جوانب التمیُّز والقیادة في شخصیَّة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلي

الباحث المراسلأ.د. قاسم بن أحمد الشيخ بالحاج جامعة الجزائر

Date Of Publication :2022-11-09
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

 

إذا ذُکرت شخصیَّة الإمام العالم محمَّد بن عبد الله الخلیلی فی عُمان فهی تحمل دلالات متعدِّدة الجوانب تجمع بین الرمزیَّة الوطنیَّة، والمرجعیَّة الدینیَّة، والإصلاح الاجتماعیِّ، والعطاء العلمیِّ، وتعنی أصالة مجتمع فی بعده الروحیِّ، وهی تشکِّل ما یُعرف الیوم بصورة الهویة الوطنیة للمجتمعات والأمم والشعوب؛ ذلک لما قدَّمته هذه الشخصیَّة الفذَّة من جهود مضنیة، مسَّت جوانب الحیاة المختلفة، فکانت بحقٍّ الشخصیَّة المتمیِّزة القیادیة الرائدة التی أبلت بلاء حسنا؛ خدمة لدینها ووطنها وأمَّتها العربیَّة والإسلامیَّة. فقد عاش الإمام محمَّد الخلیلی خلال النصف الأوَّل من القرن العشرین، واستطاع أن یقدِّم الکثیر لوطنه عُمان، لاسیما فی الجوانب السیاسیَّة والعلمیَّة والاجتماعیَّة، حیث قام بأدوار مهمَّة فی مجال الإصلاح الدینیِّ والاجتماعیِّ، ونسج شبکة علاقات رفیعة المستوى، انطلاقا من بلده عُمان فی الداخل، وصولا إلى أرجاء العالم الإسلامیِّ.

ترصد هذه الدراسة حیاة هذه الشخصیَّة، وتبحث عن جوانب التمیُّز والقیادة فیها، وقوفا على الأوضاع التی عاشت فیها، والتحدِّیات التی جابهتها، فتحدِّد ملامح عصرها، وتفهم جهودها وأعمالها ومواقفها فیها، تأثیرًا وتأثُّرًا. وتُبرز الدراسة کذلک الدور الحضاریَّ لهذه الشخصیَّة فی صیاغة هوِّیـَّة عُمان وشعبه الأصیل فی بُعدیه العربیِّ والإسلامیِّ.

ملامح عصر الإمام الخلیلی:

لا شکَّ أنَّ للعصر الذی یوجد فی الإنسان أثرًا بالغا على شخصیَّته ومواقفه وأعماله، وأنَّه لا یتسنَّى فهم الکثیر من القضایا التی تقع فی الحیاة البشریَّة إن لم توضع فی سیاقاتها الزمنیَّة والمکانیَّة. ولعلَّ من أهمِّ جوانب العصر التی ینبغی معرفتها هی أوضاعه السیاسیَّة والاجتماعیَّة والاقتصادیَّة.

الأوضاع السیاسیَّة:

تمیَّزت الحیاة السیاسیَّة فی عُمان بظهور نظام الإمامة، وهو نظام قدیم فی هذا البلد قدم الإسلام فیه، حیث شهد ظهور أوَّل إمامة سنة 132هـ، إثر سقوط الدولة الأمویَّة، وکان أوَّل إمام عرفه العُمانیُّون هو الجلندى بن مسعود. ومنذ ذلک التاریخ الإسلامیِّ المبکِّر وعُمان تشهد قیام إمامات وزوال أخرى، وتشهد -أیضا- تعیین أئمة ومبایعتهم وعزل آخرین أو استخلافهم، بمختلف الأسباب والظروف. إنَّ التاریخ السیاسیَّ لعُمان حافل بمثل هذه الأحداث التی عادة ما تکون منعرجات مهمَّة وخطیرة على الشعب العُمانی، وتکون کذلک نهایات لعهود ودول وإمامات وقیام أخرى على أنقاضها، أو استمرار على نهجها واستمداد لمسارها.

ویمکن تفسیر حرص العُمانیِّـین على تولیة أئمَّة علیهم بحرصهم على التمسک بنهج النبیِّ ﷺ وخلفائه الراشدین فی مسائل الحکم والسیاسة، والالتزام بشریعة الله تعالى فیهما. وما ینجرُّ عن ذلک من التزام عامٍّ بتطبیق دین الله تعالى فی مجالات الحیاة المختلفة والاحتکام إلیه. وعلى رأس ذلک الالتزام باختیار إمام المسلمین عن طریق الشورى والمبایعة، واعتبار الکفاءة وتوفُّر الشروط، والقدرة على عزله حال مخالفته لأمر الله تعالى وإجماع المسلمین.

خلال الفترة الأخیرة بایع العُمانیُّون الإمام عزَّان بن قیس البوسعیدی سنة 1868م، واستمرَّ على رأس الدولة إلى سنة 1871م. وبعد وفاته انقطعت الإمامة فی عُمان لمدَّة 40 سنة تقریبا، حتَّى جاء الشیخ العالم نور الدین السالمی فدعا لإحیاء الإمامة، وسعى جاهدا لإقامتها من جدید، فتحرَّک فی اتِّصالات حثیثة مع شیوخ القبائل ووجهاء البلد، ودعاهم إلى تزکیة إمام جدید ومبایعته. واتَّفقوا على تعیین الشیخ سالم بن راشد الخروصی إماما علیهم، لکنَّه أبدى رفضًا شدیدًا، حتَّى هُدِّد بالقتل إن لم یقبل بالإمامة؛ لأنَّ فی ذلک تشتیتا لرأی الأمَّة، وإضعافا لقوَّتها، فقَبِل مرغما، فعُقدت له البیعة فی مدینة نزوى سنة 1332هـ/1913م([1]).

بقی الإمام سالم الخروصی فی الحکم مدَّة سبع سنین حتَّى توفِّی شهیدًا، وبعد ثلاثة أیَّام اجتمع أهل الحل والعقد من العلماء والمشایخ والوجهاء فعیَّنوا خَلَفًا له الشیخَ محمَّد بن عبد الله الخلیلی إماما على عُمان، وکان ذلک سنة 1338هـ/1920م. واستمرَّ فی الإمامة إلى حین وفاته سنة 1954م ودامت مدَّة إمامته خمسًا وثلاثین سنة([2]). ولعلَّ أبرز ملامح الوضع السیاسی فی عصر الإمام الخلیلی والعصر السابق له هو الصراع الدائر بین أتباع الإمامة فی الداخل وأتباع السلطنة على الساحل، وتدخُّل الاحتلال الإنجلیزی فی ذلک؛ خدمةً لمصالحه، وإبقاءً لنفوذه على منطقة الشرق الأوسط والهند وبلاد أخرى فی قارَّتی آسیا وإفریقیا.

أرهق هذا الصراع العُمانیِّـین وأدخلهم فی اقتتال وافتتان وحروب لا قبل لهم بها، وصعَّب من أوضاعهم المعیشیَّة، ونغَّص علیهم حیاتهم، وضیَّق علیه أرزاقهم، وسلب منهم الأمن والعافیة. لهذا توجَّهت جهود الخیِّرین فی وطن عُمان من علماء ومشایخ وأعیان إلى ضرورة الوصول إلى حلٍّ لهذا الوضع المزری، وإنهاء لهذا الصراع المستشری، بحثا عن الأمن والهناء فی البلد. عُقدت عدَّة مفاوضات بین طرفی النزاع: الإمامة والسلطنة، باء بعضها بالفشل، ثمَّ توِّجت فی الأخیر بالاتفاق التاریخیِّ المعروف بمعاهدة السیب، التی أبرمت فی عهد الإمام الخلیلی والسلطان سعید بن تیمور سنة 1339هـ الموافق لسنة 1920م.

ومن أهم مراحل المفاوضات التی توِّجت بمعاهدة السیب:

فی سنة 1913 انطلقت مفاوضات بین الإمام سالم الخروصی والسلطان فیصل بن ترکی من أجل إقرار السلام والأمن بینهما، إلاَّ أنَّ هذه المفاوضات لم تتوَّج بعقد الاتفاق، حیث رفضه أتباع الإمامة بسبب اشتراط السلطان إلغاء القیود المفروضة على تجارة السلاح، وأن یردَّ إلى السلطان حصنیْ بدبد وسمائل اللذین کانا تابعین لنفوذ الإمامة.

وفی شهر ینایر من سنة 1915 هاجم أتباع الإمامة مدینة مسقط التی کانت عاصمة السلطنة بقصد الإطاحة بحکم السلطان فیصل بن ترکی، إلاَّ أنَّ المحاولة باءت بالفشل. فکان هذا العمل دافعا قویًّا للسلطان للدخول فی مفاوضات جادَّة مع الإمامة لأجل الوصول إلى اتفاق ینهی حالة الصراع والاقتتال. وفی شهر أغسطس سنة 1915، رفض مندوبو الإمام التوقیع على اتِّفاق ثان بسبب اشتراط انسحاب قوَّات الإمام من منطقة سمائل الإستراتیجیة، وفی السنة ذاتها حصلت هجمات متبادلة بین الطرفین.

ولأجل الضغط على الإمامة قرَّرت إدارة السلطنة رفع الرسوم على التمور من 05 فی المائة إلى 25 فی المئة، ثمَّ إلى 50 فی المئة؛ لأنَّ العُمانیِّـین کانوا یعتمدون فی معیشتهم واقتصادهم على تجارة تمور بساتینهم وتصدیرها إلى الخارج. وبعد ذلک أرسل الاستعمار البریطانیُّ رسالة تهدید شدیدة اللهجة إلى حکومة الإمامة بمدینة نزوى یتوعَّدها بالاحتلال الکلِّی لأراضیها إن هی لم تجلس إلى طاولة المفاوضات مع حکومة السلطنة للوصول إلى اتِّفاق بینهما ینهی حال الصراع([3]). وبعد أخذ وردٍّ بین طرفی النزاع الإمامة والسلطنة، وبعد وساطات متعدِّدة من أناس ثقات نزهاء فی الطرفین، من علماء ومشایخ وأعیان البلد، تمَّ قبول التفاوض للوصول إلى اتِّفاقیة السیب التی احتوت على بنود تخدم الطرفین وتوقف حال الصراع بینهما.

الأوضاع الاجتماعیَّة:

المجتمع العُمانیُّ مجتمعٌ عربیٍّ محافظ على أصالته، ومتمسکٌ بدینه، وله مستوى عال من الأخلاق والقیم ورثها من آبائه وأجداده، وهو مجتمع قبلیٌّ، یحتکم إلى الولاء للقبیلة ونصرتها والاعتصام بها، کسائر البلاد العربیَّة عمومًا. إنَّ لهذه الترکیبة القبلیَّة فوائد کثیرة على الأفراد والمجتمع، من التآزر والتکاتف، ووحدة الصفِّ، لکنَّها فی المقابل قد تتسبَّب فی حدوث عدَّة صراعات وخصومات وفتن بین القبائل لأسباب مختلفة، على رأسها الصراع على موارد الرزق والأراضی، والصراع على قضایا الشرف والعرض، والصراع على الحکم والولاء([4]).

من جهة أخرى ظهرت فی المجتمع العُمانی بعض الظواهر الاجتماعیَّة السلبیَّة، السائدة فی عموم البلاد العربیَّة بسبب الرکود وعدم التجدید ونقص العلم والتوعیة، کالمیل إلى الشعوذة والسحر، وظهور الانحرافات الخلقیَّة، والعصبیَّات القبلیَّة، والأخذ بالثأر والحمیَّة الجاهلیَّة، وظهور العصابات اللصوصیَّة وقطاع الطرق، وتفشِّی الأمِّـیَّة والجهل بین الناس([5]). هذا هو حال الوضع الاجتماعی عموما فی عصر الإمام الخلیلی، الذی اجتهد فی إصلاحه وتغییره نحو الأحسن ومعالجة سلبیَّاته بما أتاحت له الظروف.

استطاع الإمام الخلیلی بإخلاصه وعزیمته وحکمته وحبِّه لوطنه وشعبه أن یقیم دولة العدل والأمن؛ فاستتبَّت له الأمور، واستقرَّت له الأوضاع عموما، على الرغم من الصعوبات والعراقیل التی وجدها فی طریقه. حارب الانحرافات المجاهَر بها، وأقام الحدود على الظلمة والمعتدین فی جرائم القتل والعرض والمال، وجَمَعَ الزکاة، وقسم الصدقات، ونظَّم الحیاة العامَّة للناس. وحارب مظاهر الشعوذة والدجل وما یسمى بالزار عند العُمانیِّـین، ممَّا ینافی الدین الإسلامیَّ فی عقیدته وشریعته وأخلاقه.

کان الإمام الخلیلی یستشیر فی إدارة شؤون بلده کوکبة من العلماء والقضاء والمشایخ والحکماء الذین اتَّخذ منهم بطانة صالحة أعانته على القیادة الرشیدة لدولته([6]). أحیى الإمام الخلیلی المناسبات الدینیَّة والاجتماعیَّة؛ فشجَّع الفنون الشعبیَّة المعروفة لدى العُمانیِّـین، وأحیى المولد النبویَّ الشریف، حیث کان یقرأ فیها بصفة رسمیَّة بردة البوصیریِّ وغیرها من المدائح فی ذکر خصال المصطفى ﷺ.

وکان یحتفل بالعیدین عید الفطر وعید الأضحى بإقامة صلاة العید جماعة فی مصلَّى برج القرن فی مدینة نزوى، وإقامة الأفراح بهاتین المناسبتین الدینیَّتین العظیمتین. وشجَّع الزواج المبکِّر، ودعا إلیه وساعد من یرغب فیه لأجل الإحصان، فدعا إلى تیسیر المهور، والإقلال من نفقات العرس والتجهیز والولائم؛ حتَّى یتزوَّج جمیع الشباب، ویقضى على الفواحش والآثام. استطاع الإمام بذلک أن یرسی دعائم المجتمع الإسلامیِّ القائم على المحبَّة والأخوَّة والتعاون والتکافل ورصِّ الصفوف ووحدة الکلمة.

الأوضاع الاقتصادیَّة:

یعتمد العُمانیُّون فی معیشتهم على ما تنتجه أراضیهم من مختلف الثمار والمنتوجات الفلاحیَّة، وعلى رأسها تمور نخیلهم. وکانوا یعتمدون -کذلک-على صید الأسماک من شواطئهم الشاسعة الزاخرة؛ لهذا فإنَّ اقتصادهم قائم على تجارة التصدیر والاستیراد مع البلدان المحیطة بهم.

وأهمُّ المراکز التجاریَّة فی عُمان هی مسقط ومطرح ونزوى وسمائل وبنی بوحسن وعبری. تتمثَّل أهمُّ ثرواتهم التی یصدِّرونها فی التمور والأسماک بمختلف أنواعها، وکذلک فی الفواکه واللآلئ، وفی المقابل یستوردون من خارج بلادهم السکَّر والأرز والمنسوجات وخیوط الغزل. وکان العُمانیُّون یشتغلون بحیاکة وغزل مختلف الألبسة التی یحتاجون إلیها ویرتدیها الرجال والنساء والأطفال، حیث کانت المرأة العُمانیَّة تقوم بدور مهمٍّ فی الحیاکة والغزل فی بیتها. ویشتغلون -أیضا -فی صناعة مختلف الآلات الحدیدیة ومختلف الأسلحة التقلیدیَّة، من سیوف ورماح وخناجر وبنادق ومدافع، ویتبادلون تجارة هذه السلع مع مختلف البلاد المجاورة لهم فی الجزیرة العربیَّة، والبعیدة عنهم کالهند وزنجبار وسواحل شرق إفریقیا([7]).

مع هذا التنوُّع والثراء فی الاقتصاد العُمانی إلاَّ أنَّ التجارة والمعاملات فی عصر الإمام الخلیلی وما قبله شهدت نوعا من الرکود والانکماش بسبب أحداث الحرب العالمیَّة الأولى ثمَّ الثانیة، وبسبب الصراعات الداخلیَّة، وکذلک بسبب المنافسة الشدیدة مع الدول الکبرى وعلى رأسها الهند([8]). وقد بذل الإمام الخلیلیُّ فی عهده جهودا مضنیة لأجل تحسین الجانب الاقتصادیِّ للشعب العُمانیِّ، حیث شهدت عُمان استقرارًا ورخاءً وازدهارًا معیشیًّا لافتًا، لاسیما بعد إبرام معاهدة السیب سنة 1920م، حیث خفتت الصراعات القبلیَّة، وتوقَّفت الحروب والفتن، وأمن الناس على أهلهم وأموالهم وأعراضهم، ونعموا بالحیاة الآمنة المستقرَّة وأحسُّوا بالعدل، ممَّا جعلهم یندفعون إلى العمل والنشاط وعمارة الأرض، واستخراج خیراتها وکنوزها، وأحبُّوا إمامهم وتعاونوا معه فی کلِّ ما فیه الخیر والفلاح للشعب العُمانی.

وکانت موارد الدولة أساسا متمثِّلة فیما یُجمع من أموال الزکاة التی کان یخرجها کلُّ الأغنیاء والقادرون علیها، وتصبُّ فی بیت مال المسلمین، وکانت للدولة موارد من الأوقاف التابعة لها. وکانت هذه الأموال تنفق على وظائف الدولة ومسؤولیاتها الإداریَّة، وعلى الجند والعسکر المکلَّفین بحمایة حمى الوطن والسهر على أمن الناس وحرماتهم.

الحیاة العامَّة للإمام الخلیلی:

عاش الإمام الخلیلی بمحیط أسریٍّ وعائلیٍّ مفعم بحبِّ العلم والانشغال به والسعی لتحصیله والحثِّ علیه، ممَّا جعله یتفرَّغ -منذ نعومة أظافره-لتحصیل العلم، ویحرص علیه، حیث تعلَّم مفاتیح العلوم وأسسها الأولى فی حجر والده عبد الله وعمِّه أحمد الفقیهین الأدیبین الورعین. ثمَّ تعلَّم النحو وبعض فنون اللغة العربیَّة على ید الشیخ محمَّد بن عامر الطیوانی.

تلقَّى الإمام الخلیلی مبادئ العلوم العربیَّة والدینیَّة فی وقت مبکِّر من حیاته، وواظب على حضور مجالس العلم والعلماء فی حضرة والده وعمه. بعد ذلک انتقل إلى محافظة الشرقیَّة لمواصلة دراسته والتعمُّق فی مختلف العلوم الشَّرعیَّة، حیث التحق بمعهد الإمام نور الدین السالمی، فدرس على یدیه علوم التفسیر والحدیث وأصول الدین وأصول الفقه، ومکث فی هذه المدرسة بین یدی هذا العالم الجلیل حتَّى نبغ فی فنون العلم، وأصبح عالما من العلماء وعَلَمًا من الأعلام([9]). عُرف الإمام السالمیُّ بقوَّة شخصیَّته فی عمقها العلمیِّ، وصرامتها فی الالتزام بشرع الله تعالى، وقدرتها على قیادة الأمَّة، وممَّا لا شکَّ فیه أنَّ هذه الجوانب الثلاثة قد استطاع أن یغرسها ویمکِّنها فی نفسیَّة الإمام الخلیلیِّ لتظهر فی مساره مستقبلا. ومن شیوخه کذلک: الشیخ عامر بن خمیس المالکی، والشیخ المعلِّم حامد بن ناصر بن وجد الشکیلی.

واصل الإمام الخلیلی تکوینه بعد ذلک اعتمادا على نفسه وبطریقة عصامیَّة، من خلال انکبابه على مطالعة الکتب والمصنَّفات، ومجالسة العلماء والمشایخ والفقهاء، حیث عمَّق معارفه ورسَّخها فی مختلف فنون العلوم الشَّرعیَّة والعربیَّة؛ ممَّا مکَّنه أن یجلس فی مجلس الإفتاء، ویجتهد فی المسائل المعروضة علیه، ویفتی فی النوازل الحادثة فی زمانه([10]).

جهوده فی التعلیم:

إنَّ انشغال الإمام الخلیلیِّ بشؤون الحکم والسیاسة وتسییر دوالیب دولته لم یبعده عن حلق العلم والعنایة بنشر العلم وتعلیم الأجیال؛ ذلک إیمانا منه بأنَّ هذه العلوم تشکِّل حصانة للأمَّة ودعامة لها فی حفظ کیانها، والمضیِّ نحو مستقبلها.

هذا ما جعله یفتتح مدرسةً لتعلیم الذکور، وأخرى لتعلیم البنات والنساء، ویشرف علیه مباشرة ویساهم بالتعلیم فیه، وقد درس على یدیه عدد کبیر من الطلبة أصبح بعضهم مشایخ وعلماء فیما بعد، منهم: الشیخ سیف بن محمَّد الفارسی، والشیخ خالد بن مهنَّا البطَّاشی، والقاضی الشیخ شماس بن محمَّد البطَّاشی، والشیخ جابر بن علی المسکری، والشیخ سعید بن حمد الحارثی، والشیخ سالم ابن قصور الراشدی، والشیخ یحیى بن سفیان الراشدی، والشیخ محمَّد بن سالم، والشیخ ناصر بن سالم، والشیخ حمود بن عبد الله الراشدی، والشیخ سعود بن سلیمان الکندی، والشیخ موسى بن سالم الرواحی([11]).

الصفات الخَلقیَّة والخُلُقیَّة:

وهب الله تعالى الإمام الخلیلیَّ صفاتٍ خلقیَّة حسنة، وکان یعدُّه لمنصب الإمامة، وما تتطلَّبه هذه المسؤولیَّة من صفات وخصال. فمن أهمِّ صفاته الخَلقیَّة أنَّه کان أبیض اللون، نحیف البنیة، طویل القامة، واسع العینین، متوسِّط حجم اللحیة، یمشی بخطوات متسارعة، قاصدا حاجته، فی سکینة ووقار([12]). شهد کلُّ من عاشر الإمام الخلیلیَّ بعلوِّ کعبه فی جانب الأخلاق؛ حتَّى أرهق من أراد الاقتداء به، مع ما کان علیه من مراتب الملک والعلم والجاه، والتی تکون أحیانا مفسدة للمکارم والطباع. ممَّا عُرف عن أخلاقه ما یأتی:

الفراسة؛ فهو بنور الله تعالى یبصر، وذُکر أنَّه قد یفاجئ القاصد لمناجاته بذکر حاجته التی جاء من أجلها قبل أن یبوح بها.

الحلم والأناة، فلا یُرى غاضبا إلاَّ إذا انتُهکت محارم الله تعالى.

رحابة الصدر، وتحمُّل الأذى، والتجاوز عن الظالم، والعفو والصفح عن رعیته وعن إخوانه ممَّن أساء إلیه، أو أخطأ فی حقِّه، فکان یتقبَّل أعذارهم، وینزل عنهم حاجاتهم، ویُنصت لمشورتهم، ویستمع لنصحهم([13]).

إطالة التفکیر، والتزام السکوت فی أدب جمٍّ، وعدم الکلام إلاَّ بعلم فیما ینفع.

السخاء والید العلیا الممدودة لکلِّ من سأله، فقد کان غنیًّا ورث ثروة هائلة من آبائه وعائلته، فسخرها وأنفقها بسخاء على مصالح المسلمین وعلى المحتاجین من رعیَّته([14]).

البساطة فی العیش والتواضع، وعدم التکبُّر على الخلق، وفتح بابه لعموم الناس دون استثناء ودون أوقات محدَّدة، وکان یمازح الناس، ویقصُّ علیهم القصص المفیدة، ویعلِّمهم الآداب، ویَعظهم فی أمور دینهم ودنیاهم.

قضاء جلِّ أوقات نهاره فی خدمة مصالح الناس، وقضاء شطر من لیله فی العبادة والقیام والذکر وتلاوة القرآن الکریم.

استطاع الإمام الخلیلی بهذه الخصال التی حباه الله بها أن یُحظى بحبِّ شعبه، وطاعتهم له، وانقیادهم لإمامته دون جبر أو قهر([15]).

البیعة وتولِّی الإمامة:

کانت بیعة الإمام الخلیلیِّ فی یوم الجمعة الثالث عشر من شهر ذی القعدة سنة 1338هـ/ 30 یولیو 1920م، وامتدَّت لمدَّة خمس وثلاثین سنة.

اجتمع العلماء وأعیان القبائل وأهل الحلِّ والعقد بجامع نزوى وأجمعوا على مبایعته، وذلک بعد وفاة الإمام سالم بن راشد الخروصی بثلاثة أیَّام. وقد رفض الإمام الخلیلیُّ بادئ الأمر قبول منصب الإمام، لکنَّ إصرار وجهاء القوم ورؤساء القبائل جعله یرضخ للأمر ویتولَّى شؤون المسلمین.

بایع الإمامَ الخلیلیَّ بالإمامة جمعٌ غفیر من العلماء والوجهاء، ووضعوا الثقة المطلقة فیه، ولم یأخذوا علیه شرطًا أو عهدًا، ومن أبرز هؤلاء:

رئیس القضاة الشیخ أبو مالک عامر بن خمیس المالکی، وهو أحد العاقدین بالإمامة على الإمام سالم بن راشد الخروصی، ثمَّ الشیخ العلاَّمة ماجد بن خمیس العبری، وقد أدرک هذا الشیخ الإمامین عزَّان بن قیس وسالم بن راشد وبایعهم وعمل لهم، ثمَّ الشیخ أبا زید عبد الله بن محمَّد الریامی، وهو أحد العاقدین على الإمام سالم بن راشد، ثمَّ الشیخ الأمیر عیسى بن صالح الحارثی، ثمَّ الشیخ محمَّد بن سالم الرقیشی، ثمَّ الشیخ أبا علیٍّ سیف بن علیٍّ المسکری، ثمَّ الشیخ حمدان بن سلیمان النبهانی، ثمَّ الشیخ مهنَّا بن حمد العبری، ثمَّ الشیخ إبراهیم بن سعید العبری. ثمَّ بایعه جمع من بقیَّة العلماء والقضاة ورؤساء القبائل ثمَّ عامَّة الناس.

وبعد أن انتهت البیعة قام الشیخ العلاَّمة أبو مالک فخطب فی الناس خطبة العقد، ثمَّ قام أبو زید عبد الله بن محمَّد الریامی فخطب فی العسکر، وبعد انتهاء الخطبتین انقضى مجلس البیعة، فدخل الإمام دار الإمامة لمزاولة مهامِّه وبدایة حکمه([16]).

الأعمال والمنجزات:

کانت حیاة الإمام الخلیلیِّ حافلة بجلیل الأعمال وعظیم الخصال، ولا یتسنَّى حصر کلِّ أعماله، ولکن یمکن الإشارة إلى ما برز منها فیما یأتی:

ـ إنشاؤه مدرسة وأشرف علیها بنفسه، وأسهم فی التدریس بها مع کوکبة من العلماء، منهم الشیخ حامد بن ناصر الشکیلی، والشیخ حمود بن زاهر الکندی، والشیخ مرزوق بن محمَّد المنذری([17]).

ـ إنشاؤه فی حصن قلعة نزوى مدرسة فاطمة لتعلیم النساء والبنات أمور الدین، وتحفیظهنَّ القرآن الکریم.

ـ تولِّی إدارة شؤون قبیلته بنی رواحة قبل مبایعته بالإمامة.

ـ توقیع اتِّفاقیة السیب بین الإمامة والسلطنة بتاریخ 12 محرَّم 1339هـ/ 25 سبتمبر 1920م، والتی تعدُّ إنجازا عظیما توقَّف بموجبها الصراع، وأرست دعائم التعایش والسلم والأمن بین أبناء الشعب العُمانیِّ، وتعهَّد شیوخ القبائل بتوقیف الحروب والغارات على المناطق الساحلیَّة.

ـ بسط الأمن وإحلال السلم وإقرار العدل فی دولته بین کلِّ الناس، وفضُّ الخصومات والقضاء على الفتن والحروب، وملاحقة المفسدین واللصوص وقطَّاع الطرق، حتَّى استتبَّ الأمن، وعمَّت العافیة، وحلَّت الطمأنینة فی أرجاء عُمان.

ـ استرداد منطقة الرستاق إلى حضن إمامته، بعد أن استولى علیها البغاة وقطَّاع الطرق والخارجون عن النظام، وذلک باستنهاض القبائل للدفاع عنها، ومناصرة شیخها ناصر بن راشد الخروصی.

ـ ربط علاقات داخلیَّة وخارجیَّة مهمَّة، سیاسیَّة وعلمیَّة واجتماعیَّة، من ذلک علاقته ومراسلته لملک السعودیَّة عبد العزیز آل سعود، وللأمیر عیسى بن صالح الحارثی، وللعالم الجزائری قطب الأئمَّة الشیخ امحمَّد بن یوسف اطفیَّش.

ـ اجتهاداته الفقهیَّة وآراؤه فی القضایا العلمیَّة والنوازل الحادثة فی عهده، التی تکشف عن فکر ثاقب وعقل رصین وآراء سدیدة، ورؤیة عمیقة، وقد جُمعت فی کتاب سمِّی: «الفتح الجلیل من أجوبة الإمام أبی خلیل»، طبع سنة 1965م([18]).

صفات التمیز والقیادة فی شخصیَّة الإمام الخلیلی:

من خلال الوقوف المتأنِّی مع حیاة الإمام الخلیلی، وتتبُّع مراحلها المختلفة، من النشأة إلى الوفاة، ومن خلال معرفة الأوضاع السیاسیَّة والاجتماعیَّة والاقتصادیَّة التی عاش فی ظلِّها إمامنا الخلیلیُّ، نستطیع أن نخلص إلى تحدید جوانب التمیُّز والقیادة فی شخصیَّته.

هذه الصفات التی جعلت منه حاکمًا وقائدًا متمیزًا ترک بصمته الإیجابیَّة العمیقة فی شعب عُمان، وفی مناحی الحیاة العامَّة فی وطنه، وأصبح یمثِّل رمز الهوِّیـَّة الوطنیَّة، وأصالة تاریخه وأمجاده، ولا یمکن تجاوز جهوده عند الحدیث عن عُمان، حکمًا ووطنًا وشعبًا. وأصبحت هذه الشخصیَّة جزءًا من الشخصیَّة العُمانیَّة ومن أصالة تاریخه وأمجاده التی لا یمکن أن یغفل عنها عند الحدیث عن هذا الوطن. حیث یمکن تحدید ذلک فیما یأتی:

قوَّة العلاقة مع الله تعالى والاستقامة على نهجه:

إنَّ ما یظهر بجلاء کملمح بارز فی شخصیَّة الإمام الخلیلی إخلاص العبودیَّة لله تعالى وقوَّة العلاقة به والاستقامة على نهجه ووثوق الصلة به، وذلک على مستوى العبادة الشخصیَّة، وعلى مستوى العبادة المعاملاتیَّة فی تجسید العلاقة مع الناس على نهج المصطفى ﷺ وعلى نهج صحابته الکرام -رضی الله عنهم أجمعین.

عُرف عن الإمام الخلیلی الإخلاص لله فی أعماله، وکثرة الصلاة وطول القیام وتلاوة القرآن وتدبُّره، فکان یقضی الساعات الطوال من لیله قائمًا عابدًا ساجدًا راکعًا، وکان لا یعرف النوم إلاَّ فی شطر من اللیل بقدر ما یریح جسده لیجدِّد الطاعة والعبادة والعمل به. وصف عبادته أحدُ المقرَّبین منه وخاصَّته، وهو الشیخ موسى بن سالم الرواحی فقال: «أمَّا عن عبادته فقد کان مضرب المثل، والناسک المتبتِّل، وباعتباری أنِّی کنت من جملة خاصَّته فکثیرا ما کنت أدخل علیه فی غرفته فی الأوقات الحرجة، وذلک عندما تدعو الضرورة لإحضاره وإخباره أنَّ حادثا ما وقع أو جاء أحد ما لمقابلته فی أمر لا بدَّ منه، فأجده قائما یصلِّی، وکان یجهر بعض الشیء بالقرآن الکریم فی صلاته»([19]). وتصدیقا لهذه العلاقة الخالصة القویَّة مع الله تعالى، فقد أکرمه الله تعالى بالکرامات التی کانت تروى عنه ویشاهدها الناس رأی العین، کما أکرم بفراسة المسلم، فکأنَّه بنور الله تعالى یبصر. ومن ذلک أنَّه یحدث الداخل علیه لعرض حاجة من حاجاته بما یرید قبل أن یخبره عنها([20]).

على الرغم من الحیاة الرغدة والوافرة التی عاشها الإمام بین أحضان أسرته وعائلته الثریَّة قبل تولیه الإمامة؛ حیث کان یأکل أحسن المأکل، ویلبس أفخر اللباس، إلاَّ أنَّه بعد تولِّیه الإمامة استطاع أن یغیِّر بطواعیَّة وعزیمة وقناعة منحى حیاته ومجرى أیَّامه؛ فاتَّجه نحو الزهد والتقشُّف والاکتفاء بما تیسَّر وبسط من المعیشة على مستوى المأکل والمشرب والملبس، وتخلَّى عن التمتُّع بزینة الحیاة المتاحة له والحلال علیه، واکتفى بالقدر اللازم منها فقط. وأصبح یکثر من صوم التطوُّع، ویفطر على التمر والحلیب والسمک.

وقد سبَّب له هذا التضییق على نفسه تدهور حالته الصحِّـیَّة وضعف بصره؛ حتَّى ابتلاه الله بفقده له لمدَّة خمسة أشهر، تطلَّب الأمر استدعاء طبیب بریطانی من مدینة مسقط؛ لعلاجه فأبصر من جدید من عین واحدة بفضل الله تعالى وقدرته. وتعبیرًا عن هذا التحوُّل أقدم الإمام الخلیلی على بیع الکثیر من ممتلکاته وأصول ثروته التی حصل علیها من أسرته وعائلته، ثمَّ صرفها على مصالح المسلمین ووجَّهها إلى خدمة المحتاجین والضعفاء والفقراء والمساکین من أبناء رعیَّته([21]).

إن رجلاً إمامًا على أمَّته وقائدًا لها هذه هی حاله فی قوَّة علاقة مع خالقه والاستقامة على نهجه، وهذه هی حاله فی محاسبة نفسه وإیثار رعیَّته علیها، وصرف ممتلکاته فی سبیلها، بلا ریب سیکون له الأثر الإیجابی العمیم على صلاح رعیَّته والاقتداء به فی مثل هذه الخصال الراقیة الرفیعة. کما أنَّ رجلا على رأس أمَّة یکون صارمًا مع نفسه فی محاسبها إلى حدِّ التقشُّف وإرهاق جسده، بل تسخیر ثروته لخدمة شعبه، فإنَّه بلا ریب سیکون أمینًا على مقدَّرات شعبه، وسیکون حریصا على وضعها فی محلِّها، وعادلا فی تقسیمها على مستحقِّیها.

العمل المتواصل الدؤوب:

من الصفات التی امتاز بها الإمام الخلیلی، وبرز بها تفانیه فی خدمة أمَّته وأبناء وطنه وقضاء جلِّ أوقاته فی رعایة مصالح شعبه، وإنَّ ذلک لیظهر جلیًّا من خلال معرفة البرنامج الیومی للإمام، وکیف کان یقضی وقته ویقسِّمه بین مهامِّه وانشغالاته، فهو یصل لیله بنهاره لخدمة المصالح العامَّة للناس. عاش الإمام الخلیلی فی فترة إمامته حیاة ملؤها جلیل الأعمال، وعظیم الفعال، فی تسییر دوالیب حکمه، وترشید سیاسة دولته بما یعود على الناس بالنفع والصلاح والفلاح.

کانت مهامُّه -وهو على رأس إمامة عُمان -متنوِّعة وزاخرة بما یقتضیه مقام الإمامة والمسؤولیَّات المنوطة بها، فقد جمع فیها بین إدارة شؤون الدولة، وقضاء مصالح المسلمین، وتفقُّد أحوال الرعیَّة، وتعلیم الناس، وعقد الجلسات واللقاءات مع الوفود والجماعات التی تقصده لمختلف الأغراض والحاجات، والبروز لرعیَّته لسماع انشغالاتهم مباشرة. وکان بالإمکان لأیِّ شخص مهما کان أن یصل إلى مجلس الإمام ویدخل علیه، بدون أیِّ حواجب أو تعقید أو عراقیل([22]). وصف الشیخ محمَّد الشیبة السالمی صاحب کتاب نهضة الأعیان بحرِّیـَّة عُمان النشاط الیومی للإمام وأهم مهامه بما یأتی:

«یقیم الإمام بحصن نزوى، واتَّخذه مقرًّا له، وفیه یستقبل الزوار والوفود، ویشرف على أحوال الدولة وشؤون البلاد، وینهض فی الثلث الأخیر من اللیل، بل لا یهدأ اللیل إلاَّ قلیلا حتَّى إذا حضرت صلاة الفجر صلَّى بالناس جماعة، فیقعد فی مجلسه ذلک لتلاوة القرآن العظیم، ویقعد من صلَّى بالجماعة عنده حتَّى تطلع الشمس، ثمَّ یؤتى بالفطور وهو الرطب فی أوانه، أو التمر والقهوة البنِّـیَّة، فیلبث بعد ذلک نحوًا من ساعة ثمَّ یدخل مسکنه فیغیِّر لباسه ویصلِّی ما شاء الله، ثمَّ یخرج للناس فیقعد فی مجلسه، ویُؤذَن للخاصَّة والعامَّة، غیر محتجب ولا ممنوع، فبابه مفتوح للضیوف والمظلوم، وماله مبذول للسائل والرافد والمحروم، وسیفه مسلول للجائر الغشوم. تکون الأحکام الشَّرعیَّة بحضرته أکثر ما یفصلها القاضی بعد اطِّلاعه علیها، أمَّا أحکام الحدود فیتولَّى فصلها بنفسه بعد مشورة العلماء لِمَا فیها من الخطر عند الله وللتنقیح فی آراء العلماء والقضاة، فیبقى فی مجلسه ذلک إلى حضور صلاة الظهر، وبعض الأحیان یقوم قبیل الظهر بمقدار نصف ساعة - خصوصًا وقت الصیف - للاستراحة والقیلولة، ثمَّ یخرج فیصلِّی بالناس إمَّا فی الجامع أو فی غرفة الصلاة بالحصن، وبعد الظهر یبرز للناس خارج الحصن إلى حضور صلاة العصر فیصلِّی بهم فی الجامع، ثمَّ یدخل الحصن فیأمر بإخراج الطعام للناس والأضیاف على قدر مراتبهم، ثمَّ یحضر لصلاة المغرب بغرفة الصلاة فیصلِّی بالناس، ویقعد للمذاکرة والمباحثة فی العلوم فیحضره جماعة من العلماء والطلبة، وقد أفرد هذا الوقت لهم حتَّى تکون الساعة الثامنة فیصلِّی بهم العشاء الآخرة، فیدخل محلَّه الخصوصی، فیحیی لیلته قیامًا وقراءةً لا ینام إلاَّ خیالاً»([23]).

نستطیع من هذا النص أن نستخرج أهمَّ فقرات البرنامج الیومی لمهامِّ الإمام وأعماله فیما یأتی:

ـ الاستیقاظ من النوم فی الثلث الأخیر من اللیل للعبادة والذکر والصلاة.

ـ صلاة الفجر بالناس جماعة فی المسجد.

ـ البقاء فی المسجد للذکر حتَّى صلاة الضحى.

ـ تناول فطور الصباح.

ـ انعقاد مجلس الإمام بحضور أهل الحلِّ والعقد والنظر فی شؤون الأمَّة والرعیَّة.

ـ استقبال الضیوف والوفود وأصحاب القضایا والمصالح إلى وقت صلاة الظهر.

ـ صلاة الظهر والغداء والاستراحة.

ـ صلاة العصر والخروج إلى البرزة والجواب على انشغالات الناس.

ـ صلاة المغرب والجلوس لحلقة العلم وتعلیم الطلبة.

ـ صلاة العشاء ثمَّ الانصراف إلى الأهل والراحة والنوم لجزء من اللیل.

لا یلاحظ فی البرنامج الیومی للإمام أیُّ فراغ أو تضییع للأوقات أو جنوح إلى الراحة، فما بالک باللهو أو اللعب أو الانغماس فی الملذَّات والشهوات، کما هو علیه حال بعض الحکَّام والأمراء. بل إنَّ هذا البرنامج المکثَّف بالأعمال کان على حساب صحَّة الإمام وراحة جسده الضروریَّة، وعلى حساب حیاته الخاصَّة إنسانًا وزوجًا وربَّ أسرة.

إنَّ رجلا بهذه الهمَّة العالیة والإرادة العظیمة والنشاط المتدفِّق یکون على رأس أمَّة یسوسها وشعب یحکمه وفق شریعة الله تعالى وسیرة المصطفى ﷺ سیکون بلا شکٍّ قائدها وسائقها إلى برِّ الأمان وشاطئ الفلاح، وبلا شکٍّ سیکثر خیره ویقلُّ شرُّه، وینفع الله تعالى به البلاد والعباد.

الجمع بین صفتی العلم والحکمة:

منَّ الله تعالى على الإمام الخلیلی أن یسَّر له الظروف الاجتماعیَّة لیتلقَّى تعلیمًا متکاملاً رصینًا لمختلف العلوم الشَّرعیَّة والعلوم العربیَّة والعلوم الخادمة لهما، وکان ذلک على ید مشایخ فضلاء وعلماء أجلاَّء، وقد استطاع هؤلاء الأفاضل أن یصقلوا شخصیَّة الإمام الخلیلی فی بعدها المعرفی، وأن یُعِدُّوه لتحمُّل مسؤولیَّة إمامة أمَّة، وقیادة شعب، وإدارة وطن لفترة معتبرة من الزمن.

لعلَّ أبرز هؤلاء العلماء وأکثرهم تأثیرا فی الإمام ونهلاً من علمه هو الشیخ العالم نور الدین السالمی، الذی التحق بمدرسته فی محافظة الشرقیَّة، وتفرَّغ فیها مدَّة من الزمن لتحصیل العلوم الشَّرعیَّة بمختلف فنونها([24]). وتأثَّر بشخصیَّته الفذَّة الحازمة فی الالتزام بشرع الله تعالى، والصارمة فی قول الحقِّ ومحاربة الباطل، دون أن تخشى فی ذلک لومة لائم، والساعیة دوما إلى إصلاح حال الأمَّة والرفع من شأنها فی خدمة الوطن والصالح العامِّ. لقد مکَّنته هذه الخبرة وهذا التحصیل المعرفیُّ أن یصبح أحد المراجع العلمیَّة البارزة للفقه والفتوى فی عهده ببلده عُمان، وأن یقصده الناس ویعرضون علیه مسائلهم وقضایاهم طالبین منه الإجابة والحلَّ والنصح.

برز الإمام الخلیلی مفتیا، وکانت له الکثیر من الآراء الاجتهادیَّة التی تفرَّد بها، أو وافق فیها بعض الفقهاء السابقین له، وخالف غیرهم فیها، وکان یرجِّح بین الأقوال داخل المدرسة الفقهیَّة الإباضیَّة، ثمَّ یجتهد خارج هذه المدرسة فی دائرة المذاهب الإسلامیَّة الرحبة، فیوافق ذلک المذهب فی هذه المسألة، ویخالف آخر فی مسألة أخرى، وهذا ینمُّ عن تفتُّحه وسعة أفقه وتحرُّر فکره، وعدم تعصُّبه لمذهب دون المذاهب الإسلامیَّة الأخرى([25]).

لعلَّ هذا الأمر یتجلَّى بوضوح من خلال فتاواه الموجودة ومراسلاته، وما تتضمَّنه من اجتهادات ورؤى عمیقة لمسائل شرعیَّة فی أبواب الفقه المختلفة. کان فیه العالم الأمین والمجتهد المتحرِّر. وقد جمعت أبرز هذه الاجتهادات والآراء الفقهیَّة فیما یأتی:

ـ أفتى بصلاة التراویح ثمان رکعات جماعة، وصلاة رکعتین راتبة العشاء قبلهنَّ فرادى.

ـ أفتى لمن أفسد رمضان متعمِّدًا بأن یخرج الکفَّارة، وأن یعید صیام ما أفسد فقط، لا ما مضى خلافًا لجمهور الإباضیَّة.

ـ أفتى بصلاة رکعتین بعد صلاة الجمعة فی المسجد نافلة، حیث کانت لا تصلَّى.

ـ لا یرى بأسًا بالصلاة على الصوف، ولم یر للمانع حجَّة إلاَّ الاستدلال بمفهوم اللقب.

ـ یرى أنَّ المولى منها إذا خرجت عن زوجها بتمام مدَّة الإیلاء فعلیها عدَّة الطلاق ولا یکفیها مضیُّ تلک المدَّة عن العدَّة.

ـ یرى أنَّ من کان ماله عبیدًا فأعتقهم فی مرضه أو أوصى بعتقهم کلِّهم فیعتق منهم الثلث بالقرعة ویسترقُّ الباقون، عملاً بالحدیث الوارد فی ذلک ویدفع فی صدر القیاس.

ـ یرى أنَّ من سافر عن زوجته وأطال الغیبة وخافت العنت، ورَفَعَت إلى الحاکم أمرها، له أن یطلِّقها دفعًا لضررها؛ لأنَّ الشارع راعى ذلک، وجعل للنساء على الرجال حقًّا غیر الإنفاق، ومن ذلک حقُّ العشرة، ولکن لا یطلقها الحاکم إلاَّ بعد الاحتجاج على الزوج إن کانت الحجَّة تناله.

ـ یأخذ بمذهب زید بن ثابت فی میراث الغرقى والهدمى، وأن لا یورث هالک من هالک.

ـ یرى أن لا فرق بین الغائب والمفقود، وأنَّ مدَّتهما واحدة أربع سنین، محتجًّا بالقضیَّة الواقعة فی عهد عمر بن الخطَّاب t.

ـ حمل ما سقی بأجر على ما سقی بالنهر فی النصاب وإخراج الزکاة، لأنَّه حلَّ محلَّ الأجر الآلات البخاریَّة الحدیثة التی تضخُّ المیاه للزروع من باطن الأرض.

ـ أفتى لمن باع نخلاً وقد أُبِّرت فثمرتها للبائع، إلاَّ أن یشترطها المشتری، ویرى من فروع هذه المسألة أنَّ من اختار ماله وقد أبَّره المشتری فالثمرة له ولو لم تدرک.

ـ أفتى بتحریم ربا الفضل ولو کان ذلک یدًا بید.

ـ یرى أنَّ من ابتاع سلعة ثمَّ أفلس فوجد المشتری سلعته بعینها فهو أحقُّ بها من سائر الغرماء عملاً بحدیث الربیع.

ـ حکم بالشفعة فی القیاض ولو کان أصلاً بأصل، وعلى الشفیع ثمن ما دفعه ذو شفعته فی مقابلها.

ـ لا یرى الکلام والسؤال ونحوه من الشفیع مبطلاً للشفعة.

ـ یرى الإسقاط بالجوائح السماویَّة إذا بیعت الثمرة بعد الحراک عملاً بحدیث رواه مسلم أمر بوضع الجوائح.

ـ لا یرى ردَّ الیمین على المدَّعی إلاَّ أن یقبل أن یحلف على حقِّه جمعًا بین الأحادیث الواردة فی الموضوع([26]).

من جهة أخرى فإنَّ الله تعالى وهب الإمام الخلیلیَّ عقلاً راجحًا ونظرًا عمیقًا، وتدبیرًا رشیدًا تحوَّلت إلى حکمة بالغة، ورأی سدید فی المجالات التی یتولَّى الفصل فیها وتدبیر شؤونها([27]).

لقد مکَّنه هذان الجانبان البارزان -المعرفة الشَّرعیَّة ورجاحة العقل -من القدرة على التحکُّم فی تسییر دوالیب الحکم التی تحتاج إلى هذه القدرات والمؤهِّلات.

سخَّر الإمام الخلیلی هذه المعارف وهذه والمواهب الجبلِّـیَّة فی خدمة وطنه عُمان والنصح لشعبه؛ فقادهم قیادة رشیدة، وحافظ لهم على دینهم وهوِّیتهم، وحارب الباطل والانحرافات فی بعض أفرادهم، ونصر المظلوم والضعیف والمسکین، وعقد الصلح بین القبائل ونشر السلم وقضى على الفتن، وأرسى دعائم الأمن والاستقرار فی أرجاء وطنه.

جمع الکلمة والجنوح إلى السلم والصلح:

من الملامح البارزة فی شخصیَّة الإمام الخلیلی التی تعدُّ سمة متمیِّزة وقیادیَّة فیه، کونه شخصیَّة جامعة للصفِّ ونابذة للافتراق، محبَّة للسلم وکارهة للنزاع، متَّسمة بالحلم ومبغضة للغضب، وجانحة إلى الصلح ومبتعدة عن الخلاف والشقاق.

هذا ما یظهر جلیًّا فی الکثیر من المواقف والأعمال التی قام بها الإمام الخلیلی فی فترة حکمه لعُمان، فالرجل فی الکثیر من الأحیان کان یتنازل عن حقِّه -إماما وحاکما یجب الأخذ برأیه وطاعة أوامره ـ لأحد أفراد رعیَّته من شیوخ القبائل ورؤسائها حفاظا على السلم ووحدة الصفِّ، وقضاءً على الفتن وإثارة الصراعات بین القبائل والأشخاص؛ فکان متسامحًا ومطواعًا لیِّن الجانب، حلیمًا حکیمًا([28]). ویتجلَّى ذلک فی المساعی الحثیثة للإمام خلال فترة حکمه فی عقد مجالس الصلح بین القبائل المتنازعة، والقضاء على بؤر التوتُّر فی المجتمع العُمانی، وإزالة أسباب الفتن وإحلال السلم والأمان والاستقرار کلَّما وجد إلى ذلک سبیلا([29]).

فکلَّما دُعی الإمام إلى مجلس صلح إلاَّ سارع وبادر واستجاب دون تردُّد، وکلَّما عرضت علیه مسائل متعلِّقة بأمن بلده وإحلال السلم بین قبائله وأفراده إلاَّ وغلَّب فیها رأی الحکمة والعقل. ولعلَّ أهمَّ إنجاز یبرز فیه هذا الجانب من شخصیَّة الإمام الخلیلی هو ما یعرف بـ«اتفاقیَّة السیب»، التی تمَّ إبرامها بعد فترة وجیزة من تولِّیه إمامة عُمان، وهی الاتِّفاقیَّة التاریخیَّة التی وقعت بین الإمامة بداخل عُمان والسلطنة على سواحلها، وأنهت الصراع الذی عطَّل مصالح الناس، وأزهق الأرواح، وفرَّق الشمل. لحق العُمانیِّـین خیرٌ کثیر بإبرام هذا الصلح، وإنهاء حالة الحرب والاقتتال، وإیقاف الصراع الدائر بین الإمامة والسلطنة لفترة طال أمدها، وکثر ضحایاها من أبناء الشعب العُمانی.

مکَّنت هذه الاتِّفاقیَّة من استعادة الأمن فی أرجاء البلاد، ونشر السلم، وانتعاش التجارة بتحرُّک الاقتصاد والزراعة والصناعة، فتنفَّس الناس الصعداء، وشعروا بنعمة العافیة والأمن([30]). نظرا لأهمِّـیَّة هذه الاتِّفاقیَّة نعرض محتواها وما تضمَّنته من بنود تخدم طرفی النزاع: الإمامة والسلطنة، ویعمُّ خیرها کافَّة الشعب العُمانی فی أرجاء بلاد عُمان:

. أن یکون کلُّ وارد من عُمان من جمیع الأجناس إلى مسقط ومطرح وصور وسائر بلدان الساحل لا یؤخذ منه زیادة عن خمسة بالمائة.

. أن یکون لجمیع العُمانیِّـین الأمن والحریة فی جمیع بلدان الساحل.

. ترفع جمیع التحجیرات على جمیع الداخلین والخارجین فی مسقط ومطرح وجمیع بلدان الساحل.

. ألا تأوی حکومة السلطان مذنبا یهرب من إنصاف العُمانیِّـین، وأن ترجعه إلیهم إذا طلبوه منها، وألا تتدخَّل فی داخلیَّتهم.

تعدُّ هذه الشروط المذکورة فی أعلاه لصالح الإمامة، واعترافا باستقلالها، أمَّا الشروط التی لصالح السلطان فهی:

. کلُّ القبائل والمشایخ یلتزمون بالأمن والصلح مع حکومة السلطان، وألا یهاجموا بلاد الساحل، ولا یتدخَّلوا فی حکومته.

. کلُّ المسافرین إلى عُمان فی مشاغلهم الجائزة والأموال التجاریَّة یکونون أحرارًا، ولا تکون تحجیرات على تجارتهم ولهم الأمن.

. کلُّ محدث ومذنب یهرب إلیهم یطردونه ولا یأوونه.

. أن تکون دعاوى التجَّار وغیرهم من العُمانیِّـین تسمع وتفصل على موجب ما هو الإنصاف بالحکم الشرعیِّ([31]).

إنَّ هذه الخصال الرفیعة التی تمیَّز بها الإمام الخلیلیُّ فی جمع الکلمة والجنوح إلى السلم کان وراءها خیر عمیم، أحسَّ به ولمسه کلُّ أفراد الشعب العُمانی؛ وبالذات فی أهمِّ جانب من الحیاة، هو الأمن والسلم والاستقرار، فاستطاع الناس أن یهنؤوا بحیاة مریحة، ویتفرَّغوا لمزاولة مختلف أعمالهم فی التجارة والزراعة والصناعة والأسفار، ویعمروا الأرض بالخیر والصلاح.

القوة والحزم فی نشر الخیر ومحاربة الباطل:

من الجوانب البارزة التی امتازت بها شخصیَّة الإمام الخلیلی: الجمع والاتِّزان بین الحِلم واللِّین والتواضع من جهة، والحزم والقوَّة والصرامة من جهة أخرى عندما یستدعی الأمر وتقضی المصلحة ذلک. إنَّ إدارة شؤون بلد وقیادة شعب لیس بالأمر الهیِّن فی ظلِّ أوضاع اجتماعیَّة وسیاسیَّة صعبة معقَّدة، إذ إنَّ الحفاظ على مصالح المسلمین، والحکم بالعدل بینهم، یقتضی فی کثیر من الأحیان الحزم والصرامة، لاسیما عندما یتعلَّق الأمر بانتهاک حرمات الله تعالى وحرمات العباد فی أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.

لقد برز الإمام الخلیلی آمرا بالمعروف ناهیًا عن المنکر، فکان لا یخاف أحدًا غیر الله تعالى عندما تُنتهک حرماته، وکان لا یتردَّد فیما یتَّخذه من مواقف وأعمال عندما یتعلَّق الأمر بنصرة الحقِّ ومحاربة الباطل، وملاحقة المجرمین والمفسدین والمعتدین([32]).

لقد قاوم وحارب الإمام الخلیلیُّ فی جبهة الانحراف الخلقیِّ، وأصدر تعلیماته الشدیدة وأوامره الصارمة بملاحقة العصاة المجاهرین بذنوبهم وآثامهم، فعزَّر وسجن وغرَّم، وأقام حدود الله تعالى فیمن یستحقُّه منهم. وحارب مظاهر الشعوذة والکهانة والمتاجرة بالدین وعزَّر أصحابها ولاحقهم وهدَّدهم. وحارب قطَّاع الطرق واللصوص، وطبَّق علیهم الحدود وقضى على حرکاتهم ونزواتهم المنحرفة. وحارب المجرمین الذین تسبَّبوا فی عملیَّات قتل أو اغتصاب أو أذى للناس، فلاحقهم وقضى علیهم، وطبَّق فیهم أحکام الله تعالى([33]).

استطاع الإمام الخلیلی بهذا الحزم والشدَّة والصرامة مع أصناف المجرمین والمجاهرین بعصیانهم وقطَّاع الطرق أن یقطع دابر الجریمة فی دولته، وأن یقلِّل من وطأتها على الناس، وأن یقیم العدل بینهم وفق شریعة الله تعالى. واستطاع –کذلک- أن یوفِّر الأمن والطمأنینة فی النفوس، فأصبح الناس بإمکانهم السفر وقطع الفیافی دون خوف على أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم. کما انحسر العمل الإجرامی بمختلف صوره، وساد العدل والأمن.

خاتمة:

یخلص البحث إلى النتائج الآتیة:

- الإمام الخلیلی شخصیَّة عُمانیَّة وطنیَّة، وعَلَم بارز من أعلامها، یجسِّد أبعاد الهوِّیـَّة العربیَّة الإسلامیَّة.

- بروز شخصیَّة الإمام الخلیلی فی التاریخ المعاصر لعُمان، بوصفها أنموذجا للحکم الراشد فیه، الجامع للکلمة، والداعی للوحدة، والمصلح بین الإخوة، والقاضی على الفتن.

- دعائم الحکم الراشد متمثِّلة أساسا فی الاستقامة على نهج الله تعالى، وإقامة العدل فی الرعیَّة، ونشر السلم والأمن فی أرجاء الوطن، وإحلال الفضیلة والصلاح، ومحاربة الباطل والمنکر. والتفانی فی خدمة أبناء الشعب، وکلُّ هذه الأمور عاش لأجلها الإمام الخلیلی، وجسَّدها قولاً وفعلاً.

- العلاقة الوثیقة المطَّردة بین صلاح الراعی وصلاح الرعیَّة، إذ إنَّ الرعیَّة تقتدی براعیها الصالح، فتحبَّه وتتعاون معه، وتقدر أعماله، وتطیع أوامره، وتطمئنَّ لعمَّاله، فنتج عن ذلک الخیر العمیم للبلاد والعباد، وهذا الذی تجسَّد عملیًّا فی عهد حکم الإمام الخلیلی.

- علاقة صلاح الحکم بانتعاش الحیاة الاقتصادیَّة، وتحرُّک دوالیب التجارة والأعمال، وتوفُّر فرص العمل، ورخاء المعیشة، ذلک أنَّ الحاکم الصالح یحرص على محاربة الفساد المالی، ویعمل على استتباب الأمن، وینشر العدل، ویحرص على قضاء مصالح المسلمین؛ وکلُّ هذه الأمور لها أثرها المباشر والفعَّال فی انتعاش الجانب الاقتصادیِّ فی البلد، وهذا الذی وقع فعلا فی عهد حکم الإمام الخلیلی، وسجَّله المؤرِّخون لعصره.

- أهمِّـیَّة اجتماع الأخلاق والعلم والحکمة فی شخصیَّة الحاکم، فهی من دعائم حکمه ونجاحه فی تسییر دوالیب الدولة، ورعایة مصالح بلده، وقیادته إلى برِّ الأمان وشاطئ السلام. وهذا الذی تحلَّى به الإمام الخلیلی، وضرب أروع الأمثلة فیه، وکان من أقوى رکائز حکمه الراشد.

وبناء على النتائج السابقة توصی الدراسة بما یأتی:

- دعوة المؤسَّسات التعلیمیَّة والتربویَّة العُمانیَّة بمختلف أطوارها لتدریس حیاة الإمام الخلیلی وشخصیَّته. وتضمین المقرَّرات الدراسیَّة نماذج من أعماله ومواقفه.

- توجیه طلبة الجامعات العُمانیَّة للبحث فی الجوانب المختلفة من شخصیَّة الإمام الخلیلی.

- العنایة بجمع تراث الإمام الخلیلی وطبع الأعمال الکاملة له.

- العنایة بإنجاز أعمال مصوَّرة عن شخصیَّة الإمام الخلیلی: أشرطة وثائقیَّة، أفلام...

- تسمیة مرافق علمیَّة وحکومیَّة بشخصیَّة الإمام الخلیلی.

– أن یتضمن المتحف الوطنیٍّ جوانب تعریفیة بأعلام عمان ومنهم الإمام الخلیلی.

([1]) شریفی، مصطفى: الشیخ نور الدین السالمی مجدِّد أمة، ومحیى إمامة، ط1، المطبعة العربیَّة، غردایة، دار الخلدونیة، الجزائر، نشر جمعیة التراث، غردایة، الجزائر، 1432هـ/ 2011م، ص50- 55.

([2]) المرجع نفسه، ص146.

([3]) غباش، حسین عبید غانم: عُمان، الدیمقراطیة الإسلامیَّة، تقالید الإمامة والتاریخ السیاسی الحدیث، ط1، دار الجدید، 1997م، ص292-295.

([4]) شریفی، مصطفى: الشیخ نور الدین السالمی مجدِّد أمَّة، ص63-68.

([5]) المرجع نفسه، ص69-79.

([6]) الشکیلی، إبراهیم بن محمَّد: مدرسة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی وأثرها فی نشر العلم، ط1، 1434هـ / 2013م، د. ط، ص30- 106.

([7]) شریفی، مصطفى: الشیخ نور الدین السالمی مجدِّد أمَّة، ص56 - 63.

([8]) الشکیلی، إبراهیم: مدرسة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، ص30-106.

([9]) شریفی، مصطفى: الشیخ نور الدین السالمی مجدِّد أمَّة، ص144- 146.

([10]) الخلیلی، محمَّد بن أحمد: الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلیُّ ومنهجه الفقهیُّ، مذکِّرة تخرُّج بمعهد القضاء الشرعیِّ بمسقط، سلطنة عُمان، السنة الجامعیَّة: 2002-2003م، ص25.

([11]) الشکیلی، إبراهیم: مدرسة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، ص30-106.

([12])     السالمی، محمَّد الشیبة: نهضة الأعیان بحرِّیـَّة عُمان، ص288.

([13])     مرکز دراسات الوحدة العربیَّة: موسوعة عُمان الوثائق السرِّیـَّة، إعداد وترجمة: محمَّد بن عبد الله الحارثی، مج3، بیروت، لبنان، 2007م، ص49 - 53.

([14])     الرواحی، سالم: الدعوة الإسلامیَّة فی عُمان فی القرن الرابع عشر الهجری، ص122- 126.

([15]) السالمی محمَّد الشیبة: نهضة الأعیان بحرِّیـَّة عُمان، ص324.

([16])     المصدر نفسه، ص338- 339.

([17])     الشکیلی، إبراهیم: مدرسة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، ص107-152.

([18]) المرجع نفسه، ص30-106.

([19]) المرجع نفسه، ص70.

([20])     المرجع نفسه، ص84.

([21])     الرواحی، سالم: الدعوة الإسلامیَّة فی عُمان فی القرن الرابع عشر الهجری، ص122-126.

([22]) جورج ونس: عُمان والساحل الجنوبی للخلیج الفارسیِّ، مکتبة الثقافة الدینیَّة، ط1، القاهرة، مصر، 1423هـ/2003م، ص105-110.

([23]) السالمی، محمَّد الشیبة: نهضة الأعیان بحرِّیـَّة عُمان، ص340.

([24])     الشکیلی، إبراهیم: مدرسة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی، ص87- 98.

([25])     المرجع نفسه، ص87- 98.

([26]) الخلیلی، محمَّد: الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلیُّ ومنهجه الفقهیُّ، ص25 – 29.

([27]) المرجع نفسه، ص26.

([28])     الرواحی، سالم: الدعوة الإسلامیَّة فی عُمان فی القرن الرابع عشر الهجری، ص122-126.

([29])     الخلیلی، محمَّد: الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلیُّ ومنهجه الفقهیُّ، ص25 – 29.

([30]) غباش، حسین: عُمان، الدیمقراطیة الإسلامیَّة، ص292-295.

([31]) الخلیلی، محمَّد: الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلیُّ ومنهجه الفقهیُّ، ص26 – 29.

([32])     الرواحی، سالم: الدعوة الإسلامیَّة فی عُمان فی القرن الرابع عشر الهجری، ص122-160.

([33])     الخلیلی، محمَّد: الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلیُّ ومنهجه الفقهیُّ، ص16 – 20.

 

  • الخلیلی، محمَّد بن أحمد: الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلیُّ ومنهجه الفقهیُّ، مذکِّرة تخرُّج بمعهد القضاء الشرعی، مسقط، سلطنة عُمان، السنة الجامعیة: 2002-2003م.
  • الرواحی، سالم بن محمَّد: الدعوة الإسلامیَّة فی عُمان فی القرن الرابع عشر الهجری، ط1، مکتبة الضامری للنشر، مسقط، سلطنة عُمان، 1436هـ/2010م.
  • السالمی، أبو بشیر محمَّد الشیبة بن نور الدین: نهضة الأعیان بحرِّیـَّة عُمان، دار الکتاب العربی، القاهرة، مصر، 1960م.
  • السرحنی، إسماعیل بن إبراهیم بن سعید: قلائد المرجان فی ذکر السیرة العطرة لأئمَّة عُمان، وزارة التراث القومی والثقافة، مسقط، سلطنة عُمان، 1991م.
  • شریفی، مصطفى بن محمَّد: الشیخ نور الدین السالمی مجدِّد أمَّة ومحیى إمامة، ط1، المطبعة العربیَّة، غردایة، دار الخلدونیَّة، الجزائر، جمعیة التراث، غردایة، الجزائر، 1432هـ/2011م.
  • الشکیلی، إبراهیم بن محمَّد: مدرسة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی وأثرها فی نشر العلم، ط1، 1434هـ/2013م.
  • غباش، حسین عبید غانم: عُمان، الدیمقراطیَّة الإسلامیَّة، تقالید الإمامة والتاریخ السیاسی الحدیث، ط1، دار الجدید، 1997م.
  • مرکز دراسات الوحدة العربیَّة: موسوعة عُمان الوثائق السریَّة، إعداد وترجمة: محمَّد بن عبد الله الحارثی، مج3، بیروت، لبنان، 2007م.
  • ونس جورج: عُمان والساحل الجنوبی للخلیج الفارسی، مکتبة الثقافة الدینیَّة، ط1، القاهرة، مصر، 1423هـ/2003م.