كلمة الجامعة

الباحث المراسلأ. د. أحمد بن سليمان بن فاضل الحراصي

تاريخ تسليم البحث :2024-01-15
تاريخ نشر البحث :2024-01-15
الإحالة إلى هذه المقالة   |   إحصائيات   |   شارك  |   تحميل المقال

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدُ لله الذي شرَّفَ العلمَ والعلماءَ والصلاةُ والسلامُ على مُعَلِّمِ البشريةِ وهاديها سيدِنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحابته الأجلاءِ. 

إنَّ جامعةَ نَزوى قد شرَّفها اللهُ بنقلِ المعرفةِ وإنتاجِها ونشرها وتطبيق البحوث وتقديم الحلول، فتبوأتْ بفضلِ الله ثم بفضلِ رؤيتها مكانةً سامقةً بين الجامعات العربية، وحازتْ قصبَ السبقِ في عددٍ من التصانيفِ الأكاديمية. ولقد كان لهذه الجامعةِ شرفُ المساهمةِ في زِخِم ِالبحث العلمي العالمي بمجموعة رفيعة من البحوث النوعية اللاوصفية تجاوزت ٢٤٠٠ بحثٍ علميٍّ، نُشِرَتْ في أرقى مجلات العالم، جميعُها تحملُ اسمَ عُمان، وبواقع أكثر من ٥٠ ألف استشهاد بالبحوث، بمعدل ٨١ إستشهادًا لكل بحثٍ منشور.

وهذا النتاجَ البحثيَّ جعل مراكزَ الجامعةِ البحثيةِ مراجعَ استشاريةً، مؤكدةً دورَها المحوري في إنتاج ونشر المعرفة، ومحوّلةً غراسَ التربةِ العمانيةِ الطيبةِ من خاماتٍ طبيعيةٍ ونباتاتٍ طبيةٍ وأحياءٍ بحريةٍ إلى نواتجَ تكنولوجيةٍ وطبيةٍ ذاتِ جدوى اقتصاديةٍ وقيمةٍ مضافةٍ توشكُ أن تؤتي أُكُلَها بإذن الله. 

ولقد تبوأتِ الجامعةُ بفضل اللهِ مكانةً مرموقةً في التصانيفِ الأكاديمية للجامعات، سبقت غيرَها في وقتٍ قياسي. ففي ثلاثِ سنواتٍ متواصلةٍ حصلتْ على المركز الأول محليًّا حسب مؤشر ناتشر انديكس، والمرتبةِ الأولى حسب مؤشر سايماجو ، والمرتبةِ الثانية حسب مؤشر كيو أس. ووضِعَ على مدى سنتين متتاليتين عشرون من باحثيها في قائمةِ ستانفورد لأعلى 2% من العلماءِ الذين اُسْتُشهِدَ بأبحاثِهِم. 

لقد نظرتُ كغيري من المشتغلينَ بالبحث العلمي إلى المعرفةِ بأنها قضيةٌ إقتصاديةٌ تُبْنَى عليها الهيمنةُ السياسيةُ وقوةُ الدولة، إلا إنني أدركتُ اليومَ وبعد قِراءتي لكتاباتِ المسلمين والغربِ السابقين، أنَّ هذه النظرةَ رغم صحتِها نظرةٌ ناقصةٌ، وذلك لما شاهدتُهُ من واقعٍ مؤلمٍ يعيشه  هذا الناسُ في عالَمٍ مضطربٍ يحولُ بينهم وبين السعادة المنشودة رغمَ التقدمِ العلمي الذي نشهدُه اليومَ في عالَمِ المعلوماتية الحيوية، ومستهلِ الثورةِ الصناعيةِ الرابعةِ، وهذه الأزمةُ ليست اقتصاديةً ولا معرفيةً لكنَّها أزمةُ ضميرٍ ووجدانٍ وأزمةُ هروبٍ من الله، وبُعدٍ عن خالقِ هذا الكون إذ أصبح كلُّ شيءٍ ماديٍّ بحت.  لقد تعلمنا من عالَم المادة أنَّ المعرفةَ هي الاقتصادُ فحسب، لذلك خرجنا بمعرفةٍ مبتورةٍ قاصرةٍ ناتجةٍ عن فهمٍ قاصرٍ للحياة، فنتجَ عن ذلك تحسنٌ في نمط الحياة الظاهري وتدهورٌ غيرِ مسبوق في الإنسان. تلك الهُوَّةُ الواسعةُ بين عالَم المادة والبشر ، وبين خالقِ المادة والبشر أفرزتْ لنا عِلماً مجزَّءاً ومعرفةً مشوهةً ناقصةً، فهي كمٌ هائلٌ من المعلومات غيرِ المترابطة. والمتتبعُ لكتاباتِ علماءِ الكيمياء والطب والرياضيات والفلك بل والأدبِ واللسانياتِ في العصور السابقة يجدُ أن هذه المعرفةَ معرفةٌ مرتبطةٌ يإيمانِ الفرد ولم تكن ماديةً بحتةً كما هي اليوم. 

ولا ريبَ أن الخلقَ يتابينون فيما بينهم تبايناً عظيماً في ملكاتِهم العقلية من قوة فائضة، وخصوصية ناهضة، وطبعٍ وقَّاد، وذهنٍ مُنقاد، وقريحةٍ صافية، وتأملٍ عميق، فلذا نجدُ في كلِّ عصرٍ من العصور النوابغَ المبتكرين، والمهندسين البارعين، والأطبّاءَ الحاذقين، والعلماءَ الراسخين، كما نجدُ الفصحاءَ والبلغاءَ والأَبيناءَ. وفي مقابل هؤلاء نجدُ ممن هم دونهم في المنزلة، وممن دونهم بمنازل. 

وهناك من أنصفَ الحضارةَ العربيةَ من الغرب، وسيكونُ من الإجحاف ألا أُشيدُ بما كتبوه في مستهلِّ هذه الندوة. ومن أبرز من أماط اللثامَ عن حضارة العرب: المستشرقةُ الألمانيه سيجريد هونكه في كتابها "شمسُ العرب تسطعُ على الغرب، والعلامةُ الفرنسي غستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" الذي سلك مسلكاً لم يسبقْه اليه أحدٌ، فجاء جامعًا لعناصر  هذه الحضارةِ وتأثيرِها في العالَم، شاملًا لعجائبها مفصِّلًا لعوامِلها، باحثًا في قيامِها، وفي أسباب عظمتِها بل وانحطاطِها فيما بعد، مبتعدًا عن أوهام الأوربيين التقليدية في العرب والإسلام.

 

وإذا ما رجعنا قرونا إلى الوراء، نجدُ تصَدُّر َ العربِ شعوبَ العالَمِ على مدى 750 عاماً حاملين مِشعَلَ الثقافة رَدْحاً جاوز عصرَ الإغريقِ الذهبي بضعفيه. فقد كان أطباءُ العربِ يُجرُون العملياتِ القيصريةِ، ويرسُمون بدقةٍ تفوقُ الوصفَ تشريحَ الجسم، ويصنّعون أدواتِ الجراحة وكأننا نراها اليوم. ولقد ضرب الكيميائيون العربُ أروعَ الأمثلةِ حيث أمتلأتِ المجلداتُ التي ترجمها الغربُ بوصفاتٍ علميةٍ دقيقةٍ لعلاجِ جميعِ الأمراضِ وبرسوماتٍ ملونةٍ بألوانٍ طبيعيةٍ مُبهرةٍ حافظتْ على نضارتها الى اليوم. ولا أبالغ أبداً إن قلتُ إنَّ كلَّ وصفةٍ من هذه الوصفات تعادلُ براءةَ اختراعٍ في عُرف اليوم. 

وكمثالٍ آخرَ على تقدُّمِ العربِ على الغربِ في العلوم والهندسة أثناءَ العصرِ الذهبي للحضارة الإسلامية ما ذكره المؤرخ الفرنسي فولتير" إن أول ساعةٍ عُرفت في أوروبا هي الساعةُ التي أهداها الخليفةُ العباسيُّ هارونُ الرشيدُ إلى شارلمان عام 870 ميلادية، الساعةُ التي صنعها العرب قبل أكثر من ألف ومائتي سنة. هذا مثالٌ من دار الحكمة وعهدِ رُقِيِّ العرب، وقوةِ العلمِ ودورهِ في الهيمنةِ السياسية. 

ولقد تخرَّجَ من دارِ الحكمةِ ثلاثةٌ من أبناءِ الفلكي موسى بن شاكر أصبحوا أساطينَ العربِ في العلم، فالأول عالمٌ ميكانيكيٌّ، والثاني عالمُ فلكٍ والثالثَ عالِمُ رياضيات. وفي ركنٍ آخرَ  من هذه الدار، كان الخوارزميُّ آنذاك ينهي مقتطفاته ويصححُ جداولَ بطليموس ويضعُ كتبَهُ في علميْ الحسابِ والجبر. 

ولم يكن هذا القِطْرُ  بأقل بل أخرج العبقريَّ الخليلَ بنَ أحمدٍ الفراهيدي واضعَ علمِ العروض وصاحبَ كتابِ العين سيدَ أئمةِ اللغةِ والأدبِ، وأخرج كذلك الفلكيَّ أسدَ البحار أحمدَ بنَ ماجدٍ السعدي والطبيبَ ذائعَ الصيت راشدَ بنَ عميرة بنَ هاشمٍ العِيني الرستاقي وغيرَهم لا حصر لهم من عباقرةِ الصيدلة والطب والفلك. 

والعالِمُ الموسوعيُّ الطبيبُ راشدُ بنِ عميرةِ بنِ هاشمٍ العِيني الرستاقي هو أحدُ روادِ الطبِ التجريبي العماني، الذي جمع بين الطبِ والصيدلةِ والشعرِ والأدبِ، والتأليفِ في هذاالعلوم كلِها. فقد كان طبيباً حاذقاً؛ بل كان الأشهرُ في زمانه، واستطاع أن يعالجَ كثيرا من الأمراض المستعصية حتى ذاع صيتُه وأصبح وجهةً للقاصي والداني، ولم يكتفِ بممارسةِ الطبِ؛ بل نقل العلومَ الطبيةَ عبرَ تعليمِ الطب والتأليف فيه،كما أنه كان صيدلانياً بارعاً، تمكَّنَ من الحصول على العديد من الوصفات الفريدة من الأعشاب الطبيعية النادرة. وقد كان ابنُ عميرةَ فقيهاً وأديباً وشاعراً، استعمل هذه المواهبَ في تعليم الطب ووضعِ الوصفات الطبية، وخيرُ شاهدٍ على ذلك مخطوطاتُه وأراجيزُه التي ألَّفها بأسلوبٍ سهلٍ يجمعُ بين العلمِ والأدب، وبين الشمولي والتخصصي، فقد نظم القصائدَ الطوالَ لتشريح جسدِ الإنسان كاملاً، وخصص أخرى لتشريح أعضاءِ الجسم كالعينِ، وكان يُجري العملياتِ الجراحيةٍ بكل ثقةٍ واقتدار. 

ومن المناسب أن أُشيرَ  هنا الى أبحاث الطبيب الألماني ماكس مايرهوف المتوفى عام 1945م والمتخصّصُ في طبِّ العيون والذي درسَ اللغةَ العربيةَ واستقرّ بالقاهرة وفَتَحَ بها عيادةً لعلاج أمراض العُيون حيث كان من أهم مراجِعِه ثلاثُ نسخ خطيةٍ لشرح قصيدة: زادِ الفقير وجبر الكسير؛ للطبيب راشد بن خلف القرّي الرستاقي وأرجوزة تشريح العين وشرحها للطبيب ابنِ عميرة. 

  وها هو يختَتِم ُرحلةَ البحث والتعليم والتطبيق العملي في آخر  رمق في حياةٍ حافلةٍ بالريادة والعطاء. فقد جمع طلابَه بعدما أصابَه المرضُ الأخير وأحسَّ بالوفاة قائلاً لهم: "قرَّبوا إناءً كبيراً من الماءِ الصافي واطرحوا عليه مثقالاً من الأدوية المجمدة، ففعلوا ذلك وجَمُدَ الماءُ في حينِه، فأخبرهم أنَّ بطنيَ لم ينقطعِ استرسالُه، ولم تجمُدْ رطوبتُه وأكلتُ الدواءَ مراراً عديدة، فاعلموا أنَّ الأجلَ انتهى ولا دواءَ للموت". 

ولا يفوتني أن أذكرَ وأذكِّرَ الباحثينَ بالمنهج العلمي التجريبي الذي اتبعه هذا الطبيبُ الحاذقُ، وكذلك ببعدِهِ الأخلاقي وهو ما يُعرفُ اليومَ بحقوقِ الملكية الفكرية فقد تميَّز بالأمانة العلمية التامَّةِ في كتاباته؛ فكان لا يذكرُ أمرًا من الأمورِ اكتشفه غيرُه إلاَّ أشار إلى اسم المكتشف الأصلي؛ ولذلك امتلأت كتُبهُ بأسماءِ أرسطو طاليس، وأفلاطون، وديسقوريدس، وأبقراط وجالينوس و أبي بكر الرازي وابنِ سينا وابنِ النفيس وغيرِهم.

ومِن خِلال هذا العدد الخاص بمجلة الخليل للعلوم الاجتماعية نحتفلُ بعباقرةٍ خلَّدَهم التاريخ، كما يعد إبراز هذه الجهود في هذه الحُلَّةِ القَشِيبة هي إحدى طرقِ التقديرِ والاحتفاءِ والتوثيقِ وتعريفِ العالَمِ بهِم وبإنجازاتِهم. ولا يقتصرُ هذا النشر للاحتفاء وإبراز جهودهم فحسب، بل بالسير على نهجِهم في البحثِ والتوثيقِ والأمانةِ العلمية. 

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا