کلمة الأستاذ الدکتور فرحات بن علي الجعبیري

الباحث المراسلأ.د. فرحات بن علي الجعبيري جامعة نزوى

Date Of Publication :2022-11-08
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

 

الحمد لله رب العالمین، والصلاة والسلام على أشرف المرسلین، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلی العظیم. ﴿رَبَّنَا ءَاتِنَا مِن لَّدُنکَ رَحْمَةً وَهَیِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [سورة الکهف: 10]. أبنائی الأفاضل، بناتی الفُضْلَیَات، أیُّها الإخوة المؤمنون، حیثما کنتم فی کلِّ مکان؛ لأنَّ الکلمة الآن ترحل عبر الأثیر وعبر الزمان وعبر المکان، السلام علیکم ورحمة الله تعالى وبرکاته.

إنَّ هذا اللِّقاء المبارک یَفْصِلُنی عن أوَّل لقاء مبارک فی هذه البلاد الحبیبة، باثنتین وثلاثین سنة، ففی شهر جمادى الأولى من سنة 1404هـ/مارس 1984م، جلستُ محاضرا فی مدارج مدرسة أبی عبیدة الثانویة. ومن عجائب الزمن، أو من برکات القدر، أن یأتینی طالب ویقول لی: حضرتُ المحاضرة التی ألقیتَها فی مدرسة أبی عبیدة، وهی عندی مسجَّلة فی شریط، وأعادها علیَّ ملخَّصة، ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّکَ فَحَدِّثْ﴾ [سورة الضحى: 11]. إنَّ من حقنا الاستفادة من عطاء هذه الوسائل العصریة الحضاریة؛ لأنَّ حضارتنا الإسلامیَّة شارکت فی هذا العطاء، فنحمد الله تعالى على ذلک. وقبل البدء فی الحدیث عن الموضوع الرئیس لکلمتی لدیَّ ملاحظتان:

الملاحظة الأولى: أنَّ التعاون بین المغاربة والمشارقة ضارب فی عمق الزمن، فی القرون الخالیة، من القرن الأوَّل لهجرة رسول الله ﷺ. وأنا أحمد الله تعالى أن السّلطة الرشیدة فی هذه البلاد انتبهت إلى ضرورة دراسة تاریخها الحدیث؛ حتَّى لا تبقى هوة بین الواقع المعاصر والتاریخ التلید. وإنَّ إمامة الإمام محمَّد بن عبد الله الخلیلی– رحمة الله علیه– لیست منَّا ببعیدة، وأنا لو کنت أَدْرُسُ فی عُمان فی ذلک الوقت لأدرکتها فی السنوات الأولى من حیاتی؛ ففی عام 1954 کنت أدرس فی الابتدائیَّات، وکان یمکن أن أدرس فی مدرسة حصن نزوى، أو ما حوله من المدارس التنظیمیة التعلیمیة.

إن هذه الندوة نقلة نوعیة هامة، فبارک الله فیمن فکّر فیها، وسعى إلیها. ونسأل الله تعالى أن یجزل الثواب على المؤسّستین القائمتین على هذا المکان، وهذا البهو الأهلی، وهذا الصرح العلمی الذی کان ضربا من الخیال قبل بضع سنوات، وإذا بنا نمرح بین طلبة وطالبات وفی جو علمی موضوعیٍّ سَمْحٍ، فی غایة الأخوَّة والمحبَّة والبساطة.

إنَّ هذه البساطة التی نراها فی شبابنا وبناتنا الجالسین على الأرض فی هذه القاعة الغاصّة بالحضور، والذین لم یجدوا مقاعد یجلسون علیها، تروق لنا نحن الذین عشنا فی صَلَفِ الحضارة المادیة.

لا أخفی علیکم أننی أنا سلیل حضارة مادیة قویة، ومن درسنا علیهم کانوا غایة فی الإلحاد والکفر، ولکن قبسنا منهم منهجیة نقدیة حوّلناها من دراسة الفکر المعاصر إلى دراسة فکرنا الإسلامی الأصیل. والمنهجیة النقدیة لیست غریبة عن فکرنا؛ لأنَّ الموضوعیة متأصّلة فی الفکر الإسلامی من خلال دراسة حدیث الرسول ﷺ؛ فما یسمَّى الآن (النقد) هو نفسه منهج (الجرح والتّعدیل) فی السنَّة النبویَّة؛ وإنَّما تغیرت العبارات فقط.

وقد قامت المدرسة الإسلامیَّة فی عهد رسول الله ﷺ على هذا المنهج النقدی الموضوعی؛ فالصحابة– رضوان الله علیهم– کانوا یسألون الرسول ﷺ: أهذا الأمر من الوحی أم من الاجتهاد؟، فإذا کان من الاجتهاد یغیّره الرسول ﷺ إلى الأحسن والأحزم؛ وذلک یعنی أنَّ (الموضوعیَّة) لم تسقط علینا من الخارج، وإنَّما الخارج وظّفها وحسّنها، وجعل لها جمعیات، ونحن تخلّینا عنها فی کثیر من المواضع.

إننی أذکر هذه النقلة النوعیة بثناء کبیر؛ لأننی دعیت منذ سنوات قریبة لتقویم التعلیم الإسلامی الدینی فی جامعة السلطان قابوس، ووجدت الطلبة والمعلمین وغیرهم من الناس یتألمون من فکرة مطروحة لحذف امتحان التربیة الإسلامیَّة من الثانویة العامَّة، ووصل الأمر إلى صاحب الجلالة الذی وجّه بإبقاء مادة التربیة الإسلامیَّة فی المنظومة التربویة، التی سنقف عند بعض جوانبها مع إمامنا الخلیلی- رحمة الله علیه.

لقد قلت إنَّ أمرنا ضارب فی المعاصرة، لذا عندما باشرت بعض المحاضرات فی معهد القضاء الشرعی أبیت فی البدایة أن یجلس الطلبة على الکراسی؛ لأننی کنت مشتاقا إلى حَلْـقَة علم کحَلَقَاتِ القرن الأول. ومن عجائب ما لاحظت- وهذا أمر قد لا یلاحظه العُمانی الذی یعیشه صباح مساء، وهو أمر قد یکون تقلّص الآن کثیرا لکنَّه کان شائعا کثیرا قبل ثلاثین سنة- أننی دعیت إلى ضیافة واحد من قضاة البلاد وهو الشیخ سعود بن سلیمان الکندی– رحمة الله علیه– وجدتنی، وأنا بلحیة سوداء ما فیها شعرة بیضاء- مع خمسین أو أکثر من کبار القوم أصحاب اللحى البیضاء، منهم من أکون فی سنّ ولده، ومنهم من أکون فی سن حفیده، أحسست وکأنّ الزمن رجع بی، لا أقول إلى عهد الصحابة، ولکن إلى عهد قریب أو شبیه بعهد الصحابة، ولم لا؟! کان المجلس یضمّ أناسًا فی غایة الوقار، وکانوا یتحاورون فیما بینهم فی منظومات شعریة تضمّ جمیع فنون الثقافة الإسلامیَّة. وقال لی رفقائی: ماذا ستعمل أنت أمام هؤلاء القوم؟! فقلت لهم: إنَّ الحضارة الغربیة التی تعلمنا وفق مبادئها علّمتنا الکثیر الذی سیمکننا من إثبات وجودنا أمام هؤلاء العلماء الوقورین، فسترون ما سأفعل! فقدّمت مداخلة قصیرة لخّصت فیها ما قیل فی ساعتین فی ذلک المجلس.

أبنائی الأفاضل: الإنسان یعتز بأصالته وبحاضره، وما لم نجمع بین الأمرین: الأصالة والمعاصرة لن نتقدم؛ فکما قال أبو القاسم الشابِّی وهو یحسن العربیَّة ولا یحسن الفرنسیة، قال: «أطیر فی عالم الأدب بجناح واحد وجناح ثان کسیر»؛ فلا معاصرة بدون أصالة، ولا أصالة بدون معاصرة.

الملاحظة الثانیة: إننی سأصف الإمام الخلیلی – رحمة الله علیه– فی حدیثی هذا بموضوعیة بقدر الإمکان. وسامحونی إن حملت على الإمام بعض الشیء؛ لأنَّ الإمام مع تقدیرنا وحبِّنا له بَشَرٌ یصیب ویخطئ، وفی کثیر من الأجوبة والحوارات قد قیل له: «لا». وهذا أمر طبیعی لدى الإمام، ولدى عمر بن الخطَّاب، ولدى عمر بن عبد العزیز؛ فقد نوقش عمر وهو على المنبر، فقال: «أصابت امرأة وأخطأ عمر». فإضفاء جلباب القداسة الکاملة على الشخصیَّة المدروسة یفسد الدراسة العلمیة والموضوعیة؛ أنت تحبّه وترید أن تمجّده، نعم، ولکن لا تنس أنَّه إنسان. فإمامنا– رحمة الله علیه– إنسان، ناضل وعاش ردحا من الزمن - نحوا من ثلث قرن - وهو یحمل أعباء الأمَّة، وهذا الحمل لیس بالأمر الهین.

سأصف المنظومة التربویة لدى إمامنا الجلیل– رحمة الله علیه –بأربع صفات:

أولا: منظومة تربویة موغلة فی الأصالة.

ثانیا: منظومة تربویة موغلة فی دراسة العلوم الإسلامیَّة.

ثالثا: منظومة تربویة موغلة فی الروحانیات.

رابعا: منظومة تربویة موغلة فی الأخلاقیات.

أربع صفات: أصالة عمیقة، وروحانیات بدرجة عالیة، وعلوم إسلامیَّة بجمیع فنونها، وأخلاق عالیة، سعى إلیها إمامنا– رحمة الله علیه– فی القرن الرابع عشر الهجری، وهو لیس منَّا ببعید، أی القرن العشرین المیلادی، الذی شهد غلیانا فی میدان الإصلاح فی العالم الإسلامی جمیعا. وسأقوم بتحلیل هذه القواعد وهذه الصفات تحلیلا موضوعیًّا مختصرا، لأننی أدرک أنَّکم جمیعا تعرفونها غایة المعرفة.

أمَّا من حیث الأصالة، فجذور هذه المنظومة التربویة هی القرآن الکریم، وسنة الرسول ﷺ، واجتهادات علمائنا الأفاضل عبر الزمان. فالمنبع الأساسی القرآن الکریم، والسنَّة الصحیحة المستمدة من مسند الربیع بن حبیب، وکانت حلقاتها لا تتوقف طوال النهار فی مدرسة الإمام، فی القلعة وفی جمیع فروعها الأخرى. فهی حینئذ، مدرسة تجذّرت منظومتها التربویة فی الأصالة، بل إنَّها أصالة عمیقة وکأنک فی حلقات الرسول ﷺ فی المسجد النبوی الشریف.

وهذا التوغّل فی الأصالة، کما ذکرت فی مقدمة کلمتی مع الخمسین عالما الذین جلست فی حلقتهم قبل خمسة وثلاثین عاما، یجعلها أقرب إلى الحَـلَقَات التی کانت تدار فی القرون السابقة منها إلى أنظمة التعلیم والتربیة فی القرن الحالی، الرابع عشر أو ما قبیله. فهی أقرب إلى حلقات الإمام جابر بن زید، والإمام أبی عبیدة، وحلقات الربیع، ومحمَّد بن محبوب، وابن برکة، وهو شیخ المغاربة، وعمروس.

وإذا أردت أن تعرف مدرسة الإمام الخلیلی مجسَّدة فی الواقع فاذهب إلى مدرسة الشیخ حمود الصوافی، فهی نسخة طبق الأصل، ولا تحول عنها فی ذلک قید أنملة، بل إنها مدرسة ممتدة من القرن الرابع عشر إلى القرن الخامس عشر تجد فیها أصالة وروحانیات وعلومًا إسلامیَّة.

فهذه الأصالة هی ما سعى وکان یسعى إلیه الإمام– رحمة الله علیه– وهو سلیل مدرسة السالمی بمشارقها ومعارجها وطلعتها وجوهر نظامها، هذا الجوهر الذی عرفناه ونحن نرضع ألبان أمهاتنا مع شیخنا عمر بن مرزوق، رحمة الله علیه، وکان ضریرا، وکان یقرئنا هذه المنظومة مع مسند الإمام الربیع بن حبیب.

إنَّ هذا تجذُّر فی الأصالة بین مغربنا الإباضی ومشرقنا الإباضی، وسامحونی إذا قلت: «الإباضی» فلیس معنى ذلک أننی أتعصب وإنَّما أنتمی، وأحترم بقیة المدارس؛ لأنَّ هذه الأصالة أیضا موغلة فی السادة المالکیة، والشافعیَّة وما إلى ذلک، وکلنا نتعانق فی هذه الأصالة.

إن الأصالة رکن رکین من هذه المدرسة الإباضیَّة العظیمة التی رضعت لبان کتب جمة من (تلقین الصبیان) إلى أصول الفقه وإلى الشروح الموسّعة فی هذه المدرسة السالمیة العظیمة التی جدّدت مع المدرسة الطفیشیَّة العطاء الإباضی، والشیخ اطفیَّش کان واعیا فی ذلک؛ فعندما أنهى تفسیره قال: الآن کفیتکم المؤونة، وهذا تفسیرکم مع تفسیر هود بن محکَّم الهواری.

وأمَّا من حیث الروحانیات، فقد حدَّثنا جیل الشباب من المحاضرین فی جلسات یوم أمس، وأجسامنا تتحرک قشعریرة، أنَّ طلبة العلم عندما یذهبون إلى الإمام بعد صلاة العشاء یجدونه منفردا مع المولى تبارک وتعالى، فیقفون وراءه للصلاة. کم أتنمى أن تعمل الجامعات هکذا، فما أحوجنا إلى شیوخ نتعلم منهم العلم فی النهار، ثمَّ نجدهم بعد صلاة العشاء یصلّون فنصلی معهم جماعة لنُکَمِّل ما تعلمناه فی النهار بروحانیات فی اللیل. ومدارس العالم الإسلامی کلها کانت تعرف هذا، ففی مدارسنا الإسلامیَّة یتکامل الجانب الروحانی والإیمانی، وجانب العلاقة بالله، تبارک وتعالى، مع طلب العلم لوجه الله، ومن أجل العلم لذاته، ومن أجل نفی الجهل. فروح الإخلاص والتفانی والعبادة وروح طلب العلم یتکاملان.

فقوام مدرسة الإمام الخلیلی أصالة مع روحانیات، ومع تفنُّن فی العلوم الإسلامیَّة جمیعا. وإذ أقول هذا، فإننی أتألّم عندما أستمع إلى بعض المحاضرین الذین یخطئون فی النحو، وهم من أهل عُمان معقل اللغة العربیَّة، وطن الخلیل بن أحمد الفراهیدی، ووطن سماحة المفتی، وهو صاحب درجة عالیة فی العربیَّة بل وفی کل العلوم، وبینهم آخرون من الذین تعلّموا على یدیه. فالأخطاء النحویة لیست مقبولة لاسیما من قبل المحاضرین، ولاسیما أنَّ أصدقاءنا هنالک فی بلاد المغرب یقولون: نحن ننتظر أن نتعلَّم العربیَّة من عُمان. ولا شک أن المدارس مهتمَّة بتعلیم اللغة إلاَّ أن المزید من الجهد یتعیَّن أن یُصرف إلى هذا الجانب.

أختم بالصفة الأساس، وهی الأخلاق. والرسول ﷺ یقول: «إنَّما بعثت لأتمم مکارم الأخلاق»، «أدّبنی ربی فأحسن تأدیبی»، ویقول عنه، سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنَّکَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِیمٍ﴾ [سورة القلم: 4]. إنَّ الأخلاق هی ما تحتاج إلیه مدارسنا الیوم.

وفی إطار حدیثی عن الأصالة والمعاصرة، فإننی أودُّ أن أَذکُر أنَّ علاقة الشیخ سلیمان البارونی بالإمام، هی علاقة إمام متأصِّل إقلیمی مع فیلسوف فی السیاسة والاقتصاد وأمور الحیاة المعاصرة الأخرى؛ فلا یمکن أن یجتمعا على کلِّ شیء، ولا یمکن للبارونی، وهو خارج المنظومة، أن یفرض شیئا. نعم، لقد فرض الشیخ البارونی نظاما لجمهوریة عندما أسَّس نظاما فی لیبیا، لکن هنا فی عُمان هو ضیف؛ فکان یتعیّن علیه أن یراعی الظروف، ویلمِّح إلى ما یجب فعله، ویحاول أن یُدخل التحدیث المقبول، ولکن ما قُبِل من أفکاره وآرائه کان قلیلا. ویا حبّذا لو أن الإمام الخلیلی أخذ بشیء من المعاصرة فی نظام التعلیم، وبنى مدرسة حدیثة بجانب مدرسته البسیطة التی تحدّثنا عنها. وأنا أحب تلک المدرسة من أعماق قلبی، ولکن لا أرى أنَّها تستطیع أن تواکب تطورات العالم فی القرن الرابع عشر بل القرن الخامس عشر. ومدارسنا الآن فیها معاصرة وتحدیث، وهی متمیزة فی ذلک. وبما أننا درسنا مدرسة الإمام الخلیلی وما فیها من أصالة، فلنأخذ وبکلِّ جرأة، ونحن فی موطن عزَّة، تلک الأصالة، ونبرزها مع ما لدینا من معاصرة وتحدیث.

وعندما نجمع فی نظاما التعلیمی بین الأصالة والمعاصرة، سنرى عبر الزمن کیف أنَّ عُمان، وهی الآن تحسد على ما هی فیه من أمن ورخاء ومن قدرة على الصمود وهی بین جبلین عظیمین من البلاء المبین، تستطیع أن تصمد هادئة مطمئنة بفضل هذه الأصالة المتینة والمعاصرة الواعیة. إننا بحاجة إلى المزید من الاهتمام وبصورة عملیَّة بهذه الأصالة الراسخة فی مخیال العُمانیِّـین جمیعا شبابهم وکهولهم، ونفض الغبار عنها وفهمها فهما جیدا حتَّى لا نصاب بما أصیب به غیرنا.

وهنا لا بأس أن أتحدث عن تجربتنا فی تونس، حیث کان التعلیم موغلا فی الحداثة والمعاصرة. ففی أول درس فی الفلسفة یبدأ أستاذ الفلسفة بطرح أکبر قضیَّة کفریة فی الدنیا فیقول متسائلا: آلله حیٌّ أم میّت؟ وبالرغم من ذلک، نشأ جیل أحبَّ الأصالة وتحرَّک لإحیائها. فأعید ما قلته سابقا: الإنسان فی هذه الحضارة یجب أن یطیر بجناحیه: جناح الأصالة، وجناح المعاصرة المعتدل، الذی نأخذه من الغربیین بعد غربلة ونخل، ونقیسه بقرآننا، لا کما یفعل الآخرون یقیسون القرآن بالمعاصرة والحداثة. لا، بل نقیس المعاصرة والحداثة بقرآننا وبسنة الرسول ﷺ؛ فما یقبله القرآن وما یتماشى مع سنة الرسول ﷺ یدفعنا ویدفع بنا إلى الأمام.

ونتیجة لذلک البعد عن الأصالة، عَرَفَت الجماعات المتشدِّدة موطن الضُّعف، وتحرّکت لنشر الفتن، وأثارت زوبعة حول نقاط الخلاف العقدی. وکنَّا فی تونس نتحاشى مدَّة خمس وعشرین سنة الخوض فی هذه القضایا، ثمَّ تمکَّنت تلک الجماعات المتطرِّفة من نشرها بیننا فی أسبوع أو شهر، وصار کلُّ حدیث الشباب مناظرات فی العقیدة. قلنا لهم: یا أهلنا، ویا أبناءنا، نحن فی هذا العصر بحاجة إلى أمر آخر، وهذه أمور قد دفنَّاها نحن المالکیة والإباضیَّة فی تونس من زمان بعید، فلا تثیروا النعرة المضرَّة! ونسأل الله تعالى السلامة.

وعُمان استطاعت قبلنا أن تجتاز هذه المعرکة مع الفتن، والحمد لله، بفضل سلطانها وبفضل مفتیها، وبفضل علمائها والعقلاء فیها من أهل السیاسة وأهل العلم. ولما غُلِبتْ هذه الحرکة فی عُمان حوَّلت أنظارها إلینا، ونزلت بقوَّتها فی جبل نفوسة، وجاءت عندنا فی تونس، وانتقلت إلى وادی مزاب، ورغم صلابة وادی مزاب فقد استطاعت أن تزلزله. فمن یقف وراء هذه الفتن أناس مأجورون، لا أقول عندهم بیداغوجیا، وإنَّما عندهم أموال وحیل لإغراء الناس بالأموال لأجل المناصب وحظوظ الدنیا.

المنظومة التربویة لإمامنا الجلیل الخلیلی– رحمة الله علیه رحمة واسعة– رسَّخت قواعد السیاسة الشَّرعیَّة الإسلامیَّة فی قرن تلاعبت فیه الریاح بجمیع الکراسی، ونادى الناس بما نادوا به من قومیَّة عربیَّة، وإبعادٍ عن الإسلام، وعندما أرادوا أن یتصالحوا مع الإسلام ووجدوا أن الإسلام لا یواکبهم فحاربوه. لکن عُمان خرجت من کلِّ ذلک سلیمة بفضل هذه الإمامة الراسخة، وبفضل تعاونٍ بین الإمامة والسلطنة على الساحل.

ونحن، والحمد لله، نشهد شهادة خالصة تنفعنا بین یدی الله تعالى. ونحمد الله تعالى أن وحَّد عُمان. وبفضل انتشار الوسائل الحدیثة، وبفضل السیاسة الرشیدة والمنظومة الأمنیة المنضبطة، یستطیع الشخص الیوم السفر من أقصى ظفار إلى أقصى مسندم، وإذا إصابته ذرَّة سوء على قارعة الطریق یجد الشرطة بین یدیه، وتتعجب هل جاؤوا من السماء أم انبثقوا من الأرض؟! وهذه المنظومة الأمنیَّة والمنظومة السیاسیَّة والمنظومة التربویَّة والمنظومة الاقتصادیَّة، تحتاج الآن إلى زیادة أصالة، وإلى زیادة أخلاقیَّات، وإلى زیادة روحانیَّات، وإلى زیادة فی العلوم الإسلامیَّة مع زیادة فی جمیع العلوم الحدیثة: الطبیة والتکنولوجیة، فیتخرّج الطبیب ولا یکتفی بدراسة الطب، وإنَّما یکون مطَّلعا على الأصول والفقه وما إلى ذلک.

وأختم بالدعوة إلى تعلُّم العلوم الشَّرعیَّة إلى جانب العلوم الحدیثة، فیا معشر الأطباء، ویا معشر المهندسین، ویا معشر أصحاب جمیع الاختصاصات، لقد سخَّرت لکم وزارة الأوقاف تدریسا شرعیا عن بُعد فاستفیدوا منه، وأعلم أنَّ المنتسبین إلیه یتجاوزون ثلاثة آلاف، وسیصلون قریبا خمسة آلاف، ووصلتنا هذه الخدمة إلى تونس، ومنحتنا الکلِّـیَّة کراسی متعدِّدة. ونحمد الله تعالى على هذا الوثاق، وعلى هذا الوفاق، ورحم الله الإمام الخلیلی رحمة واسعة.