موسى بن علي الحسیني: عملت عسکریا عند الإمام محمد بن عبدالله الخلیلي لمدة عشر سنوات لا تزال ذکراها خالدة في ذاکرتي

الباحث المراسلد. سليمان بن سالم الحسینی جامعة نزوى

Date Of Publication :2022-11-09
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

 

عملت عسکریا فی خدمة الإمام محمد بن عبدالله الخلیلی لمدة عشر سنوات، وذلک حتى وفاته فی سنة 1373 هـ / 1953 م. وعلاقتی بالإمام محمد بن عبدالله الخلیلی هی امتداد لعلاقة آبائی به، وإرث صنعه الأجداد قبل أن أخرج إلى الحیاة، فحافظت علیه وأبقیت على سیرتهم الحمیدة به وبذکراهم الحسنة. وتعود علاقة آبائی بالإمام محمد بن عبدالله الخلیلی إلى ما قبل تولیه الإمامة فی عمان، واستمرت بعد تولیه الإمامة، ولا أزال أکن للإمام مشاعر الحب والإعجاب وأثنی على سیرته العطرة وعلاقته برعیته واهتمامه بالناس صغیرهم وکبیرهم، غنیهم وفقیرهم. وأصل هذه العلاقة الممیزة بالإمام الخلیلی، رحمه الله، تعود إلى تبعیة وادی عندام بمختلف قبائله وقراه وسیوحه إلى شیوخ آل خلیل بما فیهم الإمام محمد نفسه قبل أن یصبح إماما. فالإمام محمد بن عبدالله الخلیلی یعرف آبائی: والدی علی بن حمود وعمی حمد بن حمود معرفة شخصیة ومباشرة، ویعرف غیرهم من سکان وادی عندام، وکان یزور العلیاء وعلى معرفة بها وبأهلها وأوضاعها انطلاقا من مسؤولیاته کشیخ وزعیم لمجموعة من قبائل المنطقة قبل أن یصبح إماما ویتخلى عن الزعامة القبلیة لغیره من أفراد أسرته. ومن المعروف أن فی اللیلة التی قتل فیها الإمام سالم بن راشد الخروصی، رحمه الله، فی بلد الخضراء سنة 1338 هـ، کان الإمام محمد موجود هنا، فی بلدة العلیاء، بهدف التواصل مع أهالی المنطقة وصلتهم والتقارب معهم. ووصل خبر مقتل الإمام سالم مع (طارش) أرسل خصیصا لینقل الخبر إلى الإمام محمد بالحادثة الألیمة، فتحرک الإمام مباشرة بعد الفجر مع من معه من الأعیان للوقوف على الحادثة ومشارکة زعماء القبائل والعلماء فی اتخاذ القرار الملائم والصحیح؛ مراعاة للوضع السیاسی والاجتماعی والقبلی فی ذلک الوقت. وبعد تعیین الإمام محمد بن عبدالله الخلیلی إماما لعمان استمرت علاقة والدی وعمی به، بل وأصبحت أکثر عمقا وأهمیة. فکان والدی وعمی اللذان یمارسان التجارة الموسمیة مع شرق إفریقیا، یلتقیان بالإمام فی نزوى قبل ذهابهما إلى شرق إفریقیا فیأخذان منه الکتب المخطوطة لطباعتها فی زنجبار، وعندما یعودان یلتقیان به مرة أخرى فیشتری منهما الکتب المطبوعة.

وعندما توفی والدی علی وعمی حمد کنت أنا وإخوتی: یعقوب وعمر وفاطمة لا نزال صغارا، فسافر أخی یعقوب وابن عمی حمود بن حمد إلى شرق إفریقیا، وکنت أنا أکبر الثلاثة المتبقین فی عمان سنا. وکان الإمام محمد بن عبدالله الخلیلی یعرف أن والدی وعمی ترکا أطفالا أیتاما، فکان دائم السؤال عنا وعن أحوالنا ووضعنا، فشجعنی ذلک على التوجه إلى نزوى عاصمة الإمامة ومرکز عمان النابض فی ذلک الوقت؛ طلبا للعیش وبحثا عن الرزق لی ولإخوتی ووالدتی، ولأکون قریبا من الإمام، وأنال رعایته وعنایته، لا سیما وإنّا کنا نعیش هنا فی العلیاء فی شظف من العیش بسبب فقدان المعیل، إضافة إلى المَحِل والجفاف الذی تمر به البلاد آنذاک. لا أذکر السنة التی توجهت فیها إلى نزوى، فلم یکن شائعا فی ذلک الوقت توثیق الأحداث بالتاریخ والسنوات، ولکن کان عمری أقل من عشر سنوات.

ومن العوامل الأخرى التی شجعتنی على الذهاب إلى نزوى والإقامة فیها وأنا لا أزال طفلا صغیرا وجود مجموعة من أهل العلیاء فی خدمة الإمام فی نزوى آنذاک، منهم: علی بن سلیمان بن عبید الرواحی، وحمد بن سالم بن مسعود الرواحی وولده حمود، وعبدالله بن سیف بن سلیمان من بلدة السیح بوادی محرم، وغیرهم کثیر من أهل عندام ومحرم، وکانوا کلهم یعرفوننی. وإلى جانب هؤلاء کان من بین طلبة الإمام الخلیلی والمترددین على نزوى عدد من قبیلة بنی حسین، منهم: عزیز بن سیف الحسینی الذی ینحدر أصلا من بلدة محلیا بوادی عندام، وهی قریة قریبة من العلیاء. کان عزیز بن سیف من تلامذة الإمام المجدّین فی طلب العلم، مما جعله یقیم فی نزوى فترة طویلة ویتزوج أحد بنات سعود بن علی أمبوسعیدی من سکان منطقة العقر بنزوى. وکان الشخص الآخر الذی یحرص على زیارة الإمام محمد بشکل مستمر ویحضر حلقات العلم سیف بن نصیر الحسینی، وهو من أهل سرور بولایة سمائل. إضافة إلى هؤلاء دأب أهل قبیلتی من بنی حسین من أهل وادی عندام وإزکی وسمائل على التردد بشکل مستمر على نزوى؛ مما جعلنی على تواصل تام مع أهلی وأقاربی وجماعتی رغم بعد المسافة بین العلیاء ونزوى وصعوبة الانتقال مع بساطة وسائل النقل آنذاک.

شکّل عسکر الإمام الحاضنة الاجتماعیة التی انضویتُ تحت مظلتها فی نزوى، وهی حاضنة فی غایة البساطة من جانب، وفی غایة الانضباط والمسؤولیة من جانب آخر. فأغلبیة عسکر الإمام کانوا من رهطه، ولم یکونوا مجرد مستأجرین لحمایته وخدمته؛ مما جعلهم أکثر ولاء له وحرصا على سلامته والطاعة له. کانت المسؤولیات توزع على الأفراد حسب سنهم ومکانتهم. فکان العسکر الأکبر سنا والأکثر مکانة یقومون بالأعمال الأکثر أهمیة کحراسة الإمام، ومرافقته، واستقبال الضیوف، ومتابعة أموال الدولة لا سیما قبض الزکاة والنفقات وغیرها. وکنا نحن الأصغر سنا نقوم بالأعمال الأبسط بما فیها العنایة بخیول ورکاب الدولة وإطعامها وإعلافها وتنفیذ الأوامر الصادرة إلینا ممن هم أکبر منا سنا وأقدم مکانة.

کان جمیع عسکر الإمام یقیمون فی الحصن ما عدا الوالد حمد بن سالم الرواحی وولده حمود؛ فکانا یملکان بیتا ونخیلا فی العقر یقیمان فیه مع أسرهم. ولم یکن مسموح لنا نحن العسکر السکن والإقامة خارج الحصن الذی یوجد به عدد کبیر من الغرف المخصصة لنا، وکنا نقیم فیها الاثنین والثلاثة فی غرفة، حسب مساحة الغرفة واستیعابها. وإلى جانب السکن المجانی، کنا نحصل على الطعام المجانی من الدولة. ولم یکن الطعام مقصورا على العسکر والمقیمین فی الحصن وحدهم، بل یحضر للأکل معنا من شاء وأراد لا سیما الفقراء والمساکین من أهل البلد الذین لا یجدون قوت یومهم. لم یکن هناک بذخ وإسراف فی الطعام، فکنا نتناول وجبة واحدة فی الیوم فی وقت العصر، تتکون غالبا من المرقة والتمر، تجتمع علیها الأیادی، فتتنزل البرکات ببسم الله الرحمن الرحیم، ویذهب الجوع، وترضى الأنفس بما قسم لها بارئُها من قوت یومها، وقدیما قال أحد الشعراء العمانیین واصفا بساطة المأکل فی عصره:

معیشتنـــا خـــــبز لغــــالب قوتنــــا

ومــــــــــــــاء ولیمون وملح وقاشع

فإن حصلت مع صحة الجسم والتقى

فیا حبـــذا هذا بما هو قانــــــــــــــع

والعرف المتبع حینئذ ألا یأکل عسکر الإمام مع ضیوف الدولة الوافدین على الإمام، بل یُنزل هؤلاء الضیوف کلٌّ حسب منزلته ومکانته. ولم یکن الإمام نفسه یشارک العسکر والضیوف الأکل، بل کان یأکل مع أسرته، ولکن لم یکن یتمیز فیما یأکله عما یأکله بقیة أفراد المجتمع لا سیما فی أوقات الأزمات وقلة الأکل، وهذا أمر عهد عن الإمام واشتهر به بین الناس آنذاک.

السکن والأکل ومکافأة مالیة مقابل خدمة الإمام میزات حظی بها عسکر الإمام، ولا ینالها الکثیر من أفراد المجتمع فی ذلک العصر؛ نظرا لقلة فرص العمل وشح موارد الدولة.  فکنت أعطى خمسة قروش شهریا مکافأة مقابل عملی مع عسکر الإمام، وأفراد العسکر الأکبر سنا وأکثر مسؤولیة یحصل الواحد منهم على سبعة قروش. وإلى جانب ذلک یحصل العسکری على إجازة کلما أراد الذهاب إلى بلده لزیارة أهله وإنجاز أعماله الخاصة.  فکان عسکر الإمام یترددون ذهابا وإیابا بین قراهم فی سمائل ووادی محرم والوادی الغربی ووادی عندام وبین نزوى مقر عملهم وعاصمة الإمامة. وکانت الحرکة من وإلى نزوى دائبة، والقوافل تقطع البلاد طولا وعرضا، والوفود لا تتوقف عن زیارة الإمام رغم أن النقل والتنقل کان على ظهور الدواب ویحتاج إلى الأیام والأسابیع. وکان الإمام نفسه یتنقل بین مناطق عمان ومدنها وقراها کلما دعت الحاجة لا سیما لحل المشکلات وتوطید دعائم الدولة ونشر السلام والوئام بین أبناء الشعب. فقد وصل الإمام إلى بدیة وجعلان ونخل فضلا عن سمائل، وبهلا والحمراء ومنح وما جاورها من قرى.

السنوات العشر التی قضیتها عسکریا فی خدمة الإمام محمد بن عبدالله الخلیلی لم تقف فوائدها عند الجانب المادی وکسب لقمة العیش وحسب، وإنما عرفتنی عن کثب بشخص الإمام، وعایشت سیرته وسلوکه مع رعیته، ورأیت تدبیره لدولته، وسمعت من ألسن أتباعه ومعاونیه ورفاقه الثناء الجزیل علیه، فعرفته کریما، سخیا، یجود بماله لأجل وطنه وشعبه، مخلصا لقضیته، یتحمل المسؤولیة بجدارة، ویتفانى فی تنفیذ الأمانة التی حملته إیاها رعیته، صبورا، ومتأنیا فی اتخاذ القرار، مستمعا إلى أصحاب الرأی والمشورة، ولا ینفرد برأیه ولا یفرضه على أحد ما لم تکن هناک قناعة لدى الجمیع بما یقول ویرى.

لم یطلب الإمام محمد بن عبدالله الخلیلی الإمامة ولم یسع إلیها، بل رفضها فی بادئ الأمر عندما عرضت علیه إثر مقتل الإمام سالم بن راشد الخروصی. وعندما رأى الإمام محمد إصرار الناس على مبایعته، وفی مقدمتهم علماء العصر وأهل الحل والعقد وزعماء القبائل وقادة المجتمع، لم یتراجع للوراء، وإنما أجابهم إلى ما دعوه إلیه وشمر عن ساعد الجد وتحمل المسؤولیة. وکان دافعه إلى ذلک طاعة الله سبحانه وتعالى، والعمل بما علم. فقد سأله علماء عصره، عن الحکم الشرعی فیمن وقع اختیار الناس علیه لتقلد الإمامة ولکنه یأبى ویمانع؟! فأجابهم: بأن الحکم أن یقام علیه الحد الشرعی، وهو القتل. فقالوا له: لقد وقع اختیار الناس علیک لتکون إماما، فإما الطاعة وأما إقامة الحد علیک کما حکمت بنفسک، فأجابهم إلى ما طلبوا منه وتقبل مسؤولیة الإمامة وهو لیس راغبا فیها.

 بویع الإمام محمد بالإمامة وهو لا یزال شابا فی مقتبل العمر مقارنة بکثیر من معاصریه من العلماء والزعماء؛ وهذا یثبت أن شروط الإمامة قد انطبقت علیه، ویثبت کذلک رضى الناس عنه ومعرفتهم به حق المعرفة قبل تولیه الإمامة. فهو زعیم فی قومه، وعالم وفقیه، وصاحب فطنة ورأی حکیم. ومن رجاحة رأیه وتأنیه وبعد نظره، عندما وصله فی اللیل وهو فی بلدة العلیاء خبر مقتل الإمام سالم بن راشد الخروصی، رأى بعض الأعیان الذهاب فورا إلى الخضراء، إلا أن الإمام محمد قال لهم: إن مقتل الإمام سالم أمر قد انقضى، ولیس من داع للذهاب فی ظلمة اللیل إلى الخضراء، ویوجد فی مکان الجریمة فی ذلک الوقت من أصحاب الإمام وأتباعه من یستطیع إدارة الموضوع، والبت فیه بحکمة وحسن تدبیر. وفی الیوم التالی، وبعد صلاة الفجر، وتناول الإفطار خرج الإمام محمد بمن معه متوجها إلى الخضراء للمشارکة مع من هنالک من القبائل والأعیان والعلماء فی النظر فی مصیر الإمامة ومستقبل البلد والوقوف فی وجه الفتنة التی أوشکت أن تعصف بالشعب.

إلى جانب علمه، ومکانته الاجتماعیة قبل تولی الإمامة، کان الإمام محمد ثریا ویملک الکثیر من بساتین النخیل لا سیما فی سمائل ووادی محرم التی تدر علیه دخلا کبیرا. فمعاییر الثراء فی ذلک العصر کانت النخیل؛ فثمارها من رطب وتمر هو الغذاء الأساس لأفراد المجتمع، ومن بیع هذه الثمار فی السوق المحلی والتصدیر إلى الخارج یحصل أصحاب النخیل على النقود. ومن المعروف أن المصادر التی تعتمد علیها الدولة فی ذلک العصر کانت محدودة للغایة، وکان الاعتماد بشکل أساس على الزکاة التی یقدمها الأغنیاء من المواطنین ویعود جزء منها إلى میزانیة الدولة. لم تکن الموارد تفی بمتطلبات الدولة، والإنفاق، رغم الترشید، کان یفوق الدخل، والإمام من واقع المسؤولیة کان لا یرد سائلا ولا یمتنع عن تقدیم ما لدیه أو ما یتوفر فی خزانة الدولة من أموال؛ خدمة لمصالح البلد والمواطنین. وعند الحاجة إلى أموال تفوق الموجود فی خزانة الدولة کان الإمام یبیع ممتلکاته الخاصة، لا سیما بساتین النخیل التی ورثها من آبائه وأجداده. فباع الإمام خلال مدة إمامته کل ما یملک من ثروة وأنفقها فی خدمة الدولة وقضاء حوائج الناس وتصدق بها على الفقراء والمساکین من رعیته، ومات وهو لا یملک من متاع الدنیا شیئا.

لم یکن الإمام محمد یتعالى فی أسلوب حیاته ومأکله ومشربه عن بقیة أبناء المجتمع رغم المکانة العلیة التی تبوأها إماما وقائدا، ورغم ما کان یملک من ثروة ومال. فکان یأکل ما یأکل عامة الناس، ویأبى أن یخص نفسه أو أفراد أسرته بمأکل أو ملبس أو راحلة. ومن الأمثلة اللطیفة التی لا أزال أذکرها فی هذا الشأن، أنه عندما خرج الإمام بجیشه إلى ولایة نخل لفرض الأمن فیها وإعادتها إلى طاعة الإمامة بعد أن تمرد بعض الناس فیها وخرجوا عن إرادة عاصمة الإمامة، مر الإمام بتنوف ونزل عند الشیخ سلیمان بن حمیر النبهانی لیستشیره فی المهمة التی هو بصددها ویطلب منه الدعم والاستقامة على العهد. وعندما حان وقت العشاء أرسل الشیخ سلیمان إلى الإمام من یطلب منه أن یأتی لتناول الطعام، فاعتذر الإمام عن تناول العشاء ما لم یکن الجمیع یشارکه الأکل، فکان الإمام یرى أن کل من کان معه فی ذلک الوقت من الجنود والمرافقین لهم الحق فی الأکل، ولیس له حق التمیز عنهم بمأکل أو مشرب. الشیخ سلیمان بن حمیر من جانبه کان کریما وداعما لجهود الإمام وخططه، وتحمل فی أثناء مکوث الإمام فی تنوف جمیع النفقات التی یحتاج إلیها أتباع الإمام بما فیها طعام الخیول والجمال، وأجاب الإمام دعوة الشیخ سلیمان بن حمیر؛ نظرا لأن الأکل معدٌّ للجمیع والدعوة موجهة إلى کل من کان مع الإمام بدون استثناء.

لم یکن الإمام محتجبا عن الناس، بل کنا نراه ونشاهده طول الیوم ما عدا الوقت الذی یکون فیه مع أسرته، والوقت الذی یخلد فیه للنوم. یبدأ یوم الإمام بعد طلوع الشمس فی الصباح الباکر وینتهی بعد صلاة العشاء. وکان یصلی الصلوات الخمس فی غرفة الصلاة بالحصن، خاصة بعدما تقدم به العمر وضعف جسمه وقلّت صحته، ولا یذهب إلى الجامع إلا لصلاة الجمعة، وفی بعض الأحیان یذهب للصلاة فی سعال. وبعد الصلاة الفجر وتلاوة القرآن یحضر الإمام (للبرزة) فی المجلس العام بالحصن. وکانت البرزة من أهم الأنشطة الیومیة للإمام، وهی مخصصة للبت فی القضایا، والاستماع إلى أصحاب الخصومات والنظر فی ادعاءاتهم، وقراءة الرسائل التی ترد إلى الإمام والرد علیها، وما شابهها من الأعمال والمهام. وکانت البرزة مفتوحة لمن شاء أن یحضر من اهل الحل والعقد، والعلماء، وطلبة العلم، والجمهور. تستمر البرزة الصباحیة إلى الظهر، فیذهب الإمام للصلاة، وبعدها للغداء مع أسرته، ثم القیلولة والراحة. وبعد صلاة العصر یبرز الإمام مرة أخرى حتى صلاة المغرب، ویقضی الوقت بین المغرب والعشاء مع طلبته فی غرفة الصلاة فی تدارس الفقه وغیره من العلوم الشرعیة واللغویة، وقراءة الکتب ومناقشة المسائل العلمیة.

اهتم الإمام بطلبة العلم الذین جاءوا إلى نزوى من أماکن مختلفة من عمان. وکان یدرس لدى الإمام ما لا یقل عن ثلاثین طالبا، وهو عدد کبیر بمقاییس ذلک الزمن. وکان أولئک الطلبة هم الصفوة، فقد أصبحوا هم القضاة والفقهاء والأدباء والمؤلفون فی عمان، ومنهم الشیخ محمد بن شامس البطاشی وخالد بن مهنا البطاشی من أهل قریات والشیخ حمد بن عبدالله البوسعیدی من شریعة سمد. ویدرس الطلبة النحو وعلوم العربیة فی مدرسة النحو فی سعال. وکان الطلبة المتقدمون فی العلم یقرأون الکتب للإمام سواء فی البرزة أو فی غرفة الصلاة.

   أدار الإمام شؤون الدولة بحکمة وسیاسة، وتمکن بذلک الأسلوب من اجتذاب قبائل عمان وزعمائها، والتقریب بینهم، ودرء الفتن القبلیة، ونشر الوئام والتعایش بین أطیاف المجتمع. وکان الإمام یستمع إلى الآراء، ویعطی أصحاب الأفکار الفرصة للتعبیر عن أفکارهم بدون اعتراض. فعندما انتقد الشیخ عیسى بن صالح الحارثی والشیخ سلیمان البارونی الطریقة التی یدیر بها الإمام أموال الدولة عرض الإمام على الشیخ الحارثی أن یولیه مسؤولیة أموال الدولة؛ لیطبق ما لدیه من أفکار وخطط فی هذا الشأن، إلا أن الشیخ الحارثی اعتذر عن تحمل هذا العبء.      

ولم یکن الإمام یستأثر باتخاذ القرار، ولا یعارض القرارات التی یجمع علیها أهل المشورة والرأی، بل یجعلها تأخذ مجراها الطبیعی فی التطبیق، فإذا أثبتت عدم صلاحیتها للتطبیق تصبح ملغیة بنفسها. فقد اقترح البعض لتقلیص المصروفات عدم تقدیم القهوة للضیوف، وإنما تقدیم (العوال) والتمر. وافق الإمام على المقترح من حیث المبدأ، وفعلا تم تطبیقه، إلى أن جاء فی أحد الأیام الشیخ یاسر بن حمود الجنیبی مع مجموعة من أفراد قبیلته ضیفا على الإمام- ونزل فی الغرفة القریبة من القلعة التی یستریح فیها الإمام عندما یعود من صلاة الجمعة- فاعترض على هذا الإجراء بتکریم الضیوف بالعوال، وقدم البرهان أن القهوة أقل کلفة وأکثر وجاهة لإکرام الضیوف، لا سیما عند استقبال الوفود الکبیرة، فتم العدول عن الفکرة الجدیدة والعودة إلى تقدیم القهوة للضیوف.

وفی موقف آخر، اقترح البعض منع النساء من دخول السوق تجنبا للاختلاط ومنعا للحرج، وعلقت لوحة على باب السوق تنص على منع النساء من دخوله. إلا أن الواقع أثبت أن هذا القرار لم یکن عملیا، ولا یمکن منع النساء لأسباب کثیرة من ارتیاد الأسواق، فمن سیتکفل بشراء الحاجات التی تحتاجها الأسرة التی لیس لدیها رجل إذا منعت المرأة من ذلک. ثم إن طبیعة المجتمع العمانی المحافظ والمتراحم والمترابط تدفعه إلى عدم الإساءة للمرأة لا سیما فی ذلک العصر الذی یتسم بانتشار الفضیلة والتسمک بالآداب العامة.

أفنى الإمام محمد بن عبدالله الخلیلی عمره فی خدمة الدولة التی کان یقف على رأسها، رغم تقدمه فی العمر وإصابته بالأمراض. وعندما توفی، رحمه الله، کنت أنا أقضی إجازتی الاعتیادیة فی العلیاء، فوصل إلینا الخبر الحزین وکنت حینها فی بلدة الوشل لبعض الأمر. وفی الوقت نفسه، وصل الخبر بتنصیب الإمام غالب بن علی الهنائی إماما جدیدا لعمان، وهی خطوة رأى الأعیان والزعماء المجتمعون فی نزوى لا بد منها لتجمیع شمل القبائل وتوحید کلمة المجتمع. وقبل موت الإمام طرحت أسماء أکثر من شخصیة وطلب من الإمام تزکیتها. لم یکن الإمام مع فکرة تنصیب أحد من أفراد عائلته إماما جدیدا؛ فهو یرى أن أسرة آل الخلیل قد قدمت ما لدیها وقامت بواجبها فی خدمة عمان، وحان الوقت لإسناد مهمة الإمامة إلى شخص آخر ومن قبیلة أخرى. کذلک لم یکن الإمام مع فکرة إسناد مهمة الإمامة إلى شخص لا یستند إلى ظهیر قبلی قوی؛ فالمجتمع القبلی الفاعل والمؤثر الذی تتکون منه عمان حینئذ یحتاج على قمة هرمه قائدا مسنودا بقوة من قبیلة قویة، وأن لا یکتفی بالحمایة التی یوفرها له عسکر الإمام الذی یتکون أساسا من خلیط من القبائل.

   بعد وفاة الإمام محمد، رحمه الله، لم أعد للعمل فی خدمة الإمام الجدید، لکن علاقتی بنزوى لم تتوقف؛ فنزوى عاصمة الإمامة، ومرکز تجاری کبیر لا غنى لأحد من سکان المنطقة عنه. ومن جانب آخر، استمرت علاقتی بشیوخ آل الخلیل؛ نظرا للمرجعیة القبلیة لسکان وادی عندام إلیهم، وکذلک للعلاقة الممیزة التی ربطتنی بهم فی أثناء خدمتی مع الإمام محمد الخلیلی. فکان الإمام محمد محفوفا بعنایة أبناء أخیه: عبدالله وسعود وهلال أبناء علی بن عبدالله. وکان الشیخ سعود بن علی مقیما بشکل دائم مع الإمام محمد فی نزوى، وأما الشیخ عبدالله بن علی فکان مقیما فی سمائل، فی حین أن الشیخ هلال بن علی کان مقیما فی بوشر. وقف شیوخ آل الخلیل مع الإمام الجدید وساندوا الإمامة، وکنت مشارکا معهم فی الأحداث التی تلت تنصیب الإمام غالب، وتبنیت توجهاتهم السیاسیة وقراراتهم المصیریة. تبنى شیوخ آل الخلیل موقفا تقاربیا بین موقف السلطان سعید بن تیمور الذی سعى إلى إسقاط الإمامة وإعادة المناطق التابعة لها إلى سلطة مسقط، وبین موقف الإمام غالب بن علی الهنائی وأنصاره الذین رأوا الحفاظ على نظام الإمامة قائما. رفض الشیخ عبدالله بن علی الخلیلی المشارکة فی أی عمل مسلح ضد أنصار الإمامة المعتصمین بالجبل الأخضر؛ فلا تسیل دماء الوطن الواحد بخناجر بعضهم بعضا، ولا تزهق أرواحهم بسلاحهم، وأقره السلطان سعید بن تیمور على ذلک الموقف الحکیم وأثنى علیه. وبعد سقوط الإمامة وتوحید عمان تحت قیادة سیاسیة واحدة آزر شیوخ آل الخلیل الوضع القائم ووقفوا فی صف النظام السیاسی الجدید وأقاموا علاقات حمیدة مع السلطان سعید بن تیمور.

استمرت علاقتی الحسنة بشیوخ آل الخلیل وسیرتی الحمیدة معهم، مثلما کانت عندما کنت أعمل بصحبتهم فی خدمة عمهم الإمام الخلیلی، رحمه الله. وعندما عدت فی عام 1971م من العمل فی المملکة العربیة السعودیة، أرسل إلیَّ الشیخُ هلال بن علی الخلیلی رسالة شفویة مع سلیمان بن سیف بن سلیمان الرواحی، أخی القاضی محمد بن سیف الرواحی، فقال لی: «یسلم علیک الشیخ هلال، ویریدک أن تذهب الیوم للقائه فی بوشر، والسیارة التی تقلک إلى هناک موجودة»، فاستغربت من الأمر، وقلت له: «وکیف عرف الشیخ هلال بهذه السرعة بعودتی من السفر؟». قال لی: «أنا أخبرته، وهو یرید وصولک عنده عاجلا». وعندما التقیت بالشیخ هلال فی بوشر طلب منی أن التحق بابنه الشیخ أحمد بن هلال فی مرباط بظفار الذی کان ینفذ الأوامر الصادرة من صاحب الجلالة السلطان قابوس، حفظه الله ورعاه، بتشکیل حامیة مهمتها الدفاع عن المدینة ضد هجمات الثوار. وأکد لی الشیخ هلال أن ابنه أحمد لدیه عدد کافٍ من الرجال، وإنما یرید منی الانضمام إلیه؛ لثقته بی ومعرفته بإخلاصی وکفاءتی. وفی صباح ذلک الیوم وبعد صلاة الفجر مباشرة رکبت الطائرة من مطار بیت الفلج متوجها إلى ظفار، وبعد أن تم فرزنا فی عوقد بصلالة إلى مجموعات، ووجهت کل مجموعة إلى وجهتها المناسبة، التحقت أنا بالحامیة المرابطة بمدینة مرباط، وقدمت الخدمة العسکریة؛ دفاعا عن عمان، وتنفیذا لأوامر حضرة صاحب الجلالة الذی غیّر وجه عمان، ووحّد شعبها، وألغى کل أشکال النعرات القبلیة، وأصبح العمانیون تحت قیادته مجتمعا واحدا متراحما یعیش بسلام وینعم بالألفة والوحدة ومعطیات العصر وخیرات بلده.

   أجریت اللقاء بمنزل الوالد موسى بن علی الحسینی فی بلدة العلیاء، نیابة سمد، ولایة المضیبی یوم الأحد 27 محرم 1440هـ الموافق 7 أکتوبر 2018م، وقرأت علیه النص یوم الأحد 12 صفر 1440هـ الموافق 21 أکتوبر 2018م لأخذ موافقته النهائیة على نشره.