لقاء مع الشیخ محمد بن حمد بن عبد الله البوسعیدي عن سیرة والده الشیخ الجلیل حمد بن عبد الله بن حمد البوسعیدي أحد طلبة الإمام محمد بن عبد الله الخلیلي
الباحث المراسل | سعید بن ناصر بن حمید الراشدی |
من هو الشیخ حمد بن عبد اللهبن حمد البوسعیدی؟
حمد بن عبد الله بن حمد بن سیف بن سعید بن راشد بن خمیس بن عیسى بن أحمد. فخمیس بن عیسى هو والی الإمام أحمد بن سعید، وذکره الشیخ سیف بن حمود البطاشی فی سیرة الإمام أحمد بن سعید، ونسب الوالد حمد بن عبد الله إلیه، قال: (ومن أحفاده الشیخ حمد بن عبد الله)، ونحتفظ بوثیقة، وهی رسالة من الإمام أحمد بن سعید إلى جدنا خمیس بن عیسى، وتوجد من هذه الوثیقة صورة فی کتاب الشیخ سیف بن حمود البطاشی المسمى (الطالع السعید فی سیرة الإمام أحمد بن سعید)، وحمد بن سیف بن سعید کان زمیل الشیخ نور الدین السالمی ورفیقه، وعاشا معا فی المضیبی؛ فلم یعش حمد بن سیف حیاته فی الشریعة بسمد الشأن، وإنما عاش فی المضیبی، وتربطه بالشیخ السالمی علاقة أسریة؛ فجدنا حمد بن سیف تزوج من أولاد رشید، أما جدنا عبد الله بن حمد فتزوج من الجوابر أم سعید بن حمد، جد سعید بن محمد؛ لذا فأم جدنا عبد الله بن حمد وأم الشیخ محمد الشیبة بن الشیخ عبد الله بن حمید السالمی أخوات. وکان حمد بن سیف عالما فاضلا زاهدا، وقد أثنى علیه الشیخ السالمی والشیخ عیسى بن صالح الحارثی وأبوه الشیخ صالح بن علی الحارثی، فقد قال عنه الشیخ صالح بن علی: «هذا الرجل أطهر إنسان على وجه الأرض». وتوفی حمد بن سیف، وهو فی سن الشباب، فی مدینة بومبای بالهند فی أثناء ذهابه لأداء مناسک الحج؛ فقد کان سفره عن طریق البحر یمر بمدینة بومبای الهندیة، وفیها أصیب بالجدری وتوفی هناک قبل أن یکمل مناسک الحج، وقد رثاه الشیخ نور الدین السالمی.
درس الشیخ حمد بن عبد الله البوسعیدی فی مدرسة الإمام الخلیلی ثمانی عشرة سنة، وقد عمل وکیلا لبیت المال والأوقاف والمساجد فی نزوى، وکان ذلک فی سنة (1367هـ/ 1948م)، وبعد وفاة عمه محمد بن خلفان أمر الإمام الخلیلی الشیخ حمد أن یکون وکیلا فی بیت المال بدلا من عمه. وبعدها عین قاضیا بسمد الشأن سنة (1368هـ/ 1949م). وفی عام (1369 هـ / 1950م) عینه الإمام محمد قاضیا بمنح وکلفه کذلک بالإشراف على بیت المال والأوقاف والمساجد، وبقی فی هذا المنصب حتى عام ( 1373هـ / 1953 م) وهو العام الذی توفی فیه الإمام الخلیلی. ووکالة بیت المال فی زمن الإمام الخلیلی لم یکن أمرا سهلا؛ لأن دخل الدولة بشکل أساس کان من بیت المال. وعمل الشیخ حمد قاضیا بمحکمة الاستئناف فی محافظة مسقط وکانت المحکمة الوحیدة فی السلطنة آنذاک.
وتوجد بین الإمام محمد بن عبد الله الخلیلی والشیخ حمد بن عبد الله البوسعیدی مراسلات مکتوبة، لا سیما عندما عینه الإمام جابیا للزکاة فی منح. یقول والدی الشیخ حمد: کان الإمام یرسل إلی أحد رجاله على خیل ومعه (بروة) کتب لی فیها «ارسل إلیّ مئتی قرش أو مئة قرش أو ثلاثمائة قرش»، فأرسل له ما یطلبه من منح، وفی نهایة السنة احسب الداخل والخارج ومصروف الوالی والقاضی والعاملین فی منح، وقد ذهبت إلى الامام فی نزوى للمحاسبة فأمرنی الإمام الذهاب إلى اللجنة المکلفة بمحاسبة الوکلاء، فحاسبونی على الداخل والخارج من بیت المال والأوقاف والزکوات فی منح، وتمت المحاسبة فی الدخل والمصاریف، وبعد ذلک عرضت علیهم (البراوی) التی أرسلها إلی الإمام، فرفضوا المحاسبة علیها، قائلین: «لا علم لنا بها»، فقلت لهم: «انتم لم تعینونی، الإمام هو من عیننی وذهب المال إلیه». ولا نزال محتفظین (بدفتر) کتب فیه الإمام بنفسه: «الإمام: حاسب حمد بن عبد الله بن حمد البوسعیدی عن داخل وخارج بیت المال وبقی علیه ستون قرشا»، ثم کتب والدی: «استقرضت من أحد تجار نزوى، ودفعت لهم ما بقی علیّ» وکتب الإمام تحت ذلک: «وقد دفع المبلغ ولا شیء علیه حق. بخط الإمام بنفسه». وخط الإمام مکتوب بالحبر الأسود. ویحتوی الدفتر کذلک على کتابات بخط الشیخ منصور بن ناصر الفارسی؛ فالشیخ منصور، یقال، أنه کان ینوب عن الإمام لما یذهب الإمام إلى مکان ما خارج نزوى، بل إن أکثر الحسابات التی وجدناها فی الکتاب المذکور یتکفل بها الشیخ منصور سواء کان فی نزوى أو فی منح. ولد الشیخ حمد بن عبد الله البوسعیدی فی بلدة الشریعة، بنیابة سمد الشأن، سنة (1335 هـ / 1917م)، وکانت وفاته ظهر 10 محرم سنة 1414هـ الموافق له 30 یونیو 1993 هـ.
متى التحق الشیخ حمد بمدرسة الإمام؟
التحق الوالد حمد بن عبد الله البوسعیدی بمدرسة الإمام الخلیلی بعد وفاة أبیه وعمره آنذاک حوالی عشر سنوات، أی فی سنة 1345هـ - کما أخبرنی والدی- وکان عمه محمد بن خلفان موجودا فی نزوى فی ذلک الوقت. وذهب معه إلى نزوى أخوه أحمد وابن عمه سیف بن سعید بن حمد بن سیف، فالتحقوا بمدرسة الإمام فی نزوى، إلا أن ابن عمه مرض فعاد إلى الشریعة وتوفی فیها. وبعد ذلک توفی أخوه وعمره - کما قیل لی- ثلاث عشرة سنة. إثر ذلک عاد والدی من نزوى وبقی هنا فی الشریعة بعد وفاة أخیه وابن عمه، لکنه رجع مرة ثانیة إلى نزوى.
تقسیم وقت الدراسة فی نزوى:
أخبرنی والدی أن دراستهم فی نزوى مقسمة على النحو التالی: بعد صلاة الفجر یجلسون مع الإمام فی مصلاه لقراءة القرآن، بعد ذلک تبدأ الدراسة الصباحیة فی جامع نزوى، فیدرسون کتب اللغة والنحو وغیرها على ید الشیخ حامد بن ناصر الشکیلی - وهو رجل ضریر- فأتقنوا على یدی الشیخ حامد العربیة - أی کتب النحو- ومن الکتب التی درسوها، اعتقد، ملحة الإعراب وألفیة ابن مالک. وبعد أن انتهوا من دراسة اللغة العربیة مع الشیخ حامد انتقلوا إلى مدرسة الشیخ عبد الله بن عامر العزری، وهو رجل من بلدة الخشبة بولایة المضیبی ولا یزال أولاده وأحفاده موجودین فی نزوى. فدرسوا على ید الشیخ عبد الله بن عامر الفقه، وعلوم العقیدة، وعلوم المیراث ونحوه.
وبعد الظهر یرجع الطلبة إلى البیت ویبقون فیه إلى ما بعد العصر، ثم یذهبون للجلوس فی برزة الإمام الخلیلی؛ فکان الإمام الخلیلی یبرز برزتین: الأولى قبل الظهر وهی البرزة الرسمیة، والثانیة بعد العصر إلى الغروب ویحضرها الطلبة کمستمعین؛ یتعرفون على ما یدور فی البرزة من أعمال ویستمعون إلى ما یصدر فیها من أحکام. وبعد صلاة المغرب یلتحق الطلبة بحلقة الدراسة التی ینظمها الإمام فی (غرفة الصلاة) بحصن نزوى، وهی غرفة یصلی فیها الإمام ویحضر معه جمیع الطلبة، وتستمر هذه الحلقة إلى صلاة العشاء، وبعد ذلک یستمر الطلبة فی مذاکرة دروسهم، یقول والدی: نبات نقرأ طول اللیل. واستمرت دراستهم حوالی ثمانی عشرة سنة.
من هم الطلبة وکم عددهم؟
لم یذکر لی والدی عدد الطلبة، ولکن من زملائه الذین درسوا معه: الشیخ ناصر بن حمید الراشدی، والشیخ حمود بن عبد الله الراشدی، والشیخ خالد بن مهنا البطاشی، والسید حمد بن سیف البوسعیدی، والشیخ ناصر بن راشد المحروقی، والشیخ سلیمان بن راشد الجهضمی، والشیخ جابر بن علی المسکری، وهو الوحید الباقی من هؤلاء الطلبة [توفاه الله بعد إجراء هذه المقابلة]، والشیخ سیف بن راشد المعولی کان من ضمنهم؛ لکنه أکبر عنهم. وأما طلبة العلم الذین سبقوهم فهم الشیخ محمد بن شامس البطاشی، والوالد الشیخ أحمد بن ناصر البوسعیدی، والشیخ سعود بن سلیمان الکندی، والشیخ سیف بن راشد المعولی. ویکاد یکون هؤلاء هم القضاة الموجودون بعمان قبل أن یبدأ (معهد القضاة- سابقا) بتخریج القضاة، فکلهم تخرجوا من مدرسة الإمام الخلیلی.
الإمام یعرف طلبته :
الإمام یعرف طلبته بالاسم، وقلیل منهم من لا یعرف اسمه. فقد أخبرنی العم محمد بن سعید نقلا عن عمنا الشیخ محمد بن خلفان أنه قال: أصبحت حلقة قراءة القرآن التی یحضرها الإمام بعد صلاة الفجر کبیرة، بحیث یتاح للواحد منا أن یقرأ صفحة واحدة فقط ولا یرجع له الدور بالقراءة مرة أخرى، وفی أحد الأیام لم أحضر حلقة القرآن بل جلست للقراءة فی بیتی، وفقدنی الإمام، فلما حضرت مجلسه، سألنی الإمام: أین کنت؟ قلت له: جلست اقرأ فی بیتی، فقال لی: إن الجلوس والقراءة معنا أفضل من أن تقرأ فی بیتک، حتى لو کنت تقرأ مرة واحدة؛ لکنک تسمع القارئ الثانی ولو أخطأ فترد علیه.
الإمام معلما ومربیا:
الإمام الخلیلی لیس معلما فقط، بل معلما ومؤدبا؛ فهو یعلم طلبته العلوم والآداب وحسن الکلام، فإذا أخطأ أحدهم أرشده ووجهه. فسمعت ذات مرة الشیخ حمود بن عبد الله یقول: إنه تحدث بکلام فی حضرة الإمام فرد علیه الإمام مصححا. وکان أبی والشیخ خالد بن مهنا البطاشی - وهم زملاء فی الدراسة - یذهبون للقراءة فی مسجد (الشیخ) فی (العقر) جنوب قلعة نزوى، وهو باقی إلى الآن، وذلک لأن وسائل الإنارة غیر منتشرة، وکان سراج المسجد هو الوسیلة الوحیدة المتوفر لمن أراد القراءة لیلا، وکانوا یقرأون بصوت عال فتأذت من ارتفاع صوتهم المرأة التی تسکن بجوار المسجد، فجدار بیتها ملاصق للمسجد، وفی الیوم الثانی جاءت بأناس یرقصون ویطبلون لکی یتأذى منهم والدی والشیخ البطاشی ویترکوا المسجد، فضربها أبی والشیخ خالد بالعصى (الباکورة) أربع أو خمس ضربات، فشکتهم إلى الإمام، فأمرهم أن لا یرفعوا صوتهم بالقراءة وأن لا تعود هی إلى إزعاجهم بالرقص والتطبیل، وتبلغ أمرهم إلى الإمام إن قرأوا بصوت عال مرة أخرى.
معیشة الطلبة ونفقاتهم:
تزامن وجود الشیخ حمد فی نزوى طالبا للعلم مع الحرب العالمیة الثانیة؛ لذلک کان الطلبة، والناس بشکل عام على مضض من العیش. یقول والدی: یؤتى بعد العصر بوجبة طعام یأکل منها الجمیع: الضیوف والطلبة وغیرهم من الموجودین مع الإمام. وذکر لی الشیخ حمود بن عبد الله الراشدی یقول: إن الأرز فی تلک الفترة غیر متوفر بسبب الحرب؛ فکان أکثر شیء نأکله الخبز وما یتوفر معه من اللحم أو السمک أو العوال وغیره. ویقال: إن الإمام هو من یقسم الأکل على الموجودین من عسکر وطلبة، وأما إذا حضر الضیوف فیدخلون الحصن ویقدم لهم أکل آخر یلیق بمکانتهم، فی حین یأکل العسکر والطلبة وغیرهم ما تقدم ذکره من طعام. فهذه هی الوجبة الرئیسة التی تقدم لهم یومیا بعد العصر وقبل الغروب، وهی بمثابة غداء وعشاء. وفی بعض الأحیان یحتاج الطلبة إلى أکل إضافی، فیطلبوا من الإمام، فیأمر أن یعطوا شیئا من التمر. فأخبرنی والدی أنه لم یکن معهم تمر فاقترح علیه الشیخ خالد بن مهنا أن یکلم الإمام فی أن یعطیهم تمرا، فقال للإمام: إن الطلبة یقولون لیس لدیهم تمر. فقال الإمام لمن معه: أعطوهم. حیث إن التمر کان یجمع فی الحصن لاستهلاک العاملین والطلبة. ویقول الشیخ خالد بن مهنا: ومن الجوع الذی کان فینا صرت أمشی وآکل من التمر الذی کان معی حتى وصلت البیت. وأخبرنی والدی أن فراشهم کان سعف النخیل ولا یوجد لحاف. ویقول کذلک: کنا ننام متأخرین وخصوصا فی الفترات الأخیرة. وکان أکثر نومهم فی المساجد؛ لأنهم یقرؤون فی المساجد حتى یقرب الفجر.
وقد أخبرنی والدی، یقول فی عید الفطر یأکلون مع الإمام قبل الصلاة، ثم یذهب الإمام ومن معه مشیا من الحصن إلى مصلى العید الواقع عند فلج (الغنتق)- وهو موجود إلى الآن - وبعد الصلاة یعود الإمام إلى الحصن لتبدأ (البرزة) ویأتی إلیه الناس. وفی عید الفطر لا یرضى الإمام التکلف؛ فلا تذبح الذبائح، بل إن الشیخ عیسى بن صالح بن علی الحارثی فی الشرقیة، منع ذبح الذبائح بمناسبة عید الفطر، ویکتفی الإمام بالغداء العادی. وفی عید الأضحى لا یأکل الإمام قبل صلاة العید، إذ یخرج بعد صلاة الفجر وقبل شروق الشمس هو ومن معه إلى المصلى فیصلون صلاة العید، وبعد العودة من الصلاة یؤتى إلیه بالأضحیة، فیقرأ علیها الدعاء ویمسح علیها، وتذبح ویجهز الأکل ویأکلون عند الظهر.
العوامل التی جعلت الإمام الخلیلی یهتم بطلبة العلم:
من أهم العوامل هی طول مدة إمامة الإمام الخلیلی واستتباب الأمن والاستقرار الذی شهدته هذه الإمامة مقارنة بإمامة الإمام سالم بن راشد مثلا. فقد کانت إمامة الإمام سالم بن راشد قصیرة وهی ست أو ثمانی سنوات، حیث إن الإمام سالم قتل سنة (1338هـ)، ولأن الإمام الخلیلی جاء من بعده إلى سنة (1373هـ) وهی مدة طویلة أی حوالی (34 سنة). ومن ضمن الذین أدرکوا الإمام سالم الشیخ أحمد بن ناصر بن منصور البوسعیدی، أما آباؤنا لم یدرکوه وإنما أدرکوا الإمام الخلیلی فقط. وإمامة الإمام الخلیلی کانت مستقرة نتیجة الاتفاقیات التی وقعت بینه وبین السلطان، والتعاون فیما بین الجانبین، واتحاد الکلمة فی ألا یأتی عدو من خارج البلد. فالإمام الخلیلی وبمؤازرة الذین کانوا معه فی الداخل جعل الأمن مستتبا، وهو قائم بالعدل، وکذلک کان السلطان. والقضاة والولاة الذین کانوا مع السلطان سعید بن تیمور هم من تلامیذ الإمام الخلیلی. حیث سمعت لقاء مع الشیخ مهنا بن خلفان الخروصی یقول: إن والده کان وکیلا فی بیت المال مثل جدنا محمد بن خلفان ووالدنا، وبعد ذلک طلبه السلطان سعید بن تیمور لیکون قاضیا ووالیا له فی السیب، فاستأذن الإمام فی هذا، فقال له الإمام: اذهب؛ لأنه یجب التعاون فیما بیننا، فذهب واشتغل وأصبح والیا وقاضیا فی ولایة السیب تابعا للسلطان سعید بن تیمور. فمن أجل هذا استتب الأمن حیث إن المناطق الساحلیة کانت تحت سیطرة السلطان والمناطق الداخلیة تحت سیطرة الإمام الخلیلی. ومن أوجه هذا التعاون والتفاهم کان الإمام الخلیلی فی الداخل وأخوه علی بن عبد الله الخلیلی مع السلطان، وکان یسکن فی الغبرة ببوشر.
وبناء على ما سبق، کانت هناک مدرستان؛ الاولى مدرسة الإمام السالمی، وتخرج منها أناس کثر منهم: الإمام محمد بن عبد الله الخلیلی، والإمام سالم بن راشد، وأبو زید الریامی، والشیخ محمد بن سالم الرقیشی، والشیخ إبراهیم بن سعید العبری، والشیخ عبد الله بن عامر النوفلی (أبو الخیر). ومن مدرسة الإمام السالمی انبثقت مدرسة الإمام الخلیلی وأصبح الجیل الثانی من العلماء فی عمان من طلبة مدرسة الإمام الخلیلی. وحتى بعد وفاة الإمام الخلیلی استمر تلامذة مدرسة الإمام الخلیلی فی تعلیم العلم فی نزوى، فقد تخرج من مدرسة الإمام الخلیلی الکثیر من العلماء مثل: الشیخ زاهر العثمانی وکان قاضیا فی نزوى، والشیخ سعود بن أحمد الإسحاقی، حیث أصبح مدرسا فیما بعد، وغیرهم من العلماء الذین أصبح منهم مدرسون فی جامع نزوى الذی استمر التدریس فیه فی زمن السلطان سعید بن تیمور.
مصادر تمویل الطلبة:
کان دخل دولة الإمامة فی عهد الإمام الخلیلی کله من المداخیل الخاصة، ولیس معهم موردا خارجیا. وکان بیت المال الموجود فی نزوى وبهلا وفی جمیع الأماکن الأخرى هو المصدر الرئیس للدخل، إلى جانب الزکوات، مثل زکاة الثمار والإبل والنقود التی یصرفها الناس. وبسبب الاهتمام ببیت المال صار فی نزوى بیت مال کبیر. ویعود الاهتمام ببیت المال الذی ینفق منه على طلبة العلم إلى عهد الیعاربة. فقد أوقف الإمام سیف بن سلطان – قید الأرض – سبعین أثر ماء من فلج دارس (تقعد) لمصروفات المتعلمین، وهذا الماء باق إلى الآن، واستمر صرفه على المتعلمین جیلا بعد جیل من حیث إعاشتهم، وإذا لزم الأمر، لشراء الکتب وغیرها من شؤون الطلبة. وإلى جانب هذه السبعین أثرا من فلج دارس توجد کذلک مواقیف أخرى فی نزوى تصرف على طلبة العلم، إلى جانب ما یتبرع به أهل الخیر فی هذا الشأن.
وصرف الإمام الخلیلی أمواله الخاصة فی خدمة الدولة وطلبة العلم؛ فکان الإمام، کما أخبرت، غنیا؛ فوالده عبد الله وعمه أحمد بن سعید کانا عالمان وعلمان، وکان أحمد عالما بلیغا أعلم من عبد الله بن سعید أبو الإمام، لکن أحمد بن سعید کان مبتلى بالصرع ولم یخلّف أحدا، وبعد أن توفی ورثه أخوه عبد الله أبو الإمام محمد. وأختهم شمسة بنت سعید زوج الإمام عزان بن قیس، حیث رفضت الزواج بعد مقتل الإمام عزان فساهمت بثروتها فی دعم ابن أخیها الإمام محمد. وکانت تشتری من الإمام محمد أمواله العینیة، کلما أراد أن یبیع لدعم میزانیة الدولة، وعندما توفیت عمته ولم یکن من یرثها غیر الإمام محمد بن عبد الله، باع الإمام الأموال التی ورثها منها مرة أخرى. ویقال إنه عندما توفی لم یکن معه شیء من الأموال التی آلت إلیه بالوراثة. وقد بین الإمام سبب إنفاقه أمواله بذلک الشکل؛ إذ أنه أراد إنفاقها فی سبیل الله ولتقویة دعائم الدولة آنذاک.
عاش الإمام حیاة عادیة فی حصن نزوى، ولیس فی القلعة؛ فالقلعة کانت للسجون. وکان بیت الإمام فی أعلى الحصن، وبه غرفة خاصة لاستراحة الإمام، وتسمى إلى الآن (غرفة الإمام). وحصن نزوى یتکون من طابقین: الطابق الاول للمخازن والسجون والعسکر، والطابق الثانی للسکن، وبه غرفة للإمام وغرفة للصلاة یبرز فیها الإمام للناس، وبه غرفة أخرى خارجة، قیل لی، هی لبرزة العصر، وموقعها شرق القلعة. وعائلة الإمام تعیش معه فی الحصن فلهم غرف أخرى فی الطابق الثانی.
لباس الإمام وطلبته:
کان الإمام یلبس اللباس نفسه الذی یلبسه المشایخ، ویلبس العمامة البیضاء نفسها التی یلبسها العلماء العمانیون. وهذه العمامة التی یلبسها الملوک لم تکن من زمن الإمام أحمد بن سعید، بل بدأ لبسها فی عهد السلطان برغش بن سعید أو السلطان سعید بن سلطان فی زنجبار، وأصبحت بعد ذلک العمامة الخاصة بهم، وأما خلاف ذلک فکانت العمائم کلها بیضاء سواء للإمام أو للعلماء أو عامة الناس. وقد أخبرنی الوالد أن هذه المصار کانت قلیلة فی عهده. وکان أکثر طلبة الإمام یلبسون الدشداشة والعمامة، فالوالد أیام الدراسة کان یلبس عمامة مثل الکثیر من الطلاب.
حرس الإمام:
وکان حراس الإمام هم من یلبسون المصر، وخلاف ذلک، یلبسون اللباس العادی الذی یلبسه الناس ولا یتمیزون عنهم بشیء، إلا أنه لا بد من المحزم والخنجر و(التفق)، وکانوا یلبسون المصار العادیة ولیس العمائم. وقد استمر لبس المصر والعمائم فی زمن السلطان قابوس، فکان الموظفون یلبسون المصر الأبیض العادی، فی حین طلبة العلوم الشرعیة والقضاة والعلماء أکثرهم یلبسون العمامة والدشداشة البیضاء.
وقد أخبرنی والدی، أنه کان لدى الإمام (150) عسکریا، إلى جانب خدمته أمنیا وسلامته الشخصیة، فدورهم شبیه بدور الحرس الخاص لجلالة السلطان. وهؤلاء العسکر من جماعته: بنی رواحة، سکان وادی بنی رواحة ووادی محرم ووادی عندام، ومن ضمنهم خمیس بن سعید الرواحی- وهو متوفى. وإلى جانب کونهم مطیعین للإمام؛ یتسم هؤلاء العسکر بالشجاعة، وکان من بینهم حارس یسمى (مبروک) وهو مضرب المثل فی الشجاعة. وکان للإمام خیل وجمال یستعملها عندما یتنقل من مکان إلى آخر فی عمان، فقد ذهب الإمام إلى جعلان. کما کان للإمام أیضا والأئمة السابقین جیوشهم من القبائل العمانیة.
یقوم عسکر الإمام بتنفیذ کل أوامره، بما فی ذلک تنفیذ أحکام الإعدام على من وجب علیه القصاص. وحسب ما أخبرنی والدی، فقد خصص مکان فی وادی کلبوه لإقامة حد القتل، وهو یقع بالقرب من دوار الکتاب شمال السوق، حیث کان هناک برج وجدار، فیطلق العسکر الرصاص ولا یستعملون السیف فی تنفیذ حکم الإعدام. وأما رجم الزانی، فیتم فی حفرة تقع أمام باب جامع نزوى المخصص لخروج الإمام فی الجهة الجنوبیة الغربیة، وقد رأیت هذا الباب قبل إعادة بناء هذا الجامع فی عهد السلطان قابوس بن سعید. فیوضع الزانی المحصن فی تلک الحفرة. وفی الشرع إذا کان هناک شهود فهم من یبدأ فی رجم الزانی بالحصى، وأما إذا اعترف الزانی بفعلته أمام الإمام فإن الإمام هو أول من یقوم برمی الحصى، ثم یرمی الناس وراءه حتى یموت الزانی أو الزانیة، وبعدها یتم إخراجه ویغسل ویدفن. وأما جلد الزانی البکر فکان یتم أمام باب الحصن على أعین الناس. وکان طلاب العلم لا یسمح لهم بحضور القصاص.
ویحبس المجرمون فی سجون قلعة نزوى؛ إذ ینزلهم العسکر بحبل فی تلک السجون وهم مقیدون، وکذلک ینزّل إلیهم الأکل والشراب بالحبال، ولا تزال هذه السجون موجودة إلى الآن فی قلعة نزوى. وهنا فی سمد الشأن کان الوالی یسجن المجرمین فی حجرة ضیقة تحت الدرج یطلق علیها (مخیزنة أو طمرة)، ویوضع فیها أصحاب جرائم القتل والزنى والسرقات وخصوصا للاعتراف. وفی زمن السلطان سعید بن تیمور أوقف إقامة الحدود.
وقد ذکر لی والدی عددا من مشاهداته عن إقامة الحدود فی عهد الإمام بدون أن یذکر أسماء الأشخاص. ومن تلک المواقف: إقامة حکم الإعدام فی ستة من قطاع الطرق، أحد منهم قتل ابن أخیه، فحکم علیهم بالموت؛ فأطلق علیهم عسکر الإمام الرصاص. وفی موقف آخر، أحضر عسکر الإمام رجلا قام بقتل أمه، فسأله الإمام: قتلت أمک؟ قال: نعم قتلتها. فقال الإمام فی تلک اللحظة لمبروک: مبروک شله، قتله. فأقیم علیه حد القتل والإمام لا یزال فی مجلسه.
وأما القصاص الذی یقع فی الولایات الأخرى، غیر نزوى، فیقوم به والی الإمام. وأکثر ولاة الإمام کانوا قضاة. ومن بین هؤلاء الشیخ محمد بن سالم الرقیشی فی عبری، فکان یقوم بالقصاص من قتل وغیره بدون الرجوع إلى الإمام. فیذکر أن الشیخ الرقیشی أقام حد الإعدام على رجل قتل أمه عندما رفضت أن تعطیه أموالا کان یطلبها منها. وعندما یکون الإمام فی زیارة لأحد المناطق أو الولایات مثل سمائل أو الشرقیة ویؤتى له بقضیة قتل أو غیرها ینفذ الحدود فی الولایة الموجود فیها.