكامل الأسواق العالمية والرأسمالية الدولية، في بناء هرمي توجد قاعدته الأساسية في المصارف والمؤسسات المالية، في الدول الرأسمالية الكبرى، وعدد من المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف، على رأسها صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للتنمية. ولهذا، يتم إدماج الدول النامية في إطار النظام الرأسمالي وفق شروط غير متكافئة، ويتم هذا الإندماج بوساطة القيود والروافع المالية والاقتصادية. ويقوم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في التأثير على القرارات الاقتصادية، للأعضاء في دول العالم الثالث، والتدخل بالدور القيادي لهذه المؤسسات. ويستخدم البنك الدولي نفوذه الكبير في إقناع الدول المقترضة باتباع السياسات التي ينصح بها، ويستخدم في ذلك وسيلتين رئيستين، هما: الضغط الاقتصادي، والدور الإعلامي والتعليمي (عبد الله، 1986، ص104).

2-3- المجالات:

تهدف العولمة إلى إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها وأطماعها، وتتبلور العناصر الأساسية لها في مجالات خمسة متداخلة، هي: الاقتصاد، السياسة، الاجتماع، القيم، والثقافة، ويمكن توضيحها على النحو الآتي:

2-3-1- العولمة الاقتصادية: تدعو إلى الانفتاح على العالم، وتعميم الاقتصاد والتبادل الحر، وإلى قيم المنافسة والانتاجية (يس، وآخرون، 1989، ص44)، ولكنها في حقيقة الأمر، لا تخدم إلا فئة معينة من البشر، ومؤسسات عالمية تتبع دول كبرى، هدفها السيطرة على اقتصاديات العالم الثالث وتدميره. فالاستثمار الأجنبي المباشر هو أحد المحركات الرئيسة للعولمة (Raj, 2003, P.1). إنَّ القروض والاستثمارات التي تمنح للدول الفقيرة، ودخول تكنولوجيا المعلومات في تحويل رأس المال كل ذلك يستخدم للسيطرة على هذه الدول وإشاعة الفقر فيها؛ مما يؤدي إلى استنزاف القيم كلها التي تراكمت على مدى سنوات من العمل الوطني (جيبسون، 2001، ص104).

2-3-2- العولمة السياسية: هي الدعوة إلى اعتماد الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الفردية، وهي إعلان لنهاية الحدود، ولنهاية سيادة الدولة، ولتكامل حقل الجغرافيا السياسية (يس، وآخرون، 1989، ص44). وفي الوقت نفسه، تقوم ببث النزاعات الطائفية والقبلية والعرقية والدينية بين الدول؛ مما يؤدي إلى ضعفها، وعدم قدرتها على المواجهة. لقد فرضت العولمة التدخل من قبل الدول الكبرى في شؤون الدول النامية، تحت عدد من الذرائع، فهناك ما يسمى بالعولمة التشريعية؛ إذ تحاول الدول القوية وضع تشريعات تعالج بعض الظواهر في المجتمعات الضعيفة من وجهة نظرها، وغالبًا ما تكون هذه التشريعات في إطار المنح للدول التي ترضى عنها، أو المنع للدول التي ترى أنَّها لا تطبق قراراتها (آل عايش، 2015، ص108).

2-3-3- العولمة الاجتماعية: تعد الأسرة النواة الأساس في المجتمع المسلم، فمنها تبدأ نشأة الفرد، ومنها يكتسب مهاراته الأولى واتجاهاته وميوله وعواطفه، وتربط الأسرة مجموعة من الأحكام التي تنظم العلاقة بين أفرادها، فأتت العولمة لتتدخل في تركيبها، وإعادة توزيع الأدوار والمسؤوليات فيها، تمهيدًا للقضاء عليها.

2-3-4- العولمة القِيَمِيَّة: تسعى العولمة جادة إلى تدمير القيم والأخلاق، ومن مظاهر ذلك: الإباحية، والشذوذ الجنسي، والمثلية، والعلاقات الجنسية المحرمة خارج إطار الزوجية، والإجهاض، وغير ذلك.

2-3-5- العولمة الثقافية: يدعو هذا النوع من العولمة إلى سيادة المفاهيم الثقافية الغربية، واختفاء أمامها المفاهيم الأخرى في ثقافات العالم أجمع، وخاصة في قضايا مهمة، مثل: العلاقة بين العقل والدين: لا بُدَّ أن تخضع الحياة كلها للعقل والنهج التجريبي. والموقف من حقوق الإنسان: يستخدم الغرب هذا الأمر ضد الأنظمة غير المرغوب فيها، بحجة أنها تنتهك حقوق الإنسان. والموقف من المرأة: لا يوجد فرق بين الرجل والمرأة، ويصبح متاحًا لها ما يتاح للرجل. واعتماد الأصل البشري الواحد: يتيح هذا المفهوم للرجل الغربي الاستعلاء، وتفوق الرجل الأبيض. ورفض الفوارق الدينية: تسعى العولمة إلى إزالة الحواجز في الحوار بين الأديان، وجعل دين واحد للبشر جميعًا (البنا، 2006، ص ص233-234) كل هذه المفاهيم تدعو إلى اتباع النمط الغربي في الحياة، من ملبس ومأكل ومشرب ولغة وعادات وتقاليد ...إلخ؛ الأمر الذي يؤدي إلى إلغاء الهوية الثقافية الوطنية للشعوب، وطمسها وجعلها هوية غربية.

3- الهُوِيَّة (Identity):

الإنسان كائن يتشبث بشبكة المعاني والرموز التي ينسجها بنفسه، فهذا التشبث يدفعه إلى منحها صفة السمو والقداسة، وعليه، فإنه يتعامل مع ثقافته في مقابل الثقافات الأخرى، على أساس أنَّها وحدها التي تحمل المعنى والغاية. فقدرة الإنسان على صنع ثقافة، وإنشاء حضارة هو ما يميزه عن الكائنات الأخرى. ومن هذا المنطلق، انبثق مفهوم الهوية الذي تزداد وتيرة الحديث عنه، ومدى الخطر المهدد له في زمن العولمة الذي نعيشه (الحمد، 1999، ص ص17-18). 

قبل الخوض في الحديث عن موضوع الهوية، فلا بُدَّ أن نقف على المعنى اللغوي والاصطلاحي لها، فالهُوِيَّة لغة مأخوذة من الجذر (هُوَ)، وهي حقيقة الشيء أو تمييز الشخص عن غيره (عمر، 2008، 3/2372). وهي "الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الطيب" (الجرجاني، 1983، 257). وهي "إحساس الفرد بنفسه وفرديته وحفاظه على تكامله وقيمته وسلوكياته وأفكاره في مختلف المواقف" (عمر، 2008، 3/2372). 

يطلق مفهوم الهوية على نظام المعايير الذي يُعرف به الفرد ويُعرَّف، وينسحب ذلك على هوية الجماعة والمجتمع والثقافة. ويعد من المفاهيم المركزية التي تسجل حضورًا دائمًا في مجالات علمية متعددة، لا سيما في مجال العلوم الإنسانية ذات الطابع الاجتماعي (ميكشيللي، 1993، ص7)؛ لأنَّ للعولمة تأثيرًا نفسيًا أساسيًا على قضايا الهوية؛ إذ تؤدي إلى تحولات في كيفية تفكير الناس في أنفسهم، فيما يتعلق بالبيئة الاجتماعية  (Doku & Oppong, 2011, P.2). وعليه، فإنَّه من أكثر المفاهيم تغلغلًا في حياتنا اليومية الثقافية والاجتماعية، ومن أكثرها شيوعًا واستخدامًا (ميكشيللي، 1993، ص7).

إنَّ الهوية ليست كيانًا معطى دفعة واحدة وبلا نهاية، إنَّها حقيقة تولد وتنمو، وتتكاثر وتكبر وتشيخ، وتعاني من الأزمات الوجودية والاستلاب. وهي مركب من المعايير الذي يسمح بتعريف موضوع ما، أو شعور داخلي  ما. وينطوي هذا الشعور على مجموعة من المشاعر المتعددة، من نحو: الشعور بالوحدة، والانتماء، والقيمة، والتكامل، والاستقلال، والشعور بالثقة (ميكشيللي، 1993، ص15،7). والهوية ليست شيئًا جامدًا، بل تتطور وفقًا لمنطقها الخاص، الذي يتمثل في عمليات التقمص والتمثل والاصطفاء. وهي -في أثناء تطورها- تنمو تدريجيًا، وتعيد تنظيم نفسها، وتتغير من غير توقف، إلى حد تكون فيه قادرة على تحديد خصوصية الكائن الإنساني (ميكشيللي، 1993، ص ص129-130).

وما دامت الهوية مركبة من معايير، فهي بالضرورة متغيرة، ونتيجة تعرضها للمتغيرات ينشأ مفهوم "أزمة الهوية"، والأزمة ليست في الهوية ذاتها، ولكنها في العقل المأزوم، غير القادر على استيعاب المتغيرات، وإنتاج عقل جديد وثقافة جديدة. فالهوية متغير اجتماعي مثل أي متغير آخر، ومحاولة تثبيتها ذهنيًا ضمن عناصر منتقاة (الآلية المعرفية في الاختزال والانتقاء) يقضي عليها في النهاية، من حيث إرادة المحافظة عليها. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الهوية ممارسة وسلوك قبل أن تكون تصورًا ذهنيًا، والسمات العامة للهوية تكتسب من خلال تفاعل الجماعة مع بعضها بعضًا. والهوية أيضًا جزء من النسيج الثقافي للجماعة المتفاعل مع متغيرات الحياة، والذي يتساءل عن الهوية وهاجسها، هو الذي لديه فصام بين الممارسة وبين ما في الذهن، من تصورات غير قادرة على استيعاب تغيرات الممارسة وآلياتها، ولعلَّ هذا هو الوضع العربي إجمالًا، سواء أكان ذلك في الخطاب السياسي، أم في الخطاب الثقافي العربي (الحمد، 1999، ص18)، وهذا ما يقودنا إلى قضية مستقبل الهوية العربية في ظل تحديات العولمة.

4- اللغة العربية ومستقبل الهوية في عصر العولمة: التحديات وسُبُل المواجهة

ترجع كلمة لغة في المعاجم العربية إلى مادة (لَغَوَ). لَغَا يَلْغُو لَغْوًا: تكلَّم، وفي الحديث النبوي: "من قال في الجمعة، والإمام يخطب، لصاحبه صه، فقد لغا؛ أي تكلم". واللغة: اللسن، وحدها: أنَّها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وهي فُعْلَة من لَغَوْت، أي تكلمت، وأصلها لُغْوَة، ككُرة وقُلة، والجمع لُغات ولُغون (أبو الحسن، 2000، 6/26).

اللغة أقدم تجليات الهوية، وهي التي صاغت أول هوية لجماعة في تاريخ الإنسان، فالإنسان الواحد هو الذي جعل من كل فئة من الناس "جماعة" واحدة ذات هوية مستقلة. واللغة والهوية خاصيتان إنسانيتان؛ لأنَّ الإنسان يملك الوعي، والشعور بالذات وبالآخر وحده، فكلاهما مرتبط بالعقل. وهما كذلك أوليتان، أي قديمتان وجدتا مع وجود الإنسان على هذه الأرض، فالله -سبحانه وتعالى- ميَّز آدم وعلَّمه الأسماء كلها، وما الأسماء في حقيقتها إلا نوع من اللغة، التي تجعله قادرًا على التفكير فيما يحيط به والتعامل معه، ثم إنَّ هذه العملية ميَّزته عن غيره من المخلوقات، وحددت هويته، فهو كائن مختلف ويمتلك خصائص غير متوافرة فيهم. وكلاهما كذلك كل مركب، بلغة الفلسفة والمنطق، أي أنَّهما أشياء تندرج تحتها أجزاء متداخله، لا يمكن فصلها عن بعضها بعضًا، فاللغة تحتوي طرائق التفكير والتاريخ والمشاعر، وإرادة الناس وطموحاتهم، وشكل علاقاتهم، والهوية أيضًا هي هذه العناصر في كليتها وتركبها. فاللغة والهوية هما إذًا وجهان لعملة واحدة، أي إنَّ الإنسان في جوهره ليس سوى لغة وهوية، فاللغة فكره ولسانه وانتماؤه، وهذه الأشياء هي وجهه وحقيقته وهويته(الحفيان، د.ت).

إذا كانت اللغة هي الهوية، فإنَّ اللغة العربية، هوية لأصحابها (العرب) ولغيرهم من المسلمين، ذات خصوصية، فهي أعلى مستوى من مجرد لغة، وأكثر عمقًا، وأشد التصاقًا بناطقيها، إنَّها هوية تمتلك كثيرًا من عناصر القوة، وهذه العناصر هي، القداسة: فالعربية استمدت قداستها من ارتباطها بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، فهي ليست لغة تواصلية فحسب، بل لها وظيفة دينية، فهي تعبر عن أوامر الله، وهي وسيلة المسلم لمناجاة ربه. والحفظ: لقد تعهدها الله بالبقاء وأن تبقى ما بقيت الحياة لأنَّها لغة القرآن الكريم. والتاريخية: فاللغة وعاء للتاريخ، وترجمانه المعبر ولسانه الناطق. والجغرافيا: لقد امتدت العربية على مساحات شاسعة من العالم بفضل الإسلام، فكل مكان وصلته كانت تتفاعل مع طبيعته وسكانه، تأخذ منه ومنهم وتعطيهم، فازدادت ثراء. والحضارية: لقد صنعت العربية حضارة عريقة، وسجلت سبقًا في حقبة تاريخية، فقد قادت الحضارة واستلمت رايتها، فهذا الإنجاز يكون سندًا عظيمًا لها (الحفيان، د.ت). والأمة العربية تكمن أصالتها في لغتها، التي بها شمخت، وعليها قامت حضارتها، فهي قلب فكرها، وعنوان وجودها، وميزة أصالتها، فيها تحيا وعليها تتجدد (الحقيل، 2011، ص9)؛ إذ يقول ابن خلدون: "إنَّ غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإنَّ منزلتها بين اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم" (ابن خلدون، 1981، ص764). واللغة هي الناقل لثقافة الأمة، وبوصفها نتيجة لتاريخ مشترك، فإنَّها هي التي تخلق الإرادة لدى الشعب ليصبح أمة، وفي هذا الإطار من الارتباط الوثيق بين اللغة والهوية الوطنية، يبرز الدفاع عن اللغة كدفاع عن مجموعة من القيم التي تنقل من جيل إلى آخر (Hassan,2012, P.425).

تصنف اللغة العربية ضمن أسرة اللغات المتصرفة، وهي أرقى الأسر اللغوية؛ إذ تمتلك وسائل كثيرة تزيد من قدرتها على تحقيق وظائفها في التعبير والتواصل، ومن ذلك الاشتقاق بأنواعه والنحت، والإلصاق والمجاز، والثراء في المادة، وفي الآليات التي تغني هذه المادة، وتزيد من قدرتها، على تحمل المعاني المتعددة، والتعبير عنها (الحفيان، د.ت). وتتميز كذلك  بقدرها على توليد المعاني، والألفاظ، وقدرتها على التعريب، واحتواء الألفاظ من اللغات الأخرى، إلى جانب غزارة صيغها، وكثرة أوزانها، وهذه السعة من المفردات والتراكيب أكسبتها القدرة على التعبير بوضوح وسلاسة (متولي، د.ت). 

أما بخصوص عالمية اللغة العربية، فهي اللغة العالمية الأولى في مختلف العلوم والفنون، في عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، منذ القرن الثالث الهجري، وقد نشأت مراكز لدراسة اللغة العربية في باريس وأكسفورد وروما، وقد أصبحت لغة التجارة والثقافة، ووسيلة الاتصالات الدولية، وبسبب انتشارها وعالميتها، قررت الأمم المتحدة في جلستها العامة في ديسمبر 1973، جعل اللغة العربية لغة رسمية من ضمن لغاتها الرسمية المقررة في الجمعية العامة ولجانها الرئيسة (متولي، د.ت).

وبسبب العلاقة المتينة بين اللغة العربية والهوية القومية، تواجه الأمة العربية هجمة استعمارية شرسة لا تهدأ أبدًا، من أجل طمس لغتها وهويتها ودينها، وقتل روح الإبداع فيها، ونزوحها عنها، وانسلاخها عن هويتها، وإضعاف روح المقاومة فيها ليسهل السيطرة عليها؛ فعندما تضعف اللغة العربية تضيع هيبتها بين أبنائها والناطقين بها، وتضيع منهم هويتهم التي هي عنوان وجودهم.

4-1- التحديات:

تقف اللغة العربية -التي تحدد ملامح هويتها القومية، وتميزها عن غيرها، في ظل العولمة المهيمنة على المجتمع الدولي- أمام تحديات كثيرة، تؤثر سلبًا على مستقبل هذه الهوية، نلخصها في الآتي ذكره:

4-1-1 السياسة الاستعمارية الجديدة التي تسود العالم اليوم، وتسعى إلى تنميط البشر والقيم والمفاهيم، وفق معاييرها الجديدة، وتسعى كذلك إلى صياغة هوية شمولية، تفرضها في الواقع الإنساني في إطار مزيف من التوافق القصري والإجماع المفروض بالقوة. إنَّ قوة الإبهاء التي تطرح بها الهوية الشمولية ذات المرجع الغربي، والأمريكي تعمي الأبصار عن رؤية الحقائق على الأرض؛ مما يؤدي إلى توهم أنَّ هذه الهوية المغشوشة هي الهوية العصرية، الهوية الكونية، هوية الحداثة والمدنية، الهوية التي ينبغي أن تسود العالم وتقوده (كرمة، 2006، ص38).

4-1-2- الصراع بين العامية والفصحى في لغتنا العربية: تبرز هذه المشكلة في التبشير بإحلال العامية محل الفصحى، ثم المناداة باستخدام الحروف اللاتينية كبديل للحروف الأبجدية العربية. إنَّ أبرز الأسباب التي أدت بأصحاب تلك الدعوى في حربهم على الفصحى -بحسب زعمهم- أنَّ العامية ذات طواعية ومرونة في الفهم، وأنَّ استخدام الحروف اللاتينية يتفق مع متطلبات العصر الحديث؛ لأنَّ الحروف العربية في نظرهم عاجزة عن مسايرة العصر(جميل، 1986، ص11). ومما يشكل خطورة على اللغة العربية أيضًا انتشار اللهجات العامية، واختلافها في النطق والأداء والتصريف لدى العمالة الآسيوية الوافدة، وهذه اللهجات لم تعد تهدد العربية في السوق فحسب، بل حتى داخل البيوت نفسها، حتى أنَّك لتجد في البيت الواحد عدة جنسيات، تتكلم عدة لغات، وتختلط بالأطفال في سن التلقي، فينشأ الطفل بعيدًا عن لغته الأم (كرمة، 2006، ص38)، ويصاب بالعجمة.

4-1-3- ترسخ عند معظم أبناء العربية الشعور بعجزها عن مواكبة حركة العلم والتكنولوجيا، وتأكدت أمامهم عظمة اللغات الأجنبية الأخرى، التي تحتضن الفكر العربي المعاصر، وتنقله؛ الأمر الذي ينتج عنه الشعور بالدونية والنقص أمام اللغات الأخرى، إذ صار النطق باللغات الأجنبية دليل تفوق فكري وحضاري(كرمة، 2006، ص38)

4-1-4- قلة النتاج الثقافي والعلمي في اللغة العربية، مقارنة بغيرها من اللغات الأخرى؛ وقد أدى ذلك إلى أن يجد الإنسان العربي ضالته واحتياجاته العلمية في المصادر الأجنبية أكثر من لغته العربية، وقد نتج عن ذلك انتشار التعلم باللغات الأجنبية في المؤسسات التعليمية العربية؛ إذ أصبحت اللغة العربية تعيش غربة في أهم حصونها، مما كان له الأثر الكبير على هوية الإنسان العربي (البديرات، والبطاينة، 2016، ص40).

4-1-5- التلكؤ في إصدار القرار السياسي الملزم للتعريب، في معظم الدول العربية، وغياب التخطيط اللغوي، ما دامت السياسة اللغوية غائبة، وتشتت الجهود، وعدم التنسيق بين العاملين في ميدان التخصص (السيد، "د.ت"، ص8).

4-1-6- انغماس الجيل العربي اليوم في قضايا بعيدة عن تكوينه الثقافي واللغوي، مثل: معيشته اليومية، واهتماماته الرياضية، وهمومه السياسية. إنَّ جيل اليوم لا يقرأ كثيرًا، بل يتصفح قليلًا، وهو مشغول البال، ضعيف الحال، مشتت الأفكار، لا يعرف من الثقافة إلا مصطلحاتها، ولا يتمتع بجرأة علمية، أو شجاعة أدبية، أو موهبة لغوية (جميل، 1986، ص12). فنقص الثقافة اللغوية لدى الإنسان العربي، قد أثر سلبًا على المردود الفكري والثقافي، ويتمثل هذا النقص في القراءة والمطالعة (كرمة، 2006، ص39). 

4-1-7- الإعلام: تعزز العولمة استعمال اللهجات المحلية في وسائل الإعلام؛ فهذه المسلسلات المؤلفة والمدبلجة، والمنوعات، والحوارات واللقاءات، والبرامج الثقافية، والأدبية، والدينية كلها لا تبث باللغة العربية الفصحى. وأيضًا، نجد الإعلانات تنأى عن استعمال العربية السليمة، فنجد الإعلانات مصوغة بالعامية، أو بالعربية المحشوة بالأخطاء اللغوية، أو بالكلمات الأجنبية، فهذا كله يسهم في تشويه اللغة العربية، ويعد عاملًا سلبيًا في اكتساب المهارات اللغوية لدى أبنائها (السيد، "د.ت"، ص12).  

4-1-8- في ظل هيمنة العولمة الاقتصادية، فإنَّ الشركات الأجنبية في البلاد العربية تروِّج لاستخدام اللغات الأجنبية، فأصبحت اللغة الإنجليزية لغة الأعمال التجارية المصرفية والسياحية، وأقصيت اللغة العربية عن مجالات العمل الاقتصادية، بل حوربت حربًا شعواء، وأصبح النجاح باللغة الإنجليزية شرطًا أساسيًا للتعيين في وظائف القطاعين العام والخاص (السيد، "د.ت"، ص12). 

4-1-9- ضعف اللغة العربية وتراجعها مقابل تفوق اللغات الأجنبية الأخرى عامة، واللغة الإنجليزية خاصة، في السيطرة على المحتوى الرقمي لمصادر المعلومات، الأمر الذي يؤدي إلى تأخر اللغة العربية عن مواكبة اللغات الأخرى ومجاراتها.

4-1-10- فقدان الهوية الثقافية وفقدان الشعور بالانتماء لوطن أو أمة أو دولة؛ لأنَّ العولمة تكرِّس أيديولوجيا الفردية المستسلمة، والنزعة الأنانية، والحياد، وطمس روح الجماعية، الأمر الذي يؤدي إلى التطبيع والاستسلام لعملية الاستتباع الحضاري (علوي، 2014، ص92). 

4-2- سبل المواجهة:

إنَّ التحديات التي تواجه اللغة العربية ومستقبل الهوية في ظل العولمة، على جميع الصعد، من حرب علنية، وأخطار خفية من أعدائها، ومن بعض أبنائها المعاصرين، والتي أدت إلى تفكك الهوية وانحدارها، تحتاج إلى تكاتف علماء اللغة، وعلماء تقنية المعلومات، وإلى دور المجامع اللغوية العربية، وأقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات العربية، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وجهود وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي، والجامعات ومراكز البحوث والدراسات، ووسائل الإعلام العربية؛ للعناية بهذه القضية، ووضع حلول إبداعية خلاقة لها، لما تتمتع به منظومتها التركيبية والدلالية والتداولية من خصائص وسمات؛ لذا كان لا بدَّ أن نتخذ مجموعة من الإجراءات لمواجهة هذه التحديات، نلخصها في الآتي ذكره:

4-2-1- غرس محبة اللغة العربية في نفوس أبنائها، واحترام معلميها، وتطوير مناهجها، وتشويق الشباب إليها، من خلال وسائل متعددة تعليمية وثقافية، وإعلاء شأنها في كل الأجهزة والدوائر والمؤسسات، واسترداد الثقة بمستقبلها لدى الشباب العربي في المدارس والجامعات الحقيل، "د.ت"، ص39).

4-2-2- وجوب وجود بنى تحتية قوية للمنظومات المعلوماتية العربية، ومواجهة التدفق المعلوماتي بتدفق عربي حتى نعبر الفجوة الرقمية، ونستطيع النهوض السريع، ونكون منتجين للمعرفة، وليس مستهلكين لها، لنؤكد دخولنا قرن اقتصاد المعرفة (متولي، "د.ت"). 

4-2-3- إصدار قرار سياسي ملزم في موضوع التعريب والتأليف العلمي باللغة العربية، وترجمة المصادر الأجنبية إلى اللغة العربية، للخروج من حالة التبعية، ولأنَّ اللغة القومية هي الوسيلة الفعالة لاستيعاب المضمون العلمي، وترسيخه في ذهن الإنسان العربي (علي، وحجازي، 1978، ص376).

4-2-4- فرض استخدام اللغة العربية الفصحى في المراحل الدراسية جميعها، في المدارس والمعاهد والجامعات، ومنع استعمال اللهجات العامية.

4-2-5- توجيه وسائل الإعلام في البلدان العربية إلى استخدام اللغة العربية الفصحى، في برامجها، ومسلسلاتها، وحواراتها، وإثراء المحتوى الرقمي العربي على الشابكة (الإنترنت)، وتطوير مهارات المذيعين بإعطائهم دورات مكثفة باللغة العربية، حتى يتمكنوا من إتقانها.

4-2-6- وجوب اشتراط إتقان اللغة العربية للعاملين الأجانب في البلاد العربية، إلى الحد الذي يمكنهم من التعامل مع محيطهم، وذلك بعمل امتحانات تقيس المهارات اللغوية لديهم، على شاكلة امتحانات الآيلتس، والتوفيل، وغيرها.

4-2-7- بناء قاعدة بيانات معجمية للعربية الحديثة تشمل البيانات الصرفية والنحوية والدلالية، ومراجعة شاملة لتعريفات المعاني في المعجم العربي، وإنشاء نظام آلي لتوليد المصطلحات الجديدة بطرائقها المختلفة تعريبًا وترجمة ومزجًا، وتطوير نظام آلي للتحليل المعجمي قادر على استنباط المكونات الدلالية للمفردات (علي، وحجازي، 1978، ص388).

4-2-8- جعل اللغة العربية لغة التعليم الجامعي والبحث العلمي في مجالات العلوم والطب والهندسة، والتعليم التقني بدلًا من اللغة الإنجليزية.

4-2-9- تنفيذ قرارات مجامع اللغة العربية، والمؤتمرات المتخصصة، وتنفيذ توصياتها، انطلاقًا من الواقع وبأدوات العصر، وبالوسائل المتاحة لتطويرها، وحمايتها والحفاظ على خصوصيتها، لمسايرة روح العصر (سلامة، 2017، ص42).

4-2-10- اعتماد اللغة العربية لغة رسمية، في المعاملات التجارية والقانونية، التي تنفذها الدول والشركات والمؤسسات العامة والخاصة  (بن عربية، 2016، ص10).

5- نتائج وتوصيات:

وفي نهاية البحث، توصلنا إلى مجموعة من النتائج، نلخصها في الآتي ذكره:

5-1- إنَّ العولمة بكافة مجالاتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والقيمية، قد أثرت سلبًا على اللغة العربية ومستقبل الهوية القومية، وسعت جادة إلى محاربة الأمة العربية، من أجل طمس لغتها وهويتها ودينها، وقتل روح الإبداع فيها، ونزوحها عنها، وانسلاخها عن وطنيتها، وإضعاف روح المقاومة فيها، ليسهل السيطرة عليها في المجالات جميعها. لقد فرضت العولمة على اللغة العربية، وهويتها تحديات كبيرة، وهي: سعي السياسة الاستعمارية إلى تنميط البشر والقيم والمفاهيم، وفق معاييرها الجديدة، والتشجيع على استخدام العامية بدل الفصحى، في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام المختلفة، والشعور بعجز اللغة العربية عن مواكبة حركة العلم والتقنية، وقلة النتاج العلمي والثقافي في اللغة العربية، وتلكؤ المسؤول العربي في إصدار القرار السياسي الملزم للتعريب، وترويج الشركات الغربية لاستخدام اللغات الأجنبية، في الأعمال التجارية والمصرفية والسياحية، وقلة المحتوى الرقمي العربي على الشابكة (الإنترنت)، وهيمنة اللغة الإنجليزية عليه، وفرض استعمال لغة العولمة (اللغة الإنجليزية) في التعليم العالي، والبحث العلمي، وينضاف إلى ذلك نقص الثقافة اللغوية لدى الإنسان العربي، وقلة مردوده الفكري والثقافي.

5-2- وقدَّمنا مجموعة من التوصيات، نلخصها على النحو الآتي: لا بُدَّ -في ظل تحديات العولمة- أن يتكاتف الجميع في التصدي لهذه المعضلة، من علماء لغة، ووزراء تربية وتعليم وتعليم عالٍ، ومعلمين، وأساتذة جامعات، ووسائل إعلام، وعلماء تقنية معلومات، وعلماء نفس، ومجامع اللغة العربية، لوضع حلول خلاقة لها. ولكي تبقى اللغة العربية حية ومنتجة وفاعلة، فإنَّنا نوصي باتخاذ مجموعة من الإجراءات لمواجهة هذه التحديات، وهي: غرس محبة اللغة العربية في نفوس أبنائها، واحترام معلميها، وتطوير مناهجها، وتشويق الشباب إليها، والاعتزاز بالهوية الثقافية العربية، وإنتاج المعرفة العربية، من أجل مواجهة التدفق المعلوماتي غير العربي، حتى ندخل عصر اقتصاد المعرفة، وبناء قاعدة بيانات عربية على الشابكة (الإنترنت)، في كافة المجالات، وإصدار قرار سياسي ملزم في موضوع التعريب، والتأليف العلمي باللغة العربية، وترجمة المصادر الأجنبية إلى اللغة العربية، واستخدام اللغة الفصحى في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، والابتعاد عن العاميات، وجعل اللغة العربية لغة التدريس الجامعي والبحث العلمي بدلًا من اللغة الإنجليزية، وتنفيذ قرارات مجامع اللغة العربية والمؤتمرات المتخصصة.

المراجع:

ابن حلدون، عبد الرحمن بن محمد. (1981). مقدمة ابن خلدون. بيروت، دار الفكر.

أبو الحسن، علي بن إسماعيل. (2000). تحقيق: عبد الحميد هنداوي. المحكم والمحيط الأعظم، بيروت، دار الكتب العلمية.

آل عايش، عبد الله بن خلفان. (2015). التعليم الديني في الوطن العربي وتحديات العولمة.                                               المجلة التربوية الدولية المتخصصة، م 4، ع 34، 100-120.

بن عريبة، راضية. (2016). العولمة واثرها في اللغة العربية. مجلة الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، ع 16، 3-17.

البديرات، باسم يونس، و البطاينة، حسين محمد. (2016). اللغة العربية وأثرها في تجذير الهوية العربية والإسلامية في عصر العولمة، مجلة مقاليد، م 6، ع 1، مخبر النقد ومصطلحاته، جامعة قاصدي مرباح ورقلة. 

البنا، فؤاد. (2006). العالم الإسلامي بين التخلف الحضاري ورياح العولمة. القاهرة، دار التوزيع والنشر الإسلامية. 

الجرجاني، علي بن محمد. (1983). التعريفات. بيروت، دار الكتب العلمية. 

جميل، سيار. (2001). العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط. بيروت، مركز الدراسات والتوثيق للنشر، ط2.

جميل، سيار. (1986). لغتنا العربية في خطر. مجلة الدوحة، ع 122، فبراير.

جيبسون، فردريك. ترجمة شوقي جلالا. (2001). العولمة والاستراتيجية السياسية. مجلة الثقافة العالمية، الكويت، ع 104.

الحفيان، فيصل. (د.ت). العلاقة بين اللغة والهوية. شبكة الألوكة. "متوفر بموقع": https://www.alukah.net/literature_language/0/7343/

الحقيل، عبد الله بن حمد. (2011). اللغة العربية هوية وانتماء. الرياض، فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية.

الحمد، تركي. (1999). الثقافة العربية في عصر العولمة. بيروت، دار الساقي.

خلف، سليمان نجم. (1998). العولمة والهوية الثقافية، تصور نظري لدراسة نموذج مجتمع الخليج والجزيرة العربية. المجلة العربية للعلوم الإنسانية، م 16، ع61، الكويت.

سلامة، فتحية محمد صقر. (2017). مستقبل اللغة العربية: الواقع والتحدي. مجلة جامعة الزيتونة، ع 24، 29-48.

السيد، محمود. (د.ت). العرب والعولمة اللغوية. مجلة مجمع اللغة العربية، م 85، ع 4، دمشق.

عبدالله، إبراهيم سعد الدين. (1986). النظام الدولي وآليات التبعية، آليات التبعية في إطار الرأسمالية المتعدية الجنسيات. مجلة المستقبل العربي، ع 90، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

علوي، هند. ( 2014 ). اللغة العربية وتحديات العولمة. مجلة الدراسات اللغوية، ع 10، 91 - 102 .

علي، نبيل، وحجازي، نادية. (1978). الفجوة الرقمية. مجلة عالم المعرفة، يناير، الكويت.

عمر، أحمد مختار. (2008). معجم اللغة العربية المعاصر. الرياض، عالم الكتب.

كرمة، الشريف. (2006). اللغة العربية وعلاقتها بالهوية. حوليات التراث، ع 6. 

متولي، ناريمان. اللغة العربية بين الانتماء والهوية والتحديات المستقبلية في عصر الرقمنة. صحيفة اللغة العربية صاحبة الجلالة، المجلس الدولي للغة العربية، "متوفر بموقع":  https://www.arabiclanguage.org 

محمد مراد، بركات. (2002). ظاهرة العولمة، رؤية نقدية. قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

ميكشيللي، إليكس. ترجمة علي وطفة. (1993). الهوية. دمشق، دار الوسيم للخدمات الطباعية.

يسين، السيد وآخرون. (1989). العرب والعولمة. بيروت، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية. 

       Doku, P. N. and Oppong Asante, K. (2011). Identity: Globalization, culture and psychological functioning. International Journal of Human Sciences [Online]. 8:2. “available at”: http://www.insanbilimleri.com/en

     Globalization: Opportunities and Challenges, “available at”: https://www.unescap.org

     Hassan, Bahaa El-Din. (2012). Language and identity: The impact of globalization on the Arabic language. Annals of Literature, Ain Shams, v 40, 421- 445. 

     Khan, M. (w.d). Teaching globalization, The Globalist, 28 August 2023. “available at”: https://www.theglobalist.com/teaching-globalization/

     Paul, J. and Manfred Steger (2014). A Genealogy of ‘Globalization’: The Career of a Concept, Globalizations, 11:4, 417- 434, DOI: 10.1080/14747731.2014.951186 

     Raj, K. (2003). Changing role of the public sector in the promotion of foreign direct investment. Asia- Pacific Development Journal, v 10, n 2, December.