إمامة الإمام الخلیلي من منظور استشراقي، دراسة نقدیَّة لأطروحة أوزي رابي

الباحث المراسلد. سليمان بن سالم الحسيني جامعة نزوى

Date Of Publication :2022-11-09
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

 

تنبع أهمیة الدراسة التی أعدها (أوزی رابی- Uzi Rabi)، وهو أکادیمی إسرائیلی یعمل مدیرا لمرکز موشی دیان للدراسات الشرق أوسطیة والأفریقیة بجامعة تل أبیب وله عدد من الدراسات فی الشأن العُمانی، والتی تحمل عنوان «الإمامة الإباضیَّة للإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی (1920-1954): الفصل الأخیر للترکة الضائعة المنسیَّة»، من تسلیطها الضوء على التاریخ السیاسی العُمانی متخذة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی نموذجا، ومن کونها دراسة استشراقیة حدیثة تحمل ملامح الاستشراق المعاصر ونظرته إلى عُمان عموما، وموروثها الدینی والثقافی خصوصا. یقول أوزی رابی: «تُعنى هذه الدراسة بالإمامة الإباضیَّة فی عُمان التی وصلت نهایتها فی 1954 ثمَّ أُلْقیَ بها فی مزبلة التاریخ»([1]). فقد تتبع رابی نشأة الإمامة فی عُمان منذ تأسیس العُمانیِّـین الإمامة الأولى فی القرن الثانی الهجری، محلّلا- من وجهة نظره- خصائصها، والمنحدرات التاریخیة التی مرت بها، ودور الإمام، وعلاقته بغیره من أفراد المجتمع؛ لیخرج مستنتجا من خضم نقاشه العمیق «أن الإمامة ومؤسساتها إنَّما هی، بشکل أو بآخر، ترجمة دینیة لتقالید قبلیة، انصبغت باللامرکزیة»([2]).

من هذا المنطلق، فإن البحث الحالی یقدم تحلیلا لوجهة نظر أوزی رابی فی إمامة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی (1299 - 1373هـ/ 1881- 1954م) بوجه خاص، والإمامة الإباضیَّة فی عُمان، بوجه عام؛ لهدف:

• التعرُّف على أهداف الباحث من دراسة تاریخ الإمامة فی عُمان، وترکیزه على إمامة الإمام محمَّد ابن عبد الله الخلیلی.

• التعرُّف على الخلاصات والاستنتاجات التی توصل إلیها الباحث عن الإمامة فی عُمان وما امتازت به إمامة الإمام الخلیلی، وشخصیته، ومکانته فی المجتمع العُمانی.

• التعرُّف على منهجیة الباحث وتأثره بالمصادر والمراجع التی اعتمدها فی دراسته عن الإمام الخلیلی.

• الانفتاح على الدراسات الاستشراقیَّة التی اهتمت بعُمان وتاریخها وواقعها.

المحتوى والمنهج:

یقول رابی: «نظرا للنفوذ القوی للإباضیَّة فمن الضروری تحلیلها من المنظور التاریخی، والعلمی، والاجتماعی، وتحلیل طبیعة الإمامة الإباضیَّة»([3]). ولتحقیق غایته، بدأ رابی ورقته البحثیة بوضع مقدمة تاریخیة لنشأة الإمامة فی عُمان، والعوامل التی أدت إلى ظهورها، وساعدت على استمرارها لأکثر من ألف عام، والأقطار الأخرى من العالم التی تکونت فیها الإمامة الإباضیَّة. ثمَّ انتقل للحدیث عن العلاقة بین الإمامة والقبیلة، مدعیا: «أن تِبیان الخصائص الأهم للمجتمع القبلی العُمانی، مفید فی تحلیل طبیعة الإمامة الإباضیَّة ودینامیکیتها فی عُمان»([4]). فأخذ رابی یعرض أصول القبائل العُمانیَّة، وحرکة الولاءات فیما بینها، وأماکن انتشارها وتمرکزها على الأرض العُمانیَّة. وبعد ذلک تحدث عن دور الإمام، وطرق انتخابه وتعیینه، وعزله، ومصادر التشریع، ثمَّ تحدث عن الأسرة البوسعیدیة وتاریخها فی حکم عُمان، وناقش دخول مصطلحی «السید» و«السلطان» فی المشهد العُمانی، وتعمیق انقسام عُمان بین الساحل والداخل وازدواجیة السلطات. وناقش دور القوى الغربیة فی تحریک اتجاهات الصراع على الساحة العُمانیَّة کذلک، والأثر الذی ترکه النفوذ البریطانی القوی فی عُمان على سلطتی الإمامة والسلطنة فی آن واحد. ثمَّ تحدث عن الأسباب التی أدت إلى تعیین الإمام سالم بن راشد الخروصی إماما فی عُمان فی عام 1331هـ/ 1913م، «إلى أن اغتاله فی 1920 أحد مؤیّدیه السابقین»([5])، کما یدعی أوزی رابی.

ویقول رابی «وفی ذلک المناخ اتخذ عیسى بن صالح قائد الفصیل الهناوی الخطوات المطلوبة لانتخاب حماه محمَّد بن عبد الله الخلیلی إماما»([6]). ومن هناک انتقل رابی للحدیث عن إمامة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، وخصائصها، والعوامل الدَّاخلیَّة والخارجیَّة التی أثرت فیها، والنهایة التی وصلت إلیها فی عام 1373هـ/ 1954م، لیخرج فی نهایة بحثه قائلا: «بربطها النقاش التاریخی بالفلسفة السِّیاسیَّة للمذهب الإباضی تکون الورقة البحثیة الحالیة قد صورت إمامة الإمام الخلیلی بأنَّها نظام لم یکن أبدا مثالیا ولا منیعا، إلاَّ إنَّه کان حیویا لتحقیق شیء من الأمان الداخلی»([7]).

یبنی رابی أطروحته على المفردات المزدوجة المتضادة: الانغلاق-الانفتاح، الداخل-الساحل، مسقط-عُمان، الإمامة-السلطنة، وینطلق منها باستنتاجات وخلاصات عن الإمامة الإباضیَّة عموما، وإمامة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی خصوصا. ومن حیث انتقاء الأفکار وأسلوب تحلیلها وعرضها یبدو رابی متکئا بوضوح على جون ولکنسون فی کتابة «تقالید الإمامة فی عُمان» وأعاد إنتاجها فی کتابه الآخر «الإباضیَّة: أصولها وتطورها المبکر فی عُمان». وکمثال یوضح مدى العلاقة بین العملین، یقول رابی- مقتفیا خُطى ولکنسون، ومستعملا مفرداته وبنیات أفکاره،: «ولکن کانت هناک ترکة مغایرة ساهمت بشکل جوهری فی تطور عُمان. إنها الترکة التی نشأت على الساحل- سلطنة مسقط- ولخصتها قصص السندباد الملاح والمدونات التی خلفها البحارة المشهورون مثل أحمد بن ماجد»([8]). وهذه الفکرة وردت فی کتاب ولکنسون بالنص الآتی: «والتقلید الآخر هو تقلید (مسقط) المبنی على قصص السندباد البحری، أو المبنی بصورة أکثر واقعیة على المعارف البحریة لکبار البحارة أمثال أحمد بن ماجد»([9]). وبالرغم من أن کتاب «تقالید الإمامة فی عُمان» هو أحد المراجع التی اعتمدها رابی فی بحثه إلاَّ إنَّه لم یشر إلى أنَّه استقى تلک الفکرة من ذلک المصدر. وفی موضع آخر یکتب ولکنسون مشیرا إلى اهتمام کتابه بتقالید الإمامة «یهتم هذا الکتاب بالتقلید الأول الأقل إثارة، والذی یجهله العالم الخارجی تماما»([10])، ویقول رابی بنفس الفکرة والأسلوب: «هذه الورقة تتعامل مع الترکة السابقة، أی إمامة عُمان»([11]). وبما أن الدراسة الحالیة لا تُعنى بالمنهج فی حد ذاته، فلن یتم المقارنة بین أسلوب الدراستین ومحتواهما بشکل مستقل وإنَّما سیتم تضمین ذلک فی النقاش العام للأفکار خاصَّة عند ملاحظة امتیاز أحد الکاتبین برؤیة جوهریة حول موضوع معیَّن. فعلى سبیل المثال، یتبع رابی خُطى ولکنسون فی نعت الإمامة بالانعزالیة، لکن فی حین یؤکد ولکنسون أن الانعزال وضع اضطرت إلیه الإمامة نتیجة عوامل خارجیة «ولیس معنى ذلک أن هذا التقلید انعزالی»([12])، یرى رابی أن الانعزالیة من الخصائص البنیویة فی فکر المذهب الإباضی و«اعتمدت الإمامة فی عُمان على مجتمع الدَّاخلیَّة المنعزل»([13]). وربما یتساءل القارئ المطلع على العملین ما الجدید الذی أضافه رابی إلى موضوع الإمامة فی عُمان ولم یتطرق إلیه ولکنسون فی کتابه؟

الانفصال والانغلاق:

تشکل فکرة (الانفصال والانغلاق) محورا أساسا لأطروحة رابی حول عُمان والإمامة والمذهب الإباضی والعُمانیِّـین، خاصَّة من یُطلق علیهم سکان الداخل- أی الذین لا یسکنون المناطق الساحلیة الواقعة على بحر عُمان وبحر العرب- کما یُفهم من کلامه. وتقوم وجهة نظر رابی على أن الانغلاق والانعزال سمة أساسیة فی المذهب الإباضی، عززت من فاعلیته فی عُمان عوامل جغرافیة وتاریخیة وسکانیة ممیزة، وتأسست الإمامة لتکریس الانغلاق والانعزال والمحافظة على دیمومته، ممَّا أدى بعُمان إلى عدم الانفتاح على العالم وعدم الاستفادة من المعطیات العلمیة والحضاریة المعاصرة. یقول رابی: «یجب أن ینظر إلى العزلة الإباضیَّة بأنَّها امتناع عن إقامة العلاقات مع أفراد من الخارج ومع الثقافات الخارجیَّة، وقد استعملت العزلة کأداة لحمایة تقالید الإمامة القبلیة من أن تدنسها الثقافات الخارجیَّة. لقد کان هذا مجتمعا مستقلا بذاته بحیث ظهر التوازن الداخلی عبر السنین من خلال المحافظة على الظروف والآلیات التی تعمق العزلة، والتأثیرات النابعة من العلاقات المحدودة والمشروطة مع العالم الخارجی»([14]).

تناقش الورقة فیما یلی وجهة نظر أوزی رابی فی العوامل التاریخیة والجغرافیة والمذهبیة التی یرى بأنَّها تعزز العزلة والانغلاق وأدت إلى نشوء إمامة إباضیَّة منغلقة ومنعزلة کانت آخرها إمامة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی التی اعتبرها نموذجا لذلک الانغلاق والانعزال الذی یدعیه. وتناقض الدراسة الحالیة وجهات نظر أخرى لم یتعرض إلیها رابی تثبت وجود حقائق بدیلة لتلک التی تدور وتقتصر علیها دراسة رابی.

إشکالیة نسبة الإباضیَّة إلى الخوارج:      

یستهل أوزی رابی أطروحته قائلا: «عُمان لها تاریخ طویل جدًّا. وقد انضمت إلى الإسلام فی الأیام المبکرة لهذا الدین، وبقیت منذ ذلک الوقت أرضا إسلامیَّة ولکنَّها انفصلت عن التیار العام للمجتمع الإسلامی بسبب الطبیعة الانغلاقیة للمذهب الإباضی الذی ینتمی إلیه الکثیر من السکان»([15]). لم یوضح أوزی رابی ما یقصده (بالتیار العام للمجتمع الإسلامی) الذی یصف الإباضیَّة بالانعزال عنه، إلاَّ إن ادعائه بأن المذهب الإباضی من الخوارج یدلُّ على أنَّه یشیر إلى التقسیمات والانقسامات المذهبیة التی نشأت نتیجة الصراعات السِّیاسیَّة، والعسکریة فی عهد الصحابة والتابعین، وأدت إلى بروز مصطلحات سیاسیَّة ودینیة لتسمیة الخصوم السیاسیین وتوصیفهم، وألقت بظلالها على الواقع الإسلامی إلى یومنا هذا. ففی تعریفه للمذهب الإباضی، قال رابی: «الإباضیَّة تکوین من الخوارج- أول الفرق انشقاقا فی الإسلام- الذین اندثرت معظم فرقهم بسبب نظرتهم المفرطة فی التشدد، کالأزارقة الذین یرون أنَّه من حقهم وواجبهم قتل کل الذین یخالفونهم. فمقارنة بتلک الفرق، تعتبر الإباضیَّة معتدلة نسبیًّا، فهی ترفض مبدأ الاسترسال فی الحرب إلى النهایة ضد المسلمین الذین لا ینتمون إلى الخوارج»([16]). وقد غابت عن دراسة رابی، الذی وصف الإباضیَّة أنَّهم من فرق الخوارج، وجهة نظر الإباضیَّة أنفسهم فی تعریف مذهبهم، وعلاقتهم بغیرهم من المسلمین ومدى تفاعلهم مع الأمَّة الإسلامیَّة والمجتمع الإسلامی العام. وغابت عن دراسته کذلک حقیقة مهمة أخرى وهی أن هناک من المؤرخین والکتاب والباحثین من غیر الإباضیَّة من لا یصنف الإباضیَّة من الخوارج.

فمصطلح الخوارج الذی ظهر إثر الأحداث السِّیاسیَّة التاریخیة التی وقعت فی عهد الخلیفة الرابع علی بن أبی طالب أصبح البعض یطلقه على الفریق الرافض لفکرة التحکیم فی الصراع المسلح الذی أشعله معاویة بن أبی سفیان- الذی کان فی ذلک الوقت والیا على الشام- ضد الخلیفة الشرعی المنتخب علی بن أبی طالب. وقد تعددت، بل وتباینت، المناهج والتفسیرات المطروحة على الساحة الإسلامیَّة قدیما وحدیثا- فی توصیف تلک الأحداث والتنظیر لما نتج عنها من خلافات، وتنوعت المصطلحات التی أطلقت على مختلف الفرقاء. وفی الواقع أن الکتاب والباحثین والمؤرخین المسلمین من غیر المذهب الإباضی الذین ینظرون إلى المذهب الإباضی تحت ضوء تلک الأحداث لا یحملون نظرة واحدة جامدة تجاه هذا المذهب. وفی هذا السیاق، یقول علی أکبر ضیائی وهو من المؤلفین المعاصرین: «والذین کتبوا عن الإباضیَّة من غیر الإباضیَّة اضطربوا فی تحدید علاقتهم بالخوارج، فأغلبهم ینسب الإباضیَّة إلى الخوارج، ومنهم من قال هم أعدل الخوارج وبعضهم حاول أن ینصفهم قلیلاً، فقال أقرب الفرق إلى أهل السُّنَّة، ومنهم من وصفهم بالتقوى ورغم ذلک فإن أکثرهم قد انساق مع قدماء المؤرخین والکتاب فی نسبة الإباضیَّة إلى الخوارج وقلیل جدًّا الذین صرحوا بأن الإباضیَّة لیسوا من الخوارج»([17]).

وإذا رفض الإباضیون جور بنی أمیة، فإنهم رفضوا فی المقام الأول الجور فی صراع الإباضیَّة أنفسهم مع خصومهم السیاسیین، ورفضوا الجور فی علاقتهم مع سائر المسلمین الذین لا یتفقون معهم فی توجههم الدینی والفکری والسیاسی. یقول الویسی: «ویؤکد کثیر من المؤرخین والباحثین على أن سمة الاعتدال هی السمة الواضحة فی عقائد الإباضیَّة فهم (یحرمون دماء المسلمین وسبی ذراریهم وغنیمة أموالهم) بل إن من خصومهم من ذکر ذلک عنهم فهذا البغدادی یقول: إنَّهم اعتبروا دور مخالفیهم دور توحید إلاَّ معسکر السلطان فإنَّه دار بغی). أمَّا الإسفرایینی فیذکر: (أنَّهم أجازوا مناکحتهم، وموارثتهم، وغنیمة أموالهم من السلاح والکراع عند الحرب، وحرموا قتلهم وسبیهم فی السر غیلة إلاَّ بعد نصب القتال وإقامة الحجة)»([18]).

وبذلک یتضح أن الفارق بین الإباضیَّة وفرق الخوارج، ومنهم الأزارقة، لیس (نسبیا)، کما یدعی أوزی رابی، وإنَّما جوهری وفی صمیم المبادئ والأسس، ولیس فی السلوک وحسب، خاصَّة فیما یتعلَّق بموضوع القتال والتکفیر. فالإباضیون لا یؤمنون بمحاربة المسلمین وقتالهم إلاَّ فی حال الدفاع عن النفس أو رد الظلم فقط، وتقف الحرب بانتهاء المعرکة. ویؤمن الإباضیَّة أن قتال المسلمین واستحلال دمائهم وأموالهم معصیة لله ومخالفة لأوامره - سبحانه وتعالى- وبُعْدٌ عن هدی نبیه محمَّد - صلى الله علیه وآله وسلم-. وهذه نقطة خلاف جوهریة تمیز الإباضیَّة الذین لم یعرف عنهم طول تاریخهم أنَّهم شنوا حروبا على المسالمین من المنتمین إلى الفرق الإسلامیَّة الأخرى أو قاموا بالاعتداء علیهم لمجرد أنَّهم یخالفونهم فی المذهب. فعندما قامت الإمامة الإباضیَّة فی عُمان فی القرن الثانی الهجری کان من أهم ما یبایع علیه الرعیَّةُ الإمامَ أن لا یتهموا بالشرک من خالفهم من المسلمین ولا یستحلوا أموالهم وأولادهم. ففی البیعة التی عقدها العُمانیُّون للإمام الوارث بن کعب عام 179هـ ورد بند ینص على أن «لا یسموا بالشرک أهل القبلة ما بینوا الشهادتین [...] ولا یستحلوا منهم غنیمة مال ولا سبی عیال»([19]).

وفی الفکر الإباضی أن هذا النهج فی التعایش السلمی الذی تبناه الإباضیون فی التعامل مع المنتمین إلى المذاهب الإسلامیَّة الأخرى مبنی على القاعدة التی صاغها رسول الله - صلى الله علیه وآله وسلم- إذ قال: «من قال لا إله إلاَّ الله فقد عصم منی نفسه وماله إلاَّ بحقه وحسابه على الله» (الحدیث رقم 2786، صحیح البخاری). وفی الإطار نفسه منع الإباضیون إصدار الفتاوى المکفرة للمسلمین الذین لا یتفقون معهم فی وجهات النظر والأقوال الفقهیَّة، وحرموا تضلیلهم والانتقاص من قدرهم، وابتعدوا فی خطابهم عن السباب، والتسفیه، وتلقیف الأقوال، واصطناع المواقف. یقول الشیخ نور الدین السالمی موضحا موقف الإباضیین من غیرهم من المسلمین: «ونؤدی الأمانة إلى من استأمننا علیها من قومنا أو غیرهم، ونوفی بعهود قومنا من أهل الذمة وغیرهم، ونجیر من استجارنا من قومنا وغیرهم ویأمن عندنا منهم الکاف عن القتال المعتزل بنفسه من غیر أن نشک فی ضلالته [...] ولا نرى الفتک بقومنا ولا قتلهم فی السر وإن کانوا ضلالا؛ لأنَّ الله لم یأمر به فی کتابه، ولم یفعله أحد من المسلمین ممَّن کان بمکَّة بأحد من المشرکین، فکیف نفعله نحن بأهل القبلة [...] ونرى أن مناکحة قومنا وموارثتهم لا تحرم علینا ما داموا یستقبلون قبلتنا [...] ولا نرى أن نقذف أحدا ممَّن یستقبل قبلتنا بما لم نعلم أنَّه فعله خلافا للخوارج الذین یستحلون قذف من یعلمون أنَّه بریء من الزنا من قومهم وهم بذلک مضلون [...] ولا نرى استعراض قومنا بالسیف ما داموا یستقبلون القبلة، ولا نرى قتل الصغیر من أهل قبلتنا ولا غیرهم»([20]).

وهذه المبادئ الجوهریة التی تبناها الإباضیُّون وطبقوها على أرض الواقع هی التی جعلت عُمان ملتقى المسلمین من سائر المذاهب الإسلامیَّة، یعیشون فیها بسلام ویتعایشون فیها بوئام، ومکَّنت العُمانیِّـین من نشر الإسلام وحضارته فی المناطق المطلة على المحیط الهندی فی شرق إفریقیا والهند والصین، بل إن الروح السمحة التی ورثها العُمانیُّون من هدی رسول الأمَّة طبقوها مع غیر المسلمین، فی عُمان وخارجها، فعاملوهم وفق منهج الله- سبحانه وتعالى- القائل ﴿لاَ إِکْرَاهَ فِی الدِّینِ قَد تَّبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ﴾ (سورة البقرة: 256)، وتعایشوا معهم تحت مظلة قوله تبارک وتعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَکَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ الْعَلِیمُ﴾ (سورة الأنفال: 61). وقد جذبت هذه الخصال اهتمام المسلمین وغیر المسلمین من الرحالة والزائرین. فالرحالة البریطانی (ولیام بلجریف– William Gifford Palgave) الذی زار عُمان فی 1863م کتب: «التسامح، وإلى درجة لا تصل إلیها حتَّى أوروبا، موجود هنا لجمیع الأعراق، والأدیان، والعادات؛ فالیهود والمسیحیون، والمحمَّدیون، والهندوس جمیعهم یمکنهم أن یعبدوا الرب بأسالیبهم المتعددة، ویلبسون ما یختارون، ویتزوجون ویتوارثون بلا موانع، ویدفنون موتاهم أو یحرقونهم کما یحلوا لهم. فلا أحد یسأل، ولا أحد یضایق أحد، ولا أحد یعیق الآخرین»([21]).

وعلى کلِّ حال فقد حسمت منظمة التعاون الإسلامی ومجامع الفقه موضوع انتماء المذاهب الإسلامیَّة المعاصرة، بما فیها المذهب الإباضی، إلى الإسلام بما لا یدع مسوغا لأحد أن یزعم أن هذا المذهب أو ذاک لا ینتمی إلى الإسلام أو أن أتباعه مارقة أو خوارج أو کفار. فقد جاء فی نصِّ البیان الصَّادر عن المؤتمرِ الإسلامی الدَّوْلی الَّذی عُقد فی العاصمةِ الأردنیَّة عمَّان فی (27- 29 جمادى الأولى 1426هـ/ 4- 6 تموز (یولیو) 2005م) تحت عنوان: «حقیقةُ الإسلامِ ودورُه فی المجتمع المعاصر»: «إنَّنا - نحن الموقعین أدناه- نعربُ عن توافقِنا على ما یردُ تالیًا، وإقرارُنا به: 1- إنَّ کلَّ مَن یتَّبع أحدَ المذاهب الأربعةِ من أهل السُّنَّة والجماعة (الحنفیِّ، والمالکیِّ، والشَّافعیِّ، والحنبلیّ) والمذهبَ الجعفریَّ، والمذهبَ الزَّیدیَّ، والمذهبَ الإباضیَّ، والمذهبَ الظاهریَّ، فهو مسلمٌ، ولا یجوزُ تکفیرُه. ویحرمُ دمُه وعرضُه وماله. وأیضًا، ووفقًا لما جاءَ فی فتوى فضیلةِ شیخ الأزهر، لا یجوزُ تکفیرُ أصحابِ العقیدة الأشعریَّة، ومَن یمارسُ التَّصوُّفَ الحقیقی. وکذلک لا یجوز تکفیرُ أصحابِ الفکرِ السَّلفی الصَّحیح، کما لا یجـوزُ تکفیرُ أیِّ فئةٍ أخرى مـن المسلمین تؤمنُ باللهِ - سبحانه وتعالى- وبرسولِه ﷺ وأرکانِ الإیمان، وتحترمُ أرکانَ الإسلام، ولا تنکرُ معلومًا من الدِّین بالضُّرورة»([22]).

هل المذهب الإباضی مذهب منغلق، کما یدَّعی أوزی رابی؟

یدَّعی رابی أنَّ المذهب الإباضی مذهب منغلق على ذاته، وقد تفاعلت «الطبیعة الانغلاقیة للمذهب الإباضی»([23]) مع «المجتمع المنغلق فی المنطقة الدَّاخلیَّة»([24])، لتعزیز ظهور الإمامة الإباضیَّة واستمرارها فی عُمان. لم یقدم رابی ما یبرهن به على أطروحته بأن المذهب الإباضی منغلق سوى زعمه أن الإباضیین فی المغرب العربی وبعد سقوط الدولة الإباضیَّة فی تیهرت بشرق الجزائر على أیدی الفاطمیین فی عام 909هـ اختاروا العیش فی أماکن منعزلة بوادی میزاب بالجزائر، وجزیرة جربة بتونس، وجبل نفوسة بلیبیا، وأن ظروفا مماثلة للعزلة والانغلاق قد وفرتها عُمان للمذهب الإباضی «الذی تجذر فی الوجود العُمانی لما یزید على ألف عام وذلک منذ أن قبلت عُمان عبء الإسلام الإباضی»([25]).

وفی واقع الأمر؛ أن تتبع النشأة التاریخیة للمذهب الإباضی، وقواعده، ومؤلفات العلماء الإباضیَّة، تظهر صورة مباینة لمقولة الانغلاق التی یدعیها رابی. فالمذهب الإباضی تأسس فی ضوء انفتاح علمی على رموز الأمَّة فی عهد الصحابة تمثل فی علاقة علمیة قویة بین المؤسس الروحی للمذهب الإباضی الإمام جابر بن زید، وکبار الصحابة، والتابعین فی الحجاز، والعراق، منهم: عبد الله بن عباس ابن عمِّ الرسول محمَّد- صلى الله علیه وآله وسلم- الذی اتخذ المدینة المنوَّرة مرکزا لنشاطه العلمی. وکان لقادة المذهب فی طور تکوینه الفکری والسیاسی علاقات اتصال وتواصل مع قادة الدولة الأمویة ومع قادة التیارات الدینیَّة والفکریة والسِّیاسیَّة الأخرى. فکان الإمام جابر بن زید تربطه علاقات علمیة بشخصیات علمیة من غیر أتباع المذهب منهم الحسن البصری، ونقل أقوال الإمام جابر العلمیة وروایته للحدیث النبوی عدد من العلماء من خارج المذهب الإباضی منهم کیسان السختیانی، وعمرو بن دینار، ومالک بن دینار([26]). وکان لعبد الله بن إباض (ت: 86هـ/ 705م) مراسلات مع الخلیفة الأموی عبد الملک بن مروان حول الموضوعات السِّیاسیَّة والدینیَّة والفکریة الساخنة فی ذلک العصر. وکان لعبد الله بن إباض مراسلات ومناقشات مع الزعیم السیاسی والدینی نافع بن الأزرق. والثابت أن العلماء الإباضیین منفتحون على أقوال علماء المذاهب الإسلامیَّة الأخرى، ویقدّرون جهودهم العلمیة، بل ویعملون بها عندما تتوافق مع منهجهم العلمی. وفی هذا السیاق یقول الشیخ نور الدین السالمی: «ولیسَ لنا مذهبٌ إلاَّ الإسلام. فمن ثمَّ تجدُنا نقبلُ الحقَّ ممَّن جاءَ به وإن کان بغیضًا، ونردُّ الباطلَ على من جاء به وإن کان حبیبًا. ونعرفُ الرِّجالَ بالحقِّ. فالکبیرُ عندنا مَن وافقَه، والصَّغیرُ مَن خالفَه. ولم یشرعْ لنا ابنُ إباضٍ مذهبًا، وإنَّما نسبُنا إلیه لضرورةِ التَّمییزِ حین ذهب کلُّ فریقٍ إلى طریق، أمَّا الدِّینُ فهو عندنا لم یتغیَّرْ، والحمدُ لله»([27]).

وفی هذا السیاق یقول المستشرق الفرنسی بییر کوبرلی: «الإباضیَّة لیست عَالمًَا منغلقا متجمدا ومتجلمدا. فعبر تاریخها الحافل بالتقلبات، سواء فی المغرب أو فی عُمان، ورغم مرورها بعصور مظلمة، لم تعش بمعزل عن التیارات الفکریة القریبة وبمنأى عن تأثیرها [...] سمح بقاء الباب مفتوحا باستمرار أمام الاجتهاد بتحصین المذهب الأصل ضد الفتن، وحدا کذلک إلى البحث عن سبل جدیدة وأتاح استعارة مصطلحات من الفرق الأخرى مع تطویعها لخدمته- وإن کان بعض منها أدخل فی فترة متأخرة. فی کلِّ العصور تبین أجوبة علماء الفرقة على أسئلة طرحها الأتباع نشاطا فکریا کثیفا سواء فی مرحلة الظهور أو فی مرحلة الکتمان، فقد استمر تبادل الآراء فی الدار الإباضیَّة بلا انقطاع. ولم یکن الإباضیَّة الذین ذهبوا إلى السودان والأندلس وصقلیة وحتى الصین دون السُّنًّة فی طلب العلم الذی لا یعرف حدودا»([28]).

الجدلیة حول انغلاق عُمان وعزلتها:

یقول أوزی رابی «لقد وفرت عُمان الظروف المناسبة داخلیا وخارجیا لظهور الإمامة الإباضیَّة[...] فقد اعتمدت الإمامة الإباضیَّة فی عُمان على المجتمع المنغلق فی المنطقة الدَّاخلیَّة»([29]). لم یقدم أوزی رابی تفصیلا لأطروحته عن طبیعة «الانغلاق» وأسبابه والظروف التاریخیة التی أدت إلى بروزه.

والادعاء بأن عُمان دولة منغلقة یتکرر فی أطروحات بعض الکتاب والباحثین الغربیین والعرب- منهم على سبیل المثال: الرحالة البریطانی ولیام بالجریف الذی زار عُمان فی 1863م، وضابط البحریة الملکیة البریطانیة فیلکس تکاری هیج الذی زار عُمان فی 1887م، وجون ولکنسون وقد سایره رابی فی ذلک الطرح. ویعول حملة هذه الفکرة على موقع عُمان الجغرافی وطبیعتها الجیولوجیة والوضع السیاسی قبل عام 1970م. فموقع عُمان فی أقصى جزء من شمال شرق شبه الجزیرة العربیَّة، ووقوعها على المحیط الهندی الشاسع الذی یحدها من الشرق والشمال، وسلسلة جبال الحجر التی تشقها فی الوسط، ورمال الربع الخالی التی تحاذیها من الغرب تخیل لبعض الکُتَّاب أن عُمان أشبه ما تکون بجزیرة منقطعة عن بقیة شبه الجزیرة العربیَّة، وأهلها معزولون عن العالم بسبب وعورة جبالها وامتداد صحاریها وطول شواطئها.

وفی واقع الأمر أن جغرافیة عُمان وجیولوجیتها المعقدة قد تفاعلتا إیجابا وسلبا على مر العصور فی تکوین حضارة المجتمع العُمانی وصیاغة تاریخ عُمان، ولکن- کما یقول وندل فلبس «الجغرافیا تقولب التاریخ ولا تهیمن علیه»([30]). فلولا وقوع عُمان على المحیط الهندی، وهبوب ریاحه الموسمیة على شواطئها، لما عرف العُمانیُّون الإبحار بسفنهم الشراعیة حتَّى الصین والهند وشرق إفریقیا وأمریکا الشمالیَّة وأوروبا. لذا؛ فإن المتتبع للتاریخ یجد أن العُمانیِّـین قد استفادوا من موقع بلادهم الجغرافی وطبیعتها الجیولوجیة فی خدمة مصالحهم الوطنیة وإسهاماتهم الحضاریة، ولم یسمحوا لتلک العوامل أن تحولهم إلى سجناء الطبیعة القاسیة کما یحاول البعض أن یصورهم. وفی هذا الصدد یقول محمَّد صابر عرب: «لم یکن موقع عُمان مجرد مقوم جغرافی فحسب، وإنَّما هو رأس مال طبیعی، ومورد أصیل من موارد الثروة القومیة، وکان دائما بمثابة شبکة متصلة إقلیمیا وعالمیا. وعموما فقد أکسب هذا الموقع الاستراتیجی أهمیة عظیمة لعُمان؛ انعکست إیجابا على دورها التاریخی والحضاری»([31]).

کما أن الساحل والداخل مکملان لبعضهما البعض فی حیاة العُمانی وعلاقته بأرضه على کافة الصعد الاجتماعیَّة والسِّیاسیَّة والتجاریَّة والثقافیة. فمؤسسو الدولة الیعربیة وأئمتها انطلقوا من الداخل ولیس من الساحل، ولم یمنعهم ذلک من أی یجعلوا عُمان واحدة من أقوى الدول البحریة فی القرن الحادی عشر الهجری/السادس عشر المیلادی، وصاحبة الأسطول البحری القوی الذی تتبع المستعمر البرتغالی ودمر بؤره العسکریة فی الساحل الغربی للهند وفی شرق إفریقیا والخلیج العربی. ویظهر التکامل والترابط بین الداخل والساحل کذلک فی شخص الإمام أحمد بن سعید - مؤسس الدولة البوسعیدیة فی القرن الثانی عشر الهجری/النصف الأول من القرن الثامن عشر المیلادی. فقد نشأ الإمام أحمد بن سعید وترعرع فی أدم الواقعة فی وسط عُمان، وأصبح والیا على صحار الواقعة على البحر، وبعدها عندما أصبح حاکما لعُمان کانت عاصمته بجهة الساحل. والکثیر من العُمانیِّـین الذین هاجروا إلى شرق إفریقیا، وسجلوا إسهاما بارزا فی الدور الحضاری العُمانی فی ذلک الجزء من العالم لم یکونوا من سکان الساحل، بل انطلقوا من مدن وقرى الداخل کعبری والرستاق وإبراء وسمائل والجبل الأخضر. ومن حیث الترکیبة السکانیة وتوزیعها بین الساحل والداخل، فإن معظم القبائل العُمانیَّة التی تسکن بالداخل لها امتداد إلى الساحل. فیتوزع أفراد القبیلة الواحدة فی المناطق الساحلیة والدَّاخلیَّة، ویحتفون بعلاقات اجتماعیَّة ومرجعیة قبلیة تحفظ لهم الوحدة الاجتماعیَّة والثقافیة.

وعندما تأسست الإمامة فی عُمان (فی القرن الثانی الهجری/الثامن المیلادی) اهتم العُمانیُّون بالعلاقات التی تربطهم بالعالم الخارجی لا سیما عن طریق التجارة البحریة. فقد أنشأ العُمانیُّون أسطولا بحریا استعملوه فی تأمین خطوط الملاحة فی المحیط الهندی والخلیج العربی بالقضاء على بوارج القراصنة الذین هددوا الإبحار فیه. وأقاموا علاقات تجاریَّة مع شرق إفریقیا والهند والصین. ووصل النفوذ السیاسی العُمانی فی هذه الحقبة إلى جزیرة سقطرى الواقعة فی الساحل الشرقی لإفریقیا التی تعود تبعیتها لعُمان إلى زمن الإمام الجلندى بن مسعود فی القرن الثانی الهجری (منتصف القرن الثامن المیلادی)، وأعادوا تبعیتها لعُمان مرة أخرى فی زمن الإمام الصلت بن مالک (کان إماما على عُمان من 237-272 هـ) الذی وجه إلیها أسطولا بحریا إثر الهجوم المسلح الذی قام به النصارى على سکانها المسلمین وذلک فی حدود عام 851 و875م. وعقد العُمانیُّون الاتفاقیات التجاریَّة مع نظرائهم فی البصرة وسیراف ویبول (السند) وعدن، إذ خولهم ذلک لإقامة مراکز تجاریَّة لهم فی تلک المناطق. وأیضا أتاح العُمانیُّون لتجَّار تلک المناطق ممارسة التجارة فی صحار التی أصبحت مرکزا تجاریا عالمیا للمسلمین وغیر المسلمین([32]). واهتم الفقهاء العُمانیُّون فی ذلک الوقت بالتشریعات التی تقنن التجارة الخارجیَّة مع الأقطار الإسلامیَّة وغیر الإسلامیَّة.

لم ینقل العُمانیُّون عاصمة دولتهم من صحار الواقعة على بحر عُمان إلى الداخل إلاَّ عندما تعرضت العاصمة إلى التهدید المباشر من قبل القوى الخارجیَّة الممثلة فی السطلة الأمویة فی عهد الخلیفة الأموی عبد الملک بن مروان (66-86 هـ/ 685-705م)، وبعد ذلک السلطة العباسیة فی عهد أبی جعفر المنصور التی ما انفکت جیوشهم تغزو عُمان وتهدد استقلالها وسیادتها. فقد وجه الحجاج بن یوسف والی عبد الملک بن مروان على العراق إلى عُمان، التی أعطاها الرسول محمَّد ﷺ حق الاستقلال الذاتی، الغزوات المتتالیة التی هدفت إلى إخضاع عُمان لهیمنة الدولة الأمویة. وعندما أسس العُمانیُّون الإمامة الأولى فی عهد الدولة العباسیة تمکنوا من إخراج القوات العباسیة الغازیة من بلادهم، وقرروا نقل العاصمة من صحار إلى نزوى باعتبار أنَّها أکثر تحصینا بفعل موقعها الجغرافی المحمی بسلسلة الحجر الغربی وبصحراء الظاهرة التی تعوق حرکة الجیوش الغازیة. وفعلا نجحت هذه الاستراتیجیة فی عهد الإمام الوارث بن کعب فی مواجهة جیش الخلیفة العباسی هارون الرشید الذی أرسل فی 192هـ/ 807م ستة آلاف مقاتل بقیادة ابن عمه عیسى بن جعفر بن أبی المنصور لغزو عُمان وإخضاعها لهیمنة هارون الرشید. فإثر وصول معلومات استخباراتیة إلى الإمام فی نزوى من أحد رجاله فی العراق، وهو داود بن یزید بن حاتم المهلبی الطائی، بتحرک جیش هارون الرشید لغزو عُمان، أوعز الإمام الوارث لوالیه على صحار مقارش بن محمَّد بالتحرک بالقوات العُمانیَّة المرابطة فی صحار لملاقاة الغزاة فی حتا. وفی تلک الأثناء تحرک الإمام بجیشه من نزوى إلى صحار لمساندة الوالی ولحمایة المدینة من أی تقدم محتمل للغزاة إلى منطقة الباطنة. وفعلا تمکن العُمانیُّون من دحر جیش هارون الرشید وأسروا قائده ابن عم الخلیفة وأودعوه السجن فی قلعة صحار حتَّى مات فیها([33]). وعلیه فإن الانتقال إلى الموقع الاستراتیجی الحصین لعاصمة الدولة الإباضیَّة فی داخل عُمان لا یعنی بأی حال من الأحوال طلب العزلة أو الانعزال عن العالم کما یدعی رابی.

العوامل الخارجیَّة والدَّاخلیَّة التی أدت إلى انغلاق عُمان بدءا من نهایة القرن التاسع عشر:

وفی الحقیقة أن انفتاح عُمان على العالم الخارجی بدأ یشهد انتکاسا منذ نهایة القرن التاسع عشر وبدایة القرن العشرین، بلغ ذروته قبیل التحول السیاسی الذی قاده السلطان قابوس بن سعید فی 1970. وکانت تلک العزلة التی عاشتها عُمان وذلک الانقطاع عن العالم الخارجی وضعا استثنائیا فی تاریخ عُمان المعاصر فرضته عوامل داخلیة وخارجیة ولیس نتاج نزعة العُمانیِّـین إلى الانطواء والعزلة. ویأتی من ضمن العوامل التی أدت إلى عزلة عُمان وشعبها تدخل القوى الاستعماریَّة الغربیة فی الشأن العُمانی، والعقوبات التی فرضها السلاطین على سکان المناطق الدَّاخلیَّة المناصرة للإمامة، وفشل کل من السلطنة والإمامة على حد سواء فی إنشاء حکومات وفق المعاییر المعاصرة، وهی موضوعات یتعین مناقشتها مناقشة أکثر تفصیلا فی السیاق الآتی.

تدخل القوى الاستعماریَّة الغربیة فی الشأن العُمانی وأثره فی عزلة عُمان عن العالم الخارجی:

بالرغم من أن رابی قد تطرق فی دراسته إلى تدخل القوى الاستعماریَّة الغربیة، تحدیدا التَّدخُّل البریطانی، فی الشأن العُمانی، من خلال شن الحملات العسکریة ضد العُمانیِّـین، وتوقیع المعاهدات التی کبلت السلاطین بقیودها المجحفة فی إقامة العلاقات الدولیة وتسییر شؤون البلد، إلاَّ إنَّه لم یربط أثر ذلک التَّدخُّل على فصل الداخل عن المناطق الساحلیة، خاصَّة مسقط، وتکریس عزلة الداخل بل وعُمان قاطبة عن العالم الخارجی. یقول رابی عن طبیعة النفوذ البریطانی ومدى تدخله فی الشأن العُمانی، «لقد کان اعتماد السلطان المتزاید على بریطانیا جلیا فی اتفاقیة 1891 التی ألزمت السلطان ومن یخلفه بأن لا یتخلَّى، أو یبیع، أو یرهن، أو یتنازل، أو حتَّى یؤجِّر أراضی مسقط وعُمان، أو أیًّا من توابعهما إلاَّ للحکومة البریطانیَّة. فهذه الاتفاقیة التی حدت عملیا من قدرة استقلالیة مسقط فی إدارة شؤون علاقاتها الخارجیَّة، وکانت لها تبعات على الاقتصاد والتجارة ضمنت لبریطانیا امتیازات إضافیة على تلک التی منحت لها فی الاتفاقیات السابقة»([34]). وفیما یتعلَّق بالتَّدخُّل البریطانی عسکریا فی الشأن العُمانی یقول رابی «على کل حال، فی کلِّ مرة کان هناک خطر یهدد السلطان، تتدخل بریطانیا فتسکت التمرد. فعلى سبیل المثال ساعد الإنجلیز السلطان فی عام 1829 فی إخماد تمرد بنی بو علی فی جعلان، وهو أحد المواقف التی یقول عنها أی تی ولسون إنَّه بدون العون الفوری لحکومة بومبی فإن حکم السلطان یمکن أن یکون قد وصل إلى نهایته المحتومة»([35]).

وفی واقع الأمر أن التَّدخُّل البریطانی فی الشأن العُمانی کان هدفه الهیمنة الاستعماریَّة، وتحطیم مقومات عُمان الحضاریة، ومکانتها الدولیة المرموقة حینئذ، وهو مسؤول مسؤولیة مباشرة عمَّا أصاب عُمان من نکسة حضاریة خلال القرنین التاسع عشر والعشرین. فبریطانیا کبقیة الدولة الغربیة الاستعماریَّة- البرتغال، وهولندا، وإسبانیا، وفرنسا، وروسیا، وألمانیا، وإیطالیا- أتت إلى الشَّرق متنافسة فیما بینها للفوز بثروات العالم، والسَّیطرة على طرق التِّجارة العالمیَّة. فقد کتب (فَرَانسِسْ وَاردِنْ- (Mr. Frances Warden أحد أعضاء مجلس بُومبَایْ مشیرًا إلى الموقف البریطانیِّ من عُمان، قائلاً: «ربَّما تعود هیمنة عرب مسقط على میاه الخلیج الفارسیِّ ابتداءً من عام 95-1694م؛ وذلک عندما أصبحوا قوَّةً ضاربةً أثارت الإنذار بخطر سیطرتها على الخلیج الفارسی. أصبحت الملاحة فی الخلیج صعبةً فی العام التَّالی بسبب تصاعد قوَّتهم، وهو ما جعل ممثِّلنا فی (جمبرون- (Gombroon یتنبَّأ قائلاً: «سیثبتون أنَّهم بلاءٌ عظیمٌ على الهند کما کان الجزائریُّون على أوروبا»([36]). ویقول بیترسون حول الوجود البریطانی فی عُمان خلال القرون الثلاثة الماضیة «إن الوجود البریطانی فی عُمان، وفی الخلیج العربی وبقیة أجزاء الجزیرة العربیَّة، ناتج من بروز عدد من الأهداف، والاحتیاجات المرتبطة بشدة بالاعتناء بالدفاع عن الهند فقط. وبناء علیه، فإن الإجراءات البریطانیة فی القرن الثامن عشر صممت لإبعاد الدول الأوروبیة الأخرى من المحیط الهندی، وهذه الأهداف تختلف عن أهداف القرن التاسع عشر التی تمثلت فی تأمین خطوط الاتصال بالهند، کما تختلف عن أهداف القرن العشرین التی تمثلت فی إنشاء طوق من الحمایة حول شبه القارة [الهندیة]»([37]).

وفعلا عمل الإنجلیز کل ما بوسعهم للقضاء، لیس فقط على القوة البحریة العُمانیَّة الضاربة والصاعدة، وإنَّما على الأمَّة العُمانیَّة الفاعلة والمؤثرة عبر التَّدخُّل المباشر فی الشأن العُمانی، وتطویق السلاطین العُمانیِّـین بالمعاهدات، والاتفاقیات التی کبلت حریتهم فی اتخاذ القرار وتسییر شؤون دولتهم وإقامة العلاقات مع شعوب ودول العالم، وإغراقهم بالدیون التی أثقلت کاهلهم وأفرغت خزینة الدولة، والعمل الدؤوب على تفکیک الإمبراطوریة العُمانیَّة، وفرض الحصار الاقتصادی الذی أدى إلى إنهاک الشعب وتجویعه. وقد بدأ ذلک التَّدخُّل منذ أن بدأت بریطانیا تراقب العلاقة الجیدة التی تربط الإمام أحمد بن سعید بفرنسا، الخصم التقلیدی للبریطانیین. یقول فَرَانسِسْ وَارْن: «لقد کانت سیاستنا فی تلک المدَّة [1783- 1797م] موجَّهةً بشکلٍ نشطٍ نحو إبطال مکائد (بُونابَرْتْ) فی فارس والخلیج من أجل القضاء على تطلُّعه نحو الهند، وحامت الشُّکوک حول أنَّ حکومة مسقط میَّالةً للتَّحالف مع فرنسا، ولیس مع بریطانیا، فالعلاقة التِّجاریَّة الَّتی یقوم بها الإمام مع (مُوریشْوس) تجعله فی حالة اتِّصالٍ مباشرٍ مع فرنسا»([38]).

وأتیحت الفرصة للإنجلیز لتحقیق أهدافهم فی فرض هیمنتهم الاستعماریَّة على عُمان وقطع علاقة مسقط مع فرنسا من خلال المعاهدةً التی وقعها مهدی علی خان- ممثِّل شرکة الهند الشرقیَّة فی بوشهر- مع السَّیِّد سلطان بن أحمد فی جُمادى الأولى 1213هـ/ 12 أکتوبر 1798م([39]). وتوالت مثل هذه المعاهدات التی فرضتها بریطانیا على السلاطین العُمانیِّـین، ویأتی على رأسها ما یعرف بالتعهد المانع الذی فرضته على السلطان فیصل بن ترکی فی 1308هـ/1891م، وجاء من ضمن نصه: «یتعهَّد السَّیِّد فیصل بن ترکی بن سعید سلطان مسقط وعُمان، ویلزم نفسه، وورثته، ومن یخلفه بأن لا یتخلَّى، أو یبیع، أو یرهن، أو یتنازل، أو حتَّى یؤجِّر أراضی مسقط وعُمان، أو أیًّا من توابعهما إلاَّ للحکومة البریطانیَّة»([40]).

وعندما حاول السلاطین فی مسقط مخالفة بنود تلک التعهدات، وإقامة علاقات صداقة مع الدول الأخرى هددتهم بریطانیا بقوة السلاح للتراجع عن تلک المحاولات. فعندما سمح السلطان فیصل فی 1898 لفرنسا بإنشاء مستودع للفحم فی منطقة الجصة القریبة من مسقط أرسلت بریطانیا إلى مسقط السَّفینتین الحربیَّتین (إکلِبْسْ- (Eclipse و(رِدبرِیسْتْ- (Redbreast وأرغم الکولونیل مِیدْ- المقیم البریطانی فی الخلیج حینذاک- السُّلطانَ على الصُّعود على متن السّفینة (إکلبسْ)، وأخبره بأنَّه إن لم یتراجع عن إعطاء فرنسا مستودع الفحم؛ فإنَّه سیرى بأمِّ عینیه تدمیر مدینته وقصره بمدافع السَّفینة (إکلبس). وفعلاً «أُبعدت کلُّ السُّفن التِّجاریَّة عن خطِّ النَّار، واتُّخذت الإجراءات الخاصَّة بتحذیر سکَّان المدینة، وممثِّلی القنصلیَّات الأجنبیَّة فیها»، وفی الیوم التَّالی، تلا السُّلطان فی مؤتمر حضره کلُّ وجهاء مسقط القرار الَّذی تَسلَّم نصَّه من الأدمیرَالْ دُوجَلاسْ، وتضمَّن سحبه للامتیاز الَّذی منحه لفرنسا، وتجدیده لعلاقة الصَّداقة ببریطانیا([41]).

ولمنع السُّلطان من اتِّخاذ أیِّ إجراءاتٍ مستقبلیَّةٍ لا تتوافق مع سیاسة بریطانیا فی عُمان، وُجِّهت إلیه الأوامر بأن یرجع إلى المقیم السِّیاسیِّ البریطانیِّ فی مسقط قبل أن یتَّخذ أیَّ قرارٍ، سواء أکان ذلک على الصَّعید الدَّاخلیِّ، أم على صعید العلاقات الخارجیَّة. ووجّهت الأوامر نفسها إلى خلیفتیه من بعده السُّلطان تیمور- عام 1331هـ/ 1913م-، والسُّلطان سعید -عام 1351هـ/ 1932م- اللَّذین طُلب منهما أن یوقِّعا على تعهُّدٍ بالرُّجوع إلى المقیم البریطانی فی اتِّخاذ القرارات([42]).

وعمدت بریطانیا إلى تقطیع بنیة الإمبراطوریة العُمانیَّة التی کانت تمتد، فی القرن الثامن عشر، من الخلیج العربی إلى مضیق موزمبیق فی شرق إفریقیا. وجاء فی طلیعة جهود بریطانیا فی تقسیم الإمبراطوریة العُمانیَّة وتفتیتها بالقرار الذی أصدره (اللُّوردْ کاننِجْ- (Canning فی رمضان 1277هـ/ 2 إبریل 1861م ویقضی بفصل زنجبار عن مسقط، واستقلالها التَّامِّ عنها. وفی الشق الأسیوی من الإمبراطوریة العُمانیَّة توج تدخل بریطانیا المباشر فی شؤون منطقة الخلیج العربیّ بتوقیع ما سمِّی بـ«المعاهدة العامَّة مع قبائل الخلیج العربیَّة» فی 1236هـ/ 1820م، الَّتی وقَّعها شیوخ القبائل القاطنة فی المنطقة الواقعة شمال غرب عُمان فیما یعرف تاریخیًّا باسم (جلفار) أو (ساحل عُمان)([43]). وقد أعطت هذه المعاهدة الصَّلاحیَّة لبریطانیا أن تصبح السُّلطة التَّشریعیَّة والتَّنفیذیَّة العُلیا فی المنطقة، وحق مراقبة السُّفن التِّجاریَّة فی منطقة الخلیج، والتَّدخُّل فی الشُّؤون الدَّاخلیَّة للقبائل من أجل حلِّ الخلافات النَّاشئة بینها، وهمَّشت علاقة مسقط التَّاریخیَّة بهذه المنطقة. وعمدت بریطانیا - کذلک- إلى التَّدخُّل العسکری ضد الشعب العُمانی فی حراکه ضد سیاستها الاستعماریَّة. ففی 1236هـ/1821م قامت بریطانیا بشن حملة عسکریة على منطقة جعلان بالجزء الشرقی من عُمان أطلقت علیها «الحملة التأدیبیة»([44]). وفی رمضان 1282هـ/ فبرایر 1866م قام الأسطول البریطانی بقیادة السفینة (های فلایر- High Flyer) بمهاجمة مدینة صور التی کانت حینئذ واحدة من أهم الموانئ العُمانیَّة فدمر السفن الشراعیة الموجودة فی المیناء وأحرق کل الأخشاب المستعملة فی صناعة السفن، ودمر - أیضا- کل قلاع المدینة، وقتل عددا کبیرا من سکانها([45]). وفی 1287هـ/ 1871م تدخلت بریطانیا عسکریا للقضاء على الحکومة التی انتخبها الشعب العُمانی بقیادة الإمام عزان بن قیس البوسعیدی. وقبل ذلک فرضت بریطانیا على هذه الحکومة المنتخبة حصارا اقتصادیا «حیث أغلقت الموانئ الهندیة والإفریقیة أمام التجار العُمانیِّـین، ممَّا أدى إلى رکود اقتصادی فی عُمان دام أکثر من سنتین الأمر الذی أرغم التجار العُمانیِّـین والتجار البانیان على مغادرة عُمان»([46]). وقامت السفن الحربیة البریطانیة فی 1914م بضرب کل معاقل الإمامة على طول ساحل الباطنة، وفرضت حصارا اقتصادیا علیها، فرفعت مسقط بناءً على أوامر المقیم الإنجلیزیِّ الرُّسوم على المنتجات الزِّراعیَّة الواردة من الدَّاخل من 5% إلى 25% على التُّمور، و50% على الرُّمَّان، ومنعت خروج الأموال من البلاد. لم تؤثِّر هذه الإجراءات على مناطق الإمامة فحسب، بل عمَّ تأثیرها البلاد کلِّها، فزاد التَّضخُّم، ونقصت الأموال وبلغ العجز التِّجاری 300,000 جنیهٍ إسترلینیٍّ تقریبًا، وأغلق تجَّار مسقط الهنود متاجرهم وغادروا البلاد([47]).

إضافة إلى ما سبق، اتخذت بریطانیا من تجارة السلاح والرقیق ذریعة لإضعاف قدرات عُمان التجاریَّة، وضرب أسطولها البحری الذی کان یجوب منطقة غرب المحیط الهندی ووصلت سفنه التجاریَّة إلى أوروبا وأمریکا الشمالیَّة، فحملت بریطانیا السلاطین العُمانیِّـین فی مسقط وزنجبار على التوقیع على معاهدات واتفاقیات لم تقتصر على منعهم، ومنع رعایاهم من الاتجار بالسلاح والرقیق وحسب، بل خولت السفن البحریة البریطانیة توقیف السفن العُمانیَّة فی المیاه الدولیة، والإقلیمیة العُمانیَّة، وتفتیشها، ومصادرة ما تحمله من بضائع، وحرق السفن، وتقدیم ملاکها والمسؤولین علیها إلى المحاکم الإمبریالیة البریطانیة التی أنشأتها خصیصا لهذا الشأن فی المستعمرات البریطانیة فی المحیط الهندی. وکانت نتیجة الاتفاقیات والمعاهدات التی فرضتها بریطانیا على السلاطین العُمانیِّـین لمکافحة تجارة السلاح والرقیق «تدمیر الغالبیة العظمى من السفن العُمانیَّة العاملة فی التجارة المشروعة بین شرق إفریقیة وعُمان؛ بحجة أن أغلب بحارة هذه السفن من الرقیق، ولهذا لم تجرؤ من بقی من السفن العُمانیَّة على الإبحار؛ خوفا من قرصنة الأسطول البریطانی، الأمر الذی أدى إلى قطع الصلات التجاریَّة القائمة بین شرق أفریقیة وعُمان، بل والخلیج العربی بشکل عام»([48]). أدى - کذلک- الحصار البحری الذی فرضته بریطانیا على السفن العُمانیَّة إلى تحول ملکیة معظم السفن العُمانیَّة العاملة فی التجارة إلى الجالیة الهندیة، وأعطت بریطانیا الأولویة لرعایاها من التجار الهنود فی ممارسة عملیات الشحن البحری ووکلاء للشرکات الأوربیة ممَّا أضعف مکانة التجار العُمانیِّـین فی مسقط، «وبسبب ذلک اضطر عدد کبیر من العائلات التجاریَّة العُمانیَّة الانتقال إلى داخل عُمان للعمل فی مزارعهم، تارکین ما بقی من الأنشطة التجاریَّة للجالیة الهندیة، ویُعد ذلک نجاحًا کبیرًا فی نشر الهیمنة البریطانیة على الاقتصاد العُمانی»([49]).

لم تقتصر آثار الممارسات البریطانیة على المواطن العُمانی وحسب، وإنَّما امتد تأثیرها إلى السلاطین أنفسهم الذین أصبحوا یعانون من فراغ خزائن الدولة من الأموال؛ ممَّا اضطرهم إلى الاقتراض من الحکومة البریطانیة؛ ممَّا أثقل کاهلهم بالدیون الربویة التی أصبحت تتضاعف وهم غیر قادرین على تسدیدها. ففی نهایة سبتمبر 1897 بلغت الدیون الواجبة على السلطان فیصل للحکومة البریطانیة 90,000 روبیة منها 34,000 روبیة المتبقی من تعویضات سنة 1895، و36,000 ربیة المتبقی من دیون عام 1897، و20,000 روبیة الأقساط الواجب علیه سدادها من ذلک الدین. وفی عام 1902 حصل السلطان على قرض آخر من الإدارة البریطانیة فی الهند بلغ 1,61,956 روبیة لشراء سفینة حیث لم یکن لدیه أی سفینة صالحة للإبحار، وتم الاتفاق على أن یتم تسدید تلک الدیون بالأقساط من المعونة التی تدفعها له الحکومة البریطانیة کتعویض عن انفصال زنجبار عن عُمان. وفی عام 1903 منحته بریطانی قرضا آخر بـلغ 20,000 روبیة لتنفیذ بعض العملیات العسکریة فی الرستاق، وفی 1904 طلب منهم قرضا آخر بلغ 30,000 روبیة لسداد تکالیف زواج ابنه تیمور، وفی 1905 طلب قرضا آخر بلغ 20,000 روبیة لتمویل ذهاب بعض أفراد أسرته إلى الحج. بلغت دیون السلطان فیصل للحکومة البریطانیة فی ذلک العام 100,000 روبیة، ومثلها للدائنین المحلیین من التجار الهنود ممَّا اضطر الحکومة البریطانیة أن تلزمه ألا یستدین من أی جهة سواء الحکومة البریطانیة التی توقفت عن منحه قروض للأغراض الشخصیَّة، واشترطت علیه توظیف خبیر بریطانیّ لإدارة شؤون الضرائب، وأن یکون أی قرض مستقبلی تقدمه له بریطانیا یصب فی إعادة هیکلة الدیون الحالیة([50]).

انتقلت الترکة الثقیلة من الدیون والإرادات الضعیفة من السلطان فیصل عند وفاته فی 1913 إلى ابنه تیمور الذی وصلت الدیون فی عهده إلى مستوى مزرٍ، کتب عنه القنصل والممثل السیاسی البریطانی فی مسقط میرفی (G. P. Murphy) فی تقریر بعثه إلى الهند قائلا: «وجد السلطان أن دیونه قد بلغت 6 لک، وأصبح غیر قادر حتَّى على توفیر متطلبات الغذاء الیومی فی القصر»([51]). وانتقلت تلک الدیون والوضع المالی إلى السلطان سعید بن تیمور الذی حمل على کاهله تسدید الدیون، وتحسین واردات الدولة عن طریق رفع الرسوم الجمرکیة، وخفض الإنفاق ممَّا حسن من الوضع المالی لخزینة الدولة التی بلغت 225,000 جنیه إسترلینی فی عام 1950([52]).

الإجراءات العقابیَّة وأثرها فی تکریس العزلة والانغلاق:

إضافة إلى الممارسات البریطانیة ضد الدولة العُمانیَّة، وأثرها فی عزلة عُمان عن العالم، وإضعاف وضعها الاقتصادی والسیاسی، ألحقت الإجراءات العقابیة التی فرضها السلطان تیمور بن فیصل وابنه سعید بن تیمور على المناطق الدَّاخلیَّة من عُمان، بسبب مشارکة سکان تلک المناطق فی الثورة ضدهم، الضرر الکبیر ببنیة المجتمع، وخنقت الوضع الاقتصادی الهش والمعتمد على التجارة مع الساحل. وقد أشار رابی نفسه إلى العقوبات التی فرضها السلطان تیمور بن فیصل على دولة الإمام سالم بن راشد الخروصی، إلاَّ أن رابی لم یتطرق إلى الأثر الذی عملته تلک العقوبات فی عزلة الداخل عن بقیة عُمان، فضلا عن العالم الخارجی. یقول رابی متحدثا عن العقوبات التی فرضها السلطان تیمور: «وفی 1920 رد السلطان بفرض سلسلة من الضرائب العقابیة على الواردات القادمة من الداخل فی إطار إغلاق عام لتلک المناطق؛ منع على أثره السکان من الوصول إلى المناطق الساحلیة»([53]). وعلى الرغم من أن تلک الضرائب قد خفضت إلى 5% بناء على اتفاقیة السیب الشهیرة التی وقعها فی عام 1920م نیابة عن السلطان تیمور القنصل والمقیم السیاسی البریطانی فی مسقط المیجر ونجیت (Wingate) مع ممثلی الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، کما سُمح للعُمانیین بارتیاد المناطق الساحلیة بما فیها مسقط ومطرح، إلاَّ أن الممارسات الأمنیة التی خنقت الداخل استمرت إلى ما بعد سقوط الإمامة فی عام 1955م، ولم ترفع بشکل نهائی إلاَّ مع اعتلاء عرش عُمان السلطان قابوس بن سعید فی عام 1970م.

غیاب الحکومة العصریَّة ودوره فی تکریس العزلة والانغلاق:

وقد اکتملت محنة عُمان فی الانغلاق والانعزال بفشل کل من السلطنة فی الساحل والإمامة فی الداخل فی إنشاء حکومات وفق المعاییر العصریة تخرج عُمان إلى مصاف الدول المعاصرة. فلم تکن الحکومات التی تشکلت فی مسقط، ولا تلک التی فی نزوى من الکفاءة بحیث تنقل عُمان من وضعها الراکد حینئذ إلى مصاف الدول العصریة، فلم تکن حکومة السلطان، ولا حکومة الإمام مؤسسات دستوریة بالمعنى المعاصر، إلى جانب افتقاد کل منهما إلى الرؤیة الواضحة لبناء الدولة الحدیثة ذات الاقتصاد القوی، والشراکة المجتمعیة، والمسؤولیة فی اتخاذ القرار. وفی حین یذکر رابی «أن إمامة القبائل فی الداخل أدخلت مستوى متدنٍ من البنیة التحتیة المدنیة، فلم یکن بها خطوط الطرق السریعة والشوارع المعبدة، ووسائل النقل الحدیثة، والمستشفیات، وخطوط الکهرباء»([54])، لم یشر إلى أن ذلک یصدق إلى حد کبیر على المناطق الخاضعة للسلاطین، ممَّا یجعل المسؤولیة على عدم تطور عُمان فی تلک الحقبة مشترکة، ولا یمکن تحمیلها فریق دون الآخر. لذا أکَّد السلطان قابوس بن سعید، فی أول بیان ألقاه عند تسلمه مقالید الحکم فی عُمان فی 23 یولیو 1970م، أن یجعل الحکومة عصریة، وأن یزیل ما یرزح تحت وطأته الشعب العُمانی من أوامر غیر ضروریة: «إنِّی أعدکم أول ما أفرضه على نفسی أن أبدأ بأسرع ما یمکن أن أجعل الحکومة عصریة، وأول هدفی أن أزیل الأوامر غیر الضروریة التی ترزحون تحت وطأتها». وفی خطابه إلى الشعب العُمانی فی 9 أغسطس 1970م قال السلطان قابوس: «إن احتیاجات البلد کثیرة، فالصحة والتعلیم والمواصلات والطرق، کلها تحتاج إلى عنایة عاجلة».

الثنائیة الثقافیة والسِّیاسیَّة- مسقط وعُمان أو السلطنة والإمامة:

یرى أوزی رابی أن «التاریخ العُمانی، بشکل أساس، یعکس ثنائیة سیاسیَّة وثقافیة»([55]). یتمثل الشق الأول من تلک الثنائیة فیما یسمیه رابی «دولة التجارة البحریة»([56]) التی نشأت على الساحل، و«ترتسم إیحاءاتها من مجتمع التجارة البحریة الذی ورثه الشاطئ العُمانی عبر الأجیال، ولیس من أی معاییر دینیة»([57]). وأمَّا الشق الآخر من تلک الثنائیة السِّیاسیَّة والثقافیة فیتمثل من وجهة نظره فی «دولة الإمامة المتکئة على سلسلة من الإجراءات والمفاهیم الدینیَّة»([58])، وبالتالی حسبما یقوله رابی فإن «الإمامة ومؤسساتها بشکل أو بآخر ترجمة دینیة للتقالید القبلیة، المتسمة باللامرکزیة»([59]).

ویرى رابی کذلک أن سلاطین الأسرة البوسعیدیة منفصلون عن مجتمع الداخل، وعن المذهب الإباضی برغم انتمائهم إلیهما «ولو اسمیا على الأقل»([60]). یقول رابی «إن الإمامة مؤسسة متجذرة تعمقت خلال ألف سنة من الحیاة فی عُمان، منذ أن قبلت عُمان الإسلام الإباضی. وعلى العکس من ذلک، فإن السلطنة فی الساحل هی دولة نشأت نتیجة الضغوطات التی خلقتها الأحداث فی منتصف القرن الثامن عشر، فهی ترتسم إیحاءاتها من مجتمع التجارة البحریة الذی ورثه الشاطئ العُمانی عبر الأجیال، ولیس من أی معاییر دینیة، على الرغم من أن تلک السلطنة تدار من قبل سلالة العائلة البوسعیدیة الذین کانوا فی الأصل إباضیون ومن سکان الداخل»([61]). ویقول رابی کذلک «ولکن کانت هناک ترکة مغایرة ساهمت بشکل جوهری فی تطور عُمان. إنها الترکة التی نشأت على الساحل- سلطنة مسقط- ولخصتها قصص السندباد الملاح، والمدونات التی خلفها البحارة المشهورون مثل أحمد بن ماجد. فهذه الترکة تُعرِّفُ عُمان على أنَّها دولة التجارة البحریة التی سافر تجارها منذ القرن الثامن من منطقة إلى أخرى فی منطقة الریاح الموسمیة، من الصین إلى موانئ شرق إفریقیا. فقد غذت هذه التجارة الأساس الذی أنشأت علیه منذ منتصف القرن الثامن عشر (1749) سلطنة مسقط، القوة البحریة بمعاییر المنطقة، تحت قیادة ملوک من الأسرة البوسعیدیة (أصولهم إباضیَّة)[...] فالتاریخ العُمانی، بشکل أساسی، یعکس ثنائیة سیاسیَّة وثقافیة»([62]).

ومن وجهة نظر رابی فإن نشوء دولة الساحل، وتعمیق الانفصال عن الداخل مر بثلاث مراحل. تشکلت المرحلة الأولى عند ظهور الدولة البوسعیدیة، وتنصیب مؤسسها الإمام أحمد بن سعید البوسعیدی قائدا لعُمان. یقول رابی «تشکل البدایة التی انطلقت منها الأسرة الحاکمة الأخیرة، البوسعیدیین، المنتمین إلى القسم الهناوی-الإباضی الذین تنبع أصولهم من مدینة أدم بالداخل، نقطة انعطاف فی ثقافة عُمان السِّیاسیَّة من منطلقین: فأولا، الإمام أحمد بن سعید البوسعیدی (1744-83)، مؤسس العائلة الحاکمة، قد حصل على قدر کبیر من الشَّرعیَّة من إنجازاته فی إخراج الفرس، الذین نزلوا على الشواطئ العُمانیَّة فی عام 1737م وقاموا بمحاصرة صحار. فقد نجحت القوة العُمانیَّة المُحاصَرة بقیادة أحمد بن سعید الذی کان حینئذ والیا على صحار فی کسر الحصار، وتحقیق النصر على القوة الفارسیة الغازیة. وقد جعل هذا النصرُ أحمدَ بن سعید المرشح الطبیعی لمنصب الإمامة، ونجح هو فی الفوز بالتأیید المتأرجح للقبائل الهناویَّة وتأیید بعض القبائل الغافریَّة. وقد أدى موت مرشح القبائل الغافریَّة بلعرب بن حمیر فی عام 1749م ومحنة الحرب إلى استقرار القبائل العُمانیَّة على شخص أحمد بن سعید. فلأول مرة منذ زمن بعید تتحقق إلى حد ما وحدة وطنیة عُمانیة تحت قیادة الإمام. وبسبب هذا التأیید الکبیر غیر المسبوق من جهات متعددة، أصبح اعتماد الإمام على دعم زعماء القبائل الکبیرة قلیل جدًّا، وأصبح اتکاءه على القبائل أقل بکثیر وبکلِّ المقاییس من الأئمة الذین سبقوه. ثانیا، بخلاف من سبقه من الأئمة، کان الإمام أحمد تاجرا ویملک سفنا؛ فقام بتطویر إمکانیات عُمان البحریة، وأدخل عُمان فی مشاریع تجاریَّة ضخمة من خلال توظیف الموارد البحریة، وجوانب القوة الاقتصادیَّة الکامنة فی مجتمع الساحل»([63]).

وأمَّا المرحلة الثانیة فتشکلت بعد وفاة الإمام أحمد بن سعید، وتقسیم عُمان بین عاصمتین: الرستاق التی أصبحت عاصمة دینیة، وعلى رأسها قائد دینی هو الإمام سعید بن أحمد بن سعید، ومسقط التی أصبحت عاصمة سیاسیَّة وتجاریَّة وعلى رأسها ابنه حمد بن سعید بن أحمد بن سعید. وأمَّا المرحلة الثالثة فقد حدثت فی عهد السلطان سعید بن سلطان الذی نقل عاصمته إلى زنجبار وأرخى قبضته على عُمان الداخل. یقول أوزی رابی: «بشکل متناقض، کانت الحقبة التی تألقت فیها السلطنة تحت قیادة السید سعید بن سلطان (1804-56) هی التی شهدت تعمیق الانفصال بین الساحل والداخل فی عُمان. فبترکیزه على البحر الواسع وتوسیع ممالکه فی شرق إفریقیا، ومستعمراته فی زنجبار، وبیمبا، فقدت السلطنة فی عهد السید سعید بن سلطان قبضتها على الداخل. ولم ینجح أحد من خلفائه فی إعادة السیطرة على تلک المناطق. وبدأ الفصل بین الإمام والسلطان؛ نتیجة للظروف، ولیس نتیجة للتقالید والأعراف المعهودة»([64]).

وحسب وجهة النظر التی یطرحها أوزی رابی فإن مثال التباین فی المبدأ، والأسس بین الدولة التی أنشأها سلاطین العائلة البوسعیدیة بالساحل على أسس التجارة البحریة، وبین دولة الإمامة التی أنشأت بالداخل وفق مبادئ دینیة، یتضح فی انتخاب الإمام سالم بن راشد الخروصی کردة فعل على سیاسة السلطان تیمور بن فیصل. یقول أوزی رابی «عندما حاول السلطان [تیمور بن فیصل] زیادة صلاحیاته المرکزیة باتخاذ المزید من الإجراءات لمنع استیراد السلاح إلى عُمان، اجتمع شیوخ التمیمة الکبار فی محاولة للإطاحة بالسلطان وتنصیب إمام فی مکانه [...]، فالجبهة التی تشکلت ضد السلطان شملت العلماء الإباضیین الذین وجدوا أن تصرفات حکومة تیمور بن فیصل مهینة. فمحلات بیع الخمور للأجانب وسکان مسقط بشکل عام، وإهانة المکانة الدینیَّة للقضاة صورت السلطان کشخص ترک تعالیم الشریعة بشکل کامل، وأصبح یشکل تهدیدا على المجتمع العُمانی بالتحاقه بقوى الجبابرة. ذلک کله، إضافة إلى سیاسة مسقط المرکزیة، قوضت ثقة قبائل الداخل، وأسست لجهودهم فی إعادة مؤسسة الإمامة کمرکز نشط للحکومة [...] فانتخبوا سالم بن راشد الخروصی إماما»([65]).

ومن وجهة نظر مغایرة لتلک التی قدمها أوزی رابی لأسباب ثورة 1913م التی أدت إلى تنصیب سالم بن راشد الخروصی إماما فی عُمان، یقول جُونْ وِلکنسُونْ: «تُجمع سائر المصادر، بما فیها البرقیَّات الرَّسمیَّة البریطانیَّة، أنَّ إحیاء الإمامة فی 1913م نبع من السَّأم الکامل من فساد حکم السَّلاطین وعدم کفایته، والغیاب التَّامِّ للاستقرار فی الدَّاخل»([66]). ویرى بیترسون أن العوامل التی أدت إلى قیام الإمامة فی عام 1913م متعددة یأتی من ضمنها «عدم الاستقرار نتیجة للانحدار التدریجی للاقتصاد بسبب فقدان عُمان لمکانتها الاقتصادیَّة المتفوقة»([67]). «والسبب الآخر هو السخط الشعبی المتنامی على النفوذ الذی کان یمارسه الإنجلیز على فیصل»([68]). وکان من ضمن الأسباب المشاعر الدینیَّة المتنامیة التی کان یذکیها المتدینون بزعامة الشیخ عبد الله بن حمید السالمی([69]).

وفی تقریر بعث به الوکیل السیاسی البریطانی فی مسقط (آر وینجیت-R. E. L Wingate) فی أکتوبر 1920 إلى نائب المعتمد السیاسی البریطانی فی بوشهر حول الأسباب التی أدت إلى ثورة الشعب العُمانی، ومساندته للإمام سالم بن راشد الخروصی ذکر من ضمن الأسباب «فقدان زنجبار ووارداتها، وفقدان القوة البحریة نتیجة دخول المحرکات البخاریة، وأخیرا وهو الأهم النفوذ البریطانی وآثاره»([70]). فقد ذکر فی التقریر ذاته عن النفوذ البریطانی فی مسقط وأثره فی قیام الثورة «وعند الأخذ بعین الاعتبار سیاستنا تجاه مسقط وعُمان، فإن هذه النقطة الأخیرة یجب ألا تغیب عن نظرنا. فنظرة موجزة على المعاهدات والالتزامات مع حکام مسقط، ستظهر أن ذلک النفوذ کان بأکمله لخدمة مصالحنا نحن فقط، ولم یعر أی اهتمام للخصوصیة السِّیاسیَّة والاجتماعیَّة للبلاد وحکامها [...] فکنا نقدم الدعم الخاطئ، الدعم المالی ولیس الدعم الضروری، وکنا نتدخل فی الشؤون الخارجیَّة بما انعکس بشکل خطیر على السلام الداخلی»([71]).

إضافة إلى ما سبق، کان الشیخ نور الدین السالمی قد اجتمع بالسلطان فیصل بن ترکی قبل قیامه بإجراءات الإمامة، وطلب منه إدخال عدد من الإصلاحات، وبذل المزید من الجهود لتوحید المجتمع العُمانی، إلاَّ أن جهود الإمام السالمی قوبلت بالرفض من السلطان فیصل. ووجَّه الإمام المنتخب سالم بن راشد الخروصی - أیضا - رسالةً إلى السُّلطان فیصل یطلب منه التَّنازل السِّلمیَّ عن السُّلطة والانضمام إلى حرکة الشعب العُمانی([72]). تلک التحرکات تدلُّ على أنَّ مؤسسة الإمامة لم توجِّه عداءً لذات أشخاص السُّلطة الحاکمة فی مسقط. حیث حدَّدت الإمامة من ضمن برنامجها إنهاء النُّفوذ الإنجلیزیِّ، وتوحید البلاد، وبسط سلطة الإمامة على کلِّ البلاد؛ ممَّا یدلُّ أن الدوافع إلى إقامة الإمامة لیست دینیة محضة کما یدعی رابی، وإنَّما سیاسیة، واجتماعیَّة، ووطنیة. وکان الشَّیخ نور الدین السَّالمیُّ، القائد الروحی لمشروع الإمامة، قد بعث برسالةٍ إلى السلطان فیصل بن ترکی قبل تنصیب الإمام یطلب منه تغییر مواقفه من البریطانیِّین([73]). وهذا یدلُّ على أن «أهل عُمان المعروف عنهم حبهم الشدید للاستقلال»، کما یصفهم (هولینجسورث- Hollingsworth)([74])، قد وجهوا ثورتهم بشکل أساس ضد النفوذ البریطانی فی عُمان ودوره فی خنق بلدهم اقتصادیا، وعزلها عن العالم الخارجی، وتفتیت وحدتها الوطنیة، ولیس ضد نظام الحکم فی حد ذاته أو أشخاص الحکومة فی مسقط.

وممَّا یدعم هذا الاستنتاج أن الإمام الخلیلی اتخذ موقفا تصالحیا من السلطان سعید بن تیمور وحکومته فی مسقط مستفیدا فی ذلک من اتفاقیة السیب التی رفعت بشکل نسبی القیود الاقتصادیَّة عن سکان المناطق الدَّاخلیَّة ورعایا الإمامة، ومنحتهم حق الدخول إلى المدن الساحلیة، والتبادل الاقتصادی معها.

ویؤکد رابی نفسه على الأثر الذی عملته اتفاقیة السیب فی تحسین العلاقة بین الداخل ومسقط؛ نتیجة رفع العقوبات الاقتصادیَّة، یقول رابی: «التسهیل الاقتصادی النسبی الذی تمتعت به قبائل الداخل، الناتج بشکل ثانوی عن اتفاقیة السیب، إضافة إلى ما نتج عن تلک الاتفاقیة من رفع مسببات العداء، ساهم فی تهدئة الوضع، والحفاظ على العلاقة المستقرة بین السلطنة والإمامة»([75]).

ویشیر أوزی رابی کذلک إلى نشوء العلاقة التصالحیة، بل والتکاملیة، بین السلطتین القائمتین- إمامة الخلیلی ونظام السلطان سعید بن تیمور. یقول رابی «وفی موقفه من السلطنة الواقعة على الساحل، أظهر الإمام الجدید، محمَّد بن عبد الله الخلیلی، موقفا منفتحا إلى حد ما تمثل فی الحفاظ على علاقات صحیحة مع سلاطین مسقط. فیمکن القول أنَّه على الرغم من الخلافات الکثیرة، والتاریخ من الصراعات بین السلطنة الساحلیة والإمامة فی الداخل، فإن الهدوء النسبی وغیاب الصراعات قد اتسمت بها المدة بین 1920 و1954»([76]). ویضیف رابی أن العلاقة الحسنة بین الجانبین وصلت إلى التمثیل السیاسی الخارجی، وإصدار الجوازات التی کانت تقوم به السلطات فی مسقط، ولیس الإمامة فی الداخل: «ومن المثیر للاهتمام، أن السلطان وباتخاذه سیاسة معاکسة للسیاسة الانعزالیة للإمام الخلیلی، حمل على عاتقه مسؤولیة العلاقات الخارجیَّة للإمامة القبلیة فی الداخل. وتشمل تلک المسؤولیات الاتصال بالحکومات الأجنبیة حول وضع مواطنیها فی مسقط وعُمان. فبهذا الإحساس یمکن القول إنَّه قد ظهر خلط فی السلطات. فالجوازات وغیرها من التصاریح کانت تصدر فی مسقط ویستعملها رجال الإمام أنفسهم»([77]).

وفی تقریر للقنصل العام البریطانی فی مسقط (تشاونسی- F. C. L. Chauncy) فی 1951م، أوضح أن الأریحیة تسود العلاقة بین الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، والسلطان سعید بن تیمور، وأن علاقة السلطان بالإمام أوثق بکثیر ممَّا یعتقد الکثیر، وأن السلطان یساعد الإمام فی الکثیر من العلاقات الخارجیَّة، والإمام بدوره راض عن ذلک. وقد أکدت التقاریر الدبلوماسیة البریطانیة فی مسقط «أن العلاقات بین السلطان والإمام حمیمیة، وقد تعاونا بشکل وثیق فی الأزمة التی نتجت من احتلال السعودیین لحماسة بالبریمی»([78]). وأکدت التقاریر کذلک أن «العلاقة بین السلطان وقبائل الداخل تحکمها اتفاقیة السیب. والسلطان یرى أن الدولة بأکملها تحت سلطته المطلقة، ولذلک فإنَّه هو المسؤول عن العلاقات الخارجیَّة [...] وهذا الوضع لم یتم إنکاره أو قبوله بشکل رسمی من الإمام إلاَّ أن أفعاله تنبئ بقبوله لها. فعلى الرغم من أن الإمام قد قام بمخاطبة السلطات الدبلوماسیة البریطانیة مباشرة کما قام بمخاطبة ابن سعود إلاَّ أن هذه عُدَّت موضوعات لیست ذات أهمیة، وفی النزاع الحدودی الأخیر مع المملکة العربیَّة السعودیَّة کتب الإمام إلى السلطان بأنَّه یقف معه فی أی إجراءات یتخذها السلطان بالتعاون مع الحکومة البریطانیة [...] وقد قال مریده المخلص صالح بن عیسى، زعیم الهناویَّة فی عُمان، للمقیم السیاسی فی عام 1953م: إنَّه فی حین أن الإمام مسؤول بشکل کلی عن الشؤون الدَّاخلیَّة فی عُمان، فإن السلطان هو المسؤول عن الشؤون الخارجیَّة[...] واتفاقیة [السیب] لم یتم تجدیدها إلاَّ أن الفریقین یروا أنَّها ساریة المفعول [...] والاتفاقیة تعمل بشکل جید، ولم یتم تجاوزها إلاَّ فی مواقف قلیلة. وأی إخلال بالاتفاقیة یتم إنهاؤه بالتفاهم بین السلطان وزعماء القبائل»([79]).

وکتب القنصل العام البریطانی فی مسقط (تشاونسی- F. C. L. Chauncy) عن علاقة السلطان سعید بن تیمور بزعماء القبائل قائلا «منذ السنوات الأولى لعهده کان السلطان [سعید بن تیمور] یحاول الاندماج مع شیوخ القبائل بضیافتهم عند قدومهم إلى مسقط وإعطائهم الهدایا المالیة بالرغم من أنَّها لیست على مستوى کبیر، وبإظهار تمسکه الدینی کمسلم إباضی»([80]). کما ذکر تقریر القنصل البریطانی فی مسقط «أن الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی قد تم انتخابه إماما إثر مقتل الإمام السابق فی عام 1920م، وأنَّه فی عام 1953م قد بلغ 75 عاما. وقد وردت التقاریر بأنَّه عادل فی الحکم، وجاء على لسان أحد الرحالة بأن أشبه ما یکون بالعصر الذهبی یعم [مناطق الإمامة] فالقبائل تتمتع تحت قیادته بالسلام. وبعض القلاقل التی تحدث بین القبائل من وقت لآخر یتدخل الإمام بسرعة لإنهائها»([81]).

انتهت العلاقة الهادئة بین السلطنة والإمامة، حسب أطروحة أوزی رابی، إثر ظهور النفط ورغبة شرکات النفط الغربیة فی الهیمنة على مصادر هذه الثروة فی المنطقة. یقول أوزی رابی «إن الهدوء التام تقریبا الذی تمتعت به داخلیة عُمان إثر توقیع معاهدة السیب فی عام 1920م وصل إلى نهایته بعد انتهاء الحرب العالمیة الثانیة. فقد شهدت نهایات العقد الرابع من القرن العشرین اهتماما متزایدا من قبل شرکات النفط بمنطقة جنوب شرق الجزیرة العربیَّة. وکان التنافس العالمی، والحدود غیر المرسومة بین دول المنطقة بمثابة دعوة مفتوحة للتدخل فی المنطقة. ففی عام 1949م ادّعت المملکة العربیَّة السعودیَّة مدعومة بشرکات النفط الأمریکیة ملکیتها لواحة البریمی التی کانت فی ذلک الوقت تحت الإدارة المشترکة لعُمان وأبوظبی، وخلال استیلاء السعودیَّة على البریمی تم تحویل القضیَّة الحدودیة إلى جهات التحکیم الدولیة، إلاَّ أنَّه فی أثناء مرحلة التفاوض حاولت حکومة المملکة العربیَّة السعودیَّة تقویة قبضتها على البریمی بتشجیع الإمام على اتخاذ إجراءات ضد السلطان سعید بن تیمور»([82]).

لم یوضح أوزی رابی الإجراءات التی شجعت المملکة العربیَّة السعودیَّة الإمام لاتخاذها ضد السلطان سعید بن تیمور، والحقیقة التاریخیة بخلاف ما یدعیه أوزی رابی؛ فالمعروف أن الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی قد شکل مع السلطان سعید بن تیمور موقفا وطنیا موحدا رافضا لاحتلال السعودیَّة لواحة البریمی، وقد توج هذا الموقف بموافقة السلطان والإمام على تکوین جیش عُمانی مکون من المواطنین العُمانیِّـین التابعین للإمام، وأولئک التابعین للسلطان سعید بن تیمور توجه لتحریر واحة البریمی، وإنهاء الاحتلال السعودی، إلاَّ أن هذا الجیش لم یتح له تحقیق هدفه بسبب الضغوط القویة التی مارستها حکومة الولایات المتحدة الأمریکیة على الحکومة البریطانیة التی أمرت من جانبها قنصلها العام فی مسقط بإیقاف الحملة([83]). یقول جون ولکنسون معلقا على هذا التَّدخُّل من قبل الإنجلیزی «وهکذا وبضربة مفجعة واحدة تغیر تاریخ المنطقة، فربما اتحد السلطان والإمام لإنشاء دولة جدیدة موحدة، ولکن بدلا من ذلک فقد السلطان کرامته بتسریح الجیش العُمانی الذی لم یعط الفرصة لإطلاق رصاصة واحدة، وظهر السلطان مجددا أنَّه خاضع للبریطانیین، ولو سمح له بحریة التصرف قد ینال الکثیر من الوجاهة بین الناس، ولربما أسفر تنسیق الجهود بین السلطان والإمام عن تسریع التعاون بینهما فی إدارة الدولة التی بدأت تقسیماتها القدیمة تتلاشى فعلیا»([84]).

ادعاء عداء الإمام الخلیلی للمسیحیین:

یدعی رابی أن الإمام الخلیلی، وفی إطار السیاسة الخارجیَّة الانعزالیة التی اتبعها، کان معادیًا للمسیحیین. یقول أوزی رابی «اتبع الإمام الخلیلی سیاسة خارجیة انعزالیة موجهة نحو محاولته تحیید الاتصال بالغرب ومنعهم من الدخول إلى الدولة [...] ویبدو أن الإمام ینظر إلى العزلة على أنَّها نمط من السلوک یمکنه من خلاله المحافظة على شؤون الدولة [...] وبذلک فإن إمامة الخلیلی قد تم صیانتها وحفظها من کلِّ أنواع الاتصال مع العالم الخارجی على افتراض أنَّه کلما اجتهدوا فی منع ذلک الاتصال کلما کان الأمر أفضل بالنسبة لهم. لذا فإنَّه لم یکن مدهشا أن لا یعرف العالم الخارجی أی شیء عن الإمامة»([85]).

ویستشهد أوزی رابی فی إثبات وجهة نظره فی عداء الإمام الخلیلی للمسیحیین بما قاله البریطانی (ولفرد ثسیجر- Wilfered Thesiger) عند قیامه بجولاته الاستکشافیة فی المناطق الدَّاخلیَّة من عُمان التی کلفته بها السلطات البریطانیة فی 1945 و1949 فی إطار سعیها لاکتشاف واستغلال مصادر النفط فی عُمان. یقول رابی «لاحظ ثسیجر أن الإمام معاد للمسیحیین، ویشارکه فی ذلک العداء کل القبائل التی تسکن فی تلک المناطق، وأهل القرى أکثر عداء من البدو [...] وکان أعضاء الإرسالیة العربیَّة بمسقط ومطرح من بین القلة القلیلة من الغربیین الذی التقوا بالإمام. فقد تم منح جوازات دخول للطبیبین بول هاریسون وولز تومس، والقسیس درک دکسترا، وهم من الإرسالیین المقیمین بالإرسالیة العربیَّة؛ لکی یتمکنوا من تقدیم الخدمات الصحیة الضروریة إلى المحتاجین من سکان الداخل»([86]).

ویجدر القول فی هذا المجال أن الإرسالیین الأمریکان الذی التقوا الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی فی نزوى خرجوا بانطباع مخالف تماما لما یدعیه ثسیجر ویکرره أوزی رابی بأن الإمام یکره المسیحیین. فقد قال الطبیب ولز تومس عن الإمام عندما التقاه وبمعیة القسیس درک دکسترا فی نزوى فی دیسمبر 1940 «لقد کان هذا اللقاء بدایة معرفة طویلة وسعیدة بهذا القائد الروحی المسلم غیر العادی»([87]). وقد ذکر الطبیب ولز تومس أن الإمام حاورهم فی هدفهم من المجیء إلى عُمان وعن معتقدهم الدینی، وعندما تبین للإمام أنَّهم لم یأتوا لأهداف سیاسیَّة أو استعماریَّة أقر مهمتهم، ووفر الحمایة لهم. یقول الطبیب ولز تومس «سأَلَنا الإمامُ عدَّة أسئلةٍ عن الغرض من مغادرتنا لبلدنا، والإقامة والسَّکن فی مسقط. وعندما أجبناه بأنَّ عیسى المسیح- الَّذی نحن أتباعه- قد أمر أتباعه بالذَّهاب إلى کلِّ الأمم لیعلِّموا النَّاس عقیدته، ویعالجوا المرضى، ویشارکوا کلَّ النَّاس الأخبار الطَّیِّبة للإنجیل، قال لنا: «هل تعتقدون أنَّ الرَّبّ واحد؟»، وعندما قلنا له: «نعم»، قال: «أنتُم لستم مشرکین، وإنَّما أنتم أهل الکتاب، ونحن نعتقد أنَّکم قد ضُلِّلتُم فی بعض عقائدکم، ولکنَّنا نحترمکم؛ لأنَّکم تخافون الرَّبّ العلیَّ الحمید؛ لذا فإنَّه یمکنکم المضیُّ بأمانٍ فی أرضنا، عسى ربِّی أن یعطیکم المهارة والحکمة فی معالجة الرَّجل المریض، وسوف أرسل معکم حارسًا آخر لیحملکم إلى مریضکم»([88]).

وفی واقع الأمر أن الإرسالیین الأمریکان قد لاحظوا أن السیاسة البریطانیة الاستعماریَّة فی عُمان هی التی أثارت حفیظة المواطنین العُمانیِّـین، وأن العُمانیِّـین یمیزون بین الإرسالیین الأمریکان الذین لا یمارسون السیاسة الاستعماریَّة ممارسة مباشرة وبین البریطانیین الذین جاءوا إلى المنطقة لتحقیق أهداف استعماریَّة. یقول القسِّیس جِیمْسْ کانتَایْن وهو أحد مؤسسی مرکز الإرسالیة العربیَّة الأمریکیة فی مسقط: «یبدو أنَّ النُّفوذ الإنجلیزیَّ قد قوَّى نفسه […]، وهذا لیس ذا نفعٍ مباشرٍ لنا؛ لأنَّ بواعث الإنجلیز وأسالیبهم تقابل بسوء الفهم والکراهیة فی المناطق البعیدة عن السَّاحل، وفی بعض الأوقات نشعر بأنَّها میزةٌ جلیلةٌ لنا أن نطلق على أنفسنا بأنَّنا أمریکیُّون»([89]). لذا، کان طبیعیا أن لا یجد الفرد ثسیجر الترحیب الذی لقیه الطبیب ولز تومس ورفاقه من أعضاء الإرسالیة العربیَّة الأمریکیة؛ لأنَّ ثسیجر کان یجمع المعلومات الاستخباراتیة عن دولة الإمامة التی استعملتها بریطانیا بعد ذلک فی الإطاحة بدولة الإمامة. یقول رابی: «فإن وفاة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی فی 1954 توجت نهایة الإمامة فی عُمان. فخلال سنة استولى السلطان على معاقل الإمامة فی المناطق الدَّاخلیَّة. وتمکن سلطان مسقط بمساعدة البریطانیین من فرض سیطرته على عُمان کلها، وأصبح سلطان مسقط وعُمان بکلِّ معانی الکلمة. فهذه الأحداث تقف وراء اختفاء الترکة السِّیاسیَّة-الدینیَّة التی تم ضخها فی المشهد العُمانی منذ الأیام الأولى للإسلام، تحدیدا فی منتصف القرن الثامن»([90]).

خاتمة:

فی الوقت الذی تظهر الدراسة التی أعدها أوزی رابی فی موضوع إمامة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی مدى اهتمام المستشرقین بالتراث العُمانی الدینی، والفکری، والسیاسی، یتضح کذلک ما یعتریها من قصور فی تقدیم صورة متکاملة لطبیعة الأحداث والوقائع التاریخیة محل النقاش، وتتبع مساراتها المتعددة، ونتائجها المتباینة. فأوزی رابی یستند فی أطروحته على مصطلحات یدور حولها الکثیر من الجدل على الساحة العلمیة یبدو أنَّه اتخذها مسلمات بدون إعطائها القدر الکافی من التمحیص العلمی الموضوعی. فنسبته الإباضیَّة إلى الخوارج، وادّعاؤه انغلاق عُمان وعزلة أهلها الإباضیة عن غیرهم من المسلمین وعن العالم الخارجی، وحدیثه عن عداء الإمام الخلیلی للغرب وللمسیحیین، وعداء أتباع الإمامة للسلاطین فی مسقط، ونقاشه لأثر النفوذ البریطانی فی عزلة عُمان وانهیار تجارتها البحریة مع منطقة المحیط الهندی، وبالتالی انغلاقها عن العالم وانهیارها اقتصادیا، کلها موضوعات قابلة للنقاش وفق وجهات نظر مختلفة ومن زوایا متعددة؛ لتجنب أحادیة الطرح التی اتسمت بها دراسة رابی، ولتقدیم صورة متکاملة للفکرة، وهو ما لم تقدمه أطروحته. لقد حرص أوزی رابی فی دراسته على تقدیم صورة سلبیة عن إمامة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، فی حین یکتب مستشرق آخر، وهو المؤرخ البریطانی وندل فلبس، عن الإمام الخلیلی وبصورة إیجابیة، قائلا: «إن نزاهة الإمام محمَّد بن عبد الله واستقامته التی اشتهر بها فی طول البلد وعرضه کانت ذا تأثیر عظیم فی استقرار الدولة منذ بدایة عهد السلطان سعید [بن تیمور]»([91]).

([1])       Rabi, (2008) ص170.

([2])       المرجع نفسه، ص172.

([3])       المرجع نفسه، ص170.

([4])       المرجع نفسه، ص170.

([5])       المرجع نفسه، ص178.

([6])       المرجع نفسه، ص178.

([7])       المرجع نفسه، ص184.

([8])       المرجع نفسه، ص170.

([9])       Wilkinson, (1987). ص1.

([10])     المرجع نفسه، ص1.

([11])     (Rabi, (2008 ص170.

([12])     (Wilkinson, (1987 ص13.

([13])     (Rabi, (2008 ص170.

([14])     المرجع نفسه، ص184.

([15])     المرجع نفسه، ص169.

([16])     المرجع نفسه، ص169.

([17])     ضیائی، علی أکبر: معجم مصادر الإباضیَّة، طهران، ص10.

([18])     الویسی، یاسین حسین: من تراث الإباضیَّة العقائدی، ص27.

([19])     السالمی، عبد الله بن حمید: تحفة الأعیان بسیرة عُمان، ص77.

([20])     المرجع نفسه، ص55-56.

([21])     (Palgrave, (1871 ص267.

([22])     مؤسسة آل البیت الملکیة للفکر الإسلامی.

([23])     (Rabi, (2008 ص169.

([24])     (Rabi, (2008، ص170.

([25])     (Rabi, (2008، ص170.

([26])     بکوش، یحیى محمَّد: فقه الإمام جابر بن زید.

([27])     الحارثی، سالم بن حمد: العقد الثمین نماذج من فتاوى نور الدین، ص126.

([28])     کوبرلی، بییر: مدخل إلى دراسة الإباضیَّة وعقیدتها، ص391.

([29])     (Rabi, (2008 ص170.

([30])     Phillips, (1967) ص1.

([31])     عرب، محمَّد صابر: الدولة فی الفکر الإباضی، ص16.

([32])     Wilkinson, (1981)

([33])     الإزکوی، سرحان بن سعید: کشف الغمة الجامع لأخبار الأمَّة.

([34])     (Rabi, (2008، ص178.

([35])     المرجع نفسه، ص176.

([36])     (Warden, (1985 ص168.

([37])     (Peterson, (1987 ص137.

([38])     (Warden, (1985 ص172.

([39])     (Lorimer, (1986.

([40])     المرجع نفسه، ص535.

([41])     المرجع نفسه، ص559.

([42])     (Peterson, (1978.

([43])     (Lorimer, (1986.

([44])     المرجع نفسه.

([45])     الترکی، عبد الله بن إبراهیم: غزاة باسم الإنسانیة، ص414.

([46])     المرجع نفسه، ص431.

([47])     غباش، حسین عبید: عمان الدیمقراطیة الإسلامیَّة.

([48])     الترکی، عبد الله بن إبراهیم: غزاة باسم الإنسانیة، ص401.

([49])     المرجع نفسه، ص434.

([50])     (Lorimer, (1986.

([51])     Bailey, (1988) ص39.

([52])     (Peterson, (1978.

([53])     (Rabi, (2008 ص178.

([54])     المرجع نفسه، ص183.

([55])     المرجع نفسه، ص170.

([56])     المرجع نفسه، ص170.

([57])     المرجع نفسه، ص175.

([58])     المرجع نفسه، ص171.

([59])     المرجع نفسه، ص172.

([60])     المرجع نفسه، ص177.

([61])     المرجع نفسه، ص175.

([62])     المرجع نفسه، ص170.

([63])     المرجع نفسه، ص174.

([64])     المرجع نفسه، ص175.

([65])     المرجع نفسه، ص177.

([66])     (Wilkinson, 1987 ص242.

([67])     (Peterson, 1978، ص169.

([68])     المرجع نفسه، ص170.

([69])     المرجع نفسه، ص170.

([70])     (Bailey, (1988، ص199.

([71])     المرجع نفسه، ص199.

([72])     السالمی، محمَّد بن عبد الله: نهضة الأعیان بحریة عُمان، ص178.

([73])     غباش، حسین غانم: عمان الدیمقراطیة الإسلامیَّة.

([74])     (Hollingsworth, (1953 ص2.

([75])     (Rabi, (2008 ص183.

([76])     المرجع نفسه، ص182.

([77])     المرجع نفسه، ص183.

([78])     (Bailey, (1992 ص55.

([79])     (Archives Research, (1987 ص181.

([80])     المرجع نفسه، ص182.

([81])     المرجع نفسه، ص182.

([82])     (Rabi, (2008 ص184.

([83])     (Wilkinson, (1987.

([84])     المرجع نفسه، ص295.

([85])     (Rabi, (2008 ص183.

([86])     المرجع نفسه، ص183.

([87])     (Phillips, (1967 ص187.

([88])     (Phillips, (1967 ص187.

([89])     (Cantine, (1904 ص6.

([90])     (Rabi, (2008 ص184.

([91])     (Philips, (1967 ص186.
 

  • الإزکوی، سرحان بن سعید: کشف الغمة الجامع لأخبار الأمَّة، مسقط، وزارة التراث والثقافة، 2013.
  • بکوش، یحیى محمَّد: فقه الإمام جابر بن زید، بیروت، دار الغرب الإسلامی، 1986.
  • الترکی، عبد الله بن إبراهیم: غزاة باسم الإنسانیة ‏قصة السیاسة البریطانیة تجاه تجارة الرقیق فی سلطنة عُمان وشرق أفریقیة 1237-1323هـ/1822-1905م، الریاض، عبد الله بن إبراهیم الترکی، 2006.
  • الحارثی، سالم بن حمد: العقد الثمین نماذج من فتاوی نور الدین، ج1، القاهرة، دار الشعب، 1979.
  • السالمی، عبد الله بن حمید: تحفة الأعیان بسیرة عُمان، القاهرة، مطبعة الإمام، 1912.
  • السالمی، محمَّد بن عبد الله: نهضة الأعیان بحریة عُمان، القاهرة، دار الکتاب العربی، 1985.
  • ضیائی، علی أکبر: معجم مصادر الإباضیَّة، طهران، مؤسسة الهدى للنشر والتوزیع، 2003.
  • عرب، محمَّد صابر: الدولة فی الفکر الإباضی، القاهرة، دار الشروق، 2013.
  • غباش، حسین عبید: عُمان الدیمقراطیة الإسلامیَّة تقالید الإمامة والتاریخ السیاسی الحدیث، بیروت، دار الجدیدة، 1997.
  • کوبرلی، بییر: مدخل إلى دراسة الإباضیَّة وعقیدتها، مسقط، بیت الغشام للنشر والترجمة، 2014.
  • مجموعة من الباحثین: معجم مصطلحات الإباضیَّة ج1، مسقط، وزارة الأوقاف والشؤون الدینیَّة، 2008.
  • مؤسسة آل البیت الملکیة للفکر الإسلامی: المؤتمر الإسلامی الأول لفترة 27- 29 جمادى الأولى 1426هـ/ 4- 6 تموز (یولیو) 2005م: http://www.aalalbayt.org/ar/conferencesandsymposia.html، تاریخ الاقتباس 6/11/2014.
  • ولکنسون، جون: صحار تاریخ وحضارة، مسقط، وزارة التراث، 1998.
  • الویسی، یاسین حسین: من تراث الإباضیَّة العقائدی، دمشق، دار الفرقد، 2010.
  • Archives Research Ltd (1987). The Persian Gulf: historical summaries, 1907-1953. Volume 2. Buckinghamshire: Archive Edition.
  • Bailey, R. W. (1988). Records of Oman 1867-1949. Volume 7, economic affairs. Buckinghamshire: Archive Edition.
  • Bailey, R. W. (1988). Records of Oman 1867-1947. Volume 3, historical affairs. Buckinghamshire: Archive Edition.
  • Bailey, R. W. (1992). Records of Oman 1867-1960. Volume 8, historical affairs 1949-1954. Buckinghamshire: Archive Edition.
  • Cantine, J. (1904). Fresh impressions of Muscat. Neglected Arabia: 2/51 pp 4-7.
  • Hollingsworth, L. W. (1975). Zanzibar Under the Foreign Office 1890-1013. Connecticut: Greenwood Press.
  • Lorimer, J. G. (1986). Gazetteer of the Persian Gulf, Oman, and Central Arabia. Buckinghamshire: Archive Edition, Vol. 1/2, Part I, chapters II-V.
  • Palgrave, W. (1865). Personal narrative of a year’s journey through Central and Eastern Arabia (1862–63). London.
  • Peterson, J. E. (1978). Oman in the twentieth century: political foundation of and emerging state. London: Croom Helm.
  • Phillips, W. (1967). Oman: a history. London: Longman.
  • Rabi, Uzi (2008). The Ibadhi Imamate of Muhammad bin Abdallah al-Khalili (1920–54): The Last Chapter of a Lost and Forgotten Legacy. Middle Eastern Studies, 44: 2, 169-188, DOI: 10. 1080/00263200701874859. http: //dx. doi. org/10. 1080/00263200701874859.
  • Warden, Frances «Historical Sketch of the Rise and Progress of the Government of Muscat: Commencing with the Year 1694-95 and Continued to the Year 1819«in (ed) Thomas, Hughes (1985) Arabian Gulf Intelligence: Selections from the Records of the Bombay Government, New York, The Oleander Press.
  • Wilkinson, John (1987). The imamate tradition of Oman. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Wilkinson, J. C. (1981). Oman and East Africa: new light on early Kilwan history from the Omani sources. The International Journal of African Historcal Studies. 14/2, pp 272-305.