أبو سلام سلیمان بن سعید الکندي (ت: 1960م) ومدائحه في الإمام الخلیلي؛ قراءة دلالـیَّة

الباحث المراسلأ.د. عیسى بن محمَّد بن عبد الله السلیمانی كلية العلوم التطبيقية، نزوى

Date Of Publication :2022-11-09
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

 

عُمان بلد له عمق تاریخی متجذر على مدى الحقب التاریخیة، تعاقبت علیها دول حکمتها عبر القرون، واستمر تتابع الحکومات والدول واحدة بعد الأخرى، تارکة وراءها إرثا حضاریا ضاربا فی الأعماق، متنوعا بین الحضارة والعلم والسیاسة. ونظرا للبعد القبلی والدینی والسیاسی، نجد عُمان فی بعض الفترات یحکمها حاکمان، مثلها مثل الحکم الذاتی. وقد حدث هذا الأمر فی أواخر القرن الثالث عشر الهجری حیث حکمت عُمان الداخل إمامة عُمان، هذه الحکومة استطاعت التوافق مع حکومة عُمان فی مسقط.

إن الفضاء الزمنی، والعمل الأکادیمی المسؤول، لا یسمح بالتوسع تاریخیا فی هذا المضمار، لکن المتلقی یمکنه التوقف عند تلک الأحداث من خلال الکتب الموسوعیة فی الجوانب التاریخیة. فکتاب «تحفة الأعیان» للإمام نور الدین السالمی والکتب التاریخیة الأخرى حریة بأن تشبع الباحث اطلاعًا على تلک الأحداث.

تهدف هذه الورقة إلى قراءة شخصیَّة فذة، وقامة من قامات عُمان، أضاءت الآخرین بفکرها المستنیر، بهدى العلم والسیاسة والدین، ألا وهو الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، فوطّد أرکان القطر العُمانی، وزرع التعایش السلمی الآمن مع الأطراف المجاورة، وهی أعمال سجلتها أقلام المؤرخین، وأنطقت ألسنة الشعراء المبدعین، أمثال شاعر الوطنیة والحریة أبو سلام الکندی. وأبو سلام سلیمان بن سعید بن ناصر بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن محمَّد بن سلیمان بن محمَّد بن بلعرب الکندی ولد فی محلة السویق بسمد نزوى عام 1292هـ/1870م، فی بیت علم وأدب وفقه. فأخوه عیسى بن سعید شاعر وأدیب له قصائد مشهورة، نشرت فی الصحف العُمانیَّة المهاجرة فی أوائل ثلاثینیات القرن العشرین، وأخوه أحمد بن سعید مثقف وواعٍ، وکان مشرفا على البعثة العُمانیَّة التعلیمیة إلى بغداد سنة 1940م، على نحو ما وجدنا من رسالة رسمیة خطها له السلطان سعید بن تیمور نفسه وعدّه «رائد البعثة التعلیمیة المرسلة من قبله لتلقی العلم فی مدارس القطر العراقی»، أمَّا أخوه صالح بن سعید فقد کان شاعرا أیضا، وقد عثرنا له على قصیدة فریدة نشرت مبکرا فی صحیفة «الفلق» بتاریخ 5/11/ 1932م، فی وصف الشام والحنین إلى دمشق التی یبدو أنَّه زارها فی تلک الفترة المبکرة([1]).

تلقى أبو سلام تعلیمه على والده سعید بن ناصر الکندی، ثمَّ انتقل معه إلى العامرات، ومن ثمَّ إلى وادی بوشر التی «تولى فیه إدارة الأوقاف نیابة عن أبیه، ثمَّ عاد إلى نزوى، وعاش فیها بقیة عمره عیشة البساطة والقناعة»، کما یصفها الأستاذ عبد الله الطائی فی ترجمته له. وفی سنة 1333هـ/1913م. نُفِیَ أبو سلام إلى الهند لاتهامه بمعارضة الاستعمار وسیاسة السلطان تیمور، ولما عاد من منفاه حطت رحاله فی دیار أهله وأجداده «نزوى». وعاش فیها إلى أن توفی ودفن فی مقبرة «الحظیرة» بتاریخ الرابع من رمضان سنة 1379هـ الموافق لـ مارس 1960م. وأبو سلام أحد رجال عُمان البارزین فی تاریخها القریب، وکانت له أدوار إصلاحیَّة مرموقة.

تروم هذه القراءة إبراز ما اکتنزته مفردات النص المدحی دلالیا عند أبی سلام الکندی فی شخصیَّة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، الذی أرسى دعائم الموطن العُمانی بالداخل، وساعد على استقراره، رغم العقبات التی منی به العالم العربی إبان تلک الحقبة. کما أن شخصیته الممیزة فی شجاعتها وتواضعها أخجلت الشعراء والواصفین، لذا انبرت المفردات الشعریة متجلیة فی إبراز صفاته؛ قدوة للآخرین.

ودیوان أبی سلام الکندی بقصائده الداعمة والداعیة إلى صوت الیقظة والحریة، حافلة بتلک الدرر الشعریة المخلّدة لمناقب الإمام الخلیلی، وجهوده العلمیة والعملیَّة، والتی أبانتها نصوصه المسجلة للأحداث الطیبة التی قدمها، ومن ذلک قصیدته التی مطلعها (بحر الکامل):

روتِ السیــــــــــــــــوفُ تصادمَ الأقرانِ

وحکى الصحاحُ مصارعَ الشجعانِ([2])

هذه القصیدة جاءت فی أربعة وخمسین بیتا مخلدة حادثة نخل، وهی أحد نصین محللین فی هذا البحث. ولم تتوقف نفثات الشاعر الوطنی أبی سلام عند النص السابق، بل وصف أرضیة المعرکة، وما تجلى بعدها من انتصار، وبعث رسالة تهنئة حملت فی طیاتها بعدا إیجابیا للإمام وجنده، إثر واقعة حدثت بعبری. وقد حملت هذه القصیدة -أیضا- بُعدًا عکسیًّا للخصم جراء ما أصیب به من هزیمة وانتکاس. لم تکن القصیدة مجرد مناقب یعددها الناظم مثل ما کانت علیه القصیدة المدحیة الجاهلیة، بل حملت ضمن متتالیاتها الفکریة أبعادًا ذات حمولات ارتبطت بالدین والأخلاق. هذه القصیدة جاءت فی ثلاثة وثلاثین بیتا استهلها بقوله (بحر الرمل):

نفحَ النصـــــــــرُ فهبُّوا مسـرعینْ

وارفعوا الرایةَ بینَ العالمینْ([3])

واستمرت عطاءات شاعر الوطنیة فی نظم المزید من النصوص؛ تسجیلا للأحداث التی تحقق فیها النصر والتفوق من قبل الإمام الخلیلی على أعدائه ومناوئیه، ومن ذلک قوله فی قصیدة صدّرها بقوله (بحر البسیط):

الیومَ أصبــــــــــحَ هذا القطرُ مبتسما

وأصبحَ الدهرُ یبنی کلَّ ما هُدما([4])

وقد أبرزت نصیة القصیدة مناقب الإمام وأصحابه، على مستوى عشرین بیتا، سجل فیها حادثة عبری، واصفا الواقعة بلغة خطابیة سهلة، غایتها التحفیز والاستنهاض، هذه القصیدة هی الأنموذج الثانی من هذا البحث.

لم یکتف الشاعر بما سجله من سابق القصائد فی الإمام الخلیلی، بل تواصلت شحناته الإیجابیة فی التفاعل مع الأحداث والمعارک التی کانت تحدث بین الفینة والأخرى بین الإمام وخصومه. فقصیدته التی جاءت بلغة السیف، فی قوتها وخطابیتها، سجّلت أحداثا جساما وقعت فی عبری کذلک. هذه القصیدة مطلعها (مجزوء الرجز):

بالسیــــــــفِ قمْ وذرِ القلمْ

فالسیفُ یجلو کلَّ همْ([5])

لقد تعمقت اللغة الخطابیة فی هذا النص المشبع بلغة الحماسة والقوة اللفظیة والدلالیة، على مدى ستین بیتا، منادیا القوم بالالتفاف مع الإمام، والوقوف معه صفا متینا؛ انتصارا للحقِّ وسحقا للباطل. واستمرت تتوالى الدلالات المبثوثة من قبل أبی سلام؛ إعجابا بهذه الشخصیَّة، فجاءت قصیدته التی اکتنزت مفرداتها بوصف لحظات النصر الفارقة، والبشرى التی عمت السهل والجبل، وکان ذلک فی حادثة الحمراء، حیث تعدت أبیاتها أربعة وأربعین بیتا مطلعها (بحر الوافر):

ألا بشـــــــرى إمامَ المسلمینا

بنصـرٍ منْ إلهِ العالمینا([6])

إذا کنا قد توقفنا إشاریًّا مع القصائد المباشرة فی مدائح الخلیلی، وتسجیل انتصاراته، فهناک من القصائد التی لم تغفل ذکر الإمام ومآثره، وذلک بلغة التناص التاریخی، والتعالق الدینی والثقافی. وکلُّ ذلک جلیٌّ فی أغلب قصائد الدیوان.

بعد تلک المساحة البادئة، التی مهدت لنا قراءة الأبعاد النصیة التاریخیة والثقافیة والسِّیاسیَّة، لمدائح أبی سلام فی شخصیَّة الإمام الخلیلی. ننتقل بالمتلقی مع وقفة متأنیة، تحاول قراءة البعد الدلالی، هذه الأبعاد الدلالیة عمقت الرؤیة الدالة، وأعطت بعدا تصوریا، إذ الصورة لوحة تشکیلیة، وأداة مُهمة فی بناء القصیدة، وتتجلى تلک الصورة من المضاعفة الدلالیة التی تأتی نتیجة الترابط بین الوحدات المکونة للصورة. فالصورة ودورها الوظیفی یبرز من خلال البعد الدلالی الذی تحققه، ومن خلال التلاحم البنائی المتنامی مع لغة النص، الذی یُظهر الصورة بشکل فنی کـ «اللوحة فی الرسم الفنی، فکما أننا لا نستطیع إطلاق مصطلح اللوحة على أحد عناصرها المکونة لها، فإننا کذلک لا یمکن أن نطلق مصطلح الصورة على أحد عناصرها المکونة للعمل الشعری»([7])، إذ کل عنصر یُسهم فی بناء هذه الصورة، ویضیء زاویة من جوانبها. فالاتصال بین الأجزاء والوحدات المکونة للنص تولّد الصورة. «ولما کان العمل الشعری یصدر عن تجربة خاصَّة متمیزة، فإن کل قصیدة – بالتالی – تحتفظ لنفسها بشخصیة مستقلة ومتفرّدة تفرّد التجربة التی تعبّر عنها»([8]). فکل قصیدة لها خصوصیات بنائیة/تکوینیة تمیزها عن غیرها؛ وبذلک تکون کُلُّ قصیدة بناء مستقلا عن الأبنیة الأخرى.

تبدأ الصورة من الترکیب الأسلوبی لتصل إلى التصور الدلالی، وعلیه ستقرأ هذه الورقة البعد الدلالی فی شعر المدیح لأبی سلام الکندی للإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی من خلال مبحثین: الصورة الترکیبة، والصورة المعجمیة، وصولا للبعد الدلالی الذی کونه ذلک البناءان، مستفیدا من المناهج النقدیة المعاصرة فی دراسة ذلک البعد، کمنهج التلقی والوصفی والتأویل والتحلیل.

الترکیب وبعده الدلالی:

من الأدوات البانیة لمنظومة النص الشعری الترکیب؛ کونه أساسا فی بناء ذلک النسق الشعری. وتقوم على أنظمة الشعر اللغویة مجموعة من الجمل والتراکیب المتتابعة والمترابطة، والمتمتعة بوحدة بنیویة. ویشکِّل ذلک الترابط ما یُسمى بالنص، وبذلک یجد النص نفسه مشدودا لسلطة البناء اللغوی، إلاَّ أنَّه لا یلبث أن ینزاح الترکیب النحوی من رعایة النحاة واللغویین إلى البلاغیین. وسنحاول إبراز لغة العلاقة بین البناء اللغوی والدلالة المعجمیة، ضمن نموذج یجلی لنا تلک الحیثیات وفق سیاقها النصی.

إن لغة البناء العمودی للنص الشعری عند شعراء العصر الحدیث یحاکی لغة البناء الجاهلی، فالقصیدة فی بعدها المعجمی تحمل فی الغالب معانی متعددة؛ ممَّا تجعل القارئ یعیش بین مدلولات مختلفة فی ظاهرها، على الرغم من انسجامها إیحائیا، ولمنهجیة البحث الذی یحاول رسم صورة الممدوح عند أبی سلام کقائد وإمام، یجعلنا نستل من النص ما یتناسب والدلالة المطروحة، مع الإشارة لکلیة النص؛ لکونه یمثل رؤیة عامَّة لمرجعیة الصورة.

النص الأول: صیغ لتخلید حدث قام به الإمام الخلیلی إبان توحید البلاد إلى مؤسسة واحدة وفق إدارة مرکزیة. حاول الشاعر فیه بث ما فی داخله من إعجاب لتلک البسالة، والتضحیات التی استمات الإمام وجنوده فیها؛ حبا لاستقرار الأمن فی البلاد؛ وخروجا من الفتنة والقلاقل، فرسم الشاعر بریشته تلک الأحداث فی قصیدته التی قال فیها:

قال أبو سلام الکندی فی فتح نخل (بحر الکامل)([9]):

روتِ السیوفُ تصـــــــادمَ الأقرانِ

وحکى الصحاحُ مصارعَ الشجعانِ

فاستحسنَ الإسنـــــــادُ حسنَ رویّها 

فتسلسلتْ منْ صـــــــارمٍ وسنــــانِ

نقلتْ صحائفُها الصحاحَ وترجمتْ 

أیدی الکمـــــــاةِ عوالیَ الأمـــرانِ

فتحدثتْ قــــــراؤها إذْ شاهــــــدتْ 

یومَ الکریهــــــــــةِ ملتقى الجمعانِ

نقضتْ بنو حراصَ عهدَ إمامِهــــمْ 

وعتوا عتوًّا معْ بنی ذبیـــــــــــــانِ

وانضــــــمْ جنـــــدُ الغافریَّةِ عندهمْ 

بجمــــــوعهمْ کالوابلِ الهتـــــــــانِ

جـــــــــاءوا کآسادِ الوغى یتقحّموا 

یتهــــــــافتونَ تهافةَ العمیّــــــــــانِ

فی موکبٍ مثلَ الصقورِ یقودُهـــــمْ 

زهرانُ فی رکبٍ منَ الشجعـــــــانِ

حاطوا على نخلٍ ومدّوا جیشهــــــمْ 

فیهـــــــا وصالوا صولةَ السـرحانِ

مدوا خمیسهمُ على أبراجِهـــــــــــا 

وتحصّنـــــــوا فیها على البنیـــــانِ

والحصنُ أشعلَ نارَهُ ببروجِـــــــــهِ 

حتَّـــــى غدا یربو على کیــــــــوانِ

لم تثنِـــــــهِ صعقاتُ وائلَ حولَـــــهُ 

یرجو انتصارَ الواحدِ الدیـــــــــــانِ

دامَ الحصــــــــارُ علیهِ شهرًا کاملاً 

ویُرى حصــــــــــارُ القوم ِکالهدیانِ

غدرتْ بهِ نخلٌ وخانتْ عهدَهـــــــــا 

لم ترعَ حقَّ الجارِ بالإحســـــــــــانِ

ماذا دهى نخلاً وماذا غرّهــــــــــــا 

فی نقضِها عهدًا عظیمَ الشــــــــــانِ

بـالأمسِ أنقذکِ الإمامُ منَ الأســــى 

وکساکِ ثــــــــــوبَ العزِّ بعدَ هوانِ

فأتى الصــــــریخُ إلى الإمامِ بمحرمٍ 

کی یخبروه مکـــــــائدَ العـــــــدوانِ

لبَّى نداهـــــــــــــمْ فی خمیسٍ أرعنٍ 

کالبــــــــحرِ ماجَ بشدةِ الطوفـــــــانِ

فأتـــــــى وناخَ بدارِ شمسٍ جیشُـــــهُ 

فـــــــــاستبشـرتْ بقدومِهِ الثقـــــلانِ

فــــــــــأتتهُ أنصارُ الإلهِ جمیعُهــــــمْ 

منْ آلِ عدنــــــــــانٍ ومنْ قحطــتـتانِ

بعـــــــــثَ الإمامُ إلیهمُ بنصائــــــــحٍ 

أن یرجعـــــــــــوا فأبوا عنِ الإذعانِ

فدعـــــــــاهمُ للهِ دعوةَ مخلــــــــــصٍ 

أن یرجعــــــــــوا عنْ طاعةِ الشیطانِ

وإلى الشـریعةِ والکتــــــــــابِ دعاهمُ 

فأبوا وقالـــــــــوا لیسَ بالکتمــــــــانِ

لم نـــــــرضَ غیـرَ السیفِ یحکمُ بیننا 

فی حکمِــــــــــــــهِ عدلٌ على الإنسانِ

لما رأى أنَّ النصـــــــــــائحَ فیــــــــهمُ 

لم تغنِ نفعًـــــــــــــــا غیر قمعِ الجانی

فدعـــــــــــا الإمامُ جنودَهُ فتقدمـــــــوا 

فی لمحــــــــــــــةٍ کالبرقِ فی اللّمعانِ

ساروا وســــــــــــارَ إمامُنا فی جحفلٍ 

ستــــــــــرَ العیونَ بغبرةٍ ودخــــــــانِ

رکضَ الإمـــــــــــــامُ بجیشِهِ وأمیرُنا 

عیسى یجـــــــــــــولُ بحومةِ المیدانِ

لم یشــــــــــــعروا إلاَّ البنادقَ ترمِهمْ 

برصــــــــــــــــاصِها کالوابلِ الهتّانِ

صــــــــــــاحوا علیهمْ صیحةً ملأتهمُ 

رعبًــــــــــــــــا وجالوا جولةَ الثعبانِ

فهنـــــــــاکَ بانَ أخو البسالةِ إذْ غدتْ 

روسُ الرجــــــــــــالِ تطیرُ والأقرانِ

اللهُ أکبـــــــــــــــــــــرُ یا لها منْ وقعةٍ 

ترکتْــــــــــهمُ صـرعى على الحیطانِ

ســـــــــــــالَ الدماءُ بأرضِها وشعابِها

فجرتْ على الهضبـــــــــاتِ والودیانِ

للهِ وقتٌ ذوبتْ نیرانُـــــــــــــــــــــــــهُ 

غشَّ النفاقِ وفرّ کلُّ جبـــــــــــــــــــانِ

منَ فرّ منْ رمی البنادقِ حسبُــــــــــــهُ 

ضـــــربُ السیوفِ وطعنةُ الفتیــــــانِ

خربتْ دیارهمُ وأمسوا عبــــــــــــــرةً 

فی کلّ مصـــــــــــــرٍ، بلْ بکلِ مکانِ

فی عاشـــــــــرِ الحجِ المحرّمِ رفرفتْ 

رایاتُهُ وتقابــــــــــــــــــــلَ الخصمانِ

للهِ یومُ النحرِ([10]) فی نخـــلٍ غدتْ 

جثثُ الرجــــــــــــالِ فریسةَ الغربانِ

ترمــــــــــــی الجمارَ قسیُّهمْ ونبالهُمْ 

وسیــــــــــوفُهمْ صلّتْ على الأذقانِ

صـــارت مِنى نخلٌ وصارَ طوافُهمْ 

فیهـــــــــــا وصارتْ کعبةَ الجیشانِ

فتفرّقتْ آراؤهمْ وجمــــــــــــــوعُهمْ 

باءتْ وباءَ القومُ بالخســـــــــــــرانِ

ولّوا علـــــــــــــى أدبارِهمْ لم یلبثوا 

فیهــــــــــــــا وکانَ النصـرُ للقرآنِ

بشـرایَ قـــــــــدْ جاءَ البشیرُ مهنئًا 

بالنصـــــــرِ منْ ربی العلیّ الشانِ

نُشـــــرتْ له الأعلامُ منْ فرحٍ وقدْ 

تــــــــــاهتْ عُمانُ بهِ على البلدانِ

هجمَ الســــــــــرورُ علیّ حتَّى أنهُ 

منْ عظـــــــمِ ما قدْ سرّنی أبکانی

لا غــــــروَ إنْ نصـرَ الإلهُ محمَّدًا 

فلقدْ حبـــــــــــــــــــاهُ اللهُ بالإیمانِ

فلیفخرِ الإســـــــــــــــلامُ قاطبةً لهُ 

فخرًا یراهُ الدهـــــــــــــرُ کالعنوانِ

دمْ یا إمامَ المسلمیــــــــــــنَ مظفرًا 

بالنصــــــــــــــرِ والتأییدِ والإمکانِ

وإلیکَ یا منصــــــــــورُ منی مدحةٌ 

قــــــــــــــدْ رصّعتْ بالدرِّ والعقیانِ

جاءتکَ تسعى منْ محـــــبٍ مخلصٍ

فغدتْ برأسِ القــــــــــــومِ کالتیجانِ

أخرســــــــتُ قلمی برهةً لمْ أنظمنْ 

شعــــــــــرًا ولا مدحًــا لدى سلطانِ

حتَّى أتـــــــــــى هذا البشیرُ مخبّـــرًا 

بالفتــــــــحِ منکَ تحرَّکتْ أشجـــانی

یـــــــــــا ربُّ وفِّقنی لنصـرةِ دینِــــهِ 

واختمْ رجــــائی منــــــــکَ بالغفرانِ

القصیدة العربیَّة عبر تاریخها الطویل، لم تخرج عن بعدها الهیکلی الخارجی، الذی اعتمد على البحر العروضی والقافیة المطلقة أو المقیدة، وما ارتبط به النص من مقدمة وموضوع وخاتمة، وکذلک نرى – فی الغالب - أن البنیة الدَّاخلیَّة لهذه القصیدة العربیَّة لم تخرج فی بنائها عن البعد التراثی، من حیث التکوین المعجمی، واللغة التصویریة، إلاَّ أن الشعراء من زمن لآخر یحاولون الخروج عن ذلک التأطیر الذی حدده القدماء لبناء النص، فتجد الشاعر یلِج إلى نصه مباشرة، غیر متوقف على الأطلال والدمن، والنسیب والغزل، مشتغلا بالفکرة التی یرید تأسیسها لنصه، وهو ما برز عند لغة الشاعر أبی سلام؛ حیث ولج إلى البعد النصی، متعدیا المقدمة، داخلا بمفرداته الدلالیة إلى أرضیة المعرکة؛ واصفا المعترک. فالمطلع الذی بدأ به نصه «روت السیوف تصادم الأقران...» یوحی بتحقق الحدث، وانتهاء المعرکة لصالح الإمام، من خلال صیغة الماضی التی صُدِّرت بها تلک المتتالیات النصیة، والتی جاءت ضمن نسیج اللغة المدحیة:

روت السیــــــــوف تصادم الأقران

وحکى الصحاح مصارع الشجعان

فاستحســـــــن الإسناد حسن رویها

فتسلسلت من صـــــــــــارم وسنان

نقلت صحائفها الصحاح وترجمت 

أیدی الکمــــــــــاة عوالی الأمران

فتحدثت قراؤها إذ شـــــــــــاهدت 

یوم الکریهة ملتقى الجمعــــــــــان

فالأفعال الماضیة: «روت» + «حکى» + «فاستحسن» + «فتسلسلت» + «نقلت» + «ترجمت» + «فتحدثت» + «شاهدت»، جاءت بصیغة الحدث المنصرم، وبدلالة صوتیة واحدة. فالرویُّ، والحکی، والنقل، والتحدث = الرویَّ الأمین لتلک المشاهد، وذلک ما أراده الشاعر فی بعده التصویری.

تلک المفردات السابقة، قرأت التعاون المثمر بین القائد وجنده، وما تجلّى من بُعد إیجابی فی ذاتیة المتلقی المنتصر، وسلبی فی ذاتیة المهزوم، فالمنتصر کانت له مکافئة معنویة، ووقود نفسی لمواصلة ذلک الحماس ضد خصمه، والمتلقی السلبی – العدو – کانت له قاصمة بهزیمته الحسیة والمعنویة؛ لذلک حققت المفردات السابقة بعدین إیجابیین.

إن الأفعال باستقلالها، لا تعطی معنى مفیدا، إلاَّ إذا ارتبطت بالسیاق النصی: «فروت السیوف» فی قاموسیتها لا تفید سوى نقل الخبر؛ لکن بانسجامها مع سیاقیة العبارة التالیة أتت بمعانی جدیدة، وحملت دلالات أفادت نشوة النصر، خاصَّة عندما تآزرت جمیع تلک الأفعال الماضیة فی عملیَّة نقل الحدث، ومن هنا نستطیع القول بأن الخلق الدلالی یأتی نتیجة التفاعل اللغوی والصوتی.

إن شخصیات القیادة تختلف فی تکوینها، وتتباین فی سلوکها ومکوناتها؛ نظرا لأساس تکوینها ومحیطها المکانی والزمانی؛ لذلک نجد - غالبا - تمجیدا للحکام والأمراء من قبل شعراء عصرها؛ نظرا لما ینالوه من سخاء وعطاء، نظیر ذلک. إلاَّ أن هذه النظریة لیست مطردة، فشخصیة – الإمام الخلیلی – مرموقة، کونتها سلوکیات إیمانیة، وربّتها روح التضحیة؛ ممَّا أثنى علیها العَالِم قبل الجاهل، وخلدتها تضحیاتها وإخلاصها لوطنها، فحریٌ بها أن تنال إعجاب الشعراء، لا لمقابل العطاء، بل مقابل ما قدمته من تفانٍ فی سبیل عزة الإسلام. هذا ما قرأه النص فی صفات هذه الشخصیَّة الفذة، شخصیَّة الإمام الخلیلی.

بعد أن نقل الشاعر صورة مختصرة لمرویة النصر، انتقل من البعد العام إلى البعد التفصیلی لمجریات المعرکة، کیف حدثت؟ وما هی الأسباب التی أوجبت على الإمام اتخاذ هذا القرار لخوض المعرکة؟

- نقضت بنو حراص عهد إمامهم، وعتو عتوّا مع بنی ذبیان.

- غدرت به نخل وخانت عهدها.

- ماذا دهى نخلا وماذا غرها.

- بالأمس أنقذک الإمام من الأسى.

- فأتى الصریخ إلى الإمام بمحرم.

- لبّى نداهم فی خمیس أرعن.

الأفعال: «نقضت» + «غدرت» + «عتوا» + «خانت» أفادت خیانة القوم ومخالفتهم للإمام، فی دلالة على الحدث المنصرم، وأبانت السلوک الخاطئ الذی مارسه هؤلاء القوم، فجاءت المفردات النصیة بلغة تتقدمها الخطابیة والشفافیة؛ إیضاحا وفضحا لذلک السلوک الشائن، وتأکیدا لحدوث تلک الأفعال، جاءت مکونات النص بصیغة الماضی، کما أن التکرار الدلالی المؤکد لتلک الصفات الذمیمة؛ جعل الإمام یفکر فی إیجاد حل لهذه الإشکالیة العمیقة، فکان قراره فی العلاج متدرجا، کما أفادته سیاقیة النص:

- بعث الإمام إلیهم بنصائح.

- فدعاهم لله دعوة مخلص.

- وإلى الشریعة والکتاب دعاهم، فأبوا وقالوا لیس بالکتمان.

القیادة الحکیمة التی یتمیز بها الأئمة والقادة والحکام، لم تکن ولیدة اللحظة؛ بل نتیجة تربیة عمیقة، وفکر مستنیر، وفقه حربی. لذلک لم یتعجل الإمام الأمر فی مقاتلة القوم، بل بدأ بخطوة الدعوة لنصحهم ومحاججتهم بالأدلَّة والبراهین، علهم یستجیبوا لنداء العقل، إلاَّ أنَّهم حکّموا أهواءهم وأصروا على المخالفة؛ ممَّا اضطر الإمام لمقارعتهم، وإحقاق الحق، وردع الباطل. وهذه الحنکة والحکمة تعد أسا مهما فی الشخصیات القیادیة، وهی ما اتسمت بها شخصیَّة الإمام الخلیلی، وقد حققتها أبعاد الجمل الفعلیة:

- فدعا الإمام جنوده فتقدموا.

- ساروا وسار إمامنا فی جحفل.

- رکض الإمام بجیشه.

لقد أفادت الجمل السابقة، الخطوات التی اتخذها الإمام فی معالجة الإشکالیة، والمتمثلة فی عدم استجابة الخصم للخضوع تحت إمرة القیادة العامَّة؛ ممَّا جعل الإمام الخلیلی یصدّر أمره لإخضاع المناوئین. کما أن النص لم یغفل تسجیل المشارکة الفاعلة من قبل القائد، ونزوله المیدان؛ قدوة وأسوة لأتباعه، وهذا ما حققته المتتالیات النصیة بصیغها الماضویة الدالة على الممارسة الواقعیة لقیادة المعرکة.

لم تکن تتابعات اللغة بعیدا مفهومیا ودلالیا عن المتلقی، فالقراءة الأولى لمستوى النص تعطی الغایة والهدف، وما سطحیة المعجم الذی سیطر على مستوى البناء فی غالب النص، إلاَّ أمرا قصدیا؛ تحقیقا لإعلان هذه المبادئ لدى المتلقی الإیجابی والسلبی، المتجسدة فی مشارکة الإمام قومه فی المعرکة. کما أن الدلالات التی ساقتها الجمل السابقة تمحورت حول بعد یتمثل فی الشخصیَّة الحازمة الجادة، والتی تتملک القدرة على اتخاذ القرار الإیجابی بدون توان، وبسرعة یتطلبها الموقف فی تنفیذ ما شرع تنفیذه؛ مصلحة للوطن وأتباعه، وهو ما تبدّى جلیا من دلالات بناء جملته الفعلیة، والتی جاءت فی سیاق الماضی.

إن اللغة التعبیریة لمستوى النص تتباین من شاعر لآخر، حسب مقومات البناء اللغوی والخیال التصویری، وقد تمثلت هذه القدرات عند مجموعة من شعراء العربیَّة القدماء والمحدثین، فجاءت سردیات نصوصهم مختلفة باختلاف المحیط البیئی، والمقوم التصویری، والدافع الشعوری. وأبو سلام قدّم للمتلقی نصا شعریا حاول استنطاق الحدث من خلال متتالیاته الفکریة بلغة جملیة، تمظهرت بأسلوب خطابی سردی بدیع، تجلت فی مفرداته لغة الناقل والمصور، وکأنه صحفی یصور المشهد بعد إعلان نتیجة النصر:

بشرای قد جاء البشیر مهنئا... ..... .

نشــرت له الأعلام من فرح... ... …

هجــــــــــــــم السرور علیّ... ... …

لا غرو إنْ نصرَالإلهُ محمَّدًا... ..….

فلیفخــــــر الإسلام قاطبة له... ... ..

«فجاء» + «نشرت» + «هجم» + «فلیفخر» أفعال دلت على البعد الماضوی، وما أثارته من تعبیرات، عمقت الروح الإیجابیة لدى المتلقی من خبر النصر، وسجلت فی نفس السیاق مدلولات سلبیة فی ذاتیة الخصم، وبذلک حققت اللغة السیاقیة المطلوبة.

ویمکننا القول بأن اللغة السردیة سیطرت على الجملة فی النص؛ کونها جاءت بلغة خبریة تصف الحدث، إذ لم یکن للجملة الإنشائیة ذلک الحضور المباشر، مثل ما کانت علیه الجملة الخبریة؛ وذلک یوصلنا لنتائج ترتبط بالبعد الدلالی:

- إذ النص کان بعده مدحیا راویا لسیرورة المعرکة، وما ارتبطت به من وقائع وأحداث تخللت ذلک الحدث.

- کما أن أمر البت فی تلک المشکلات التی حدثت للإمام، جاءت بقرار حازم وسریع؛ نتیجة استفحال المشکلة.

- والنص بأبعاده الدلالیة، حقق اللغة التی من أجله تأسس النص، فجاءت لغته سهلة مباشرة؛ تحقیقا للبعد النفسی، الذی هدفه بعث الروح المعنویة فی ذاتیة الممدوح وجنده المخلصین، وعلیه حقق بعدا آخر، تجلّت مرجعیاته فی الاستمرار والصمود؛ عزًّا ومنعة للوطن العزیز.

- إن المفردة باستقلالها عن تالیتها لا تعطی بعدا دلالیا، حتَّى تتعانق لغة وترکیبا مع ردیفتها، وبذلک یتشکل البناء؛ لیعطی بعدا ذا دلالة عبر الرسالة القصدیة التی بثتها أجهزة المرسل عبر رسالة إلى المتلقی.

المعجم وبعده الدلالی:

تتشکل القصیدة العربیَّة من مفردات مترابطة متناسقة، یحکمها القالب العروضی الخلیلی، وتتجلى أبعاد النص الدلالیة من جراء مکوناته المعجمیة. فالمعجم الشعری یبرز فی القصیدة؛ لکونه جزءا مهمًّا فی بنائها، ویعکس المستویات المختلفة لواقع القصیدة، دینیة، وثقافیة، واجتماعیَّة، وتاریخیة، بشکل عام؛ فهو یمثل الرصید الخام الذی یتألف منه الکلام. فالشاعر ینتقی من مفردات اللغة ما یتلاءم وتجاربه؛ ممَّا یجعل ذلک الاختیار حرا لمفرداته، حسب ما یقتضیه الموقف الشعری.

إن النص الشعری یمثل فی ذاته وبصورة خاصَّة لغة منظمة، هذه اللغة موزعة إلى وحدات لفظیة، بحکم أن هذا یُعد أبسط المحاولات وأکثرها تلقائیة فی توزیع النص إلى وحدات دالَّة([11]). هذه الوحدات المستعملة تندمج ضمن شبکة لغویة واسعة، إمَّا أن تبقى مرجعیتها سطحیة، وأمَّا أن تتولد منها لغة جدیدة، حسب السیاق الذی یفرضه النص، فتولُّد لغة جدیدة جاء نتیجة انزیاح عن اللغة العادیة. وعلیه فـ«الشعر یُعبِّر عن مفاهیم وأشیاء تعبیرا غیر مباشر»([12])، وأنَّه یعبر تعبیرا مباشرا فیفقد شعریته.

إنَّ المجال الدلالی للشعر یختلف باختلاف الشاعر والتجربة، فمنه ما کان ملامسا للحیاة الیومیة، یهتمُّ بجزئیاتها الرتیبة، لکنَّها دلالات مفهومة، یقبلها العقل والفهم، لذلک فهذه الصور یمکن أن تستوعبها دونما حاجة إلى مقاییس وشروط؛ کون مجالها التصوری الإدراکی لا یتعدَّى حدود قراءتها الأولى، فحقولها الدلالیة «التی یتکون منها المجال الإدراکی عند الإنسان، لا تحتاج حین نتواصل فی شأنها عبر اللغة الطبیعیة إلى العقل والفهم الثاقب، والقبول والاصطفاء، والاستئناس بالقرائن؛ لأنَّها حقول متماهیة مع هذه اللغة، ومنظمة بحسب معطیاتها الصوتیة، والصرفیة، والاشتقاقیة والترکیبیة إلى الحدِّ الذی یجعل کل حقل دلالی نتیجة مباشرة لنظام اللغة أو بنیتها، وهو ما یسفر عن تداول هذه الحقول تداولاً مشترکا یظل هو نفسه فی کلِّ وضعٍ تواصلی ضمن حیاتنا الیومیة»([13])، ولیس معنى ذلک أن اللغة المفهومة هی لغة مبتذلة، وإنَّما تنازلها إلى لغة مباشرة وخطابیة، بَعُدت وحداتها الإخباریة عن اللغة التصوریة التی یمکن أن یُنشئ القارئ منها لغة جدیدة، تولّدت من وحداتها اللغویة.

کما أن تجربة الشعر تنساق ضمن اللغة التی ینتجها التفاعل بین الشاعر وما حوله، فقد یفرض الواقع الشعری لغة تواصلٍ بین الباث والمتلقی؛ لتحقیق البُعد الشاعری الذی أرادته التجربة الشعریة، فکان أقرب للغة الطبیعیة؛ تعالقا مع الواقع، وضمن هذا السیاق نقف مع نص شعری کونته مفردات أُرید منها تحقیق أبعاد ارتسمت فی ذاکرة الباث، تحمل بین مکنوناتها سیاقیة نصیة، تتمثل فی بث لغة الفرح؛ ابتهاجا بالنصر، بأسلوب خطابی مباشر؛ إیصالا لدوال النص للمتلقی العادی.

قال أبو سلام الکندی فی موقعة عبری (بحر البسیط):

الیــــومَ أصبحَ هذا القطرُ مبتسمـــــــــــــــا

وأصبحَ الــــــــــــــــدهرُ یبنی کلَّ ما هُدما

وقــدْ غدا الناسُ کلاً عنــــــــــــــدَ صاحبِهِ

مهنئًـــــــــــــــا فکأنَّ العیدَ بینهمـــــــــــــا

وأسمعُ النقعَ منْ فـــــــــــــوقِ القلاعِ على

کلِّ حصنٍ غدا فی رأسِـــــهِ علمــــــــــــا

وقفتُ أســــــــــــألُ ما هذا الســـرورُ وما 

تلکَ البشـــــــائرُ هلاّ موکبٌ قدمـــــــــــا

فقیـــــــــــلَ إنَّ إمـــــــــــامَ المسلمینَ أتى

منـــــهُ البشیرُ وقدْ دانتْ لهُ العظمــــــــــا

فقمـــــــــــــتُ أنظمُ أشعاری أهنئـــــــــهُ

والمسلمیـــــنَ ومنْ فی سلکِهِ انتظمـــــــا

ولمــــا غدتْ أرضُ عبری والذی شملتْ

منَ البــــــلادِ تحیّی السیّدَ العلمــــــــــــــا

أضحتْ جمیعُ بلادِ الســــــــرِّ طائعــــــةً

تطالبُ العفوَ منهُ تســـــــألُ الذممــــــــــا

کأنمــــــــــــا عرفتْهُ قبلَ رؤیتِـــــــــــــهِ

لّمــــــــــا رأتْهُ کفاها البؤسَ والنقمـــــــا

کـــــــمْ رامَها قبلَهُ قومٌ وقــــــــدْ عجزوا

عنْ نیلِهـــــــا فسقوا منْ کأسِها ندمــــــــا

لمّـــــــا أتیتَ إلیها یا بن بجدتِهـــــــــــــا

جاءتْکَ عفوًا بهذا اللهُ قدْ حکمــــــــــــــا

محمَّد نجــــــلُ عبد اللهِ أنتَ لهــــــــــــــا

فقمْ إلیهــــــا وعاملْها بما لزمـــــــــــــــا

إنِّی أهنیکَ والإسلامَ قاطبـــــــــــــــــــةً

فــــاشکرْ إلهکَ منْ أسدى لکَ النعمـــا

بشــــرى لکمْ یـــــا رجالَ السـرِّ إنَّ لکمْ

بصفحــــــةِ الدهرِ غفرانٌ لکمْ رسمــــــا

وکمْ لکمْ منْ حمیدِ الذکرِ أنشـــــــــــــرُهُ

ومفخرًا نلتموهُ، أیُّها الکرمــــــــــــــــــا

إذْ صــــــــــــرتمُ لإمامِ المسلمینَ یـــــدًا

وسیـــــفَ حــــــــــــقٍ إذا ما ظالمٌ ظلما

یا أیُّهـــــــا العُربُ هبّـــــوا منْ مراقدِکمْ

فالیوم أصبح جرح الدین ملتئمــــــــــــا

وأسمعونی قــــــــــراعًا منْ کتائبکـــــمْ

فإنَّنی لستُ أرضــــــــى غیرَها نغمــــا

حتَّى أرى ضنکَ بعدَ الضنکِ فی سعةٍ

من عیشِهــــــا وأرى منْ حوِلها حرما

یــــــــــا خیرَ یومٍ تجیئُ الرسلُ تخبرُنا

أنَّ الإمـــــــــــــامَ بضنکٍ یجمعُ الکلما

تأسست لغة النص السابق بجمل تداخلت بناها بین الخبر والإنشاء، تحکی لنا بأسلوب سردی حادثة الانتصار الذی تحقق على ید الإمام وجنده. تلک المفردات النصیة جاءت بصیغة الجملة الماضویة، وقد تصدرت مقدمتها دلالات الزهو والفرح؛ تعبیرا عن الإعجاب الذی قُدِّمَ من قبل الفاتحین. ذلک الاستهلال أعطى المتلقی شحنة إیجابیة، وفی المقابل بثت نفس المفردات السابقة إشارات سالبة للمتلقی الضد/ العدو:

- أصبح هذا القطر مبتسما.

- أصبح الدهر یبنی کلما هدما.

- وقد غدا الناس کلا عند صاحبه مهنئا.

- وقفت أسأل ما هذا السرور وما تلک البشائر.

- فقیل إن إمام المسلمین أتى منه البشیر وقد دانت له العظما.

لقد صاغ الشاعر مفرداته النصیة بمعانی دلت على التحول «أصبح» + «وقد غدا». ولم یکتف الباث بتلک اللغة الوصفیة الخبریة، بل جسَّد إیقاعات صوتیة تجلت من خلال الأسلوب الذی انتقل من الجملة الخبریة إلى الجملة الإنشائیة «وقفت أسأل ما هذا السرور»، ثمَّ تحولت صیغة النص إلى لغة الحوار التی بنى علیها متتالیاته الفکریة: «وقفت أسأل، فقیل إن إمام المسلمین منه أتى البشیر». هذه المفردات بمباشرتها وسطحیتها، کونت لدى المتلقی بعدا جدیدا، أوحت بلغة التحوُّل من البؤس والحزن إلى السرور والطرب؛ نتیجة لما حدث من لَـمٍّ للشمل، واتحاد القوم بعد التفرق؛ حقنا للدماء.

کما بعثت تلک الأخبار السارة لدى الشاعر نشوة الزهو والإعجاب، فجاءت صوره فی غایة الإبداع، وکأنه یعیش الحدث رؤیة وقلبا؛ وذلک ما ترجمته الدلالات التعبیریة التفصیلیة لمجریات المعرکة، والدور الکبیر الذی قام به قائد المیدان ومن معه. تلک الأحداث الإیجابیة أیقظت شاعریة الشاعر ففجرتها.

- «فقمت أنظم أشعاری أهنئه، والمسلمین ومن فی سلکه انتظما».

لقد وضحت الدوافع التی نطق بها النص من خلال الاستهلال الذی افتتح به نصه الشعری، حیث جاءت مفرداته المعجمیة مبرزة ما یمتلکه الخلیلی من قوة وحنکة واقتدار؛ لما تحقق على یدیه من استقرار وأمن:

- غدت أرض عبری..... تحیِّ السید العلما.

- أضحت جمیع بلاد السرِّ طائعة.

- تطالب العفو منه.

- کأنما عرفته قبل رؤیته.

- کفاها البؤس والنقما.

- لما أتیت إلیها..... جاءتک عفوا.....

لغة التحول بدت واضحة فی الصیغة المعجمیة التی بنى علیها الشاعر فکره ودلالته، وکأن السیاق یضمر مرجعیة سابقة، قرأتها لغة النص الإیحائیة. فأمر البلاد کان معوزا، وسلوکیات خاطئة تحولت إلى بعد إیجابی مقبول، أعلمتنا بها منطوقیة النص. «ولما غدت أرض عبری.....» + «أضحت جمیع..... . طائعة». هذه المفردات بتوالیها المنظم المسبوک، وبإیقاعیتها الصوتیة المتداخلة مع البناء الترکیبی، عبرت عن الجدید والمختلف، وکأن الشاعر عقد مقارنة بین سلوک شائن قد کان - وهو فعل غیر مقبول -، وسلوک راق فرح به الجمیع. ثمَّ تولدت من النص مفردات شکلت بعدا تناسق والسلوک الذی اشتهر به هذا الإمام: من شیمة ونجدة وشهامة ومروءة، هذه السلوکیات ینتظرها أهل تلک الدیار منذ زمن؛ ممَّا جعلهم یرفعون له التحیة عالیة خفاقة «تحیِّ السید العلما + عرفته...». ثمَّ تواصلت الدلالات متدفقة فی رسم لوحة جدیدة عن هذه العطاءات التی قدمها لهم هذا الإمام، وکم کانوا ینتظرونها. وقد تمثلت تلک اللوحة فی ترجمة سلوکه، کونه کفاهم البؤس والعوز، والمذلة والحاجة، والدکتاتوریة المتعالیة التی سیطرت علیهم من قِبل عِلیة القوم الذی «لا یرقبون فی مؤمن إلاًّ ولا ذمَّة»، «کفاها البؤس والنقما». وبذلک السلوک الإیجابی، جاءت ردة الفعل بنفس المستوى من الطرف المقابل.

- «لما أتیت إلیها یا ابن بجدتها».

- «جاءتک عفوا...».

العبارتان السابقتان شکلتا لغة صوتیة ارتدادیة، أنبأت عن سرعة الاستجابة، فکل فعل له رد فعل مساو له فی المقدار، مخالف له فی المعنى. فالسلوک الحمید الذی جاءهم به، کانت نتیجته تلبیة الدعوة، والطاعة والالتفاف حوله؛ غایة فی تحقیق المثل العلیا، والوحدة والقوة. کما أن تلک المعانی أفادت عمق الدور البارز الذی قام به؛ خاصَّة تأمین الثغور، فعبری أرض لها امتداد مع دول مجاورة، کانت لها أطماع فی الامتداد والتوسع. وتأمین هذه الثغور مهم جدًّا للاستقرار الأمنی والاجتماعی. وهو ما ساد بلاد السر بعد أن عادت إلى دولة الإمام الخلیلی.

والبعد الموضوعاتی لقصائد المدیح فی القصیدة التراثیة، شأنها تعداد المناقب، وإبراز الصفات الخِلقیة والخُلقیة، هذه اللغة المدحیة اعتادها المادحون، لکننا إزاء معجم جدید انزاح بمفرداته إلى لغة تبدّت فیها لغة امتزاج المدح بالنصح والإرشاد، مخالفة بذلک مضمون بنیة القصیدة الجاهلیة فی موضوعاتها. وهذا ما لا یمکن تقبله من قبل الممدوح؛ خاصَّة إذا کان الممدوح من ذوی القیادة والحاکمیة والسلطة. ویُعزى ذلک إلى ثقافة الشاعر الدینیَّة، التی ترى بأن المجاملة لیست من السلوکیات المرتضاة دینًا. وفی الصورة المقابلة، نجد أن الإمام قد تربى على منهج القرآن، الذی یشعر بالأریحیة عندما تُقَدَّمُ له مثل هذه النصائح والمقترحات، هذا السلوک قلما نجده الیوم عند أهل القیادة والحکم. وذلک قوله:

- فقم إلیها وعاملها بما لزما.

- فاشکر إلهک من أسدى لک النعما.

بعد هذا السیاق تحولت لغة المعجم النصیة إلى تهنئة أهل عبری، ودعوته لهم بالوقوف مع هذا القائد بکلِّ بما یملکون:

- بشرای لکم یا رجال السر... ...

- وکم لکم من حمید الذکر أنشره..... .

- ومفخر نلتموه... ...

- إذا صرتم لإمام المسلمین یدا وسیف حق... ...

لم تتوقف المفردات الدالة عند المدح والتهنئة ووصف ما حدث؛ بل جاء بمفردات تعلوها روح الخطابة والاستنهاض؛ دفعا للهمم، ووقوفا صفا متینا مع هذا الإمام، وعدم الغدر به وخیانته؛ لذلک نقرأ فی معجمه نبرة القوة والجزالة کقوله:

- یا أیها العرب هبوا من مراقدکم.

- وأسمعونی قراعا من کتائبکم.

- حتَّى أرى ضنک بعد الضنک فی سعة.

لغة الاستنهاض هیمنت على المستوى النصی ببعدها ومحمولها الدلالی. فالقصیدة لم تکن غایتها ذلک المدح المتمثل فی إبراز صفات الممدوح، أو وصف ما حدث وصفا دون بعد سیاسی مازج نصیة المعنى. وبتلک اللغة التواصلیة عبر أجهزتها المختلفة، استطاع الباث برسائله بث کل ما اعتور فی جهازه الذهنی؛ محققا لغة قصدیة، تمثلت فی أبنیته الإنشائیة المؤسسة على النداء، ولغة الأمر الطلبیة، وذلک ممَّا حقق روح القوة والاستنهاض لدى المتلقی؛ حتَّى یکون صفا متینا مع قائده؛ محافظا على روح الأمن والاستقرار التی ینشدها کل مواطن.

انتهت القصیدة بهیکلة ضارعت فیها القصیدة الجاهلیة، واضعة خلاصة ما تحدثت عنه، ملخصة جمیع الأبعاد التی ناقشتها بین مستویاتها المختلفة: الإیقاع والترکیب والمعجم والدلالة. وجاءت خاتمة النص بلغة تفاؤلیة، وهو ما یطمح إلیه الجمیع ویتمناه:

یا خیر یوم تجیء الرسل تخبرنا

أن الإمام بضنک یجمع الکلما

خاتمة:

حاول البحث تقدیم قراءة بنیت على منهج التلقی والوصف والتحلیل والتأویل، لقصائد مارست سلطتها فی إبراز الحرکة السِّیاسیَّة، فی عصر اکتنفته تداخلات قَبَلِیة ومکانیة وزمانیة. وقد حکت النصوص السابقة، التفرق والتمزق الذی عاشته عُمان إبان هذه الحقبة من الزمن. وعلیه سجلت قصائد أبی سلام الکندی ما نهض به الإمام الخلیلی من دور بارز فی توحید قرى ومناطق عُمان. هذه النصوص بشعریتها، أوقفتنا على شخصیَّة الإمام الخلیلی الفذة، والدور المضیء الذی تبلور فی عصره واستضاء به مجتمعه، حتَّى بقیت أشعته مضیئة إلى عصرنا هذا.

قدّم البحث بُعدین تعلقا بالجانب الترکیبی والمعجمی، وما أحدثاه من بُعد دلالی، جلّته النصوص الشعریة باکتنازاتها الدلالیة ولغتها التواصلیة. وقد جاءت هیکلة النص الشعری الخارجی مع أبی سلام، محاکیة النص القدیم فی: الوزن والقافیة، ومکوناته الأخرى. وأوجدت البنیة الترکیبیة للنص عند أبی سلام انسجاما لغویا، تجسدت من خلالها أبعاد النص الدلالیة: الإیحائیة والمفهومیة. وعند تأمُّل المفردات المعجمیة التی تکررت على مستوى النصین، نجدها تحمل لغة واضحة؛ غایتها إبراز صفات القائد الشهم، والدعوة للوقوف معه؛ حمایة للوطن. وقد اتسمت لغة النص الشعری عند أبی سلام، بالخطابیة والمباشرة؛ کونها تدعو إلى التحفیز والاستنهاض، والمدح الإیجابی.

وختاما توصی الدراسة الباحثین بقراءة معمقة، وأکثر مساحة زمانیة ومکانیة، لنصوص أبی سلام، الذی اشتهر بشاعر الحریة والوطنیة، وما نفیه خارج أرض الوطن إلاَّ دلیل قوی لصوته الحر.

([1])       أبو سلاَّم الکندی، سلیمان بن سعید: دیوان نشر الخزام، إعداد: عیسى السلیمانی، ومحسن الکندی، ومصطفى الکندی، ط1، ذاکرة عمان، مسقط، 2016م، ص10.

([2])       المصدر نفسه، ص61-64.

([3])       المصدر نفسه، ص72- 73.

([4])       المصدر نفسه، ص74.

([5])       المصدر نفسه، ص76- 79.

([6])       المصدر نفسه، ص80 – 83.

([7])       الطریسی، أحمد أعراب: النص الشعری بین الرؤیة البیانیة والرؤیا الإشاریة، مرقون بمکتبة الباحث، د. ط، د. ت، المغرب، ص27.

([8])       الطوانسی، شکری: مستویات البناء الشعری عند محمَّد إبراهیم أبی سنة؛ دراسة فی بلاغة النقد، الهیئة المصریة للکتاب، القاهرة، 1998م، ص398.

([9])       أبو سلام الکندی، دیوان نشر الخزام، ص61- 64.

([10])     الواقعة کانت یوم النحر 10 من ذی الحجة 1341هـ. یُنظر أبو بشیر السالمی، محمَّد شیبة بن نور الدین: نهضة الأعیان بحریة عمان، مکتبة التراث، القاهرة، د. ت.، ص416.

([11])     لوتمان، یوری: تحلیل النص الشعری، ترجمة حمد أحمد فتوح، النادی الأدبی الثقافی، جدة، 1999م، ص173.

([12])   مایکل ریفاتیر: دلائلیات الشعر، ترجمة ودراسة: محمَّد معتصم، منشورات کلیة الآداب، الرباط، ط1، 1997، ص7.

([13])     بلملیح، إدریس: المختارات الشعریة وأجهزة تلقیها عند العرب من خلال المفضلیات وحماسة أبی تمام، کلیة الآداب والعلوم الإنسانیة، الرباط 1995م، ص424.
 

• أبو بشیر السالمی، محمَّد شیبة بن نور الدین: نهضة الأعیان بحریة عُمان، مکتبة التراث، القاهرة، د. ت.
• أبو سلام الکندی، سلیمان بن سعید: دیوان نشر الخزام، إعداد: عیسى السلیمانی، ومحسن الکندی، ومصطفى الکندی، ط1، ذاکرة عُمان، مسقط، 2016م.
• بلملیح، إدریس: المختارات الشعریة وأجهزة تلقیها عند العرب من خلال المفضلیات وحماسة أبی تمام، کلیة الآداب والعلوم الإنسانیة، الرباط، 1995م.
• الطریسی، أحمد: النص الشعری بین الرؤیة البیانیة والرؤیا الإشاریة، المغرب، مرقون بمکتبة الباحث، د.ط، د.ت.
• الطوانسی، شکری: مستویات البناء الشعری عند محمَّد إبراهیم أبی سنة، دراسة فی بلاغة النقد، الهیئة المصریة للکتاب، القاهرة، 1998م.
• لوتمان، یوری: تحلیل النص الشعری، ترجمة حمد أحمد فتوح، النادی الأدبی الثقافی، جدة، 1999م.
• مایکل ریفاتیر: دلائلیات الشعر، ترجمة ودراسة: محمَّد معتصم، منشورات کلیة الآداب، الرباط، ط1، 1997م.