العلاج التقليدي بالرقية الجماعية (الرعبوت) في ظفار: دراسة لسانية اجتماعية
الباحث المراسل | د. عامر بن أزاد عدلي الكثيري |
تاريخ نشر البحث :2024-01-15
مقدمة
من بين أنواع كثيرة من أنماط الطب التقليدي في ظفار تقدّم الدراسة الحالية وصفا تفصيليا لنمط محدد منها، يعتمد على الرٌّقية بمجموعة من التعويذات الكلامية بصورة رئيسة مع التدخل الجراحي في حالات معينة، ويعرف هذا النمط محليا بتسميات عديدة تختلف باختلاف الجماعات الكلامية في ظفار، على الرغم من أن "رعبوت" /raˁbōt/ هي التسمية الشائعة في ظفار للدلالة على الرقية التقليدية بشكل عام.
ويستعمل هذا الطب بأنواعه الثلاثة[1] في الاستشفاء من أنواع مختلفة من الأمراض والعلل، مثل: الحمى وآلام البطن والصدر والحلق والأسنان، وحالات التورم وأوجاع الأطراف، وحالات اللدغ المختلفة من الأفاعي وبصورة أقل من العقارب. وأغلب هذه الأمراض والحالات كانت تتكرر بشكل شبه يومي قبل انتشار الطب الحديث بعد نهضة 1970، الأمر الذي أكسب هذا الطب مكانة وأهمية في المجتمع.
ويعدّ هذا الطب صورة من صور الطب التقليدي الجماعي، إذ يؤدى من مجموعة من الأفراد[2] تحت إشراف قائد للمجموعة يتولّى إنشاد كلمات الرقية، ويمكن تبادل الأدوار بين القائد وأعضاء المجموعة، وهو ما يختلف به هذا الطب عن غيره من الأنواع الطبية التقليدية الأخرى التي تؤدى بشكل فردي بين مريض وطبيب مختص.
ويرتبط هذا الطب التقليدي في ظفار بقبائل المهرة البدوية، وتستعمله أيضا قبائل بيت كثير البدوية، وبعض الأفراد من قبائل أرياف ظفار الذين لديهم ارتباط اجتماعي وأسري مع قبائل المهرة (Tabook, 1997)، وتؤدى الرقية المصاحبة لهذا الطب بشكل عام باللغة المهرية، مع ظهور بعض الكلمات والجمل ذات خصائص ممثّلة للهجة البدوية الكثيرية، ومع ذلك فإن اللغة المهرية تعدّ شرطا لإتقان هذه الرقية حتى وإن لم تكن هي اللغة الأم للراقي (محمد رعفيت، ومحمد الشعشعي).
وعلى الرغم من أهمية هذا الطب وانتشاره في ظفار، إلا أنه لم يدرس دراسة علمية من قبل، بحسب المراجع التي وقف عليها الباحث، بل وردت بعض الإشارات عند برترام توماس في كتابه[3] (العربية السعيدة: عبور الربع الخالي في الجزيرة العربية)، ذكر فيها التمييز بين طقسين من الطب عند بدو بيت كثير، هما: "رعباه الحمرة"، لعلاج إصابة العين والحمى ولدغات الأفاعي، والآخر نوع من التنجيم يعتمد على القرابين التي يقدّمها المريض (Thomas, 1938).
وفي المقابل فإن هناك عددا من الدراسات العلمية الغربية لهذا الطب عند المهرة في اليمن، إذ أورد هاين في كتابه[4] نصا فيه إشارة عن "رعبوت ذحمرة"، ذكر فيه أنها تستعمل لعلاج آلام الصدر والجسد باستثناء الرأس، وتعالج أيضا لدغات الثعابين (Hein, 1909) ، ونشر الفرنسيان لونيه وسيمون سينيل مقالة بعنوان[5] (تعاويذ الرعبوت في الطب الشعبي المهري)، قدّما فيها وصفا مفصّلا لنوع واحد فقط من أنواع هذا الطب، هو "رعبوت ذحمرة" التي وثقاها في قشن عام 1987، وفرّقا بينها وبين "رعبوت ذحموت" التي يعالج بها لدغ الأفاعي دون الخوض في التفاصيل الدقيقة، أو تحليل نصوص هذه الأخيرة كما فعلا في تحليل نصوص "رعبوت ذحمرة" (Lonnet & Simeone-Senele, 1987)، وقامت سيمون سينيل بعد ذلك بنشر مقالة بعنوان[6] (التعويذات السحرية العلاجية للطب التقليدي في المهرة) فرّقت فيها بين أنواع الرعبوت الثلاثة، وفصّلت الحديث في "رعبوت ذحلوم" التي حضرت لها جلسة علاجية في جادب عام 1989، من حيث نصوصها وكيفية أدائها والمحظورات التي تعيق الاستفادة منها (Simeone-Senelle, 1995)، وقدّم بعد ذلك سالم تبوك (Tabook, 1997) أطروحة دكتوراة في جامعة إكستر بعنوان[7]: الطقوس القبلية والفلكلور في ظفار، ذكر فيها أن طب الرعبوت عند المهرة غير مرتبط بالسحر، ويعالج لدغات الأفاعي وبشكل أكبر لدغات العقارب، وادّعى أن تعويذات "رعبوت ذحموت" تعالج الحمى الناتجة عن الجن الذي يسكن جسم الإنسان، وأخيرا جمع النمساوي سيما مجموعة كبيرة من نصوص اللغة المهرية المسجلة من أفواه الرواة، نشرت في كتاب[8] بعد موته -عام 2004- بخمس سنوات، تضمن الكتاب نصين معنونين بـالرعبوت هما: (1، 67) فيهما معلومات عن هذا الطب، ونصين آخرين في طرائق العلاج التقليدية، هما: (25،106) وردت فيهما إشارات مقتضبة عن الرعبوت (Sima, 2009).
ويظهر في هذا الاستعراض للإشارات والدراسات السابقة أن أغلبها اعتمد تسمية "رعبوت" للدلالة على هذا الطب، ولم تشر إلى تسميات أخرى له، كما أن أغلب الدراسات العلمية لهذا الطب لم تكن في ظفار بل في مناطق المهرة اليمنية.
وعليه تروم الدراسة الحالية تقديم وصفا دقيقا لهذا النوع من الطب من خلال دراسة تسمياته، واختلافها باختلاف الجماعات الكلامية في بيئات ظفار المختلفة، ومقارنة مفردات الحقل المعجمي لهذا الطب مع ما ورد في معاجم التراث العربية، والتفريق بين طب الرقية الجماعية والرقية الفردية بعدّهما نوعين مختلفين من أنواع الطب التقليدي، وتسليط الضوء على مشروعية الرقية والتعويذات في الإسلام، وتحليل نصوص هذه الرقية واستجلاء بعض الظواهر اللغوية والاجتماعية المتعلقة بها، مثل: الاعتماد على السجع، والتأثير الإسلامي فيها، ودور المرأة ومشاركتها في هذا الطب، والمحظورات التي تبطل فاعلية هذه الرقية.
واستعان الباحث في جمع مادة الدراسة بالزيارات الميدانية ومقابلة المعالِجين بهذا الطب في بيئات ظفار المختلفة في الفترة من 15 سبتمبر 2021 إلى 1 إبريل 2022، حصل خلالها الباحث على تسجيلات[9] من 9 أشخاص[10]، وتوثيق ثلاث جلسات تمثيلية بطلب من الباحث؛ نظرا لصعوبة حضور جلسة علاجية حقيقية، بسبب التراجع الواضح لهذا الطب في الوقت الحالي. وتم التسجيل بواسطة جهاز من نوع Olympus LS-14، وباستخدام هاتف من طراز iPhone 12 Pro.
وقام الباحث باقتباس بعض الجمل من التسجيلات لناطقين بنوعيات لغوية مختلفة، هي: المهرية والشحرية (الجبالية) واللهجة البدوية الكثيرية، وتفريغها في مواضعها من البحث بوضعها بين خطين مائلين / / وباعتماد الرمز اللاتيني[11].
2. الرقية الجماعية في ظفار: طبيعتها وأنواعها
تبدأ الرقية الجماعية عندما تشتدّ الحاجة إليها بعد أن تستمر أعراض المرض لعدة أيام، فيتفق مجموعة من الناس على ضرورة إجراء العلاج بالرقية للمريض، ويتقدّم الفريقَ مَنْ لديه القدرة على العلاج بالرقية، فيقال: فلان "ذيقودم" /ði ḳōdəm/، لوصف الراقي الذي يقود الفريق، وقد تختلف رقية اللدغ قليلا عن بقية الأنواع؛ إذ إنها تستدعي التدخّل العاجل والرقية الفورية وهو ما يستضح عند الحديث عن أنواع الرقية أدناه.
يتجمّع فريق الرقية في حلقة دائرية حول المريض الذي يكون مستلقيا على الأرض، ويجلسون على ركبهم، مع قرب قائد الفريق من العضو المصاب في جسم المريض. وفي حالة اللدغ فإن القائد يكون عند مكان اللدغ مباشرة، الذي يكون مكشوفا لامتصاص السم منه في أثناء أداء الرقية (Lonnet & Simeone-Senele, 1987) ، وقد يُمتص السم من أماكن أخرى يعرفها من له خبرة في هذا العلاج.
يبدأ قائد الفريق بالتفل على المكان المصاب دون إخراج الريق باستعمال كلمة التفل: /tfo/ مع ترديد اسم العلّة التي يعانيها المريض، قائلا: به حمرة /beh ḥamrah/، أو به حموت /beh ḥmōt/، أو به حلوم /beh ḥlōm/، ويشاركه في ترديد ذلك جميع أعضاء الفريق، الذين يقتصر دورهم الإنشادي على ترديد هذه الجملة الافتتاحية فقط بعد مجموعة من جمل الرقية التي ينشدها الراقي، ويمكن لواحد من هؤلاء الأعضاء أن يقود الفريق عندما يتعب القائد الأول، ويكون ذلك عادة في الرقية التي تطول. يستمر قائد الفريق في إنشاد جمل الرقية التي يبدأها بصوت هادئ، ثم يزداد الصوت حتى يصل إلى ذروته، ويقوم جميع أعضاء الفريق بتحريك أياديهم للأسفل والأعلى بشكل سريع.
وتتعدد موضوعات جمل الرقية بين الموضوعات المحفوظة الجاهزة والموضوعات التي يبدعها الراقي بشكل آني، ومن هذه الموضوعات: ذكر مقدرة الراقي وتمكّنه من العلاج بهذه الرقية، وذكر توارثه الرقية من الآباء والأجداد، وذكر بعض الأسر المعروفة بالرقية، وذكر حالة المريض وتأثره، وذكر أعراض المرض من حمى شديدة في "الحمرة"، وآلام قوية في "الحموت" و"الحلوم"، وتشبيه المرض بأشياء كثيرة، مثل: الناقة والعجوز والبرق والرعد والمطر، وذم المرض أحيانا ومدحه أحيانا، والاستعانة على هذا المرض بالله سبحانه تعالى، والاستنجاد بالصغار والشباب وكبار السن والعبيد وبعض الرموز الدينية في المنطقة.
ويتضمن العلاج بالرقية الجماعية ثلاثة أنواع، تعالج حالات مرضية وعللا مختلفة ينتج عنها سمومٌ في جسد المريض، وتعرف هذه السموم عند مستعملي هذا الطب "بالصفرة" /hay la ṣafrah/ "إن هي إلا صفرة" (محمد رعفيت)؛ إشارة إلى المادة الصفراء التي يفرزها الكبد وتكون سامة[12]، وتخرج من الجسم بعد الرقية في حالة الشفاء على شكل قيء أو إسهال، وقد ذكر ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) أن من أسباب القيء "غلبة المِرّة الصفراء وطفؤها على رأس المعدة؛ فتطلب الصعود" (د.ت، ص 102). وهذه الأنواع على النحو الآتي:
- رعبوت ذحمرة
يعالج بها أوجاع البطن والحلق والأسنان (محمد الشعشعي)، ويخالف هذا ما ذُكر من أن "الحمرة" لا تكون في الرأس (Hein, 1909, p. 191)، وما ذُكر من أنها تكون بسبب لدغ الأفاعي (Hein, 1909, p. 191; Thomas, 1938, p. 145)، وتسبب تلك الآلام حمى وغثيانا في جسم المريض؛ ناتجة عن سموم أفرزها الجسم بسبب طول فترة المرض (سعيد رعفيت)، وتتم المعالجة في هذا النوع بالرقية فقط، مع إمكانية أن يسقى المريض لبن النوق الطازج، وتمتدّ جلسات هذه الرقية بين جلسة واحدة وثلاث جلسات حتى يبرأ المريض، وفي حالات معينة لا يستجيب المريض للشفاء؛ إذا كان يعاني من أوجاع سببها الأورام الخبيثة (محمد رعفيت). وتبدأ كلمات هذه الرقية بقولهم: /beh ḥamrah/ " به حمرة".
- رعبوت ذحموت
تستعمل هذه الرقية في حالات لدغ الأفاعي وبصورة أقل عند لدغ العقارب، وقد تستعمل لغير حالات اللدغ، إذ يمكن أن تتم الرقية بالقرب من جحر الأفعى عند رؤيتها تدخل إليه؛ خوفا من خطورتها على المارة؛ إذا كان جحرها على طريق عبور الناس، وحدث أن تمت الرقية للأفعى حتى خرجت، ثم ماتت[13] (سالم بالحاف). وتسبق الرقية بعض الإجراءات التي يقوم بها من يصل إلى اللديغ أولا، إذ يربط يده أو ساقه بقطعة من القماش تمنع انتشار السم إلى بقية أجزاء جسم اللديغ، ثم يقوم من له خبرة بامتصاص السم من مكان اللدغ بعد أن يتم فتحه بأداة حادة (الموسى أو السكين)؛ تسهل خروج السم، وقد يتم امتصاص السم أيضا في أثناء أداء الرقية بعد أن يتجمع في مناطق معينة من الجسم كالبطن أو الجبهة، يعرفها من له خبرة بذلك (سعيد رعفيت)، ويستعين من يمتص السم على ذلك بشرب لبن النوق، وأحيانا بسمن البقر[14] (سالم الكثيري). وهذا النوع من الرقية يتم في وضع طارئ وعاجل بعد اللدغ مباشرة /arrayt ðīmah ðaḥmōt ar šlaḥḳət/ " هذا النوع من العريّت (الرعبوت) تتم في وضع عاجل" (سالم بالحاف)، وقد يستعان أيضا في علاج اللدغ بسائل شجرة المُرّ ولبن النوق الطازج؛ تساعد جسم المريض على إخراج ما تبقى من سموم (سعيد رعفيت). وهذه الرقية قد تستمر جلساتها إلى ثلاثة أشهر بحسب حالة اللديغ ونوع الأفعى ومكان اللدغ، وتتناوب عليها مجموعات من الفجر حتى العشاء، وتقطع الرقية لأداء الصلاة أو النوم، وإن كان وضع اللديغ يستدعي الاستمرار في الرقية، فإنها قد تؤدى أيضا من بعد صلاة العشاء حتى الفجر (محمد رعفيت). وتبدأ كلمات هذه الرقية بقولهم: /beh ḥəmōt/.
- رعبوت ذحلوم
تستعمل هذه الرقية في علاج بعض الآلام في أطراف الجسم، التي قد يكون سببها حالات التسمم الناتجة عن جرح خلّفه دخول مسمار أو شوكة في القدم أو اليد، فينتج عنه تورمٌ أو خُراج، يعبّر عنه في المهرية بكلمة "مهيلوت" /muhīlōt/، أو نتيجة آلام شديدة في الأطراف سببها جرح داخلي غير ظاهر على سطح الجلد.
وجاءت كلمة (حلوم) في تسمية هذه الرقية من أسطورة مفادها أن الأفعى حلمت أنها لدغت شخصا، وسبب له ذلك تلك الالآم: ber taḥlom tiḳboṣ// " قد حلمت أنها تعضه" (محمد الشعشعي)، وعليه فإن رقية هذا النوع تشبه إلى حد كبير رقية اللدغ وتختلف عنها في قولهم: /beh ḥəlom/ " به حلوم" مع هذه الرقية بدلا من /beh ḥəmōt/ في رقية اللدغ، وفي نهاية الرقية التي قد تستمر إلى ثلاثة أو أربعة أيام يخرج القيح من الجرح أو الخُراج، ويبرأ المريض ويشعر بالتحسن.
3. تسميات ومقارنات معجمية
يعرف هذا الطب بعدد من التسميات تختلف باختلاف الجماعات الكلامية المستعملة لهذا الطب في بيئات ظفار المختلفة، وهذه التسميات هي:
أ. رعبوت /raˁbōt/، ورابوت /rābōt/: بالعين أو دون العين[15]، هو الاسم الشائع عند عامة الناس للتعبير عن أنواع الرقية الجماعية الثلاثة: "حمرة" و"حموت" و"حلوم"، على الرغم من اتساع دلالة هذه الكلمة، إذ تشمل الأنواع الثلاثة من الرقية بالإضافة إلى دلالتها على رقية الشعوذة التي تقدّم فيها القرابين (سالم بالحاف). وعند مقارنة هذه الكلمة مع ما ورد في المعاجم العربية نجد في مادة (رعب) هذين المعنيين: أولا: "شدة الصوت ورفعه" (العين، ج2؛ المُحْكم والمحيط الأعظم، ج2؛ لسان العرب)، ثانيا: "رقية من السحر تعتمد على السجع" (جمهرة اللغة، ج1). وعند النظر في المعاني التي وردت لهذه الكلمة في المعاجم نجد أنها تتفق بشكل كبير مع ما يتمّ في الرقية المدروسة، التي يظهر تأثيرها الإيجابي على المريض عند رفع الصوت بهذه الرقية (محمد رعفيت)، كما أنّ هذه الرقية تقوم بشكل كبير على السجع، وهو ما سيظهر في تحليل نصوص الرقية في المبحث (10) من هذه الدراسة. أما أنها يرقى بها السحر فهذا قد يوافق الجزء الآخر من هذا الطب الذي يعالج به المرضى من خلال الرقية وتقديم القرابين، وهناك أيضا اعتقاد شعبي يؤمن به العامة مفاده أن السحر والأرواح الشريرة سبب لكثير من الأمراض (محمد رعفيت).
ب. رعباه /raˁbāh/: تستعمل هذه الكلمة عند قبائل بيت كثير في بادية ظفار، ولا يستعملون -بعكس الجماعات الكلامية الأخرى- إلا كلمة واحدة للدلالة على هذه الرقية.
ج. عرّيت /ˁarrayt/، وأريّت /ˁarrayt/: بالعين أو دون العين، يفضّل الأطباء من قبيلة المهرة استعمال هذه التسمية، مخصصين بها الرقية الجماعية فقط لعلاج أنواع العلل الثلاث (حمرة وحموت وحلوم)، إذ إن بين هذه التسمية وتسمية "رعبوت" عموما وخصوصا، فكل عرّيت رعبوت وليس كل رعبوت عرّيت. وترد هاتان الكلمتان معا في نصوص الرقية المسجلة لهذه الدراسة:
- يهاريرم /yə-hārīrəm/ " يستعملون العرّيت": اشتقت من كلمة "عرّيت".
- هيس رعوب مشندوم /hes raˁōb məšandōm/ " لها ناس متخصصون فيها؛ أي الرعبوت".
وعند مقارنة هذه الكلمة مع ما ورد في مادة (عرر) في المعاجم العربية نجد أن من معاني هذه الكلمة "الصياح" (لسان العرب).
د. نعروت /nˁirot/: ترد هذه الكلمة عند مستعملي الرقية الجماعية من الناطقين باللغة الشحرية (الجبالية) في أرياف ظفار، ويشعرون أنها أخصّ من كلمة "رعبوت" التي تتسع لتشمل أيضا الرقية الفردية التي يُتكسب منها وتقدّم فيها القرابين. ويذكر أحد الرواة أن عامة الناس من غير المشتغلين بهذا الطب في أرياف ظفار يطلقون كلمة "رعبوت" على الرقية الجماعية، وهو ما ينكره عليهم الأطباء المختصون، الذين يفضلون تخصيص هذا الطب بكلمة "نعروت". (سالم الكثيري).
وعند مقارنة هذه الكلمة مع ما ورد في المعاجم العربية، نجد في مادة (نعر) إشارة إلى أن معنى هذه الكلمة يتضمن "شدة الصوت والصياح" (العين، ج2؛ لسان العرب).
أما التسميات الدالة على أنواع الرقية الجماعية، التي يعبّر عنها بالمعنى العام "رعبوت"، أو بالمعاني الخاصة: "عريّت" عند الناطقين بالمهرية، و"نعروت" عند الناطقين بالشحرية (الجبالية) فهي على النحو الآتي:
هـ. حمرة /ḥamrəh/: لا يعرف بالتحديد المقصود بهذه الكلمة، وإن كانت ترد عند البدو من المهرة وبيت كثير في الدعاء بالضرر، إذ يقولون: علّك حمرة /ˁallak ḥamrəh/ بمعنى تصيبك "الحمرة"، ويرى البعض أنها قد تعني الإصابة بمرض معين أو الإصابة بمسّ من الجن (محمد الشعشعي). وقد أورد الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175هـ) في مادة (حمر) أن "الحُمرة داء يعتري الناس فتحمرّ مواضعها، يُعالج بالرقية" (العين، ج3)، ويتفق ما ذكره الخليل مع هذا النوع في أن العلاج يتمّ بالرقية؛ لوجود عارض صحي يصيب الشخص.
و. حموت /ḥəmōt/: تأتي كلمة حموت في اللغة المهرية بمعنى سم الأفاعي والعقارب، وفي المعاجم العربية يرد في مادة (حمو) أن الحُمَة " سمّ كل شيء يلدغ أو يلسع (لسان العرب).
ي. حلوم /ḥəlōm/: تعني هذه الكلمة بحسب الرواة معنيين، هما:
- المعنى الأول: الحلم، أي أن الأفعى تحلم بأنها تلدغ المريض؛ فيعرض له الألم والورم جراء هذا الحلم.
- المعنى الثاني: الورم، ويقال في الشحرية (الجبالية): أحليم /ˁaḥlim/ بمعنى تورّم بدنه (سالم الكثيري).
ويرد في مادة (حلم) في المعاجم العربية بالإضافة إلى الحلم والرؤيا، أن (تحلّم) تعني " السمنة والاكتناز" (لسان العرب).
4. بين الرقية الجماعية والرقية الفردية
يطلق على الرقية في ظفار بشكل عام اسم "رعبوت"، وتدلّ هذه التسمية على نوعين متمايزين من الرقية على النحو الآتي:
- الرقية الفردية
تتم بزيارة المريض إلى طبيب يعالج حالات المس من الجن، وفي حالات معينة فإن الطبيب نفسه يعرض على مريض معين أن يعالجه بالرقية /tḥam larˁōb luk?/ " هل تريدني أن أرعب عليك؟" (محمد رعفيت). وفي مقابل ذلك فإن الطبيب في هذا النوع من الرقية يطلب من المريض مبلغا من المال /yə- ṣ́ayṭəm lis dfaˁ/ " يأخذون مقابل العلاج مالا"، كما أن الرقية قد تتم بكلمات غير مفهومة في بعض الأحيان، مع استعمال كلمة "وهوف" /whof/ وإصدار أصوات مزعجة مع تحريك الشفتين بشدة، ويعقب ذلك أن يصل الطبيب إلى حالة الإغماء، وربما يقوم بذلك من باب التمثيل (سعيد رعفيت)، وبعد ذلك يسأل المرافقُ الطبيبَ عن وضع المريض، ويذكر له اسم المريض مقرونا باسم والدته لا والده، فيصف له الطبيب وصفة علاجية؛ كأن يطلب إليه أن يذبح شاة سوداء أو ناقة أو بقرة أو ديكا، ويترك المذبوح بعد ذلك في مكان معين عند غروب الشمس (سالم رعفيت).
ونتيجة لهذه الوصفات والرقية غير واضحة الكلمات أحيانا، فإن رواة الدراسة الحالية ينظرون إلى هذا النوع من الرقية على أنه شعوذة وفعل آثم، يتعارض مع الإسلام /rābōt hes śakk/ "الرعبوت فعل آثم". وقد استطاعت الدراسة الحالية أن ترصد بعض كلمات هذه الرقية[16]، مثل:
الترجمة | كلمات الرقية |
1. وهوف وهوف | 1. whof whof |
2. وصل صلّين ليلا (صلّين: اسم بعير أو جني) | 2. wə ṣalīn ṭawwoh |
3. كان يسير لمدة ثلاثة أيام | 3. ber ših śaθayt wəṣ́aḥ |
4. ويمتطيه راكبان | 4. bə θarōh wəradf |
- الرقية الجماعية
تتم بشكل جماعي في معظم حالاتها، سواء أكانت بدعوة من أهل المريض لمجموعة من الناس ممن يجيدون الرقية، أم بإحساس مجموعة من الناس أن شخصا معينا به علّة معينة تستدعي الرقية /ġədon na-rˁōb leh/ " هيا نرعب عليه"، ولا يطلب الطبيب في هذه الرقية مالا مقابل ما يقوم به، ومع ذلك فإن الرقية التي تستمر لفترة طويلة، قد تصل إلى أيام تستوجب أن يُكرم أهل المريض من يقوم بالرقية، بإعداد وليمة لهم وإعطاء قائد الفريق ومن معه مبلغا من المال دون أن يطلبوا ذلك (سعيد رعفيت، وسالم الكثيري).
ويطلق على الرقية بشكل عام في ظفار مصطلح "رعبوت"، ويتضمن هذا المصطلح الدلالة على نوعي الرقية: الفردية والجماعية، وعليه فإن الأطباء من قبيلة المهرة يفضّلون أن يخصصوا الرقية الجماعية باسم "عريّت" /ˁarrayt/، ويخصص الناطقون بالشحرية (الجبالية) لهذا النوع اسم نعروت /nˁirɔt/. ويشعر الرواة أيضا أن هذه الرقية الجماعية -بعكس الرقية الفردية- ليست من السحر أو الشعوذة أو الطيرة (سعيد رعفيت).
5. مبطلات الرقية الجماعية
يرى القائمون على هذه الرقية أن هناك جملة من الأشياء إذا توافرت كلها أو بعضها فإنها تقلّل من فاعليتها ونتائجها، أو قد تدفع بالراقي إلى عدم التشجّع لأداء الرقية ومن ثم الاعتذار عنها، أو أنها تؤدي إلى عدم القدرة على الاستمرار في أدائها من خلال تأثيرها المباشر على الراقي؛ إذ يصاب بألم في الحلق، ولا ينطلق لسانه بالرقية (محمد رعفيت). وتكمن هذه الأشياء في العناصر الآتية:
- المعدن
يجب أن يتجرّد المريض وجميع المشاركين في الرقية من المعادن بكافة أنواعها، كالحديد والذهب والفضة (سعيد رعفيت)، وعليه يجب نزع الساعات والمفاتيح والمجوهرات (Simeone-Senelle, 1995). ويزعم المتخصصون في العلاج بهذه الرقية أن وجود المعدن يؤثر في الراقي ولا ينطلق لسانه بالرقية.
وللمعدن وظيفة أخرى في الثقافة الشعبية الظفارية، إذ يُنصح المختون والنفساء بإمساك الحديد في أياديهم عند الخروج؛ لقضاء حاجة خارج المنزل، كما يترك الحديد عند الرضيع في فترة نفاس أمه؛ بحجة أن الحديد يمنع وصول الأرواح الشريرة إليهم في فترة عدم الطهارة والاغتسال (تسلوم الكثيري)، ومما يروى أيضا في الثقافة الشعبية أن هناك نبتة تدعى "عذفير" /ˁaðfer/ تستعمل في علاج آلام الأرجل، ولكن مفعولها يبطل إذا كانت مطلة على البحر، وللحدّ من تأثير البحر في إبطال مفعولها يتم وضع الحديد بجوارها (منى المهري).
وللمعدن حضور أيضا في الثقافة العربية؛ إذ يرد في كتب التراث أن اللديغ تعلّق عليه الحُلّي من الأساور وغيرها، حتّى لا ينام؛ فينتشر السمّ فيه (ابن طباطبا العلوي، 2005)، وقد تفسّر ضرورة التجرّد من الحُلي والمعادن في الطب الشعبي المدروس بفاعلية الرقية وقدرتها على نزع السم، بالإضافة إلى ما يقوم به المختصون في رقية اللدغ (رعبوت ذحموت) من امتصاص السم، وفتح مكان اللدغ وأماكن أخرى تساعد على خروج السم من اللديغ.
- النجاسة
من الواضح أن الطهارة من النجاسة عنصر مهم في الثقافة الشعبية الظفارية؛ تقي من تأثير الأرواح الشريرة، وهي عنصر مهم وأساسي في الرقية المدروسة، ولا تؤتي الرقية مفعولها إلا مع طهارة كل أعضاء الفريق المشاركين في أدائها (محمد رعفيت)، ويزعم الراقي أن الحلق يصاب بالجفاف ولا تنطلق اللسان، إذا كان بين الحضور والمشاركين شخص به نجاسة.
- العلاج الحديث (المستشفيات)
قلّص ظهور المستشفيات والطب الحديث مكانة الرقية الجماعية وأهميتها، وفضّل الناس الاستفادة من أدوية المستشفى؛ مما جعل العلاج بالرقية مهمّشا إلى حدّ ما، ولكن يحدث أحيانا ألا يبرأ المريض المعالج في المستشفى بشكل كلي، فيطلب الرقية وعندها لا يكون للرقية الفاعلية العلاجية المطلوبة؛ بسبب حصول المريض على العلاج والأدوية من المستشفى كما يزعم المعالِجون بالرقية.
وفي هذا الصدد يذكر أحد الرواة أن معالِجا بالرقية من قبيلة المهرة كان منوّما في مستشفى صلالة عام 1979، وأحضر إلى جواره رجل ملدوغ؛ لتلقّي علاج المستشفى، وعند معرفة الراقي أن الشخص ملدوغ لم يهدأ له بالٌ، ودفعه الحماس إلى أن يطلب من الحضور تأدية الرقية، وشاركهم في ذلك، ولكنه لم يشعر بفاعلية الرقية ونجاعتها؛ بسبب ادعائه أن الملدوغ عولج بأدوية المستشفى قبل الرقية (محمد رعفيت).
د. الأمراض الخبيثة وحالة المريض الحرجة
تعالج الرقية عددا من العلل، ولكنها لا تستطيع علاج الأورام الخبيثة (سعيد رعفيت)، وتؤثر حالة المريض أيضا في دافعية الراقي لأداء الرقية في حالات اللدغ، فإذا كانت حالة المريض ميؤوسا منها، فإن الراقي قد يتوقف ولا يكمل الرقية (سالم بالحاف).
5. مشروعية الرقية في الإسلام
كانت الرقية من الطقوس العلاجية التي تستعمل لعلاج بعض الأمراض والعلل عند العرب في الجاهلية، مثل: اللدغ والقروح والإصابة بالعين، وعندما جاء الإسلام ارتاب المسلمون من الرقية بغير القرآن وسنة النبي ﷺ، فكانوا يعرضون أدويتهم وما لديهم من رقى وتعاويذ على النبي ﷺ؛ خوفا من الوقوع في محظور الشرك (النجار، 1995)، وذلك بعد أن ورد حديث عن رسول الله ﷺ ذكر فيه الذين يدخلون الجنة بغير حساب، و"هم الذين لا يتطيّرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" (البخاري، 2016، رقم 5752). وأحدث ذلك حرجا واضحا لدى المؤمنين ممن كانوا يرقون قبل الإسلام[17]؛ مما جعل عددا منهم يطلبون الإذن من النبي قبل الرقية كما يظهر في الأحاديث الآتية:
- " كنّا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك" (القشيري النيسابوري، 1991، رقم 2200).
- " كان لي خالٌ يرقي من العقرب، فنهى رسول الله ﷺ عن الرقى. قال: فأتاه، فقال: يا رسول الله إنك نهيت عن الرّقى، وأنا أرقي من العقرب، فقال: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل". (المرجع نفسه، رقم 2199).
- حدّث "أن رجلا من الأنصار خرجت به نملةٌ[18]، فدّل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة، فجاءها فسألها أن ترقيه، فقالت: والله ما رقيت منذ أسلمت فذهب الأنصاري إلى رسول الله ﷺ، فأخبره بالذي قالت الشفاء، فدعا رسول الله ﷺ الشفاء، فقال: "اعرضي علي" فأعرضتها عليه، فقال: "ارقيه وعلميها حفصة كما علمتيها الكتاب" (الحاكم النيسابوري، 2002، ص 63).
ويفهم من الأحاديث أعلاه عدم تحريم النبي ﷺ للرقية إلا إذا كان فيها شرك، كما أنه ﷺ أجاز الرقية التي جُربت منفعتها للمسلمين، وورد عنه ﷺ أن العلاج بالرقية من قدر الله بعد أن سئل ﷺ إذا كانت الرقية تردّ من قدر الله شيئا (ابن ماجه، د.ت، رقم 3437).
ومن صور الرقية التي أجازها الإسلام الرقية من الوجع والقرحة والجرح والحيّة ولدغة العقرب وإصابة العين[19] ووجع الأذن، والنملة (ابن حجر العسقلاني، 2013)، مع تشديده ﷺ على أهمية الرقية من العين والحمة، إذ لا رقية أولى وأنفع منها في هاتين الحالتين (المرجع نفسه)، ويظهر ذلك في الأحاديث الآتية:
- " رخّص رسول الله ﷺ لأهل بيت من الأنصار من كلّ ذي حُمَة[20]" (القشيري النيسابوري، 1991، رقم 2193).
- " رُخّص في الحُمة والنملة والعين" (المرجع نفسه، رقم 2196).
وقد أجاز النبي ﷺ أخذ أجرة على الرقية بالقرآن:
- حدّث: أن ناسا من أصحاب رسول ﷺ كانوا في سفر، فمرّوا بحيّ من أحياء العرب، فاستضافوهم فلم يضيّفوهم. فقالوا لهم: هل فيكم راقٍ؟ فإن سيّد القوم لديغ أو مصاب. فقال رجل منهم: نعم. فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب، فبرأ الرجل فأُعطي قطيعا من غنم فأبى أن يقبلها، وقال: حتى أذكر ذلك للنبي ﷺ، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فقال: يا رسول الله، والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب. فتبسّم وقال: "وما أدراك أنها رقية؟" ثم قال: " خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم" (المرجع نفسه، رقم 2201).
وعلى الرغم مما ورد من جواز بعض صور الرقية الجاهلية التي جرّبت منفعتها، ما لم يكن بها شرك، فقد انشغل المسلمون عنها بمجموعة من الرقّى الإلهية استعملوها في التحصين والتداوي حضّ عليها النبي ﷺ، منها:
- قال أنس: ألا أرقيكم برقية رسول الله ﷺ قال: بلى قال: " اللهم رب الناس مذهب الباس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سُقْما" (البخاري، 2016، رقم 5742).
- قال رسول الله ﷺ: " خير الدواء القرآن". (ابن ماجه، د.ت، رقم 3501).
- كان رسول الله ﷺ إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي ﷺ بإصبعه هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها: "باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا"[21]. (القشيري النيسابوري، 1991، رقم 2194).
وقد شدّد عدد من العلماء على ضرورة توافر ثلاثة شروط لجواز الرقية، هي: أن تكون بالقرآن أو بأسماء الله وصفاته، وأن تكون باللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وألا يعتقد بقدرة الرقية على الشفاء دون تقدير الله تعالى (ابن حجر العسقلاني، 2013)، وإن كان هناك أيضا من أجاز كل رقية جُربت منفعتها ولو لم يعقل معناها شريطة ألا يشرك بالله شيئا (المرجع نفسه).
وعند النظر إلى الرقية الجماعية المدروسة، فإنها بإجماع رواة الدراسة الحالية قد ثبت منفعتها لعدد كبير من الناس، ومع ذلك فثمة حالات ذات علل صعبة لم تبرأ بعد الرقية وفارقت الحياة، كما أن هناك إيمانا واضحا لدى المشتغلين بهذه الرقية بأنها قد تكون سببا في الشفاء بقدرة الله (سعيد رعفيت)، وأخيرا فإن كلمات هذه الرقية وإن كانت ليست باللسان العربي المبين، إلا أنها بلسان عربي جنوبي؛ أي باللغة المهرية، وكلماتها مفهومة وواضحة على الرغم من أن معناها قد لا يعقل أحيانا، ومثال ذلك قولهم في الرقية: /ḳawt-i man-s mūklēt/، بمعنى أنني أقتات من المرض الذي أعالجه بالرقية، ولا تتمّ الرقية إلا بعد وقوع العلة أو الداء كما سبق توضيح ذلك، ويظهر فيها أيضا التأثير الإسلامي في كلماتها وجملها.
أما الرقية الفردية فإن جملها قد تكون رمزية وأحيانا تؤدى بتمتمات غير واضحة المعنى مع إصدار أصوات مزعجة من الراقي نفسه، وتتم أحيانا بأن يعرض الراقي على شخص ما أن يقوم برقيته بعد أن يوهمه منجّما بأنه مصاب بمرض يستدعي الرقية، ويذكر في أثناء الرقية أن المريض يعاني من العلل كذا وكذا، ويؤكد عليه بأنه لن يشفى إلا بتقديم القرابين ورميها في مكان بعيد بعد ذبحها (محمد رعفيت).
6. التأثير الإسلامي في الرقية المدروسة
يبدو التأثير الإسلامي واضحا في الرقية الجماعية في ظفار، وهو بخلاف ما أشارت إليه سينيل من أن المعجم الديني يبدو غائبا في كلمات الرقية، بما في ذلك البسملة (Simeone-Senelle, 1995). وقد استطاعت الدراسة الحالية أن ترصد عددا من الظواهر التي تجسّد الحضور الإسلامي في هذه الرقية على النحو الآتي:
- هناك نوع من أنواع الرقية المدروسة، وهو النوع الخاص باللدغ (رعبوت ذحموت) عادة ما تستمرّ فيه جلسات الرقية لمدة أيام، وفي اليوم الواحد يستريح أعضاء فريق الرقية عند حلول وقت الصلاة، ويذكرون أن هذه الرقية تتم من صلاة فريضة إلى أخرى /man farṣ́ lə farṣ́/.
- وردت غير جملة في تسجيلات الدراسة الحالية يظهر فيها التأثير الإسلامي بشكل واضح وجلي، مثل: /ḳayrb fārṣ́ ðəṣalot/ "اقترب وقت صلاة الفريضة"، /bism-illāh barrəḥīm/ "بسم الله الرحيم"، /lhes bullāh baləˁað̣īm/ "نستعين عليها بالله العظيم".
- الطهارة عنصر أساسي للاستمرار في الرقية الجماعية، ولا يمكن الاستمرار فيها إذا كان بين المشاركين من كانت به نجاسة، إذ يزعمون أن الراقي يستشعر النجاسة، ويظهر ذلك واضحا عليه من خلال عدم قدرته على الإنشاد؛ بسبب عارض يعرض له في حلقه فلا ينطلق لسانه بالرقية (محمد رعفيت)، وتعدّ الطهارة من مقتضيات الدين الإسلامي وشرطا لصحة العديد من العبادات، وهي أيضا من الطقوس الدينية القديمة المستعملة في العلاج (يحيى، 2019).
- الرقية الجماعية ليس فيها إلا النفث والصياح، وأحيانا المص في حالة اللدغ (محمد رعفيت)، وهو ما لا يتعارض مع الرقى التي أجازها الإسلام، ويعدّ النفث من عناصر الرقية الإسلامية التي ثبتت في غير حديث روي عن الرسول ﷺ. والتفل والنفث يأتيان في مقدمة رقية كل نوع من أنواع الرقية الجماعية المدروسة باستخدام كلمة /tfo/.
- هناك إشارة إلى بعض الرموز الدينية في هذه الرقية، مثل الإشارة إلى أحد الأولياء، وهو الشيخ الجوهري[22]، ويرد في نص الرقية قولهم: /lhis bə-šayx gawhri/ " نستعين على العلّة والمرض بالشيخ الجوهري"، وقد كان لأضرحة الأولياء مكانة دينية واجتماعية معتبرة في المنطقة، وهناك الكثير من الأساطير التي نسجت حول قدرة هؤلاء الأولياء على إلحاق الضرر بمن يأتي فعلا مذموما، مثل: السرقة أو الزنا أو الكذب (سالم الكثيري)، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن من عادة الناس في ظفار أن يطلبوا النجدة والمساعدة الآنية من شخص يرون فيه القدرة على ذلك، وفي المقابل فإنهم يذمون من يعتذر عن منحها بقولهم: /bhar-k bi-š bɔ-s̃abher lɔ/ "طلبته النجدة وامتنع عنها". وفي الرقية المدروسة فإن الراقي يطلب النجدة بالمعنى المحلي الخاص بالنجدة من الله سبحانه وتعالى، ومن الشيخ الجوهري ومن الأطفال والشباب الأقوياء والشيوخ الكبار، ومع ذلك فإن جملة طلب النجدة من الشيخ الجوهري لم تعد محبّذة في نصوص الرقية في الوقت الحالي (سعيد رعفيت).
7. دور المرأة في الرقية المدروسة
للمرأة حضور في الرقية الجماعية سواء بالمشاركة في أداء الرقية في حالات خاصة، أو بالقيام بامتصاص السمّ إذا كانت أول الواصلين إلى الشخص اللديغ، وعلى الرغم من هذه المساهمات التي تقوم بها المرأة في الرقية الجماعية وما يتعلق بها، إلا أنّ بعض الإشارات التي وردت في الدراسات السابقة تنفي هذا الدور للمرأة نفيا مطلقا (Tabook, 1997, p. 120)، وقد جاء النفي أيضا في النص الأول من النصوص التي جمعها سيما من أحد الرواة (Sima, 2009, p. 44). ورصدت الدراسة الحالية بعض المظاهر التي تدلّ على هذا الحضور والمشاركة للمرأة على النحو الآتي:
- يذكر أحد الرواة أن ثمة رجلا بدويا لدغته أفعى وكان أول الواصلين إليه امرأة، فقامت بامتصاص السم من مكان اللدغ، وكان السم يفقدها الوعي ولكنها تستفيق بعد ذلك مواصلة الامتصاص، قبل أن يصل مجموعة من الرجال إلى اللديغ ليقوموا برقيته، ولم تشارك المرأة في الرقية (محمد رعفيت).
- مشاركة المرأة في الرقية محدود؛ بسبب حيائها وعدم قدرتها على المشاركة أمام رجال من غير محارمها، ولكنها تشارك في الرقية التي يكون المشاركون فيها من محارمها (محمد رعفيت).
- وردت جملةٌ في التسجيلات التي جمعها الباحث من نصوص الرقية تثبت بشكل جلي الدور الواضح للمرأة في الرقية: /bet ḥažlēn yə-hārīrəm ġayg wə teθ/ "بيت حجلان (فخيذة من المهرة) قادرون على أداء الرقية رجالا ونساء" (محمد رعفيت).
8. الأسر المعروفة بالرقية الجماعية في ظفار
هناك مجموعة من الأسر التي عُرفت بقدرتها على أداء الرقية الجماعية، وأغلب هذه الأسر تنتمي إلى قبيلة المهرة؛ لأن أغلب صور هذه الرقية تؤدّى باللغة المهرية، وهناك أيضا عدد من الأسر البدوية من قبيلة بيت كثير عُرف عنها قدرتها على أداء هذه الرقية.
ويطلق على الشخص الذي لديه سرّ هذه الرقية؛ بمعنى الذي لديه القدرة على أدائها بالصياح وإبداع الجمل المسجوعة الجديدة، يطلق عليه في اللغة المهرية كلمة "مشندِم" /mšandim/، والجمع "مشندُم" /mšandum/، ويختلف تأثير الرقية على المريض باختلاف الراقي، وعادة ما تكون النتائج جيدة إذا كان الراقي من الأسر التي عرفت بالرقية، ويخبر أحد المرضى بعد تلقّيه الرقية وشفائه من المرض، أن تأثير رقية كل شخص فيه كان مختلفا، ومن بينهم شخص (ذكره بالاسم) إذا بدأ الرقية فإنه -أي المريض- يشعر بألم شديد جدا؛ إشارة إلى قرب خروج السم من الجسم، ومن ثم التعافي (محمد رعفيت).
ويعبّر عن قدرة الأسرة على أداء الرقية وتاريخها في هذا المجال في نصوص الرقية باستعمال ألفاظ من قبيل:
- /ši bes śarx, ši śneg/ "لدي جذور أسرية تعرف هذه الرقية".
- /bet… mšandum/ " أسرة كذا وكذا معروفة بالرقية".
- /sos wə sos ˁawdin/ " نتوارث هذه الرقية أبا عن جد".
أما الأسر التي عرفت بالرقية فأغلبها من المهرة، ويرد ذكر اسم الأسرة مقرونا بكلمة "مشندُم" في نصوص الرقية، مثال: /bet ḥamdin mšandum/ "بيت حمدين (فخيذة من بيت رعفيت المهرية) معروفون بالرقية". وهذا تفصيل لبعض الأسر المعروفة بالرقية من قبيلة المهرة على سبيل المثال لا الحصر:
- بيت عامر جيد، ومنهم: فخيذتا: بيت دمريك وبيت حجلان.
- بيت بالحاف، ومنهم: فخيذة بيت شنّاف.
- بيت رعفيت، ومنهم: فخيذة بيت حمدين
- بيت السليمي.
- بيت كدّة، ومنهم: فخيذة بيت خميس (سعيد رعفيت).
كما أن هناك عددا من الأسر من قبائل بيت كثير البدوية التي لديها القدرة على الرقية والإبداع فيها؛ إذا يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، وبعض هذه الأسر تذكر في نصوص الرقية مقرونة بكلمة "مشندُم" تأكيدا لهذه المقدرة التي يمتلكونها، وهذه الأسر هي:
- بيت شعشع (الشعاشعة).
- بيت غوّاص. (محمد الشعشعي)
9. لغة الرقية المدروسة
يعتمد هذا الطب بصورة كبيرة على قوة كلمات الرقية في شفاء المريض بمشيئة الله من خلال إبطال تأثير السموم المتراكمة في الجسم، سواء أكان ذلك بسم مباشر من لدغ الأفاعي أم بتأثير الحمى والأورام التي تشكّل سمّا في جسم المريض (Tabook, 1997, p. 119).
وتتسم كلمات الرّقى والتعاويذ بشكل عام بطابعها الثابت، وعدم إمكانية التغيير فيها أو تحريفها لدرجة أنها قد تؤدى بلغة أجنبية كما ورد في بعض تعاويذ مصر القديمة؛ حفاظا على خصوصية كلماتها، وإيمانا بقوتها في تحقيق النتائج المرجوة منها، إذ إن منطوق هذه التعاويذ لها قيمة تعلو مدلولاتها (غليونجي، 1999، ص 13).
أما كلمات الرقية الجماعية المدروسة فإنها تؤدى باللغة المهرية، التي لا يشعر الناطقون أنها لغة أجنبية[23]، أما من حيث الثبات والجمود في الكلمات والجمل فإن هذه الرقية تجمع بين الجمل الثابتة المحفوظة والإبداع الآني، الذي يختلف بين راق وآخر، بل إن الإبداع وعدم تكرار الجمل المحفوظة من علامات تمكّن الراقي:
- /bar ḥārəs̃, her essūr bes ar ḥo-tungəh bar ḥo-tġī̃d bə-ˁɔd ɔlarket bahlet θrut ṭit ð̣ar ṭit/ " ابن حارش (من بيت دمريك المهري) إذا بدأ الرقية فإنه لن يكرر الجمل مطلقا حتى وإن طوّل بالرقية لمدة يوم كامل ليلا ونهارا".
وعلى الرغم من أن لغة الرقية الجماعية بشكل عام هي المهرية عند كل الراقين في ظفار، بما فيهم قبائل بيت كثير البدوية، إلا أن انتشار الرقية بشكل كبير عند البدو من بيت كثير أثّر في ظهور بعض خصائص لهجتهم[24] في كلمات الرقية وجملها، بداية من تسمية هذا الطب فهو عند بيت كثير: رعباه /raˁbāh/ فقط، وعند غيرهم: رعبوت /raˁbōt/، ورابوت /rābōt/، وعرّيت /ˁarrayt/ وأرّيت /arrayt/، ونعرُت /nˁirɔt/، كما أن هناك تباينا في بعض الكلمات والجمل بين رقية بيت كثير ورقية غيرهم من المهرة ومن له ارتباط بهم من سكان أرياف ظفار:
نماذج من الرقية باللغة المهرية | مقابلاتها في اللهجة الكثيرية البدوية | المعنى بالعربية الفصيحة |
/ðēkər rabb massablēt/ | /bism illāh barraḥīm/ | البسملة |
/lis šəbāb wāfyīn/ أو /his śbōb gazəyīn/ | /lhis šubɔ̄n mazhəyēn/ | نستنجد بالشباب الأقوياء على سموم هذه العلل. |
|
|
|
10. ظواهر لغوية متفرقة من نصوص الرقية الجماعية
يروم هذا المبحث رصد بعض الظواهر اللغوية الواردة في نصوص الرقية المدروسة، وتفصيل ذلك في الآتي:
- الاقتراض اللغوي
أشارت الدراسات السابقة إلى ظاهرة الاقتراض اللغوي من اللغة العربية في نصوص الرقية (Lonnet & Simeone-Senele, 1987; Simeone-Senelle, 1995)، ويظهر الاقتراض بشكل واضح في نصوص الرقية المدروسة على النحو الآتي:
| الكلمة المقترضة | نص الرقية | المعنى |
1 | baynīn | bis maxṭuṭ baynīn | الأفعى فيها خطوط بائنة واضحة |
2 | xāfīn | his lagfof xāfīn | للأفعى أماكن خافية. |
3 | gayši, ṣaffi | gayši lis, ṣaffi lis | أستعين بجيشي وصفي عليها |
4 | bə-geś ˁarmim | lis bə-geś ˁarmim | نستعين عليها بجيش عرمرم. |
5 | ṣaġurīn | lis ḳanyun ṣaġurīn | نستعين عليها بأطفال صغار |
6 | ġabbarōt | sah ðāgūz ġabbarōt | هي (العلّة) عجوز مغبرّة. |
7 | Samm | ˀa-ḥayaḳə-s samm | أسقيها سمّا |
8 | ˀalidōġ | sah ḳabṣt ˀalidōġ | هي (الأفعى) تلدغ |
9 | maṣrōf | wə- tāmala-h maṣrōf | وتجعل منه مصروفا. |
- السجع
يعدّ السجع عنصرا رئيسا في هذه الرقية، وتكون أغلب جمل الرقية مسجوعة، وينتقل الراقي من روي إلى روي آخر بعد جملتين مسجوعتين أو أكثر (أمثلة 1،2،3 أدناه)، وهنا تكمن مقدرة الراقي وتمكنه، ومع ذلك فإن الراقي قد لا يساعده الإبداع الآني على الإتيان بالجمل المسجوعة المنضبطة في كل المرات، ومن ثم تظهر بعض الجمل التي تخرج عن دائرة السجع (أمثلة 4،5 أدناه)، ولكن الراقي يعود سريعا إلى الجمل المسجوعة بعد ذلك، والأمثلة الآتية توضح طبيعة السجع في الرقية المدروسة:
| نماذج للجمل المسجوعة وغير المسجوعة من نصوص الرقية | المعنى |
1
| ṭāmə-s awf ḳarhərah śēni awf śarhərah | السم (أي المرض) مذاقه غير جيد، وكذلك منظره يبدو سيئا. |
2
| hes ḳanyōn ṣaġorīn hes śbōb gazəyīn hes hixār zaxxəmīn | نستعين على المرض بالأطفال الصغار والشباب البالغين والشيوخ الذين اختلط سواد شعرهم ببياض الشيب. |
3 | ðēkər rabb masəblēt les bə-wāf bə-gamlēt les bə-ġayw bə-laḥanēt | نبسمل ونذكر الرب مستعينين به، ونستعين بالناس المتجمعين معنا، ونستعين بأبناء القبيلة والأصدقاء ومن تجمعنا بهم روابط اجتماعية. |
4
| les bə-ṣaff lahəbīb ṭōlā les nəśarġōf kōfəd les nəhumūl | نستعين على المرض بالصف الذي فيه عدّة أشخاص، ولكن المرض أصبح صعبا وكأنه شجرة ذات أغصان كثيرة، ومع ذلك فإنني (الراقي) أحارب هذا المريض بسرعة حتى أقضي عليه. |
5 | hes rikōb ḳatəbōt hes taġrawd mazamīr | لهذا المرض عدّة كافية من الإبل الجاهزة للسير والحمولة، ولديه أيضا أشخاص يرددون الحداء والتغاريد على ظهور الإبل. |
ج. إضافة الهاء في جمل الرقية
تتم إضافة الهاء في المقطع الأخير من الكلمات التي يتم التوقف عليها (كلمتين في كل جملة) في أثناء إنشاد الرقية للعلاج، وهذا بدوره يؤثر في البنية الصرفية للكلمات، من حيث الحركات وعدد المقاطع (Lonnet & Simeone-Senele, 1987, p. 111). وقد طلب الباحث من أحد الرواة (محمد رعفيت) أن يسجل بعض هذه الجمل في الإنشاد (مع هاء) وفي غير الإنشاد (دون هاء) على النحو الآتي:
الجمل من غير إنشاد | الجمل في الإنشاد | المعنى |
bað laḥəsīt hubəġōt | bað ləḥasəyāhēt hubəġāhōt | هذا المرض يقوم بإخراج الماء من باطن الأرض. |
bað ġarfīt šaggammūt | bað ġarfāhēt šaggammāhūt | هذا المرض يغرف الماء ويجمعه. |
bað wahfīt ḳamiṭūt | bað wahfāhīt ḳamiṭāhūt | هذا المرض يربط الإبل فلا تتحرك. |
ورصدت الدراسة مظاهر تأثير إدخال الهاء في الكلمات على النحو الآتي:
- إضافة الفتحة الطويلة /ā/ في نهاية المقطع قبل الأخير من الكلمة، وفي حالات أخرى تتم إضافة الياء /y/ أيضا قبل الفتحة الطويلة، كما في كلمة: laḥəsīt > ləḥasəyāhēt في الجملة الأولى من الأمثلة أعلاه.
- إضافة الهاء في بداية المقطع الأخير من الكلمة.
- زيادة مقاطع الكلمة بمعدل مقطع واحد بعد إضافة الفتحة الطويلة والهاء.
11. نتائج الدراسة
توصّلت الدراسة إلى جملة من النتائج هي:
- تسمّى الرقية في ظفار بشكل عام باسم "رعبوت"، للدلالة على الرقية بنوعيها: الفردية والجماعية على الرغم من اختلافهما، ومع ذلك فإن الرقية الجماعية تأخذ إلى جانب الاسم "رعبوت" تسميات أخرى مختلفة باختلاف الجماعات الكلامية في ظفار، هي: "عرّيت" عند الناطقين بالمهرية، و "نعروت" عند الناطقين بالشحرية (الجبالية)، وهاتان التسميتان لا يمكن إطلاقهما على الرقية الفردية.
- للرقية الجماعية ثلاثة أنواع، هي: "رعبوت ذحمرة"؛ لعلاج انتفاخ البطن وأوجاع الحلق والأسنان، و"رعبوت ذحموت"؛ لعلاج لدغ الأفاعي وبصورة أقل لدغ العقارب، و"رعبوت ذحلوم"؛ لعلاج أوجاع الأطراف التي يكون فيها التورّم ظاهرا أو باطنا.
- التأثير الإسلامي واضحٌ في الرقية الجماعية، يظهر ذلك في البدء بالبسملة والطهارة واستعمال كلمات إسلامية، مثل: البسملة، والفريضة، والصلاة، والعظيم.
- الأسر المعروفة بالرقية الجماعية في ظفار تنتمي إلى البدو من قبائل المهرة وبيت كثير، بالإضافة إلى بعض الأشخاص من أرياف ظفار ممن لديهم ارتباط اجتماعي مع قبائل المهرة البدوية.
- تتفاوت مقدرة الراقين على أداء الرقية وإجادتها، ويحكم على مقدرة الراقي وتمكنه من خلال عدد العناصر، هي:
- أن يكون الراقي من الأسر ذات الصيت في هذا المجال.
- عدم تكرار جمل الرقية والإتيان بجمل جديدة.
- شدة رفع الصوت والتأثير في أعضاء الفريق والمريض.
- تشارك المرأة في الرقية الجماعية التي تتم بين محارمها فقط، ويعبّر عن قدرة المرأة على أداء الرقية في كلمات الرقية بقولهم: /yə-hārīrəm man ġayg wə teθ/ "يؤدون الرقية رجالا ونساء"، كما تقوم بعض النساء اللاتي لديهن القدرة على امتصاص السم من اللديغ بفعل ذلك؛ إذا لم يكن عنده في لحظات اللدغ الأولى من لديه القدرة على ذلك.
- لغة الرقية الجماعية هي المهرية بشكل عام، ومع ذلك فإن انتشار هذه الرقية عند البدو من بيت كثير كان له تأثير في ظهور بعض خصائص لهجتهم في كلمات الرقية.
- وقفت الدراسة الحالية على بعض الظواهر اللغوية الخاصة بالرقية الجماعية، هي: الاقتراض والسجع وإضافة صوت الهاء على الكلمات التي يتوقف عندها، وتبيّن أن الاقتراض من العربية واضح وبخاصة في الكلمات المنتمية إلى الحقل الديني، وأن أغلب الجمل في الرقية مسجوعة مع ظهور بعض الجمل التي تخرج عن دائرة السجع قبل أن يعود الراقي إلى الجمل المسجوعة مرة أخرى، وتبيّن أيضا أن إدخال الهاء على الكلمات يؤدي إلى اختلاف البنية الصرفية للكلمة، من حيث زيادة المقاطع وإطالة بعض الحركات وإضافة بعض الأصوات، مثل: الياء /y/.
- الرقية الجماعية في طريقها إلى الانحسار والتراجع؛ بسبب ظهور الطب الحديث، وعوامل التحديث الأخرى، وعزوف الناس والأطباء عن الإقبال على هذا الطب؛ احترازا مما قد يلحقهم من الإثم؛ وذلك بسبب ما يردده بعض الناس من أن هذه الرقية شعوذة وسحر، على الرغم مما أوردته الدراسة الحالية من إمكانية إدراج الرقية المدروسة ضمن صور الرقية التي أجازها الإسلام بالاعتماد على البيانات المتوافرة حاليا.
12. نموذج من نصوص الرقية الجماعية ( نص من رقية "رعبوت ذحمرة")
النص بالرموز الصوتية | المعنى مترجما إلى العربية |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
المراجع العربية
ابن دريد، أبو بكر محمد بن الحسن الأزدي. (د.ت). جمهرة اللغة، ج1. بيروت: دار صادر.
ابن سيده، أبو الحسن علي بن إسماعيل. (2000). المُحْكم والمحيط الأعظم، ج2. (عبدالحميد هنداوي، محقق). بيروت: دار الكتب العلمية.
ابن سيده، أبو الحسن علي بن إسماعيل. (د.ت). المخصّص، ج13. بيروت: دار الكتب العلمية.
ابن طباطبا العلوي، محمد بن أحمد. (2005). عيار الشعر، ط2. (عباس عبدالساتر، محقق). بيروت: دار الكتب العلمية.
ابن قيم الجوزية، شمس الدين محمد بن أبي بكر. (د.ت). الطب النبوي. (عبد الغني عبد الخالق وعادل الأزهري ومحمود العقدة، محققون). بيروت: دار الفكر.
ابن ماجه، أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني. (د.ت). سنن ابن ماجه، ج2. (محمد فؤاد عبدالباقي، محقق). القاهرة: دار إحياء الكتب العربية.
ابن منظور، محمد بن مكرم. (د.ت). لسان العرب. (عبدالله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم الشاذلي، محققون). القاهرة: دار المعارف.
البخاري، أبوعبدالله محمد بن إسماعيل. (2016). صحيح البخاري. كراتشي. باكستان: البشرى.
الجاحظ، أبوعثمان عمرو بن بحر. (1966). الحيوان، (ط.2)، ج4. (عبدالسلام محمد هارون، محقق). القاهرة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
الحاكم النيسابوري، أبوعبدالله محمد بن عبدالله. (2002). المستدرك على الصحيحين، (ط.2) ج4. (مصطفى عبدالقادر عطا، محقق). بيروت: دار الكتب العلمية.
الرازي، أبوبكر محمد بن زكريا. (2000). الحاوي في الطب، مجلد 1،. (محمد محمد إسماعيل، محقق). بيروت: دار الكتب العلمية.
غليونجي، بول. (1999). طب وسحر. القاهرة: دار القلم.
الفراهيدي، الخليل بن أحمد. (1980). العين، ج2. بيروت: دار ومكتبة الهلال.
الفراهيدي، الخليل بن أحمد. (1980). العين، ج3. (مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، محققان). بيروت: دار ومكتبة الهلال.
القشيري النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج. (1991). صحيح مسلم، ج4. (محمد فؤاد عبدالباقي، محقق). القاهرة: دار الحديث.
النجار، محمد بن رجب. (1995). الطب النبوي بين الطب العلمي والطب الشعبي. مجلة الفنون الشعبية، ع 46، الصفحات 30-55.
يحيى، أسامة عدنان. (2019). السحر والطب في الحضارات القديمة: دراسة تاريخية مقارنة. دمشق: آرام للدراسات والنشر.
المراجع الأجنبية
Bendjaballah, S., & Philippe, S. (2017). The vocalic system of the Mehri of Oman. In:Sabrina Bendjaballah & Philippe Ségéral (eds), Journal of Afroasiatic Languages and Linguistics, Volume 9, Issue 1, pp. 160–190.
Hein, W. (1909). Mehri- und Ḥaḍrami- Texte. Gesammelt im Hahre 1902 in Gischin. Bearbeitet und herausgegeben von Dav. Heinr. Müller. Wien: Hölder.
Lonnet, A., & Simeone-Senele, M.-C. (1987). Rābūt: Trance and Incantations in Mehri Folk Medicine. Proceedings of the Seminar for Arabian Studies, 17, (pp. 107-115).
Rubin, A. (2018). Omani Mehri: A New Grammar with Texts. Leiden: Brill.
Sima, A. (2009). Mehri-Texte aus der jemenitischen Sharqīyah: Transkribiert unter Mitwirkung von Askari Sa’d Hugayrān. Edited, annotated & introduced by Janet C.E. Watson & Werner Arnold. Wiesbaden: Harrassowitz.
Simeone-Senelle, M.-C. (1995). Incantations thérapeutiques dans la médecine traditionnelle des Mahra du Yémen. Quaderni di Studi Arabi 13, pp. 131–157.
Tabook, S. B. (1997). Tribal practices and folklore of Dhofar, Sultanate of Oman. PhD thesis. University of Exeter: [Unpublished].
Thomas, B. (1938). Arabia Felix: across the empty quarter of Arabia. London.
[1] ينظر المبحث (رقم 2) من هذا الدراسة الذي يتناول أنواع هذا الطب التقليدي.
[2] في حالات نادرة جدا يمكن للمريض الذي يعاني من بعض الأعراض مثل الحمى أن يرقي نفسه منفردا برقية "رعبوت ذحمرة" / raˁbōt ðəḥamrah/، ولا يمكن أن يرقي الشخص نفسه في الحالات المعقدة، مثل: لدغ الأفاعي (محمد الشعشعي)، ولكن يمكن أن يؤدي شخص واحد هذه الرقية على اللديغ في حالات طارئة لا تحتمل التأجيل ويستمر في الرقية حتى يلتحق به أشخاص آخرون (محمد رعفيت).
[3] عنوان الكتاب باللغة الإنجليزية هو: Arabia Felix: Across The Empty Quarter of Arabia .1932 (published in 1938)
[4] طبع الكتاب باللغة الألمانية ضمن إصدارات فريق البعثة النمساوية إلى جنوب الجزيرة العربية (1898-1899)، وقد كان هاين عضوا في البعثة على الرغم من أنه لم يسافر مع البعثة ولكنه سافر بعد ذلك في عام 1907، ونشر كتابه الذي يتضمن نصوصا من اللغة المهرية واللهجة العربية لحضرموت عام 1909 تحت عنوان: Mehri- und Hadrami-Texte. Gesammelt im Jahre 1902 in Gischin
[5] عنوان المقالة باللغة الإنجليزية هو: Rabut: Trance and Incantations in Mehri Folk Medicine
[6] عنوان المقالة باللغة الفرنسية هو:
Incantations thérapeutiques dans la médecine traditionnelle des Mahra du Yémen.
[7] عنوان الأطروحة باللغة الإنجليزية:
Tribal practices and folklore of Dhofar, Sultanate of Oman.
[8] قام الباحثان: جانت واطسون وأرنولد بإخراج النصوص التي جمعها سيما في كتاب منشور عام 2009 تحت عنوان:
Mehri-Texte aus der jemenitischen Šarqı̄yah.
[9] يشكر الباحثُ الأستاذَ محمد بن أحمد رعفيت على الجلسات المطولة التي منحها من وقته لمساعدته في شرح ما استغلق من جمل الرقية المسجلة من الرواة.
[10] الأشخاص هم: 1. محمد بن أحمد رعفيت، 2. سعيد بن أحمد رعفيت، 3. سالم بن أحمد رعفيت، 4. سالم بن تمان عدلي الكثيري، 5. محمد بن مهدي الشعشعي، 6. سالم بن سعيد (فعموم) بالحاف، 7. محمد بن علي بالحاف، 8. تسلوم بنت سالم الكثيري، 9. منى بنت سالم المهري. سيتم الإشارة إليهم في متن هذه الدراسة بذكر الاسم الأول والقبيلة.
[11] الرموز الصوتية اللاتينية المستعملة في هذه الدراسة هي: أولا: الصوامت: 1. ˀ: همزة، 2. ˁ: عين، 3. h: هاء، 4. ḥ: حاء، 5. ġ: غين، 6. x: خاء، 7. ḳ: قاف طبقية انفجارية محنجرة، 8. ž: جيم لثوية غارية احتكاكية، 9. š: شين، 10. s̃: شين مدورة 11. ṣ́: ضاد لثوية جانبية احتكاكية محنجرة، 12. ś: شين لثوية جانبية، 13. ṭ: طاء، 14. ṣ: صاد لثوية احتكاكية محنجرة، 15. ð̣: ظاء، 16. ð: ذال، 17. θ: ثاء.
ثانيا: الصوائت: 1. i: الكسرة القصيرة، 2. e: الكسرة الممالة إلى الفتحة، 3. a: الفتحة القصيرة، 4. u: الضمة القصيرة، 5. o: الضمة نصف مغلقة، 6. ɔ: الضمة نصف مفتوحة، 7. ə: حركة مختلسة، 8. ̄ : هذه العلامة إذا رسمت فوق الصائت فإنها تعني أن الصائت طويل.
[12] يطلق على هذه العصارة "سيت" /sī̃t/ في اللغة الشحرية (الجبالية)، وتخرج من جسم المريض مع القيء، وفي حالة خروجها يشفى المريض من الآلام التي كان يعاني منها.
[13] يورد الجاحظ (ت 255هـ) في كتابه (الحيوان) أن الحوّاء (الذي لديه خبرة بالحيّات) يحتال على منْ كان عنده بقدرته على إخراج الأفعى من جحرها بالرقية، ويعلّل الجاحظ خروج الأفعى بأنها من الكائنات التي تنكر الصوت، مثل: الضب والضبع، فتخرج استجابة لأي ارتفاع في الصوت حتى وإن رفع الشخص صوته ببيت شعر أو بخرافة (1966، ص ص 188-189).
[14] يورد الرازي (ت 313 هـ) في كتابه (الحاوي في الطب) دور سمن البقر في منع سم الأفاعي من الوصول إلى القلب (2000، ص 157)، وفي ظفار لا يعطى السمن للديغ، ويستعين به من يمتص السم حتى لا تحرق شفتيه.
[15] لمعرفة وضع صوت العين في اللغة المهرية يرجع إلى: روبن (Rubin, 2018)، وصابرينا وفيليب (Bendjaballah & Philippe, 2017).
[16] كلمات الرقية الفردية بحاجة إلى دراسة مستقلة؛ لأن نماذجها كثيرة ومتنوعة بالإضافة إلى أنها تؤدى في بيئات ظفار المختلفة، كما أنها قد تؤدى بكلمات من اللهجة العربية لبدو بيت كثير، على الرغم من أغلب كلمات هذه الرقية تؤدى باللغة المهرية.
[17] ورد عن الداوودي وطائفة من العلماء "إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة؛ خشية وقوع الداء وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء به فلا" (ابن حجر العسقلاني، 2013، ص 572).
[18] نملة: قروح تخرج في الجنبين.
[19] "يلتحق بالعين جواز رقية من به خبلٌ أو مسٌ ونحو ذلك لاشتراكهما في كونها تنشأ عن أحوال شيطانية من إنسي أو جني، ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرْح ونحوه من المواد السميّة" (ابن حجر العسقلاني، 2013، ص 542).
[20] الحمة: ذوات السموم كلها.
[21] ومعنى الحديث: أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح. (القشيري النيسابوري، 1991، ص 1724).
[22] يوجد ضريح الشيخ الجوهري في بلاد المهرة، وكان الناس في المنطقة قديما يقسمون عند الضريح في حالة التهم والسرقات (محمد الشعشعي).
[23] أغلب الناطقين بالنوعيات اللغوية المختلفة في ظفار - وبخاصة قبل اتساع انتشار التعليم النظامي عام 1970 - لا يجدون صعوبة في التواصل مع المهرة والنطق باللغة المهرية؛ بسبب التداخل الاجتماعي والاقتصادي الكبيرين بين الناس في ظفار، مما ينتج عنه القدرة على التواصل بين أبناء ظفار على اختلاف النوعيات اللغوية التي يستعملونها (عامر الكثيري وآخران، بحث غير منشور، بعنوان: الوضع اللغوي في ظفار: مقاربة لسانية اجتماعية).
[24] من مظاهر اختلاف الرقية بين بيت كثير والمهرة أن لغة الرقية الفردية التي تعتمد على التنجيم – بحسب النماذج التي اطلع عليها الباحث- يؤديها بدو بيت كثير باللهجة الخاصة بهم.