مکانة الإمام الخلیلي الفقهیَّة من خلال أجوبته

الباحث المراسلأ.د. مبارک بن عبد الله الراشدی جامعة السلطان قابوس

Date Of Publication :2022-11-09
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

 

الإمام الخلیلی، رحمه الله، من کبار العلماء فی عُمان ومن أشهر أئمتها، ومرجعًا للفتوى، حتَّى أن کبار العلماء کانوا یرجعون إلیه فی حل العویص من المسائل. ویتبین ممَّا أفتى به الإمام فی الکثیر من المسائل الدینیَّة، والجوابات التی نظمها، وفی ردوده التی تستند فی أدلتها على نصوص القرآن الکریم والسنَّة النبویَّة والإجماع والقیاس وغیرها من المصادر، مکانته العلمیة بین العلماء. وللإمام الخلیلی آراء معروفة فی الأحکام تفرد بها وخالف بعضها أصحابه المشارقة، بل جمهورهم، ورجح بعض الأقوال فی المسائل. وقد قال الإمام نور الدین السالمی عن الإمام الخلیلی عندما کان لا یزال طالبًا عنده: «الشیخ محمَّد بن عبد الله الخلیلی لیس بأقل درجة من جده العلاَّمة: سعید بن خلفان الخلیلی، وهذه شهادة من قطب من أقطاب العلماء وقالها الإمام السالمی»([1]). وقال عنه العلاَّمة محمَّد بن عبد الله السالمی: «إن الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی أعلم الجماعة الذین معه، وکذلک أعلم من العاقدین علیه، مع العلم بأن العاقدین علیه کانوا من کبار العلماء»([2]). وقد أثر عن الإمام کتاب فی الأجوبة الفقهیَّة نشر بعد وفاته بعنوان «الفتح الجلیل فی أجوبة الإمام أبی خلیل».

من هذا المنطلق یسلط البحث الحالی الضوء على مکانة الإمام الفقهیَّة من خلال أجوبته فی کتاب «الفتح الجلیل». ویبدأ البحث بمناقشة مفهوم الأصول فی الشریعة الإسلامیَّة، وتعریف القاعدة الأصولیة وخصائصها، ومسائل الاختلاف فی الفقه الإسلامی. ثمَّ ینتقل إلى تحلیل الأصول المعتمدة فی فتاوى الإمام الخلیلی، والأدلَّة الفرعیة (القیاس والاستحسان والمصالح المرسلة) عنده، من حیث تخریجات الإمام الخلیلی وتجرده فی مسائل العلم والنظر فیه، والمرونة الفقهیَّة عند الإمام، ودعوته للاجتهاد، وربطه بین الفقه واللغة، والآراء والأحکام التی تفرد بها. ثمَّ یتناول البحث دور الإمام فی الإصلاح الدینی، ومحاربته للبدع، ودقته فی إقامة الحدود وإصلاح المجتمع، وکیف أنَّه قدم القدوة وتمثل بها فی سلوکه وفکره.

الأصول فی الشریعة الإسلامیَّة:

یقول ابن برکة فی الجامع: «وأحکام الشریعة کلها مأخوذة من طریق واحد وأصل واحد، وهو کتاب رب العالمین، فهو قوله:﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَیْکُم مِّن رَّبِّکُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِیَاء قَلِیلاً مَّا تَذَکَّرُونَ﴾ [سورة الأعراف: 3]، والسنَّة أیضًا مأخوذة من الکتاب قال جل ذکره: ﴿أَطِیعُواْ اللَّهَ وَأَطِیعُواْ الرَّسُولَ﴾ [سورة النساء: 59]، وقال:﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِی شَیْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن کُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الآخِرِ ذَلِکَ خَیْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِیلاً﴾ [سورة النساء: 59]، وقال جل ذکره: ﴿فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِیبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ یُصِیبَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ﴾ [سورة النور: 63]، وقال: ﴿مَّنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [سورة النساء: 80]، وقال: ﴿فَلاَ وَرَبِّکَ لاَ یُؤْمِنُونَ حَتَّىَ یُحَکِّمُوکَ فِیمَا شَجَرَ بَیْنَهُمْ ثُمَّ لاَ یَجِدُواْ فِی أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُواْ تَسْلِیمًا﴾ [سورة النساء: 65]، وقال: ﴿وَمَا یَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْیٌ یُوحَى﴾ [سورة النجم: 3– 4].والسنَّة عمل بکتاب الله، وبه وجب اتِّباعها. والإجماع أیضًا عمل بکتاب الله وبالسنة التی هی من کتاب الله؛ لأنَّ الإجماع توقیف؛ والتوقیف لا یکون إلاَّ من الرسول، ﷺ. والسنَّة على ضربین: فسنة قد اجتمع علیها، وقد استغنی بالإجماع عن طلب صحتها، وسنّة مختلف فیها، ولم یبلغ الکل علمها، وهی التی یقع التنازع بین الناس فی صحتها. فلذلک تجب الأسانید والبحث عن صحتها، ثمَّ التنازع فی تأویلها إذا صحت بنقلها، فإذا اختلفوا فی حکمها کان مرجعهم إلى الکتاب»([3]).

لذا کان رسول الله ﷺ هو الفقیه الأول، «وکان یعتمد فیما یُفتی فیه على ما یُوحَى إلیه به، وعلى ما یفهمه من کتاب الله U، وعلى ما أذن الله له به من تشریع، أو اجتهاد یجتهده»([4]).وقد «أقرَّ الرسول ﷺ بعض أصحابه على بعض ما فهموا من کتاب الله من أحکام، وهذا یتضمَّن الإذن للمؤهَّلین منهم بفَهم الأحکام من القرآن واستنباطها، والإذن لهم باستنباط الأحکام»([5]).

ولأن الصحابة هم حفظة الفقه وناقلوه، لم ینتهِ عهد الصحابة حتَّى نقلوا کلام الرسول کاملاً غیر منقوص. وإذا کان قد غاب عن بعضهم أحادیث فإنَّه لا یغیب عن جمیعهم([6]). وبالنسبة إلى الفقه ومعرفة مسائله، واستنباط أحکامه؛ فقد برز بعض الصحابة فی هذا المجال واشتهروا به، وکانوا هم الذین یُرجَع إلیهم فی الفتاوى التی تختلف فیها وجهات النظر، ممَّا لم یکن معلومًا عند جمهور الصحابة حُکْمُهُ([7]).

أمَّا حجة العقل فما وافق فیه هذه الأصول الثلاثة: کتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع المحقین من الأمَّة قبل وأخذ به. وهذه الأصول کلها من کتاب الله تعالى، فهو المرجعیة العلیا والهیمنة للکتاب العزیز بقیمه ومحدداته على ما سواه، من سنة متبعة للنبی الکریم u، أو مرویات حدیثیة، أو وسائط عقلیة؛ وذلک على اعتبار أنَّها ترجع فی أصلها للوحی الخالص الذی خرجت منه وترجع إلیه.

لذا فالأصول التی یعتمد علیها العلماء هی:

- کتاب الله.

- سنَّة رسوله .

- إجماع المحقین من أمة محمَّد ﷺ.

- حجة العقل ممَّا وافق هذه الأصول الثلاثة.

وممَّا لا شک فیه، أن هذه الأصول الثلاثة تمثل عمدة الاستدلال لدى علماء المسلمین قاطبة، ممَّا یدلُّ على أنَّها تشبه، ما یمکننا أن نسمیه فی عصرنا الحدیث علامة مرور، تشیر إلى وحدویة الاتجاه لمن تحمّل أمر الفتوى فی الدین.

مفهوم القاعدة الأصولیة وخصائصها:

القاعدة الأصولیة هی «حکم کلی تنبنی علیه الفروع الفقهیَّة، مـصوغ صیاغة عامة، ومجردة، ومحکمة»([8]). وبناء على ما سبق یمکن تعریف القاعدة الأصولیة بأنَّها «قضیَّة أصولیة کلیـة یـستند إلیها فی استنباط الأحکام الشَّرعیَّة العملیَّة، أو الترجیح بین الأقوال الفقهیَّة المتضادة». ومن خصائص القاعدة ما یلی:

- القاعدة بمعناها العامِّ هی: قضیَّة کلِّـیَّة.

- القاعدة الأصولیة بمعناها الخاصِّ هی: قضیَّة أصولیة کلِّـیَّة یستند إلیها فی استنباط الأحکام الشَّرعیَّة العملیَّة، أو الترجیح بین الأقوال الفقهیَّة المتضادة.

- للقاعدة الأصولیة سمات هی: الصیاغة الموجزة، والاستیعاب، والشمول، والصیاغة الجازمة، وعدم معارضتها أصول الشرع والاطِّراد.

- للقاعدة الأصولیة أهمیة بالغة فی التشریع الإسلامی، فهی تیسر سبل الوصول إلى معرفة أحکام الله لأفعال العباد وتصرفاتهم.

- تعتمد وتبنى القواعد الأصولیة على القرآن الکریم، والسنَّة النبویَّة، والإجماع، وأصول الدین، وأقوال الصحابة، واللغة العربیَّة، ومقتضیات العقل، واستقراء الفروع الفقهیَّة.

- تنقسم القواعد الأصولیة إلى قواعد مستقلة بذاتها وقواعد لیست مستقلة بذاتها.

- إذا کانت القاعدة الأصولیة دلیلاً مستقلاً بذاته فإنَّه یستنبط منها الحکم الشرعی مباشرة، وإن کانت غیر مستقلة بذاتها فإنَّه لا یستنبط منها الحکم الشرعی مباشرة، بل بربطها بالدلیل التفصیلی، وذلک بجعل الدلیل التفصیلی مقدمة صغرى، والقاعدة الأصولیة مقدمة کبرى ثمَّ الخروج بنتیجة، وهی حکم شرعی عملی.

إنَّ المستقرئَ لتاریخِ نشأةِ القواعد الأصولیة یجد أنَّ هناک علاقةً وثیقةً بین هذه القواعد الأصولیة وبین القواعد النحویة أو اللغویة. وذلک؛ لأنَّ القواعد الأصولیة إنَّما وُضعت لاستنباط الأحکام الشَّرعیَّة من أدلَّتها. وأدلَّةُ الأحکام الأصلیة التی ترجع إلیها سائر الأدلَّة التبعیة الأخرى إنَّما هی نصوصُ الکتابِ والسنَّةِ، وتلک النصوصُ عربیَّةٌ یتوقَّف العلم بها على العلم بقواعد اللغة العربیَّة. فمن لم یکن عربیًّا فلیس له النظر فی کتاب الله وسنة رسوله. یقول الشاطبی رحمه الله: «ولـَمَّا کان الکتابُ والسنَّةُ عربیَّین؛ لا یَصحُّ أن ینظر فیهما إلاَّ عربیٌّ، أمَّا أعجمیُّ الطبع فلیس له أن ینظر فیهما»([9]).

الفقه الإسلامی ومسائل الاختلاف:

الفقه الإسلامی عمومًا هو العلم الذی یبحث لکل عملٍ عن حکمه الشرعی. ومعنى الفقه فی اللَّغة: العلم بالشَّیء والفهم له([10])، وفی الاصطلاح: هو العلم بالأحکام الشَّرعیَّة العملیَّة المکتسب من أدلَّتها التَّفصیلیَّة، أو هو مجموعة الأحکام الشَّرعیَّة العملیَّة المستفادة من أدلتها التفصیلیة([11]).

وهناک صلة بین الفقه وأصوله، تکمن فی أنَّ الفقه یُعنى بالأدلَّة التَّفصیلیَّة لاستنباط الأحکام العملیَّة منها، أمَّا أصول الفقه ‏فموضوعه الأدلَّة الإجمالیَّة من حیث وجوه دلالتها على الأحکام الشَّرعیَّة. وإذا ما جئنا إلى موضوع الاختلاف الفقهی؛ فإن له أسبابًا متعددة ما بین مُجْمَل ومفصَّل، لکنَّها تعود فی حقیقة الأمر إلى أربعة أسباب إجمالیَّة هی:

الأوَّل: الاختلاف فی ثبوت النصِّ أو عدم ثبوته؛ فالنصُّ الشرعیُّ هو المرجع الأوَّل للمجتهدین جمیعًا، وعلیه یدور استنباط الأحکام الشَّرعیَّة، فإذا صحَّ ثبوته وکانت دلالته صریحة، وکان سالمًا من المعارض، کان علیه الاعتماد فی الحکم، وهذا معنى قول الأئمة المجتهدین (إذا صحَّ الحدیث فهو مذهبی).

الثانی: اختلاف العلماء فی فهم النصوص الشَّرعیَّة؛ فالعلماء یختلفون فی فَهم النصِّ الثابت والاستنباط منه، وهذا یرجع إلى جانبین: جانب یعود إلى النصِّ نفسه، وجانب یعود إلى المجتهد فی فهم ذلک النصِّ.

الثالث: الاختلاف فی الجمع والترجیح بین النصوص؛ فقد تتعارض ظواهر بعض النصوص الشَّرعیَّة، فیختلف العلماء فی الجمع بین ظواهرها والتوفیق بین معانیها، أو فی توضیح بعضها على بعض.

الرابع: الاختلاف فی القواعد الأصولیة وبعض مصادر الاستنباط؛ فمن المعروف عن أهل العلم أن العلماء المجتهدین اختلفوا فیما بینهم فی حجیة بعض المصادر والأصول الاجتهادیة؛ کاعتماد الإمام مالک- رحمه الله تعالى- على حجیة عمل أهل المدینة دون غیره من الأئمة، وکَتَرْکِ الحنفیة العمل بمفهوم المخالفة، وعمل الجمهور به، ومخالفة الحنفیة فی إمکان حمل العامِّ على الخاصِّ، وحمل المُطْلَق على المقَیَّد، وقولهم بالأخذ بعمل الراوی إذا عمل خلاف ما رواه([12]).

الإمام الخلیلی والأصول المعتمدة فی فتواه:

استناده على الکتاب والسنَّة:

اعتمد الإمام على أهم مصدرین من مصادر الشریعة، بل هما أساسا التشریع وغایته: الکتاب والسنَّة. فقد سُئل عن وصیة بصیام خمسین شهرا احتیاطا لما علیه من بدل رمضان، ووقْف أثر ماء تنفذ غلتها فی أجرة من یصوم عنه بدل رمضان وقفا مؤبدا. فجاء جوابه معتمدا على آیة من کتاب الله تعالى، فقال: «الموصی أعلم بمراده فلا یبدل، ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِینَ یُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ﴾ [سورة البقرة: 181]، وأوجه البر واسعة، وکل أحد له سبیل یسلکها ویراها، وهی طرق للخیر»([13]).

کما یعلق الإمام على حدیث ابن عباس، وفیه «أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبی ﷺ، وهو جالس فقال: یا رسول الله اقض بکتاب الله، فقام خصمه فقال: صدق اقض له یا رسول الله بکتاب الله، إن ابنی کان عسیفا على هذا فزنى بامرأته فأخبرونی أن على ابنی الرجم فافتدیت بمائة من الغنم وولیدة ثمَّ سألت أهل العلم فزعموا أن ما على ابنی جلد مائة وتغریب عام. فقال: والذی نفسی بیده لأقضین بینکما بکتاب الله. أمَّا الغنم والولیدة فرد علیک، وعلى ابنک جلد مائة وتغریب عام، وأمَّا أنت یا أنیس فاغد على امرأة هذا فارجمها فغدا أنیس فرجمها»([14]). والحدیث فی مسند الإمام الربیع بروایة أَبِی عُبَیْدَةَ عَنْ جَابِرِ بن زَیْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «اخْتَصَمَ رَجُلانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَیْنَنَا بِکِتَابِ اللَّهِ» (حدیث موقوف)([15]).

فیرى الإمام الخلیلی أن فی الحدیث خمسة عشر استنباطا فقهیا منها «أن السنة مستخرجة من الکتاب، وداخلة تحت قوله تعالى: ﴿وَمَا ءَاتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [سورة الحشر: 7]؛ لأنَّ التغریب لم یُفهم من الکتاب، وإنَّما هو من السنة، وقال ﷺ: "لأقضین بینکم بکتاب الله"»([16]).

وأیضا قوله «الله أعلم، ولا نخطئ من تکلم بما فیه محتمل للحقِّ بما صح معه ولایة الحقیقة [...] ولا غیره إذا تکلم بما یعلم. وولایة الحقیقة تصح معهم من کتاب الله المنزل إن صرح بها فی أحد من خلقه باسمه وعینه أو من لسان رسول الله ﷺ عند من سمعه من لسانه، کذلک أو قام عنده العلم الیقین من الشهرة التی هی حجة بشروطها»([17]).

النص الکامل لما قاله الإمام فی ولایة الحقیقة: «من کانت ولایته ولایة الحقیقة یحکم علیه أنَّه من أهل الجنة، وإن فعل أنَّه یقال أنَّه لم یمت إلاَّ تائبًا. وولایة الحقیقة تثبت بالکتاب والسنَّة. وأصحابنا لا یرون ولایة العشرة ولایة حقیقیة. وفضائلهم ودلائل ولایتهم فی کتب الحدیث کثیرة، إلاَّ أنَّه لما کثر القول فی تلک الأحادیث من العلماء أنَّها أغلبها موضوع، أو کلها، لم یروا قیام حجة بها، وإلا فالحدیث المتواتر حجة، ولکن من شرط التواتر أن یکون بحیث یغرز فی نفس السامع تصدیقه ضرورة؛ فلمَّا کانت الإحن بین الصحابة، واختلاف الکلمة، صار للنفوس ریبة: هذا قادح وهذا مادح، فمن کان ولیا فی الحقیقة فهو داخل فی ولایة الجملة. ونحن نقول أن الحدیث لا نرده بنفس تهمة الکذب علیه ﷺ، ولا نتسارع فی ردها وأهل الحدیث أولى بما رووا، والعهدة على الراوی؛ فما کان من الحدیث ظاهره یخالف محکم الکتاب نرده بالتأویل إلى المحکم، کما نرد متشابه الکتاب إلى محکمه. هذا إذا کان فی صفات الله U، وإن کان فی الأحکام نظرنا المتأخر إن کان بین السنن، وحکمنا بالنسخ؛ الآخر ینسخ المتقدم إن لم یمکن الجمع بین الأحادیث، وإلا جمعنا بینهما. نعم، ما رأینا أنَّه یخالف الکتاب، وهو فی صفات الله، ولا یقبل التأویل، نرده لقوله ﷺ: "سیکذب علیّ، فما وافق الکتاب فمنی، وما لم یوافقه فلیس منی". فإن رأیت من أصحابنا من یستعجل فی رد الأحادیث فلا تصوبه، ونحاریر العلماء لا یقولون بذلک. والحق مقبول ممَّن قاله. والثناء من النبی ﷺ، على الصحابة لا یوجب ولایة الحقیقة. والنبی ﷺ، یتولى أصحابه بحکم الظاهر، ویبرأ بحکم الظاهر ما لم یطلعه الله على حال الرجل فی المآل من خیرًا وشرًّا. ویحتمل صحة الأحادیث، والله أعلم. وقولک إن الأشیاخ لهم کلام: أن الأحادیث لا ترد الجواب، وأن کثرة الأحادیث فی الصحابة على سبیل الثناء علیهم والدعاء لهم لا یوجب ولایة حقیقیة، ویقال أنَّه لم یمت إلاَّ وهو مستقیم على الحق، وأنا بصحة ذلک، الیوم، وقد کثر الهرج والمرج بین الصحابة والتابعین: فهذا مادح وهذا قادح؟! والخبر إذا لم یتواتر لم تثبت به حجة قطعیة. والتواتر شرط من شرطه أن یثبت فی النفس علمًا ضروریًّا، والآن فی أمر الصحابة لم یمکن ذلک. والأحادیث لا یردها أصحابنا إلاَّ إذا کانت فی صفات الله، تعالى، ولم یصح حملها على ظاهرها، ولم تحتمل التأویل، فإن احتمل تأویلها أولوها ردًا للمتشابه على المحکم، وإلا قولهم إن أهل الحدیث أولى بما رووا ولا یردونه بمطلق ظنهم أنَّ راویه کاذب. وإذا کان فی الحدیث أمر رأوه مخالفًا لمقتضى محکم الکتاب وتعارضت أقوال الصحابة فیه، أخذوا بالجزم؛ وذلک کالمسح على الخفین، والتأمین بعد رفع الیدین عند الإحرام، والقنوت. هذا ما حضرنی من جوابک، واعلم أن النبی ﷺ، یتولى بالظاهر، ویثنی ویدعو لمن لا یتولاهم وذلک وجه الثناء والدعاء للصحابة، والله أعلم»([18]).

ویتضح مع تدقیق النظر فی قول الإمام الخلیلی فی سیاق حدیثه عن رد الأحادیث «ولا نتسارع فی ردها، وأهل الحدیث أولى بما رووا، والعهدة على الراوی، فما کان من الحدیث ظاهره یخالف محکم الکتاب نرده بالتأویل إلى المحکم، کما نرد متشابه الکتاب إلى محکمه هذا إذا کان فی صفات الله U، وإن کان فی الأحکام نظرنا المتأخر إن کان بین السنن وحکمنا بالنسخ، الآخر ینسخ المتقدم إن لم یمکن الجمع بین الأحادیث، وإلا جمعنا بینهما»([19])، أنَّه یشیر إلى المنهجیة الفقهیَّة فی روایة الحدیث تتجلى فیما ینظر فیه بالرأی والمشورة.

ویتضح موقفه من اجتهاد الصحابة بقول: «العقول تتمیز على قدر مطالبها، فعقول الصحابة تدرک فی أمر الدین والمعاد ما لا یدرکه الأوائل فبینهم کما بین مطلوبهم»([20]). فملامح المنهجیة الفکریة للإمام الخلیلی کما تتضح من العبارة السابقة أنَّه لا یعتمد الکتاب والسنَّة وحسب، بل وأقوال الصحابة، رضوان الله تعالى عنهم أجمعین.

ویبین تلک المنهجیة ویوضحها فی رده على الشیخ عیسى فیما أجاب به على ما وقع بین آل حجر وبنی راسب لذمة کانت بینهما، بقوله: «کما قالت الصحابة لأبی بکر لما قال لبعض من ارتد من العرب (ألا أخبرکم بین خیرتین: إما حرب مجلیة وإمَّا صلح مخزیة)، قالوا: (علمنا الحرب المجلیة فما الصلح المخزیة؟) قال: إن تَدُوا فقتلانا وقتلاکم فی النار. فقالت الصحابة: (أمَّا قتلانا فلم یقاتلوا إلاَّ لله، فأجرهم على الله). فیفهم من قول أبی بکر والصحابة أن المبطل لا دیة له فهو مهدور الدم، وهذا هو الحق الذی یؤیده النقل والعقل، وهکذا المحقُّ المقاتل لله لا دیة له وإنَّما أجره على الله تعالى»([21]).

وبالإضافة لما سبق من نماذج اقتدائه بالکتاب والسنَّة واعتماده علیهما فیما یجتهد وینظر نورد ما یلی: فقد سئل عن قص اللحى فقال: «فإن قصها حرام بالقرآن والسنَّة ردًّا على السائل الذی ظنَّ أنَّ القصَّ محرَّم بالسنَّة فقط. الجواب من القرآن فی قوله تعالى: ﴿وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [سورة النساء: 119]، فهذا تغییر لم یأذن به الشارع بخلاف قص الشارب وحلق العانة ونحوها من سنن الفطرة ومن السنة إعفاء اللحیة مخالفة للأعاجم»([22]).

لذلک فی کثیر من جواباته جمل وعبارات تنم عن احترازه ودقة نظره فی فتواه وأحکامه مثل: «فذلک فیما أعتقد»([23])، و«فانظر فی ذلک واسأل عنه أهل العدل ولا تأخذ منه إلاَّ الحق والصواب عنه»([24])، و«الله أعلم ولا أدری»([25])، و«أقول والذی أفهمه من عبارة»([26])، و«والذی جاء من تفسیر الآیة»([27]).

فالإمام الخلیلی یعتمد فی فتواه الأصول الثلاثة، التی اعتمدها الصحابة وتابعوهم وتابعو تابعیهم، رضوان الله تعالى عنهم جمیعا، وخاصة أئمة المذهب الإباضی خلفا عن سلف. وکان، رحمه الله تعالى، یتوقف عند الأثر ممَّا یراه موافقا للحقِّ، ولا یجب الانحیاز عنه إلاَّ فی حال وجود دلیل أقوى فی غیره.

 

الأدلَّة الفرعیة (القیاس والاستحسان والمصالح المرسلة) عند الإمام الخلیلی:

تخریجات الإمام الخلیلی:

تعدُّ تخریجات الإمام الخلیلی حلقة من حلقات تطور التشریع الإسلامی عند الإباضیَّة. وهذه التخریجات هی من باب تخریج الفروع على الفروع؛ فهو بعد أن یذکر آراء السابقین یظهر له من ذلک رأی آخر. فالواجب على من أنعم الله علیه بالإسلام وخصه بشریعة الإیمان، أن یبدأ بتعلم الأصول قبل الفروع فمن عرف معانی الأصول عرف کیف یبنی علیها الفروع. ومن لم یعرف حقیقة الأصول کان حریا أن تخفى علیه أحکام الفروع. وقد تحصل هذا العلاَّمة على ملکة فی علم الفقه، بفضل من الله علیه، من علم الأصول والقواعد الفقهیَّة، فصار یتعامل مع المسائل الفقهیَّة ببصیرة جامعة ومبادئ ثابتة ونظرة واسعة وفکرة ناضجة، فأخذ یناقش کل مسألة تنقل إلیه فیستعمل قدرته فی ترجیح الراجح وتفنید المرجوح.

تجرد الإمام فی مسائل العلم والنظر فیه:

إن «من یمعن نظره فی التراث الإباضی الفکری متجردًا عن العوامل النفسیة والمؤثرات الوراثیة یدرک کل الإدراک أنَّ الإباضیَّة أکثر فئات هذه الأمَّة اعتدالاً، وأسلمها فکرًا، وأقومها طریقًا، وأصحّها نظرًا، وأصفاها موردًا ومصدرًا»([28]). ویقول الإمام الخلیلی فی أجوبته: «أهم أمر هو التقوى، وأضر شیء هو إتباع الهوى»([29]).فالهوى لا تدفعه الحجة إنَّما یدفعه التقوى ومخافة الله ومراقبته فی السر والعلن. ومن ثمَّ هذا الفرقان الذی ینیر البصیرة، ویرفع اللبس، ویکشف الطریق.

وهذا یعنی أن الإمام یدعو دائما وأبدا، إلى التجرد فی مسائل العلم والمسائل المنظور فیها بالاجتهاد على حد سواء. ففی مسألة من المسائل التی عرضت علیه من محمَّد بن سلیمان الحارثی خاصَّة بالحط عن الفقراء من أموال المساجد، یقول: «وما ذکرته أن الشیخ عمدک إلى السلطان فی مادة الحاج وما أجابکم به فالشیخ، رحمه الله، کان مهتما بأمور الإسلام، والحق یقبل ممَّن جاء به وممَّن قام به، وإنها لمسألة مهمة وأول النظر فی معرفة الحق والباطل والبحث فیها، ولابد أن یتجرد أحد»([30]).

المرونة الفقهیَّة عند الإمام ودعوته للاجتهاد:

دعوة الإمام للاجتهاد:

یدعو الإمام للاجتهاد عند الحاجة، ویفعله ویعمل به عند اللزوم، وفی نظره أن الاجتهاد واسع یلجه من قدر علیه. فسُئل الإمام الخلیلی عمَّن أراد أن یدخل فی علم الفقه، ما ینوی فی تعلیمه إیَّاه، فکان جوابه: «ینوی أن یستعد لما یعنیه قبل أن یعنیه، ولیرشد من قدر على إرشاده من عباد الله، لیتعلم کیفیة العبادة التی کلفه الله بها حتَّى یؤدیها على الوجه المأمور به»([31]).وفی رسالته للمشایخ العزاز الحشام عیسى بن صالح وسالم بن حمد وسعود بن حمید فیما یتعلَّق ببیت المال فی بلد الرستاق، حین وصل إلیه ووجده خربا، قال: «فاجتهدنا للمسلمین فرأینا أن نولی من نأمل أنَّه سیعمره، ونظرنا فی المسلمین فرأینا علی بن هلال هو الأقرب والأنسب»، ثمَّ قال: «هذا نظرنا واجتهادنا فإن استقام فذلک نعده من التوفیق لنا، وإن أعوج فذلک غایة الاجتهاد والجهد»([32]).

وفی رسالته للقاضی المحترم سعید بن أحمد الکندی یظهر الإمام أقصى درجات الخضوع أمام الحق والانصیاع لصوته والإقرار به، فیقول: «من راجعنا راجعناه، ومن أتانا بالحق قبلناه»([33]).

وفی رسالته للشیخ الکریم صالح بن أحمد بن صالح یقول: «فاجتهد فی ذلک لله ولرسوله وللمسلمین»، ویقول کذلک، «فاجتهد فی ذلک، وناظر من ترى فیه النصح للمسلمین ویعنیه ما یعنیک ویحب استقامة أمرکم فإنَّه أقرب أن یجتهد ولا یغش»([34]).

المرونة الفقهیَّة عند الإمام:

ارتبط الإمام بالعروة الوثقى فکرا وعقیدة وفقها وسلوکا ودعوة؛ ولذا لم یکبل نفسه بأقوال المتقدمین، ولم یقع فی أسار التقلید. وقد کان الانطلاق الفکری أحد دعائم الاجتهاد ورکیزة من رکائز الفکر السیاسی، وله آراء معروفة فی الأحکام تفرد بها وخالف فی بعضها أصحابه المشارقة، بل جمهورهم ورجح بعض الأقوال فی المسائل.

فالإمام کان لدیه فکرة مترسخة بخصوص إتقان الواقع الذی یرید تنزیل الحکم علیه، وهو ما یعرف عند الأصولیین (تحقیق المناط) وهو تنزیل الحکم على الواقع؛ فلا بد من مراعاة تغیر الواقع فی الحکم؛ ففهم الواقع هو لبنة ضروریة للتحلیل وللعلاج، ومن کان غیر متصور لواقعه، کثیرا ما یفسد من حیث یظن أنَّه یصلح. وقد قرر الفقهاء أن معرفة الناس وأوضاعهم ضروری للفتوى، فکیف بمشروع سیاسی عظیم؟ وهذا یتجلى فی فهم العقلیة العُمانیَّة نفسها وأعرافها القبلیة، ثمَّ فی فهم القوى الخارجیَّة ومطامعها فی عُمان. والإمام کان یراعی الواقع کثیرا فی أقواله؛ ولذا یفصل الأقوال حسب مراعاة الواقع؛ فکثیرا ما یفرق بین الخصوص والعموم فی الأحکام، فثمَّ حکم عام للأمر بید أن الملابسات تلبسه أحکاما أخرى، لذا وجب على الداعیة الاجتهاد فی ذلک. وقد بین الفقهاء کثیرًا من هذا. والإمام الخلیلی کان یراعی الواقع بمهارة وإتقان؛ فالناظرون بنور الله هم أطباء العالم الساعون فی قطع المفاسد بالأدویة الشافیة کالطبیب الماهر المعالج للعلة الواحدة بالأدویة المختلفة مراعاة للحال والزمان.

فالعنایة بالمقاصد ضروریة؛ لأنَّها شرط من شروط الاجتهاد؛ ولأن غض الطرف عنها أحیانا یفقد الأحکام روحها فتغدو جسدا بلا روح. والعنایة بالمقاصد موضوع أولاه الإمام أهمیة وعنایة بالغة، وذلک بدفع المضار فیما لم یثبت من الکتاب ولا فی السنة کالأفلاج والطرق والمنازل والشجر وغیرها، «فالقائم بأمر الإسلام موسع له فی النظر إلى المصالح بلا تحدید»([35]).

الإمام الخلیلی فقیه لغوی:

الإمام الخلیلی فقیه لغوی. فیقول مجیبًا لمسألة فی الأسماء والأفعال المضعفة إذا وقف علیها القارئ لضیق نفس کما ورد فی قوله تعالى: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَیْهِنَّ فِی ءَابَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ﴾ (سورة الأحزاب: 55) أیقف على التخفیف أم یجتلب هاء السکت؟ وما قیل أنَّه یجب على الإنسان أن یعرف أن له خالقا فالمعنى مفهوم وهو صحیح بل من طریق النحو فی لام له ما تسمى([36]).

قال: «الله أعلم، وأمَّا الأفعال المضعفة، فما کان فی نفسی أن الوقف علیها فی القرآن الکریم إلاَّ بالتخفیف کالکلمات ونحن على هذا، وإن کان هذا فإنا ترکنا المطالعة فیه منذ مدة متطاولة، لکن لیس فی أنفسنا فیه إلاَّ ذلک، وعسى أن نزداد فیه مطالعة، فإن وجدنا عن هذا فسیصلک بعد حین إن شاء الله تعالى. وأمَّا اللام فی قول القائل لی خالق فلا أرى فیها إلاَّ أنَّها لام الاختصاص؛ فقول القائل لی خالق وللمخلوق خالق کقوله لفلان علم ولفلان ولد ونحو هذا کثیر، وکما یقول لهذا العبد سید، ونحو ذلک لا أراها إلاَّ لام الاختصاص فینظر فیها فهذا منی على عجل والسلام»([37]).

الآراء والأحکام التی تفرد بها الإمام الخلیلی:

تفرد الإمام الخلیلی فی عدد من الآراء والأحکام([38])، منها:

- من أفسد رمضان تعمدًا فَلُیِکَفًّر ولیصم ما أفسد لا ما مضى خلافًا للجمهور.

- من باع نخلاً وقد أبرت، فثمرتها للبائع إلاَّ أن یشترطها المشتری. ویرى من فروع هذه المسألة أن من اختار ماله وقد أبره المشتری فالثمرة له ولو لم تدرک.

- یرى أن من کان ماله عبیدًا فأعتقهم فی مرضه أو أوصى بعتقهم کلهم فیعتق منهم الثلث بالقرعة ویسترق الباقون عملاً بالحدیث الوارد فی ذلک ویدفع فی صدر القیاس.

- یرى أن من سافر عن زوجته وأطال الغیبة وخافت العنت ورفعت إلى الحاکم أمرها له أن یطلقها دفعًا لضررها؛ لأنَّ الشارع راعى ذلک، وجعل للنساء على الرجال حقًا غیر الإنفاق، ومن ذلک الحق العُشرة، ولکن لا یطلقها الحاکم إلاَّ بعد الاحتجاج على الزوج.

- یأخذ بمذهب زید بن ثابت فی میراث الغرقى والهدمى، وأن لا یورث هالک من هلک.

- یرى أن لا فرق بین الغائب والمفقود، وأن مدتهما واحدة أربع سنین محتجًا بالقضیة الواقعة فی عهد عمر t.

- أفتى فی البیعین إذا اختلفا فی المبیع قائما تحالفا وتراددا إن لم یکن بیان فی الثمن، والقول قول البائع مطلقًا ولو کان المبیع بید المشتری.

- یقول بتحریم ربا الفضل ولو کان یدًا بید.

- أن من ابتاع سلعة ثمَّ أفلس فوجد المشتری سلعته بعینها فهو أحق بها من سائر الغرماء عملاً بحدیث الربیع «أیما رجل أفلس، فأدرک الرجل ماله بعینه فهو أحق به من غیره»([39]).

- أن المولى عنها إذا خرجت عن زوجها بتمام مدة الإیلاء فعلیها عدة الطلاق ولا یکفیها مضی تلک المدة عن العدة.

- صلاة التراویح ثمان رکعات جماعة، وصلاة رکعتین راتبة العشاء قبلهن فرادى.

- حکم بالشفعة للغالب فی غیر غزو.

دور الإمام فی الإصلاح الدینی:

الإمام ومحاربته للبدع:

الحق فی ذاته لا یخفى على الفطرة؛ فهناک توافق بین الفطرة والحقِّ الذی فطرت علیه، والذی خلقت به السماوات والأرض، ولکنَّ الهوى واتِّباع الباطل هو الذی یحول بین الحق والفطرة. والهوى هو الذی ینشر الغبش والبدع والتلبیس بین الناس، ویحجب الرؤیة، ویعمی المسالک، ویخفی الدروب. قال الشوکانی: «وقد تکون مفسدة إتباع أهویة المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتِّباع أهویة أهل الملل؛ فإن المبتدعة ینتمون إلى الإسلام، ویظهرون للناس أنَّهم ینصرون الدین ویتبعون أحسنه، وهم على العکس من ذلک والضد لما هنالک، فلا یزالون ینقلون من یمیل إلى أهویتهم من بدعة إلى بدعة، ویدفعونه من شنعة إلى شنعة، حتَّى یسلخوه من الدین ویخرجونه منه، وهو یظن أنَّه منه فی الصمیم، وأن الصراط الذی هو علیه هو الصراط المستقیم»([40]).وقال الإمام الشافعی: «لأن یلقى الله العبد بکلِّ ذنب ما خلا الشرک خیر من أن یلقاه بشیء من الهوى»([41]).

والإمام الخلیلی، رحمه الله، کان محاربا للبدع، فهو فی تصدیه لکل بدعة من تلک البدع، محلل لها بکافة جوانبها وأبعادها وتطورها، ومستقرئ لممثلیها، وناقد فی ضوء القواعد العقلیة والمعطیات النصیة والدلالات اللغویة، ومستقص للتراث، ومستوعب لأوجه الضلال والانحراف فیها، ثمَّ فی النهایة مقرر للحقِّ من خلال جمعه بین العقل والنقل، والروایة والدرایة، مستعینا بعلوم اللغة العربیَّة التی نزل بها القرآن الکریم، وجاءت بها السنَّة النبویَّة المطهرة المبینة له، ومستأنسًا ببدیهیات العقل وقواعد الفطرة.

فقد سئل عن المولد النبوی واجتماع الناس للاحتفال باستماع القصص وغیر ذلک من مظاهر الاحتفالات، مع اختلاط النساء والرجال، فکان جوابه: «ما أرى هذا إلاَّ باطلا وضلالا، ولا یتقرب إلى الله تعالى بالباطل، ﴿وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَامًا﴾ (سورة الفرقان: 72). وسئل: هل یجوز دخول السنیما وسماع الأغانی؟ فأجاب: «هذا هو اللهو واللعب، ذهاب الساعات فی غیر الطاعات من أعظم المفاسد»([42]).

الإمام الخلیلی ودقته فی إقامة الحدود وإصلاحه للمجتمع:

یروى أن حادثًا وقع فی شریعة فلج (المحیدث)، وذلک أن رجلاً من أهالی السفالة طلع نخلة لیجنی منها رطبًا ومعه زمیل قاعد تحت النخلة فسقط میتًا. وکان الإمام فی سمائل فارتفعت القضیَّة إلیه، وقلبت عن حقیقتها، وادعى أهل المقتول على أهل العلایة؛ طمعًا فی الدیة أن ینالوها من زمیل المقتول. فرأى أهل العلایة أن یوکلوا الشیخ نبهان بن سیف البکری لیدافع عنهم وکان من أهل العلم والدرایة، بل إنَّه من الحذاق والبصراء بوجوه النزاع وأسالیبه. وأحضر الإمام القضاة وتقابل الطرفان أهل المقتول والوکیل وبثت الدعوى وجرت الاستجوابات علیها. فرأى الإمام استجوابات أهل المقتول رکیکة؛ لأنهم لا یحسنون النزاع الذی یخولهم بلوغ المطلوب بخلاف وکیل أهل العلایة المذکور فنزاعه واستجوابه على حسب المرام والمطلوب، فخاف الإمام أن یبلغ به حذقه وذکاؤه فیحرم المدعین من حقهم، فتناول حسمها بنفسه وأمر بتسلیم الدیة([43]).

الإمام النموذج والقدوة:

یحث الإمام على الاقتداء بالصالحین، ویعمل بکلِّ جهد لأن یکون نفسه قدوة لغیره من الناس، فیقول موضحا أهمیة القدوة للمجتمع: «ولو جرى المسلمون على الخطة المرضیة لکساهم الله ثوب المهابة»([44]). ویقول للشیخ عیسى: «فإن استقمنا یستقم الغیر لنا ویستقم لنا الناس، طریق الاستقامة صعب، والمرء بأخیه»([45]).

خاتمة:

هکذا کانت حیاة الإمام الخلیلی حیاة نور وإشراق؛ فقد بذل الجهد من أجل تحصیل العلم وإفادة المسلمین بعلومه، وقد تحمل فی سبیل ذلک المشاق والمصاعب والتحدیات، حتَّى أخذ حظه من ذلک وبلغ الغایة. وکان متبعا فی ذلک کله أخلاق العلماء الذین یتقیدون بالأثر ویتبعون سلوک السلف الصالح. ومن أهم نتائج البحث:

- کان الإمام، رحمه الله، متقیدًا بالأدلَّة الشَّرعیَّة المعتمدة فی استنباط الأحکام ومن أهمها الکتاب والسنَّة.

- کان یأخذ بعمل الصحابة إن لم یعارض النص، ویأخذ بالعرف والعادة والمصالح المرسلة.

- کان له معرفة قویة بعلم الأصول، والقواعد الفقهیَّة، وکان قادرًا على الاستنباط وتخریج المسائل واستعمال القیاس.

- کانت لدیه مسائل فقهیة تفرد بها معتمدا فی ذلک على الجمع بین النص المعتمد، وروح النص المتمثلة فی درء المفاسد وجلب المصالح للعباد، وذلک هو الغایة والهدف المرتجى من روح نصوص الشرع الحکیم.

ومن حیث توصیات البحث:

- وجوب الاهتمام بتراث العلماء العُمانیِّـین، فی جمیع المجالات العلمیة، لما یتمیز به من قیمة علمیة عظیمة، لا سیما علوم الفقه واللغة والتفسیر.

- إدراج کتاب «الفتح الجلیل» فی الموسوعة الفقهیَّة الإلکترونیة لیسهل الاستفادة منه.

- إجراء دراسات مقارنة مع المذاهب الأخرى، من خلال کتاب «الفتح الجلیل».

- تضمین المناهج الدراسیة لطلاب العلوم الشَّرعیَّة، نماذج فقهیة من کتاب «الفتح الجلیل»، لما یتمیز به من تنوع فی المسائل الأصولیة والفقهیَّة.

([1])       أحمد بن سعود السیابی، مقابلة شخصیَّة بتاریخ 8/1/2002م، مسقط.

([2])       السالمی، محمَّد بن عبد الله: نهضة الأعیان بحریة عمان، دار الکتاب العربی، القاهرة، 1960م، ص301.

([3])       ابن برکة، عبد الله بن محمَّد: الجامع، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، مسقط، ج1، ص280.

([4])       المیدانی، عبد الرحمن حسن: الحضارة الإسلامیَّة وأسسها ووسائلها، دار القلم، بیروت، 1998م، ص506.

([5])       المصدر نفسه: ص506- 507.

([6])       أبو زهرة، محمَّد: دراسة تحلیلیة فی تاریخ الفقه الإسلامی، ص20، 21، وهی من تقدیمه لکتاب أحمد تیمور باشا: نظرة تاریخیة فی حدوث المذاهب الفقهیَّة الأربعة. (المکتبة الشاملة)

([7])       أبو داود، سلیمان بن الأشعث: سنن أبی داود، دار الحدیث، القاهرة، مصر، کتاب الأقضیة، باب اجتهاد الرأی فی القضاء (3594)، 2010م.

([8])       الجیلانی المرینی: القواعد الأصولیة عند الإمام الشاطبی من خلال کتابه الموافقات، دار ابن عفان، القاهرة، مصر، 2002م، ص55.

([9])       الشاطبی، إبراهیم بن موسى: الموافقات، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت، لبنان، 1991م، ج1، ص22.

([10])     ابن منظور، محمَّد بن کرم: لسان العرب، دار صادر، بیروت، لبنان، 2012م، مادة فقه، ج13، ص522.

([11])     خلاف، عبد الوهاب: علم أصول الفقه، دار الحدیث، القاهرة، مصر، 2003م، ص11.

([12])     البیانونی، محمَّد أبو الفتح: دراسات فی الاختلافات الفقهیَّة، دار السلام، 1985م، ص86-87.

([13])     الخلیلی، محمَّد بن عبد الله: الفتح الجلیل من أجوبة الإمام أبی خلیل، ط1، المطبعة العمومیة، دمشق، 1385هـ/1965م، ص469.

([14])     البخاری، محمَّد بن عبد الله: الجامع الصحیح، مرکز الشیخ أبی الحسن الندوی للبحوث والدراسات الإسلامیَّة، مظفرفور، الهند، ‏ ‏2015م، کتاب الحدود، باب من أمر غیر الإمام بإقامة الحد غائبا عنه رقم الحدیث (6446).

([15])     الربیع بن حبیب بن عمرو، مسند الإمام الربیع، ط1، د. ن. د. م، 2013م، کتاب الطلاق والخلع والنفقة، باب فی الرجم والحدود، رقم الحدیث (592).

([16])     الخلیلی، محمَّد بن عبد الله بن سعید بن خلفان: الفتح الجلیل من أجوبة الإمام أبی خلیل، جمع وترتیب الشیخ سالم بن حمد بن سلیمان الحارثی، فهرسة أحمد بن سالم الخروصی، الناشر ذاکرة عُمان، ط1، 1437هـ/ 2016م، ص421.

([17])     المصدر نفسه، ص142.

([18])   المصدر نفسه، ص85-86.

([19])     المصدر نفسه، ص85.

([20])     المصدر نفسه، ص82 -83.

([21])     المصدر نفسه، ص514.

([22])     المصدر نفسه، ص83.

([23])     المصدر نفسه، ص137.

([24])     المصدر نفسه، ص137.

([25])     المصدر نفسه، ص138.

([26])     المصدر نفسه، ص147.

([27])     المصدر نفسه، ص158.

([28])     الجعبیری، فرحات: البعد الحضاری للعقیدة الإباضیَّة، جامعة السلطان قابوس، سلطنة عمان، مسقط، 1987م، ص12.

([29])     الفتح الجلیل، ص59.

([30])     المصدر نفسه، ص58.

([31])     المصدر نفسه، ص96.

([32])     المصدر نفسه، ص33.

([33])     المصدر نفسه، ص63.

([34])     المصدر نفسه، ص38.

([35])     الخلیلی، سعید بن خلفان: إغاثة الملهوف ضمن تمهید قواعد الإیمان، ط1، مکتبة الشیخ محمَّد بن شامس البطاشی، ‏ مسقط، 2010م، ج13، ص133.

([36])     الفتح الجلیل، ص159 – 160.

([37])     المصدر نفسه، ص159 – 160.

([38])     المصدر نفسه، ص340- 342.

([39])     حدیث صحیح، رواه الإمام الربیع فی مسنده، ص531، حدیث رقم 404/586. والبخاری، رقم: 2402.

([40])     الشوکانی، محمَّد بن علی: فتح القدیر، دار الکتاب العربی، بیروت، 2005م، ص169.

([41])     أخرجه البیهقی فی الاعتقاد، دار الکتاب العربی، بیروت، 1988م، 158.

([42])     المصدر نفسه، ص747.

([43])     السیفی، محمَّد بن عبد الله: النمیر، حکایات وروایات، د. ن، د.م، ج 1، ص188.

([44])     الخلیلی، محمَّد: الفتح الجلیل، ص2.

([45])     المصدر نفسه، ص6.
 

  • ابن برکة، عبد الله بن محمَّد: الجامع، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عُمان، مسقط.
  • ابن منظور، محمَّد بن کرم: لسان العرب، دار صادر، بیروت، 2012.
  • أبو داود، سلیمان بن الأشعث: سنن أبی داود، دار الحدیث، القاهرة، 2010م.
  • أبو زهرة، محمَّد: دراسة تحلیلیة فی تاریخ الفقه الإسلامی، المکتبة الشاملة، http://shamela.ws/browse.php/book-96605/page.
  • البخاری، محمَّد: الجامع الصحیح، مرکز الشیخ أبی الحسن الندوی للبحوث والدراسات الإسلامیَّة، مظفرفور، الهند،‏ ‏2015م.
  • البیانونی، محمَّد أبو الفتح: دراسات فی الاختلافات الفقهیَّة، دار السلام، 1985م.
  • البیهقی، أحمد بن الحسین: الاعتقاد، دار الکتاب العربی، بیروت، 1988م.
  • الجعبیری، فرحات: البعد الحضاری للعقیدة الإباضیَّة، جامعة السلطان قابوس، سلطنة عُمان، مسقط، 1987م.
  • الجیلانی المرینی: القواعد الأصولیة عند الإمام الشاطبی من خلال کتابه الموافقات، دار ابن عفان، القاهرة، 2002.
  • خلاف، عبد الوهاب: علم أصول الفقه، دار الحدیث، القاهرة، 2003م.
  • الخلیلی، سعید بن خلفان: تمهید قواعد الإیمان، ط1، مکتبة الشیخ محمَّد بن شامس البطاشی، ‏ مسقط، 2010م.
  • الخلیلی، محمَّد بن عبد الله بن سعید بن خلفان: الفتح الجلیل من أجوبة الإمام أبی خلیل، جمع وترتیب الشیخ سالم بن حمد بن سلیمان الحارثی، فهرسة أحمد بن سالم الخروصی، الناشر ذاکرة عُمان، ط1، 1437هـ/2016م.
  • الخلیلی، محمَّد بن عبد الله بن سعید بن خلفان: الفتح الجلیل من أجوبة الإمام أبی خلیل، المطبعة العمومیة، دمشق، 1385هـ/1965م.
  • الربیع بن حبیب بن عمرو الفراهیدی: مسند الإمام الربیع، ط1، د. ن، د. م، 2013م.
  • السالمی، محمَّد بن عبد الله: نهضة الأعیان بحریة عُمان، دار الکتاب العربی، القاهرة، 1960م.
  • السیفی، محمَّد بن عبد الله: النمیر: حکایات وروایات، د. ن، د. م، ج1.
  • الشاطبی، إبراهیم بن موسى: الموافقات، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت، لبنان، ج1، 1991م.
  • الشوکانی، محمَّد بن علی: فتح القدیر، دار الکتاب العربی، بیروت، 2005م.
  • المیدانی، عبد الرحمن حسن: الحضارة الإسلامیَّة وأسسها ووسائلها، دار القلم، بیروت، 1998.