الممارسات العلمية في فلاحة النخلة عند العمانيين في الفترة من القرن (3-6هـ/9-12م)

الباحث المراسلد. خالد بن محمد بن عدي الرحبي

تاريخ نشر البحث :2024-01-15
الإحالة إلى هذه المقالة   |   إحصائيات   |   شارك  |   تحميل المقال

المقدمة:
تُقدم المصادر العربية معارف جليلة، ومصنفات مختصة في أسس الفلاحة ونظمها في المشرق الإسلامي ومغربه، وكذلك بلاد الأندلس، إلا إنه حين يكون الحديث عن واحدة من أقدم مناطق شبه الجزيرة العربية في ممارسة النشاط الزراعي وهي عُمان التي وصفها الجغرافيون المسلمين بكثرة النخل والفواكه( )، فإن الأمر مختلف جدا؛ إذ يعد توفر المعلومات عن ذلك كله أمرا مستعصيا لقلة ما كتب عنه، فمع التجربة الطويلة للعمانيين في التعامل مع الزرع والنخل، إلا أن تلك المعرفة لم تنعكس على شكل مؤلفات علمية.
على الرغم من شهرة العمانيين بمعرفتهم الزراعية العميقة التي أصبحت جزءا من هويتهم، يفخرون بها على أقرانهم العرب في مجالس الخلفاء( )، غير أنه لم يؤثر عن أحد علمائهم كتاب مختص في الزراعة أو الفلاحة، يكشف طبيعة تعاملهم العلمي مع الأشجار والزرع، وحصيلة خبرتهم فيه، فهل يعني ذلك ضياع تلك التجربة؟ وهل كان لدى العمانيين ممارسات علمية حقيقية في فلاحة النخلة ورعايتها؟ وهل يمكن الركون إلى المصادر العُمانية التي أُلِّفت خلال الفترة من القرن(3-6هـ/9-12م)، والعمل على استقراء بعض النصوص الواردة فيها -لاسيما الفقهية منها- لاستخلاص بعض جوانب المعرفة الفلاحية عند العمانيين، وطرائق توظيفها في رعاية النخلة؟
تسعى هذه الورقة لإبراز بعض جوانب تجربة العمانيين في فلاحة النخلة؛ وذلك بالبحث في المصادر العمانية المختلفة السابق ذكرها، عن الممارسات العلمية التي مارسها العمانيون في تعاملهم مع النخلة؛ من حيث رعايتها فلاحيا، وأنماط ريها، وتكثير فسائلها وتنويعها، والآفات التي تتعرض لها، وطرائق رعاية ثمارها منذ التلقيح حتى الحصاد، وحق النخلة من الأرض الزراعية.
اتبعت الورقة المنهج الاستقرائي التحليلي؛ لتتبع النصوص المتاحة في المصادر الفقهية المتعلقة بفلاحة النخلة، وتحليلها ومقارنتها مع الممارسات العلمية الحديثة في رعاية النخلة. واتبعت أيضًا المنهج التاريخي الوصفي عند مناقشة الإطار الزمني للدراسة.

 


تمهيد: 
عُرف عن عمان سيادة المناخ المداري الحار وسيطرته عليها؛ نظرا لوقوعها بين دائرتي عرض (16.39-26.30) شمال خط الاستواء( ) وهذا ما يعني مرور مدار السرطان (23.5 درجة شمال خط الاستواء)، الذي تتعامد عليه أشعة الشمس صيفا، بعدد من مناطقها الشمالية، ومنها العاصمة مسقط؛ فينتج عنه شح في الموارد المائية السطحية، وسيادة التربة الصحراوية، باستثناء بعض المناطق الجبلية التي توفرت لها ظروف مناخية سمحت بوجود كميات من المياه السطحية والجوفية، إضافة إلى توفر مساحات من الأراضي الزراعية في بعض المناطق التي تتسع نسبيا، مثل بعض السهول الساحلية، وتضيق في أخرى.
ومع تلك الظروف التي تعد عائقا حقيقيا أمام قيام النشاط الزراعي في عمان إلا أن العمانيين مارسوا النشاط الزراعي في مناطق مختلفة من بلادهم بطريقة تتسق وتحديات المناخ، وبما توفره البيئة الطبيعية من إمكانات في كل جزء منها، معتمدين على الآبار والأفلاج( )؛ وعليه كان النشاط الزراعي أحد الأنشطة الاقتصادية المهمة في عمان.

العلوم الزراعية عند العرب: 
مع ظهور الحضارة الإسلامية، وبدء الإنتاج العلمي في مختلف المجالات، ومنها العلوم الزراعية أو ما عرف في أدبياتها بـ(علم الفلاحة)، قدَّمت المصادر العربية الممارسة الزراعية تقديمًا علميًّا منظّمًا قائمًا على التجربة والتطبيق( )، يعرض حلولا للمشكلات التي يواجهها الفلاحون، ويقدم أيضًا ابتكارات ثريّة في المجال الزراعي، وتوجه القائمين عليه.
عرَّفت المصادر العربية الفلاحة (العلوم الزراعية) لغةً بأنها: شق الأرض وحرثها، وهي حرفة الفلاح، يقول ابن منظور: "الفَلْحُ: مصدر فَلَحْتُ الأَرض إِذا شققتها للزراعة. وفَلَح الأَرضَ للزراعة يَفْلَحُها فَلْحاً إِذا شقها للحرث، والفَلاَّح: الأَكَّارُ، وإِنما قيل له فَلاَّحٌ لأنّه يَفْلَحُ الأَرضَ أَي يَشقها، وحِرْفَتُه الفِلاحة، والفِلاحةُ، بالكسر: الحِراثة"( )، كما عرَّفت اصطلاحا بأنها "علم يُتعرف منه كيفية تدبير النبات من بدء كونه إلى تمام نشوئه"( )، وتشمل إصلاح الأرض، وغرس الأشجار، وزرع الحبوب فيها، وإصلاح ذلك وإمداده بما ينفعه ويجوَّده، ودفع الآفات عنه( )؛ وعلى ذلك فإنه يندرج تحت مفهوم الفلاحة كل ما يتعلق بالعلوم الزراعية من إصلاح الأرض وسمادها وتهيئتها للزراعة، إضافة إلى طرائق الزراعة وأساليبها من غرس وفسل وبذر، وما تحتاجه الأشجار والزرع من ري ووقاية وعلاج من الآفات، ومعرفة الأنواء والمواسم، وكذلك معرفة أنواع المياه من حيث الملوحة ومناسبتها للزراعة، وارتبطت بها أيضًا عدد من العلوم المساندة، مثل تلك التي تبين فوائد الثمار والأغذية الناتجة عنها، والعلوم التي تتوقع مواطن الماء(الريافة). واستنادا إلى هذه الأسس بُنيت كتب التراث العربي التي نظمت العلوم الزراعية.
وحينما يكون الحديث عن واحدة من أقدم مناطق شبه الجزيرة العربية في ممارسة النشاط الزراعي لاسيما زراعة النخلة وهي عُمان، فإن الحديث يعطي بعدًا آخر، وميزة خاصة؛ ومع ذلك فإن الحصول على المعلومات عن الفلاحة فيها عموما بما فيها فلاحة النخلة، أمر صعب لقلة ما كتب عنه؛ ولعل مرد ذلك إلى وجود ثقافة زراعية متأصلة في المجتمع، ومنقولة عبر الأجيال، وهو ما  عزّز القناعة بعدم وجود حاجة إلى تدوينها، وإلى ذلك  أشار ابن خلدون حين جعل الفلاحة من بين المهن المتقدمة على باقي المهن كالتجارة والصناعة، ويصفها بقوله: "..إذ هي بسيطة وطبيعة فطرية لا تحتاج إلى نظر ولا علم..."( )، مع ذلك، يمكن الركون إلى المصادر العُمانية، وإعادة استقراء بعض النصوص -على قلتها- لاسيما الفقهية منها؛ لتوضيح العلوم الزراعية (علم الفلاحة)، والعلوم المرتبطة بها عند العمانيين، وطرائق توظيفها في فلاحة النخلة في عُمان، وطرائق ممارستها وفقا لطبيعة المناخ، وتوفر موارد المياه، والمساحات الزراعية المتاحة.
- المحددات العامة للفلاحة في عمان:
هناك جملة من المحددات التي بنى العُمانيون عليها ملامح ممارستهم الفلاحية، والتي يمكن إيجازها بـ: 
- مساحة الأرض الصالحة للزراعة المحدودة نسبيا.
- مصادر المياه المتوفرة، التي أبدعوا في بناء أنظمتها شقا أو حفرا وتخطيطا وإدارة، وهي بصعوبة تكفي للمساحة الزراعية المتوفرة.
-  مناخ البلاد الحار والجاف( ) وما يتوافق معه من أشجار وزرع، لاسيما النّخلة، والحبوب (البر، والذرة، والشعير).
هذا، وقد ضبط العمانيون كل ذلك؛ لتوفير ما يضمن الأمن الغذائي لمجتمعهم، مع وجود اهتمام بالأعلاف، والأشجار والمزروعات الأخرى كأشجار الفواكه، أو الأشجار الأخرى المستفاد منها في الأغراض الأخرى غير الغذاء، أو الأشجار العطرية الأخرى كالزهور والرياحين وغيرها؛ الأمر الذي أبرز لديهم نمطين رئيسين من الزراعة، كل منهما قائم على أسس المعرفة بخصائص أشجار وزروع كل نمط؛ الأول عرف لديهم بـ (النخل)، ويقصد به الأراضي المزروعة نخلا، وما اشتملت عليه من أشجار أخرى تتخلل البساتين المزروعة بالنخل( )، وهو النمط الأساسي في الزراعة في عُمان، وهو أحد الأسس التي يُعتمد عليها في قياس حدود عمران القرى والمدن( )، وقد ظهر لها نمط من الممارسة الفلاحية، وما ارتبط بها من التعاقدات والوظائف والمنتجات. أما النمط الثاني فعرف بـ(الزرع)( )، أو (الأرض)( ) وهي الزراعات الموسمية التي لها أجل محدود، أو دورة حياة قصيرة، ولها نمط فلاحي آخر ارتبط به أيضا تعاقدات ووظائف ومنتجات أخرى مختلفة. ويتخلل هذين النمطين الأشجار الأخرى التي أصبحت تابعة لهذين النمطين الرئيسيين، وقد عرفت عُمان بمنتجات هذين النمطين الزراعيين؛ ففي رسالة الخليفة عمر بن عبدالعزيز لواليه على البصرة، التي تتبعها ولاية عُمان، ما يؤكد بروز هذين النمطين: "أما بعد فإني كنت كتبت إِلَى عَمْرو بْن عَبْد اللَّهِ أن يقسم ما وجد بعُمان من عشور التمر والحب في فقراء أهلها، ومن سقط إليها من أهل البادية، ومن إضافته إليها الحاجة والمسكنة وانقطاع السبيل"( ).
- الملامح العامة للفلاحة:
ارتكزت الممارسات الفلاحية في عُمان - كما سبقت الإشارة إليه-  على التوازن بين وفرة الماء، وما يمكن استغلاله من الأرض بهدف إنتاج ما يمكن أن يوفر الأمن الغذائي من المحاصيل الإستراتيجية كالتمر والحبوب؛ لذلك كان غالب الحديث في المصادر العُمانية عن الفلاحة يدور حول هذين المحصولين، إضافة إلى موارد المياه والاهتمام بسلامتها، وسلاسة وصولها إلى مناطق الاحتياج، ولم تكن المحاصيل الأخرى إلا مكملة، ولم تأت في مرتبة متقدمة من الاهتمام؛  لذلك لم تكن المعرفة الفلاحية تهتم كثيرا بأشجار الفاكهة، وتركيب الأشجار الأخرى، وتخصيص أراض لزراعتها، وتنويع محاصيلها( )، وإكثارها، وتنويع أدواتها المستخدمة في فلاحتها، وما إلى ذلك؛ وهو ما يكشف ثراء المعرفة الفلاحية وتنوّعها في غير النّخل والبر.
ومع ذلك يمكن الكشف عن الملامح العامة للنظام الزراعي في عُمان من حيث إصلاح للأرض والتسميد، والرَّي، وضبط الزراعة بالمواسم، وتنظيم غرس الأشجار والنخل، والأدوات الزراعية المستخدمة في الفلاحة، وغيرها؛ الأمر الذي يظهر بعض جوانب الفلاحة في عُمان.
- محورية النّخلة في الأرض الزراعية بعمان:
عُرفت عُمان في كتب الجغرافيين العرب، بأنها بلاد نخل، فلا تكاد تذكر مدينة من مدن عُمان، إلا وذكر النّخل حاضر فيها كمعلم بارز على نشاطها الزراعي، وعلامة دالة على البلد، فالسجستاني(ت255هـ) يصف عُمان بقوله: "... ثم بعُمان نخل كثير"( )، أما المقدسي (ت387)، فيذكرها عموما بقوله: "... كورة جليلة تكون ثمانين فرسخا في مثلها كلّها نخيل وبساتين عامّة"( )، ثم حين يعدد مدنها يخصص لكل منها ذكرًا للنخل؛ فذكر بصحار: " المصلّى وسط النخيل"( )، وبنزوى:" شربهم من أنهار وآبار"( )، وبالسر "...شربهم من أنهار وآبار قد التفّت بها النخيل"( ) وضنك: "صغيرة في النخيل"( )، وحفيت: "كثيرة النخيل"( )، كما أشار البكري أيضا إلى كثرة النّخل بعُمان( )؛ الأمر الذي يوحي إلى ارتباط عُمان بالنّخل في ذهن الجغرافيين العرب.
وتعد النّخلة الشجرة الأساسية في معظم الأراضي الزراعية التي يطلق عليها عُرفا في عُمان (النخل)( ) والتي تعرف أيضا بـ(الأموال)( )؛ إذ جُعلت النّخلة المحور الذي تدور حوله الفلاحة في ذلك النمط الزراعي، فقد أثبتت الإجراءات والضوابط الفلاحية المتخذة في مناطق زراعة النّخل محورية النّخلة من حيث حمايتها من أي ضرر قد يقع عليها سواء ما يهدد حياتها كانقطاع الماء عنها، أو ما يؤثر على نموها، وجعلت النّخلة أيضًا معيارا يقاس عليه ما ينبت من أشجار في نطاق الأراضي المزروعة فيها.
فُرِضَ لأجل حياة النخلة وسلامتها، إجراءات تتحول بموجبها الملكية الخاصة إلى انتفاع عام مع تعويض أصحاب الملكية الخاصة؛ فإذا انهدم فلج قرية ما وتأخر إخراجه لتعذر شق مجراه في موضعه السابق، وكانت الخشية على النّخل من جفافها، فإنه يسمح لأهل ذلك الفَلَج  أن يشقوا مجراه في أموال آخرين بعد تحديد الثمن المناسب مقابل ذلك، وذلك حرصا على سلامة النخل( )، وما يتبع ذلك من بقاء الحياة في القرية، أما من حيث حماية نموها فعند مجاورة شجرة كبيرة لها مثل النخيل في أملاك الآخرين( )، أو من قبل الأشجار الكبيرة كالقرط مثلا( )، فإنه يلزم  قطع ما ناف على النخل، حتى لا يحجب عنه الضوء، ويلحق به الضرر.
كذلك فرضت محورية النّخلة أن تكون الأشجار الأخرى المزروعة ضمن نطاق أراضي زراعتها؛ أي تابعة لها، فكل ما يتعلق بتلك الأشجار من حقوق لها أو للعاملين فيها يُقاس بالنسبة إلى ما وضع للنخلة من حقوق، أو ما يستحقه العامل جراء قيامه بشؤون النّخلة، فيضبط (الشرب) من الفَلَج  قياسا على ما تستحقه النّخلة وما تحتاج إليه من الماء( )، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك أشجارًا أخرى تُروى من ذلك الماء، لكن المعيار الأساسي هي النّخلة وما تحتاجه من ريّ، ومما يعكس محورية النّخلة أيضا ما تقرر لها من حق في مساحة الأرض الزراعية (المعروف بالقياس) عند البيع والشراء أو الإرث؛ إذ جعل للنخلة حق القياس، ويقصد به قياس المساحة من الأرض التي تتبع النّخلة حين انتقال ملكيتها من شخص إلى آخر، وحُدّد ذلك بين 3 أذرع و16 ذراعا وفق مقتضيات تخطيط الأرض والزراعة في تلك المساحة، ولبيان ما للنّخلة من أهمية في هذا الجانب؛ فقد قدم الشيخ أبي زكريا( ) الموضوع تقديمًا بليغًا بقوله: "..أنّ النّخلة تُقايس، ولو من عُمان إلى سيراف؛ ما لم يلقها شيء يقطع القياس"( )، كما تُضبط حجم مساحة (الأجيل)( ) بناءً على عدد النّخل في الوحدة الواحدة وقدرة الفَلَج  على سرعة ملئها، فإن كان الفَلَج  ذا تدفق عالٍ جُعل في كل وحدة ثلاث نخلات أو أكثر، وإن كان الفَلَج  ذا تدفق منخفض جُعلت في كل وِحْدة نخلتان أو نخلة واحدة( )، إضافة إلى ذلك جُعلت النّخلة أيضا معيارا في اتخاذ الحريم( ) عن جدار الجار وعن الطرق والسواقي، فيضبط غرس الأشجار كالرمان ونحوه بأن "يُفسح عن الجدار ثلاثة أذرع مثل النخل، وكذلك عن الطريق الجائزة"( )، إلا ما كان من الأشجار الكبيرة التي تتفرع أغصانها لمسافات أبعد مثل: القرط؛ فإنها تكون خارجة عن معيار النّخلة( )، وإذ يسري على الأشجار التي تكون خلال النّخل ما يسري على النّخلة من حقوق وضوابط كما سبق بيانه، فإن حقوق العمال الذين يعملون في رعاية تلك الأشجار تكون أيضا مشابهة لما ذكر، وحقوقهم تكون فيما يفرض لهم من أجر على رعايتهم للنخل؛ إذ لا تعدو أن تكون تلك الأشجار تابعة للنخل تروى بما يروى به النخل، وتصلح بما يصلح به النّخل من سماد أو غيره( ).
يعود اعتماد النّخلة محورا للفلاحة على أنها شجرة مثمرة، يعزّز إنتاجها من التمور الأمنَ الغذائي للمجتمع، إضافة إلى ذلك يمكن الاستفادة من كثير من أجزائها في الصناعات، كذلك تعد عينا (مالا) مقبولا للتداول بين أفراد المجتمع، يديرونه بينهم لأجل قضاء مآربهم، كالزواج، والوصية، ويمكن تحويلها أيضًا إلى سيولة نقدية بالبيع أو الرهن أو غيره، فالنّخلة في عُمان ينطبق عليها وصف ابن وحشية إلى حد كبير:"...حتى أن الناس لا ينتفعون من شيء من المنابت انتفاعهم بالنخل، وكان له مع هذه المنافع الكثيرة ثمرة ليس في الثمار مثلها في الطيب وحلاوة الطعم...، وأن جميع أجزائها من أسفلها إلى أعلاها في كل واحد منه منفعة للناس"( )؛ لذلك غدت النّخلة مالا مرغوبا بكثرة حتى في الحالات التي تكون فيها نخلة واحدة يملكها شخص ما وسط نخل لمالك آخر، ولا تملك تلك النخلة من الأرض التي تنبت عليها شيئا، فبمجرد وقوعها من ريح أو غيره، تنتهي ملكيتها وهي ما تعرف بـ(النخلة الوقيعة)( ).
- الممارسات العلمية في فلاحة النخلة:
تعد المعرفة بأحوال الأرض والنباتات وما يصلح من الزراعة والبذور، الركن الأساسي من أركان الزراعة قديما وحديثا، فقد جاء في مقدمة كتاب الفلاحة الرومية للبعلبكي عبارة: "هذا كتاب قسطوس الفيلسوف الرومي في الزراعة وما يتعلق بها مما لا يستغني عنه المزارعون"( )، فالمعرفة أساسية في ممارسة النشاط الزراعي؛ نظرا لما يترتب عليها من جودة العمل، وزيادة الإنتاج وغيره.
لم يُفْرِد المُصَنِّف العماني كتابا في الممارسات الزراعية (الفلاحة)، مع ذلك فقد عَرَف المجتمع الزراعي في عُمان الكثير من خواص النّخلة، والأساليب العلمية للتعامل معها بهدف سلامة النخلة، وصحتها، وزيادة إنتاجها، وسلامته وجودته، وقد وصلت إلينا الأساليب العلمية تلك من تفاعل أهل الزراعة والقائمين عليها مع الفقهاء؛ فحين يختلفون يلجؤون إليهم فيفصلون فيها بناء على المعرفة المجتمعية الموروثة، أو ما اصطلح على تسميته (سُنَّة البلد)( ) وهي الطريقة المتبعة في التعامل مع النّخلة بحسب الظرف أو القضية المختلف فيها، التي هي بمثابة تراث معرفي علمي منقول شفهيا بين أجيال المجتمع، فيدونون ذلك في مصنفاتهم الفقهية التي حفظت لنا كثيرًا من تلك المعارف العلمية الزراعية بين ثنايا المسائل الفقهية.
تكشف مصادر الفقه العمانية المتنوعة عن المعارف الفلاحية المتعلقة بالنّخلة، منها:
- قوة النخلة وجودة إنتاجها: من حيث معرفة قيمتها وجودة إنتاجها، فمن عيوب النّخل بحسب موقعها من الأرض المزروعة: الجانحة( )، والمأكولة التي تنالها الدواب والأيدي من الأرض( )؛ أي النّخلة الصغيرة التي تقع على طريق فتمر بها الدواب فتنال من ثمرها، أو تنال من ثمرها أيدي الناس لسهولة الوصول إليها، كما أن من النّخل غير المرغوب فيها النّخلة المنفردة التي تُعرف بالعزبة الفانية( )، ويفهم من سياق العبارة أنها النّخلة المنفردة التي طال عمرها فهي إلى الموت والفناء أقرب؛  ولعل سبب ذلك يعود إلى ما ذكره ابن وحشية من أن بعض النّخل تتغير جودة ثمرها بعد أن تكبر النّخلة( )، وهو ما يؤكده العلم الحديث من أنه كلما تقدمت النخلة في العمر انخفض المعدل السنوي لإنتاج الأوراق الجديدة( )؛ وعلى ذلك تضعف قدرتها على إنتاج الطلع.
وعلى النقيض من ذلك فإن أفضلها النّخلة الوسط التي تقع في موضع نفيس يزيد في ثمنه الطالب، أو من نوع يرعى الناس فيه ويزيدون في ثمنه( )، وفي هذا الإطار فإن هناك أراضيَ تميزت بجودة نخله؛، فأصبحت أغلى سعرا من غيرها، مثل ذلك أن نخل قرية (العقر) تعد أغلى سعرا من نخل قرية (سعال)( )، والقريتان ببلد واحد وهي نزوى، ولا يتضح سبب هذا التمايز بين القريتين إلا أن يكون ثبات تدفق مياه أفلاج العقر أكثر من أفلاج سعال في فترات الجفاف.
- أثر الرطوبة على جودة الإنتاج: مما ثبت عند العمانيين بالتجربة، التفاوت في جودة الإنتاج بين نخل المناطق الجبلية ومناطق الباطنة؛ ويعود ذلك إلى تأخر نضج ثمرة نخل الباطنة، وتخلّف بعضها عن بعض في نضج الثمرة بشكل واضح، يقول العوتبي: "ونخل الباطنة في إدراكها تخلّف بعضها عن بعض في اللحاق، وتقارب نخل الجبل"( )؛ والسبب الرئيس في ذلك أن نسبة الرطوبة عالية في المناطق الساحلية مثل الباطنة، على عكس المناطق الجبلية الجافة التي تتعرض فيها النّخلة لدرجات حرارة عالية مع قلة الرطوبة( )، وهو ما تؤكده الدراسات الحديثة من أن ارتفاع نسبة الرطوبة في الهواء المحيط يقلّل من فقدان رطوبة الثمار، ويؤدي إلى حدوث تغير فسيولوجي في تطور الثمار بسبب صعوبة التخلص من الرطوبة الزائدة داخل الثمرة؛ وهذا يؤدي إلى طول مرحلة الرطب وتأخير النضج الطبيعي للثمار وهو ما يسبب تساقطها( )، وقد وظّفت هذه المعرفة في مراعاة حق النساء من أهل المناطق الداخلية المتزوجات في الباطنة من حيث مراعاة قضاء صداقهن، فلا يعطين من نخل الباطنة وإنما من نخل الجبال؛ لأجل التفاوت في جودة الإنتاج، وما يتبعه من سعر النخلة( ).
- تحمل النخلة للملوحة:  انصب تفكير العُمانيين، الذين خَبِروا طبيعة بلادهم ذات الموارد المائية الشحيحة، في المقام الأول على أهمية توفر الماء لري الأرض الزراعية بما يكفي لفسلها أو زرعها، دون النظر إلى طبيعة تلك المياه، ودرجة تملُّحِها، وتأثيرها في التربة، فلم يَعُدُّوا درجات الملوحة من العيوب الظاهرة التي تَبْطُل بها عقود البيع والشراء في الأراضي الزراعية: "ومن اشترى أرضًا، فوجدها مالحة الماء ولا ماء لها؛ فليس بعيب يجب الرد به"( )؛ ولعل السبب الوجيه في ذلك أن أبرز المزروعات في عُمان هي النّخلة وهي شجرة قليلة التأثر بملوحة المياه، بل إن مصادر الفلاحة العربية تشير إلى حاجة النّخلة للملوحة عند فسلها( )، وتستمر حاجتها لذلك بعد الفسل( )، وهو ما أثبتته الدراسات الحديثة من حيث قدرة النّخلة على تحمل درجات الملوحة المرتفعة نسبيا ( ).
- رعاية النخلة كشجرة: أوضحت مسائل التعاقدات في كتب الفقه ما تحتاجه النّخلة من رعاية، أو أعمال إصلاح الأرض تحت النّخل، مثل: التسميد والرضم( )؛ فمن حيث رعايتها كنخلة فإنه ينبغي الاهتمام بنظافتها من السعف والليف اليابس، أو ما يعرف بالشراطة( )، وهي عملية مهمة؛ لأن السعف الجاف يساعد على انتشار الأمراض، كما أنه يلحق أضرارا ميكانيكية بالثمار نتيجة احتكاكه بها( ).
أما الرضم، ويقصد بها: إثارة الأرض وتنظيفها من الحشائش، وهي من الأعمال المرتبطة برعاية النّخلة كشجرة، ولم تذكر المصادر طبيعة الحراثة التي كانت تتعرض لها أرض النّخل من حيث مواقيتها، وعدد المرات في السنة، إلا أن إغفال ذكر ذلك لا يعني عدم أهميته للنخلة؛ فقد رُبط ذلك بحق العامل في الثمرة( ) كونها من الإصلاح المرتبط بجودة الثمرة ووفرتها، فإن قيام العامل برضم أراضي النخيل يحفظ حقه في الثمرة، و قد أكدت الدراسات الحديثة أهمية إزالة الحشائش للنخلة؛ لما لهذه الحشائش من دور غير مباشر في الإضرار بأشجار النخيل عن طريق توفير بيئة ملائمة لانتشار الآفات غير الحشرية كالفئران والجرذان والقواقع،  يمكن أيضًا أن تكون عائلا عرضيًا لحشرات سوسة الطلع، وسوسة النخيل الحمراء، والحميرة، والنمل الأبيض، والنيماتودا التي تسبب تعقد الجذور( ).
- الريّ:  عادة يكون الريّ مرتبط بدوران ماء الفَلَج،  المضبوط أصلا بحاجة النّخلة من الماء؛ إذ ضبطت قسمة مياه الأفلاج بحيث يكون دورانها على قياس كفاية مساحة الأرض المزروعة بحيث لا يضرها العطش، ولأن النّخلة هي الشجرة الرئيسة في الأرض الزراعية في عُمان فلا يبعد أن يكون مدى حاجتها للمياه، والمدة الزمنية لتحملها العطش، هي المعيار الرئيس في تحديد زمن دوران ماء الفَلَج، وتختلف حاجة النّخلة للري بين الشتاء(مرحلة التنبيت والتزهير للثمرة)، والصيف (مرحلة نضج الثمرة)؛ فقد أثبت العلم حديثا أن في مرحلة التلقيح (التنبيت) ينبغي أن تُقلل كمية الري إلى الربع 25 % إن لم يوقف الري طيلة فترة إجراء العملية، في حين تحتاج مرحلة التزهير والعقد إلى ريّ خفيف مع تجنب الجفاف أو الإسراف؛ إذ إن انخفاض الري أو زيادته في هذه الفترة يسبب تساقط جزء كبير من الأزهار والثمار العاقدة الصغيرة، وتكون كمية المياه بنسبة 50 %( ).
وقد وظف العمانيون المعرفة، المتمثلة في حاجة النخلة للري والتفاوت في ذلك في مراحل نمو ثمرة النخلة، في تنظيم إدارة مياه بعض الأفلاج؛ ففي فلج (السعالي) وهو أحد أكبر أفلاج نزوى ويسقي قرية سعال، ضبطت إدارته بحيث يزيدون أياما في توقيت دوران أسهم مياه الفَلَج في وقت معروف من الشّتاء، ويعودون إلى التوقيت الثابت لدوران الأسهم في فصل الصيف، بحيث ".. يكون دوره في الحرّ على عشرة أيّام، وفي الشّتاء على نحو ستّة عشر يومًا"( )، ويستغلون تلك الزّيادة في إضافة بادّة تؤجّر مياهها (تُطنى) ويكون عائدها لإصلاح الفَلَج وحاجته من الصيانة، أو إصلاح أمواله، وباقي الزّيادة تقسم على أصحاب أسهم الفَلَج، فمن كان له أثر، يصبح له أثرًا ونصف الأثر وهكذا( )، ويعد هذا الإجراء سُنَّة ثابتة متبعة ومتعارف عليها في الفَلَج لا تتغير.
ولأهمية الرَّي في فلاحة النّخلة فقد جُعِل أحد المحددات في استحقاق عاملِ النّخل نصيبَه من ثمرتها، كما جُعِل الرَّي شرطا يلزم العامل إكماله حتى تستوفي الثمرة حاجتها من الرَّي قبل حصادها، وفي حالة رغبته في إنهاء التعاقد فلا ينهى التعاقد ما لم تنته حاجة الثمرة من الرَّيّ( ).
الجدير بالذكر هنا أن أمر ريِّ النخل في الباطنة يختلف عما هو عليه الحال في ري النّخل في القرى الجبلية؛ ذلك أنّه يعتمد على الرسّ، إضافة إلى أنّه يروى في فترات محددة من العام ريا وافرا عن طريق الزجر من الآبار، ثم يترك بلا سقي باقي العام؛ إذ تشير المصادر أنّه يسقى مدة قد تزيد قليلا أو تنقص عن شهرين، تبدأ مع بدء نضج الثمار حتى نهاية القيظ( )، وهي الفترة التي يحضر( ) أصحاب النّخل إلى نخيلهم، ثم يتركونها مع نهاية القيظ ويعودون إلى بيوتهم( )، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأسلوب في الرَّي لا يؤثر في إنتاج النّخلة، فهي تحمل ثمرة جيدة( )، ولا تحتاج إلى الماء كثيرًا في فصل الشتاء كما سبقت الإشارة إليه.
- رعاية الثمرة من طلوعها حتى حصادها: برزت عدة ممارسات للعناية بالثمرة من بدء طلع الثمرة حتى حصادها، يمكن حصرها في الآتي:
أ‌- التنبيت: وهو أول أعمال الفلاحة المتعلقة برعاية الثمرة، وميقات حدوثه بالشتاء، وتعد عُمان من أوائل البلدان التي يظهر بها الطلع، وأول من تنتهي من التلقيح أو التنبيت، وإلى ذلك يشير الملك الأفضل الرسولي: "... وابتداء تلقيح النّخل بقلهات، وأيام قطعه وانقضائه؛ أما قطعه ففي عشرة كانون الأول (ديسمبر)،... ثم التلقيح 40 يوما"( )، وبعد خروج طلع النخل، الذي يعرف بـ "القبِّ، ويجمع على أَقْبَاب"( )، يحتاج طلع النّخلة إلى تنبيت أو تلقيح، وهو من الأعمال الضرورية في فلاحة النّخلة( )، ومع أنّه لم يرد في المصادر الأنواع المناسبة من الأفحال لتلقيح كل نوع من أنواع النخل( )، غير أنّه يرد بوضوح عاقبة ترك النّخل بلا تنبيت، أو عدم كفاية التنبيت؛ فيظهر ما يعرف بـ(القرفد)( )، و هو عيب يؤدي إلى نمو البيض بدون حدوث عملية التلقيح والإخصاب، وهنا يكون العقد بكري، وتنتج عنه ثمره مفرد أو ثنائية أو ثلاثية وخالية من البذور تسمى (undeveloped fruit) (الشيص)( ) فتؤدي إلى عدم نضوج الثمرة بصورة سليمة، فلا تتحول إلى بسر ثم رطب ثم تمر كالعادة في الوضع الطبيعي للتمر.
  وفي مرحلة التنبيت هذه درج العُمانيون في ممارستهم الفلاحية على قلع الأقباب للتخفيف عن النّخلة( )، حتى لا تضعف عن حمل الثمر، وهذا عرف سائد بين أهل كل بلد، يحتكم إليه في حال وقوع خلاف بين صاحب المال والعامل حول العدد المتبقي والعدد المقلوع من الأقباب، إذ قد تختلف نظرة كل منهما إلى مصلحته بين الكثرة والجودة( )، وهي عملية تعرف حديثا بخف الثمار ( (Fruit Thinningوتكون بإزالة جزء من الأزهار أو الثمار( ) أو استئصال شماريخ أو تقصير شماريخ أو إزالة عذوق كاملة، ولهذه العملية مردود اقتصادي مهم( )؛ لأن عدم إجرائها قد يؤدي إلى زيادة المحصول وتخفيض جودته، وهو ما يخفض من قيمته التسويقية، وأن المبالغة في إجراء الخف أيضًا يقلل من الإنتاج؛ فينعكس على المردود الاقتصادي للثمار، وهذا ما أشارت إليه مجموعة من الدراسات بأن طرائق الخف والتغطية لها أثر في جودة الإنتاج وزيادته، وزيادة وزنه( )؛ إذ يحميه من الأمراض التي تعرف بالغلج( )، والوصومة( ).
ب‌- التحدير(تقويس العذوق): وهي المرحلة الثانية من رعاية ثمرة النّخلة التي تمر بمراحل متعددة من حيث النمو، منها: (الخلال، ثم البسر، ثم التمر)، وفي هذه المراحل تحتاج الثمرة إلى رعاية خاصة، فبعد مرحلة الطلع التي تلزم التنبيت، تأتي مرحلة الخلال الذي يحتاج فيه النّخل إلى التحدير( )، ويقصد بها إنزال عذوق النّخلة على سعفها؛ لحمايتها من الريح، ولضمان سهولة حصادها، وصونها عن التعرض للحرارة المرتفعة، وتقليل الرطوبة النسبية حولها. وكل هذا يقلل من الأضرار الفسيولوجية، مثل: التشطيب وانفصال القشرة عن اللحم والذنب الأسود، وتساعد على تعريض الثمار للضوء الكافي( ).
ت‌- التسجير: ثم تأتي عملية التسجير وهي مرحلة لاحقة لعملية التحدير، فحين يبدأ نضوج البسر، وتحوله إلى رطب، تصبح أكثر عرضة لتساقطها من الأعذاق بسبب هبوب الرياح؛ لذلك تُسَجَّر النّخل؛ أي تشد عذوقها إلى جذع النّخلة، ويوثق رباطها، وقد انفرد أهل عُمان بالتسجير( )؛ إذ إن أهل البصرة يكتفون بإنزال العذوق على سعف النخل( )، وقد يعود ذلك إلى معرفة أهل عُمان بطبيعة مناخهم صيفا، إذ تتعرض بعض مناطق عُمان في بعض مواسم فصل الصيف لهبوب عواصف وأعاصير عنيفة كما حدث في عام 251هـ؛ حين شهدت مناطق واسعة من عُمان أمطارًا فيضانية اجتاحت مزارع النّخل وهي في مرحلة نضج الثمار( )،وتتساقط الأمطار الصيفية على بعض المناطق الجبلية من البلاد نتيجة الفوارق الحرارية بين البحر واليابس( )، تكون مصحوبة أحيانا بهبات رياح نشطة، تؤدي إلى تساقط الثمار، عرفت عند العُمانيين بـ(الريح الخارب)؛ أي الذي تتساقط بتأثيرها حبات التمر الثلاث، أو السبع تمرات معا( )، ويبدو من المصادر أن السجار أو التسجير عملية مهمة لا بد من قيام العامل في النّخل بتنفيذها؛ لأجل حماية الثمرة من هبوب الرياح وتساقط حباتها، وما يتبع ذلك من اختلاط التمر بالتربة أو الماء؛ الأمر الذي يؤثر في جودة المحصول.
ث‌- النفاض والجداد: وهي المراحل الأخيرة من عمليات فلاحة النّخلة قبل الحصاد، ويقصد بالنفاض: هزّ عذوق النّخل في منتصف الموسم؛ وذلك بهدف حصاد التمر الخالص، في حين يبقى البسر والرطب غير الناضج معلقا في العذق حتى ينضج، ثم تأتي بعدها عملية الجداد، أو صرام النخل؛ وتعني قطع العذوق من النّخلة لحصاد الثمرة، وهاتان العمليتان أيضا كسابقتهما يقوم بهما العامل المكلف بفلاحة النخل( )؛ ذلك لأنها من أمور الفلاحة التي تحفظ له حقه في الثمرة( )، والمترتبة عليه عادة بحكم ما يعرف بسُنَّة البلد أو العادة المتبعة في البلد( ).  
-  الأمراض التي تصيب النخلة: مع أهمية النّخلة ومحوريتها في العملية الفلاحية في عُمان، إلا أننا لا نعرف الكثير عن الأمراض التي تتعرض لها النّخلة إلا معرفةً يسيرة جدا، ومع ذلك أيضا لم يذكر طرائق معالجتها، فقد جاء ذكر بعض الأمراض والآفات التي تصيب النّخلة في مقام بيان حقوق المالك والعامل من ذلك (العبى)( ) الذي يصيب النّخل في بداية الطلع والذي يؤدي إلى فساد الثمرة( )، وهو ما يعرف بمرض خياس الطلع (Inflorescence Rot)، أو تعفن النبات، يصيب هذا المرض النورات الزهرية أو الطلع أو ما يسمى (بالنبات) في دول الخليج العربي، وهو من أهم وأخطر الأمراض الفطرية التي تصيب النخيل في العالم( )، إلى جانب ذلك يعد المطر من مسببات فساد غلة النخل؛ إذ إن كثرة المطر يؤدي إلى ما يعرف بالخرس( ).
- فسل النخل: نخلة التمر هي النوع الوحيد من أنواع الجنس Phoenix)) الذي ينتج فسائل Offshoots)) وتعرف الفسيلة بأسماء مختلفة بناء على مناطق زراعة النخيل( )، وقد استخدم العُمانيون طريقة (الفسيلة) المعروفة لديهم بالصرمة، فعليها اعتمدوا في إكثار النخل. وطريقة الفسل أن يتم قطع الفسيلة من تحت النّخلة الأم، فيما يعرف بعملية (قعاش الصرم)( )؛ أي فصل الفسائل عن أمها، ثم فسلها في الموضع المراد فسلها فيه، وقد يتم تشتيل هذه الفسائل في الأرض، فيما يعرف بالنقوص( )؛ إذ تغرس الفسيلة في مكان حتى تقوى، ثم بعد ذلك يتم نقلها إلى الموضع المراد فسلها فيه، وقد يعود ذلك إلى ضعف الفسيلة عند فصلها، فيتم تشتيلها في مكان تكون الرعاية فيه أفضل، ثم تنقل بعدما تكون قد استوت، وقلّ احتمال موتها عند نقلها( ).
إضافة إلى ذلك فقد تترك الفسائل، التي تنبت تلقائيا من النوى دون أن يتدخل أحد في زراعتها، لتنمو، وهي التي  تعرف بـ(النواشئ)( )، ثم ينظر فيها بعد أن تثمر، فقد تنشأ نخلة ذات صنف جيد غير معروف من قبل؛ فكان لهذه النواشئ دور مهم في إكثار النخل، وتنويع أصنافه( )، ووردت إشارات متعددة ومتنوعة حول هذه النواشي من حيث أسماؤها، مثل: (القش) و(الدقل)، وهو "ما لم يكن من التمر أَجناساً معروفة"( )؛ أي لم تكن معروفة من قبل، بل إن بعض الدقل والقشوش تفوق جودتها النّخل المعروفة سلفا: "وكذلك البلعق إذا أعطي منه أجزأ عن جميع التمور كلّها، إلا أن يكون دَقْل معروف هو أعلى وأفضل من هذا"( )، ويبدو أن أنواع القشوش والأدقال كثيرة التنوع في عُمان في تلك الفترة. ومما يجدر ذكره هنا أن من أجود النّخل ما ذكره ابن الفقيه: "أجود تمر عُمان: الفرض، والبلعق، والخبوت"( )، وقد قيل في الفرض:
إذا أكلت سمكا وفرضا   ذهبت طولا وذهبت عرضا( )
وهو ما تعكسه أيضا المصادر العُمانية، التي تؤكد جودة هذه الأصناف عمّا سواها( )، وكذلك (الصرفان)( ) و(البرني)( )، وهي من النّخل المعروفة في عُمان وخارجها( )، وهناك أصناف أخرى من النّخل أيضًا، مثل: (المصير)( )، و(مقرت)( )، و(أنعمت)( )، و(الدويتي)( )، و(العجمضى)( )، إضافة إلى المشهور منها في عُمان؛ فقد انتقلت أصناف نخل عُمانية إلى الأقاليم المجاورة لها الإقليمي، واشتهرت في تلك الأقاليم، فيذكر المقدسي أن نخلة (مصين عُمان) من أشهر تمور كرمان( ). 
- أساليب تنظيم فسل النّخل: تُعد أساليب تنظيم فسل النّخل وغرس الأشجار وضبط التباعد بينها عنصر مهم من عناصر النشاط الزراعي؛ لما له من أهمية وصول الضوء إلى الشجرة أو النّخلة بما يكفيها، إضافة إلى النظر في الاستغلال الأمثل لمساحة الأرض المحدودة؛ لذلك فقد أخذ تنظيم الغرس داخل القطعة الزراعية نفسها نمطا معينا من التنظيم؛ بحيث يكون الفسل بين النّخلة والنّخلة لا يقل عن ستة أذرع من محيط جذعها(حوالي 7 أمتار)، فلا يزرع في هذه المسافة شيء من النّخل أو الأشجار ذات الساق( )، وهي مسافة قريبة من مسافة التباعد التي تحددها الدراسات الحديثة(8م)؛ وذلك لأن انتظام السعف في رأس النخلة والمسافات الزراعة المناسبة لها أهمية كبيرة في تقليل فقدان الحرارة المكتسبة من التربة ليلا عن طريق التشتت الحراري (Heat Dissipation) أو عن طريق إعادة الإشعاع (Reradiation)، كما أن كثافة السعف تؤثر في إعادة الاشعاع الحراري إلى التربة مرة ثانية حيث يعمل السعف كسطح عاكس للإشعاع الحراري ليلا؛ وهو ما يقلل فرص حدوث أضرار الصقيع وانخفاض درجات الحرارة في المناطق الصحراوية( )، إضافة إلى ذلك فإن هذه المسافة تقلل من احتمالات الإصابة بالحشرات وآفات النخيل الأخرى( ).
- حقوق النخلة من الأرض: أشير إليها في بداية الورقة أن النخلة في عمان كانت مالا مقبولا للتداول، فأحيانا يضطر أحدهم لبيع نخلة أو أكثر من ماله، أو تذهب لصداق عاجل أو آجل، أو قد يقتسم ورثة عددا قليلا من النخل، ويصبح لكل منهم يملك ما بين الواحدة والخمس نخلات على سبيل المثل، وقد يضطر أحدهم إلى بيع نخلة دون أرضها؛ أي وقيعة -كما سبق التعريف بها- وهذا يعني أن هناك مساحات قليلة من الأرض تتداخل بها حدود أملاك الشركاء، فكيف يتم تقاسم الأرض؟ وهل لجوانب المعرفة العلمية دور في ذلك التقسيم؟
ذكرت الدراسات العلمية اليوم أن أكثر من 80% من حاجة النخلة إلى الماء والغذاء تأخذه من محيط يبلغ قطره (4متر)( )، وقد روعي ذلك في فصلِ حدودِ الملكيات المتداخلة، ومراعاة النخل الذي لا يمتلك من الأرض شيئًا أصلا،  فالنخلة (الوقيعة) التي لا تملك من الأرض شيئا، أعطيت من الإحرامات ثلاثة أذرع (3.5م تقريبا) حول محيط جذعها ما دامت حية؛ وذلك من أجل تيسير ما تحتاجه من ري أو سماد أو إصلاح، إلا أنها لا تملك تلك الأذرع الثلاثة، ولا يحق لمالكها أن يزرع شيئا أو يتصرف في تلك المساحة الضيقة إلا بإذن مالك الأرض الفعلي. أما النخلة (الحوضية) وهي النخلة التي يملكها شخص ما، وسط نخل لمالك آخر، ولكنها تملك الأرض التي عليها، وإن سقطت يعاد فسلها، ولها مسقى يجري فيه الماء إليها( )، فهي أقل إشكالا من النخل الوقيعة، فهي تملك حوضا من الأرض تابعا لها، وهو أيضا بمحيط ثلاثة أذرع( )، ولمالكها الحق في زراعة ذلك الحوض والتصرف فيه.
أما النخلة (العاضدية) وهي فسلة أو نخلة تفسل على السواقي الرئيسة، فيكون بينها وبين الساقية في حدود ثلاثة أذرع أو أقل قليلا؛ وليس لها فتحة من الساقية (إجالة) لإحالة الماء إليها( )، وتتميز بأنها لا تتداخل مع ملكية أحد، كما تتميز بأنها تقع بقرب من مجرى مائي شبه دائم فهي لا تحتاج إلى سقي محيطها؛ لذلك وضعت ضوابط فسلها، بما يحفظ حقها من الأرض وقربها من الماء، فأعطيت حقها من الأرض ما بين ذراعين إلى ثلاثة أذرع من الجهات التي لا تواجه فيها الساقية، بشرط أن لا تتعدى تلك المسافة إلى مُلك آخرين، أو الطريق، أما من جهة الساقية فإنها يراعى أن تكون المسافة بينها وبين الساقية كافية لسلامة الساقية.
الخاتمة:
من خلال ما تقدم، يتبين أن العماني قدم ممارسة علمية في نشاطه الزراعي عموما، وفيما يتعلق بفلاحة النخلة على وجه الخصوص، تمثل ذلك في العناية بها، وإكثارها، والعناية بثمارها منذ التلقيح حتى الحصاد، كذلك تهيئة الأرض من تحتها، والمحافظة على حقوقها من الأرض بما يتيح لها أخذ حاجتها من الماء الغذاء، إضافة إلى مراعاة حاجتها إلى المياه في فترات الصيف والشتاء نسبة وتناسبًا، وما يتعلق بمراحل ثمارها وإزهارها، وحصادها، كل ذلك وفق مقاييس مُوافقة لما أثبتته الدراسات الحديثة.
التوصيات:
- توجيه بعض الدراسات العلمية لاستخراج مكنونات الموروث العلمي العماني الزراعي من المصادر الفقهية العمانية، وأرشفته؛ تسهيلًا على الباحثين في العلوم الزراعية للاستفادة منها.
- تطوير الموروث العلمي العماني الزراعي من أجل توظيفه في الممارسات الزراعية الحديثة.

المصادر والمراجع
- إبراهيم، عبد الباسط عودة. زراعة النخيل وجودة التمور بين عوامل البيئة وبرامج الخدمة والرعاية، د.ط، جائزة خليفة الدولية لنخيل التمر والابتكار الزراعي، دولة الإمارات العربية المتحدة، د.ت.
- ابن الأكفاني، محمد بن إبراهيم الأنصاري. إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد، تحقيق. عبد المنعم محمد عمر، أحمد حلمي عبدالرحمن، د.ط، دار الفكر العربي، القاهرة: د.ت.
- ابن الحواري، الفضل. جامع الفضل بن الحواري، د.ط ، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان: 1985م.
- ابن حوقل، أبي القاسم النصيبي. صورة الأرض، د.ط، مكتبة الحياة، بيروت: 1992م.
- ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد. مقدمة ابن خلدون، تحقيق. عبدالله الدرويش، ط1، دار البلخي، دمشق: 2004م.
- ابن العوام، يحيى بن محمد بن أحمد الإشبيلي. الفلاحة الأندلسية، تحقيق. أنور سويلم وآخرون، د.ط، مجمع اللغة العربية الأردني، الأردن: 2012م.
- ابن الفقيه، أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني. كتاب البلدان، تحقيق. يوسف الهادي، ط1، عالم الكتب، بيروت: 1996م.
- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم. لسان العرب، د.ط، دار صادر، بيروت:1980م.
-  ابن النضر، أحمد، الدعائم، د.ط، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عُمان: 1988م.
- ابن وحشية، أحمد بن علي بن قيس الكسداني. إفلاح الأرض وإصلاح الأرض والشجر والثمار ودفع الآفات عنها (الفلاحة النبطية)، تحقيق. توفيق فهد، د.ط، المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، سوريا: 1988م.
- أبو زكريا، يحيى بن سعيد. الايضاح في الأحكام، ط1، وزارة التراث القومي والثقافة، سلطنة عمان: 1984م.
- أبو بكر الكندي، أحمد بن عبدالله. المصنف، تحقيق. مصطفى باجو، ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، سلطنة عُمان: 2016.
- الإدريسي، محمد بن عبدالله بن إدريس. نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، د.ط، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة: 2002م.
- الأفضل، العباس بن علي بن داود الرسولي(ت778ه/1377م). بغية الفلاحين في الأشجار المثمرة والرياحين، تحقيق. خالد الوهيبي، ط1، دار الفرقد، دمشق: 2016م.
- ابن بصال، محمد بن ابراهيم بن بصال الطليطلي. الفلاحة، تحقيق بييكروسا مارية مياس ومحمد عزيمان، معهد ملاي الحسن، تطوان: 1955م.
- البعلبكي، قسطا بن لوقا، الفلاحة الرومية، تحقيق. وائل عبدالرحيم، ط1، دار البشير، عَمّان: 1999م.
- البكري، أبو عبيد، المسالك والممالك، تحقيق. أدريان ليوفن و أندري فيري، د.ط، الدار العربية للكتاب: 1992م.
- البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، فتوح البلدان، ط1، مطبعة الموسوعات، مصر: 1901م.
- الجاحظ، عمرو بن بحر. البيان والتبين، ط7، مكتبة الخانجي، القاهرة: 1998م.
- الحبسي، عبدالله بن صالح. معجم المفردات العامية العمانية، ط2، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، مسقط: 2007م.
- الحتروشي، سالم بن مبارك. الجغرافيا الطبيعية لسلطنة عُمان، ط1، جامعة السلطان قابوس، مسقط: 2015.
-   حسين، فرعون أحمد. تأثير التغطية وطرائق الخف المختلفة والتداخل بينهما في بعض الصفات النوعية والكمية لثمار نخيل التمر برحى وبريم، المجلة العراقية لدراسات الصحراء، مج6، ع1، جامعة الانبار - مركز دراسات الصحراء، العراق:2016.
- الدينوري، عبدالله بن مسلم بن قتيبة، كتاب الأنواء في مواسم العرب، د.ط، دائرة المعارف العثمانية، الهند: 1978م.
-  السالمي، عبدالله بن حميد. تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان، د ط، مكتبة الاستقامة، مسقط: 2000.
- السجستاني، أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان، النّخلة، تحقيق. حاتم الضامن، ط1، دار البشائر، بيروت: 2002م.
- صراي، حمد بن محمد. عُمان من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي، ط1، مكتبة الفلاح، الكويت: 2005.
- عبدالمجيد، أحمد رضا. نخيل وأشجار وفواكه المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية بسلطنة عمان، د.ط، شؤون البلاط السلطاني، د.ت.
- العوتبي، سلمة بن مسلم. الضياء، تحقيق. سليمان الوارجلاني ودواوود الوارجلاني، ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، سلطنة عُمان: 2015.
-  غالب، حسام حسن علي. أشجار نخيل التمر من واقع دولة الإمارات العربية المتحدة، د.ط، دائرة بلدية أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، د.ت.
- قناوي، مجدي محمد. آفات النخيل والتمور بسلطنة عمان، د.ط، شؤون البلاط السلطاني، د.ت.
- الكندي، محمد بن إبراهيم. بيان الشرع، تحقيق. سالم بن حمد الحارثي، د ط، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عُمان: 1992.
- مجموعة من الباحثين. معجم المصطلحات الإباضية، ط2، وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، سلطنة عمان: 2012م.
- المقدسي، محمد بن أحمد، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ط3، مكتبة مدبولي، القاهرة: 1991م.
- مكي وعثمان، محمود بن عبدالنبي ومحمد حافظ. النخيل في سلطنة عُمان، ط2، ديوان البلاط السلطاني، مسقط: 1997.
- Harris, Franklin Stewart. Soil Alkali: Its Origin, Nature, and Treatment, J. Wiley, NEW YORK: 1920, p 219.