الإيديولوجيا القوميّة في رواية (دلشاد) لبشرى خلفان.
الباحث المراسل | د. عيسى سعيد الحوقاني | جامعة الشرقية + جامعة نزوى |
د. أحمد عبدالله البحري | وزارة التربية والتعليم |
Date Of Submission :2025-02-09
Date Of Submission :2025-02-11
Date Of Submission :2025-02-11
Date Of Submission :2025-02-11
Date Of Acception :2025-03-21
Date Of Publication :2025-04-22
المقدمة:
شكّل موقع (سلطنة عُمان) الجغرافيِّ الاستراتيجيِّ على الساحل الجنوبيِّ الشرقيِّ لشبه الجزيرة العربيّة مركزًا لتلاقي ثقافاتٍ مختلفةٍ على مرِّ العصور، وقد لعبت الموانئ الساحليّة، مثل: صحار، وصور، ومسقط دورًا مهمًا في جذب التجّار والبحّارة من جميع أنحاء العالم، لقد كانت هذه الموانئ نقاط توقّف رئيسة على طرق التّجارة القديمة، بما في ذلك طريق البحر الهندي وطرق الحرير والتّجارة بين الشرق والغرب.
تأثرت (سلطنة عُمان) بوجود التجّار والبحّارة الأجانب، مما أدى إلى ازدهار اقتصادها وتطورها ثقافيّا، فقد استقرّ الكثير من التجّار والبحّارة في المناطق الساحلية، وتأسست مستوطنات وتجمعات تجاريّة مزدهرة، ومع مرور الوقت، تبادل السكان المحليون والأجانب الثقافات والمعارف، مما أثَّر على التطور الاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ للمنطقة، فتاريخ (سلطنة عُمان) يعكس قدرتها على التفاعل والانفتاح على العالم الخارجي، واستيعاب الكثير من الثقافات المختلفة؛ "كون عُمان دولة ارتادت البحر منذ آلاف السنين، وكان للعُمانيين مساهمات كثيرة في شرق أفريقيا وشرق آسيا إلى الصين، وهو ما أوجد تراكمات ثقافية وافدة من وراء البحار كان هلا تأثريها في بنى التفكير الداخلي للمجتمع العُماني" (الإسماعبلي، العدد11، شتاء 2015م، صفحة 86) ولذلك يعدُّ التّعدّد الثقافيّ جزءًا مهمًا من الهويّة العُمانيّة الحاليّة.
وقد تأثر المجتمع العُمانيّ بالثقافات المختلفة، بما في ذلك الثقافات الهنديّة والأفريقيّة، نتيجةً للتجارة القديمة، والاستقرار الطويل للتجّار والمهاجرين في سلطنة عُمان؛ "وأسهم هذا المكون الإثني واللغوي والديني، عبر خمسة قرون، في خلق توازنات سياسية وفكرية داخل المجتمع العُماني" (الإسماعبلي، العدد11، شتاء 2015م، صفحة 86)، وعلى الرغم من التأثيرات الثّقافيّة الكثيرة، فإنّ الثّقافة العُمانيّة الأصيلة تحتفظ بخصوصيّتها وتميّزها، وتتجلى هذه الثّقافة في القيم والتّقاليد والعادات المحليّة التي تميز (سلطنة عُمان) وشعبها، ولم تشهد عُمان أي صراع بين الإثنيات أو المذاهب المتعددة فقد "ظلّت عُمان تحتفظ بتعدديتها الدينية بعيدًا عن أي صراعات دينية مذهبية، ولم يسجل التاريخ العُمانيّ اعتداءً مذهبيًا ودينيًا، سواء من الدولة أو من الأفراد" (الإسماعبلي، العدد11، شتاء 2015م، صفحة 90). إلا أن الاعتداء الدينيّ كان يأتي من الخارج، مثل غزو الوهابية في عهد سلطان بن أحمد البوسعيدي أو القومي من جهة البرتغاليين والفرس (جي جي، 2015م، صفحة 65)؛ وأدى هذا التجانس بين مختلف الإثنيات والقوميات إلى بروز عُمان بوصفها وجهة اقتصاديّة يفضلها الأجانب لوضع استثماراتهم والعيش في عُمان.
تعدُّ (سلطنة عُمان) موطنًا للتّجارة البحريّة النشطّة، وخاصة على طول السواحل الهنديّة والأفريقيّة، فساحل عُمان "تميز بموقعٍ مثاليٍ على مدخل الخليج العربي يتوسط التجارة القادمة من الشرق والقادمة من الغرب، فضلًا عن تحكمه في تجارة الخليج العربي، إلى جانب وقوع خليج عُمان على حافة منطقة الرياح الموسمية ذات الأهمية القصوى في الملاحة البحرية، كل ذلك جعل من موانئ الساحل العُماني أول الموانئ التي تقابل الداخل إلى الخليج العربي أو الخارج منه" (جي جي، 2015م، صفحة 65) نتيجة لذلك، استقر الكثير من التّجار والمهاجرين من مختلف القوميات في (سلطنة عُمان)، وأسهم كلّ هؤلاء في إثراء الثّقافة المحلية بتقاليدهم ولغاتهم وممارساتهم الحياتية اليومية.
المحور الأول: القوميّات في الكتابات السردية.
تُعدُّ الرّواية من أهم الأنواع السرديّة التي تتسع لتوظيف القوميات المختلفة لعلاقتها الوطيدة بالواقع، ويمكن للناقد أن يستشف البعد القومي في الكتابات السردية من خلال مناهج مختلفة من أبرزها النقد الثقافي والاعتماد على المنهج السيميائيّ، "وتظل الرّواية أكثر من غيرها تعبيرًا عن القضايا القوميّة الكبرى لما فيها من إمكانات كثيفة مستبطنة، وخاصة أن دارس التاريخ العربي السياسي والاجتماعي يمتلك رؤية تركيبية تعي أن ثمة علاقة وثيقة تقوم بين الرّواية كدلالة مرجعية وبين فكرة القوميّة" (الجناحي، نوفمبر 1980م، صفحة 53)، ويمثل توظيف القوميّة في الرّواية تحديًا ومسؤولية كبيرة للكاتب والمتلقي على حد سواء؛ إذ إنّ القوميّة مفهوم متعدد الأبعاد والمستويات، ويمكن أن تعبر عن هويّة شعب أو جماعة أو فئة، ولكنها في الوقت ذاته قد توظّف أداةً للتحريض والتمييز، والتفرقة، والتهميش، والاستبداد؛ لذلك يجب على الكاتب أن يكون حذراً وموضوعياً ونزيهاً في تقديم رؤيته القوميّة، وأن يحترم التنوع والتعدديّة وحقوق الإنسان في مجتمعه وخارجه، كما يجب على المتلقي أن يكون متفهمًا ومتسامحًا في استقبال هذه الرؤية، وأن يفرق بين الحجج المقنعة والمغرضة، وبين الحقائق الموثقة والادعاءات المزورة، فتوظيف القوميّة في الرّواية ليس خيارًا أدبيًّا أو فنيًّا فحسب؛ بل هو اخيار سياسيّ وأخلاقيّ وإنسانيّ.
وهناك عناصر تساعد الناقد على دراسة النسق القومي في الرّواية من أهمها: (مصطفى، 1994، صفحة 8)
الشخصيات: وذلك من خلال دراسة الشخصيات التي تمثل مجموعات قوميّة مختلفة، سواءً أكانت رئيسةً أو ثانويّةً، والنظر في التجارب الفرديّة لتلك الشخصيات وتفاعلاتها مع بعضها البعض ومع أفراد المجتمع عامة.
الصراع: ويكون الصراع محركًا للأحداث، سواءً أكان خارجيّا بين قوميات مختلفة في الرواية أو داخليًّا بين أفراد القوميّة الواحدة، فدراسة هذا الصراع تكشف عن أسبابه وآثاره.
التعايش والتفاعل: وذلك من خلال رصد طرق التعايش والتفاعل بين القوميات المختلفة في الرواية، لمعرفة حدود القبول والتسامح والتعاون من ناحية، أو الرفض والتنافر والازدراء من ناحية أخرى، ومعرفة أثر ذلك على حياتهم اليوميّة.
الثّقافة والتراث: ويستطيع الناقد دراسة النسق القوميّ في الرواية من خلال دراسة التفاصيل الثّقافيّة والتراثيّة للقوميّات المختلفة، مثل اللّغة والعادات والتقاليد والممارسات الدينية.
التغيير والنمو: وذلك بتتبع التغيّرات التي تطرأ على شخصيات الرواية في علاقتها بالقوميات المختلفة على مر الزمن، فالأحداث والتجارب التي تمرّ بها الشخصيات قد تحدث تحوّلات في المواقف، وفي التفاعل والتعامل مع القوميّات الأخرى.
الاندماج والهويّة: وذلك بالبحث في الرواية عن تلك الشخصيات التي تسعى للحفاظ على هويتها القوميّة في مجتمع يتسم بالتنوع الثقافي، وفي الوقت ذاته تبحث عن نقاط تلاقٍ وروابط بين القوميات الأخرى المختلفة.
الحوار الداخليّ: ويعد عنصرا فعّالا للكشف عن الأفكار والمشاعر والتجارب الداخليّة للشخصيّات، بما في ذلك الصراعات الداخليّة التي قد تنشأ بين تعلق الشخص بقوميته والاستجابة للتحولات في المجتمع، ويُعدّ الحوار أهم عنصر يجب الالتفات إليه في الكشف عن الأبعاد الإيديولوجيّة خاصة المضمرة منها؛ لأن الخطاب يتضمن الكثير من الدوافع الثّقافيّة التي يكون محركها البعد القوميّ.
ولا شكّ في أنّ الروائيّ الحاذق يدرك خصوصيّة مكان أحداث روايته وزمانها، فلا يتصوّر أن روائيًّا يستبعد القوميّات من روايته إذا كان مكان أحداثها يمتاز بالتنوّع القوميّ؛ إذ تحتفظ ذاكرة المتلقي بذلك التنوّع، فلا تقبل برواية لا تعكس خصوصيّة المكان، وهذا ما أدركته الكاتبة بشرى خلفان في روايتها (دلشاد) فأغلب أحداث الرواية جرت في مدينتي (مسقط) و(مطرح) اللتين يمتازان بالتعدد القوميّات ولهذا كان لهذا التنوّع حضوره البارز في الرواية.
المحور الثاني ـ القوميّات في رواية دلشاد:
أدركت بشرى خلفان خصوصية مدينتي مسقط ومطرح في الحقبة التي جرت فيها أحداث روايتها (دلشاد) فاتخذت نهجًا متوازنًا وشاملاً لتمثل القوميات المختلفة التي عاشت في مكان الرواية، وحاولت عرض وجهات نظرها وتجاربها.
تحكي رواية (دلشاد) أحلك فترات عُمان قتامة، وهي فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث كان الانغلاق والتشرد، والانقسام، والفقر، والجوع، وقد عاش المجتمع العماني بقوميّاته المختلفة في ظل تلك الأوضاع، ويتجلّى تنوّع القوميّات في المدّن الساحليّة أكثر من غيرها؛ نتيجة وقوعها على خطوط التجارة سواء من أفريقيا أو آسيا. أو لظروف سياسية، مثل خدمة الجيش العُمانيّ أو الإنجليزي، إضافة إلى اقتناء العبيد من أفريقيا غالبًا.
ومثّلت القوميّة محورا أساسيًّا في رواية (دلشاد)؛ إذ برزت خمس قوميّات: أولها البلوشيّة وثانيها العربيّة، وثالثها الأفريقيّة، ورابعها الهندية، وآخرها الإنجليزيّة، واستطاعت الكاتبة إبراز التفاعل بين الشخصيّات المنتمية إلى هذه القوميات بالقبول أو الرفض أو الاستغلال، وكلّ ذلك من منطلق أيديولوجيّ قوميّ.
1ـ القوميّة البلوشيّة
نالت القومية البلوشيّة الحضور الأوفر في وراية (دلشاد)؛ فعدد شخصيّات الرواية من القوميّة البلوشيّة يفوق الشخصيّات من القوميّات الأخرى، وتبدأ أحداث الرّواية في حارة (اللوغان)[1] التي يسكنها أناس من قبيلة البلوش، ويعود أصل البلوش إلى الحدود بين باكستان وأفغانستان وقد كرّست الرواية هذا الأصل على لسان شخصية (عيسى عبد الرسول) إذ يقول: "أهالي لوغان الشداد، الذي يحكي عنا سنجور جمعة أننا تحدرنا من الجبال المحاذية لبلاد الأفغان" (خلفان، 2022، صفحة 37) ويبدو الاعتزاز بالقوميّة البلوشيّة والفخر بها واضحا جليًّا.
كانت حارة (لوغان)[2] مسرحًا للكثير من أحداث الرّواية، فحارة لوغان هي مكان نشأة شخصية (دلشاد) وهي مسرح أغلب أحداث الجزء الأول من الرواية، وعلى الرغم من أنّ (دلشاد) عربيُّ المولد فإنّه بعد وفاة أمّه عاش مع القوميّة البلوشيّة وانصهر فيهم وأتقن لغتهم وصار بلوشيًّا مثلهم لا يختلف عنهم في شيء.
وتنتقل أحداث الرواية في بداية الجزء الثاني من حارة (لوغان) إلى حارة (الشجيعية) لتكون مسرحًا لشخصية (مريم دلشاد) بعد أن انتقلت من حارة (ولجات) فقد وجدت تشابها بين حارتي (لوغان) و(الشجيعية) إذ تقول: "ذكرتني الشجيعية بلوغان قليلا، ووجدت فيها أهلها يشبهون أهل حارتي، ويتكلمون البلوشيّة مثلهم، فاستعدت لغتي التي ظننت أني فقدتها في ولجات بسرعة" (خلفان، 2022، صفحة 339) مثّلت حارة (الشجيعية) عودة سرديّة لنقطة البداية في سرد الرّواية، حيث حارة الفقر والجوع والمهمشين من القوميّة البلوشيّة، وقد كرّست الرواية حال القوميّة البلوشيّة في تلك الحقبة من خلال إبراز عذابات (مريم دلشاد) بعودتها إلى قوميتها التي تربت بها، وقد مثل المكان رمزا لعذاباتهم، فانتقال مريم من حارة (لوغان) إلى حارة (ولجات) انفتاح على تغيير الحال، كذلك انتقالها من حارة (الشجيعية) إلى حارة (الشمال). "فالأمكنة، في الأصل، مُحايدة حيادًا مُطلقًا إلا إذا قُيِّضَ لها قوة تؤسطرها، وتجعلها قادرة على ضخِّ المفاهيم الثّقافيّة" (سرحان، 2008، صفحة 72) وتصبح الأمكنة محركة للسرد إذا منحها الكاتب القوة السرديّة من خلال تأثير المكان على الشخصياّت، فحارتا (اللوغان) و(الشجيعية) هما نموذجان للمكان الذي تسكنه هويّة واحدة نتيجة تجمع أناس ينتمون إلى قومية واحدة، ولهذا مثلت هذه الأماكن قوة سيميائية لرسم الصور الدالة في ذهن المتلقي، وتحمل الحارات خصوصيّة لما تحمل من تقارب المباني أو الخيم والتحامها في حيز ضيق؛ ولذلك تجذب سكانها الذين تجمعهم القوميّة والطبقة والعادات والتقاليد، فيتولد نوع من التقارب بين سكانها، ومثلت الخيمة على مرّ الأزمنة رمزا للبداوة والبدوي، أما في زمن أحداث الرواية فترمز للمعاناة والتشرد والفقر والعوز، والشيء المشترك بين الحالتين هو التنقل والترحال سواء عن رضى أو قصرٍ.
2ـ القومية العربية
يحتل حضور القوميّة العربيّة في رواية (دلشاد) المرتبة الثانية بعد القومية البلوشيّة، وتعد شخصية (عبداللطيف لوماه) الشخصيّة الثالثة في بعد شخصيتي: (دلشاد) و(مريم) في الرواية؛ إذ تنتمي شخصيّة (عبداللطيف لوماه) إلى القوميّة العربيّة، وهو تاجر أحب (مريم)، وقد أكّدت الكاتبة عرقه العربي على لسان بنته (فريدة) إذ تقول: "أبي من البحارنّة الذين أخبرني بنفسه أنهم من عرب العراق" (خلفان، 2022، صفحة 352) وتتسم شخصية (عبداللطيف) بالتناقضات في إيديولوجيتها القوميّة؛ إذ لم يزوج أخته (فردوس) من (حميد بن عبدالله) لأنه ليس من ثوبه (خلفان، 2022، صفحة 162)، وحينما اعترضت أخته (فردوس) على زواجه من مريم دلشاد رفض اعتراضها. (خلفان، 2022، صفحة 162، 245، 251)
وقد قبلت قومية البلوش (دلشاد) الذي يحمل عرقًا عربيًّا بينها، فإنّ القوميّة العربيّة المتمثلة في (عبداللطيف) و(فردوس) رفضت فكرة الزواج من القوميّة الأخرى، فقد مثّل النسب والعرق عندهم حساسيّة اتجاه الآخر؛ وذلك من الإيديولوجيا التي بقت في الثّقافة العربيّة متمثلةً في نسق القبيّلة والعرق المتعالي على الآخرين.
ولا تخلو رواية (دلشاد) من تكريس الصورة الاستشراقيّة التي رسمها الغرب عن العربي في دراساتهم، فقد أظهرت الرواية الرجل العربيّ شهوانيًّا يجري وراء إشباع رغباته الجنسيّة فعبد اللطيف وأبوه محمد حسن لا يتوقفان عن ممارس الجنس، فقد جاء في الرواية على لسان (ما مويزي) تصف التاجر محمد حسن بقولها: "كانت تلك الأيام جوعه الكبير للنساء، فلم يبقِ منّا واحدة لم يأخذها في فراشه أو يداهمها وهي تغتسل في الحمام" (خلفان، 2022، صفحة 231)، أما (عبداللطيف) فيقول عن نفسه: "تعود جسدي على نساء الموانئ" (خلفان، 2022، صفحة 116) وفي موضع آخر يقول: "أنا رجل يحب النساء كما يحب البحر والمال، فجربتهن كلهن، الصغيرات والكبيرات، الممتلئات والنحيفات، البيضاوات والسوداوات، النصرانيات والهندوسيات والمسلمات والمجوسيات وحتى اليهوديات، تمتعت بهن في الموانئ التي أمرُّ بها" (خلفان، 2022، صفحة 151)
إنّ كثرة النساء اللاتي جربهن عبداللطيف ـ حسب تعبيره ـ دليل على سعيه الحثيث نحو التجربة الجنسية، وأحد منطلقات الفحولة ـ حسب عبدالله الغذامي ـ مركزية الذات وتعاليها المطلق، وهو ما ينتج تجاهلا أو استصغارًا أو استبدادًا على الآخر، سواء أكان الآخر مختلفا في الجنس أو الدين أو العرق أو السياسية، ويرى أن هذا النسق يعكس حالة من الخوف والضعف والانغلاق، ويمنع التطور والتنوع والحوار في الثّقافة العربيّة (الغذامي، 2005، صفحة 127ـ129) ومن الناحيّة السيميائية، وظفت الفحولة لتمثل قوة الذكور في المجتمع، وقد أدّى ذلك إلى تفضيل الذكور على الإناث وتهميشهن.
وكما أظهرت الرواية شخصيّة الرجل العربي فحلًا منساقًا لنزواته الجنسية غير المحدودة فكذلك أظهرت شخصيّة المرأة العربيّة تحمل فحولة من نوع آخر، فهي شاذة جنسيًّا ترغب في بنات جنسها فقد حضرت المثلية الجنسيّة في شخصيّة (فردوس) المنتميّة إلى القوميّة العربيّة فهي مثل أخيها العربيّ (عبداللطيف)؛ إذ استغلت خادمتها (الطاووس) ثم أرادت أن تستغلّ (مريم دلشاد) في أن تشبع رغباتها الجنسيّة إذ جاء في الرواية على لسان (مريم دلشاد) تحكي ما جرى لها مع (فردوس): "طلبت مني أن أتخفف من الملابس، وأن أنام بدشداشة من قماش الشيت الخفيف فقط، ثم انتبهت وأنا شبه نائمة على يدها تزحف على ذراعي وصرخت وهبطت من على السرير بسرعة ... في الصباح أمرت ما مويزي بأن تعيدني إلى المطبخ ثانية. ورغم أني لم أقل لأحد شيئا مما حدث، بدا وكأنهن كلهن يعرفن، فضحكت الطاووس المجلجلة كالأفعى، ومصمصت عساكر شفتيها، أما خلوف فرددت بصوتها الرفيع: ما شيء حيلة، ما شيء حيلة، تراهم قالوا قص صبع ولا تغير طبع" (خلفان، 2022، صفحة 130)
وكما كانت إيديولوجيا القومية العربيّة دافعا لاحتقار القوميّات الأخرى وازدرائها، فقد كانت سببا للوقوع ضحيّة لازدراء غيرها لها، فشخصيّة (خالد) المنتمي إلى القوميّة العربيّة وقع ضحية لأطماع شخصيّات من القوميّة الإنجليزية؛ إذ أردوه قتيلا عندما رفض تلبية طلبهم في ممارسة الجنس معهم، وما كان لهم أن يقتلوه لولا أنّهم ينظرون إلى قوميّته نظرة دونيّة، بل إنّ (خالدا) لم يسلم من تعليقات أبناء قوميّته "كلنا كنّا نحب خالد، حتى وإن قسا بعض الأنفار عليه وهم يراقبونه يغتسل في البحر، فلا يتورعون عن إطلاق أسماء النساء عليه عندما ينظرون إلى بياض جسده" (خلفان، 2022، صفحة 277). وهذه التعليقات تدل على التنمّر والاستغلال الجنسي الذي يواجه الفرد بناءً على مظهره الجسدي، ويعكس ذلك واقعًا مؤلمًا للكثير من الأفراد الذين يتعرضون للاستنتاجات النمطية والتمييز بناءً على مظاهرهم الجسدية.
3ـ القوميّة الهنديّة
وثالث القوميّات التي برزت في رواية (دلشاد) القوميّة الهنديّة، وعلى الرغم من أنّ الشخصيّات المنتميّة للقوميّة الهنديّة لم تشارك في أحداث الرّواية مباشرة ولم يكن لها صوت في الرّواية، فقد قدمت الرّواية صورة سلبية عنهم، فهم ـ حسب الرواية ـ أهل جشع واستغلال واحتقار للقوميّات الأخرى، ويمكن أن نجد هذه الصورة حاضرة في جملة من أحداث الرواية، فحارس المعبد الهندوسيّ (دراماداس) ترك (دلشاد) الصبي يبيت في زريبة المعبد مقابل العناية بالأبقار، يقول دلشاد: "تعهدتُ لدارماداس حارس المعبد البانيان بأني سأحرس البقر في زريبة المعبد وسأهتم بها بالتخلص من روثها مقابل المبيت بينها" (خلفان، 2022، صفحة 24) وأمّا الهندي الذي استقبل الشيخ فقد تكبر على (دلشاد) ولم يصافحه كما يقول: "لم يلتفتْ لي ولا ليدي الممدودة نحوه، فاضطررت إلى استعادتها" (خلفان، 2022، صفحة 143)
وأظهرت الرواية القوميّة الهندية في أبشع درجات قسوة القلب وسيطرة الطمع والجشع عليهم وهذا يظهر في شخصيّة التاجر (ترجمانداس) الذي أخذ بيت (عبداللطيف لوماه) مقابل ديونه مباشرة بعد أنْ أكملت أرملته عدتها (خلفان، 2022، صفحة 316)، فالتجّار البانيان بعد أن مات (عبداللطيف لوماه) "صاروا يفتحون دفاترهم ويلتهمون العقار والدكاكين والبضاعة ولا يشبعون" (خلفان، 2022، صفحة 323)، وقال عنهم حميد بن عبدالله: "وسيبقى ولاءهم للبيسة والربية لا للبلاد والعباد" (خلفان، 2022، صفحة 196) ولا شك في أن الإيديولوجيا القوميّة التي صدر عنها الهنود في تعاملهم مع العرب، لا تعني بأي حال من الأحوال أن العرب ضحايا تلك الإيديولوجيا، فتعامل العرب مع الهنود يندرج كذلك ضمن الإيديولوجيا القوميّة.
وتسرد الرّواية الصراع الذي نشب بين أفراد القومية الهنديّة؛ بسبب الحرب الأهلية التي نشبت بينهم عقب الاستقلال (خلفان، 2022، صفحة 420)، فقد نشب الصراع بين المسلمين والهندوس لتحديد ديانة القوميّة الهنديّة ولمن تكون الغلبة، وسرد دلشاد وقائع (خلفان، 2022، صفحة 421) تبين وحشية التعصب الدينيّ مع أنّه بين أبناء القومية الواحدة، كاغتصاب الشبان الثلاثة لفتاة بعد أن قتلوها، وصدور هذا الفعل من الشباب يدل على أنّ الشباب هم وقود التعصّب قوميًّا كان أم دينيًّا ويبدو جليًّا أنّ "فئة الشباب بين العشرين والخمسة والعشرين هم أكثر الفئات التي تشارك في الأعمال القتالية ويرجع السبب لطاقة الشباب ولسهولة انقيادهم للقائد" (صالح، 2013م، صفحة 65) ولا شكّ في أنّ أفعال التعصب حين تقع على المرأة تكون أكثر تأثيرًا فهي الحلقة الأضعف في هذا النوع من الصراعات.
ويبدو أن توظيف حادثة الاغتصاب في الرّواية وسيلة لاكتشاف الجوانب المعقدة والمظلمة للنفس البشرية وتأثيرات الأحداث الصادمة على الأفراد، ويُعدُّ الاغتصاب فعلًا عنيفًا وظالمًا يؤثر بشكل كبير على الضحية ويُخلف آثارًا نفسية وجسدية خطيرة، ولهذا يصبح الاغتصاب رمزًا للعنف والظلم في المجتمع أو نظام القيم. (حراثي، 2001، صفحة 27) وتوظف الرواية موضوع الاغتصاب وسيلة للدعوة إلى التغيير الاجتماعي والتوعيّة بالمشاكل الجنسيّة والعنف الجنسي والتحرش. وإثارة موضوع الاغتصاب وغيره من المواضيع الشائكة يُعدّ نقدًا للثقافة السائدة التي قد تعطي غطاء للعنف الجنسي أو تسوّغ حصوله.
4ـ القومية الإفريقية
إنّ المطّلع على رواية (دلشاد) يدرك دون كبير عناء أنّ الشخصيّات المنتميّة إلى القوميّة الأفريقية كان لها النصيب الأكبر من الضيم والازدراء في أحداث الرّواية؛ إذ صورتها الرّواية طائعة لسيدها الذي اشتراها، راضية بالواقع الذي تعيشه دون أنْ تبدي أي مقاومة تذكر، فالصوت الأفريقيّ الوحيد الذي أبدى شيئًا من مقاومة السادة في الرّواية هو صوت الشخصيّة الأفريقيّة (ما مويزي) حين اعترضت على الزواج من (جوهر) وهذا ما يؤكده قولها: "كل ما قدرت عليه هو ألا أتزوج ولا أنجب، موفرة على نفسي آلام أمي وجدتي من قبل" (خلفان، 2022، صفحة 258)، وعندما فرّت (شمسة) من قفص العبودية لم تخرج معها ما مويزي راضيةً بمصيرها في بيت سيدها. (خلفان، 2022، صفحة 233)
أما بقية أفراد هذه القوميّة في الرواية فكانت متاعًا بيد العربيّ (عبداللطيف) وأخته (فردوس) وهذا ما يؤكده خطاب (فرودس) لأخيها (عبداللطيف) إذ تقول: "كثيرات الخادمات في البيت، لك من (ما مويزي) إلى خلوف، ولكن خادمتي أنا لا" (خلفان، 2022، صفحة 114)؛ فحتى الأفريقيّة التي يسمونها بلفظة الأم (ما مويزي) لم تسلم من رغبات العربيّ الجنسيّة، فقد عرضتها (فردوس) لمتاع أخيها (عبداللطيف)، مع أنها ربته طفلا كما تقول: "منحني (عبداللطيف) "ماه" الذي نطقه وهو يحاول تلمس وجهي...فصرت ما مويزي، ثم جاءت (فردوس) فقلدت أخاها" (خلفان، 2022، صفحة 258) هكذا كرّست الرواية البعد الإيديولوجي، فالقوميّة العربية تقهر القومية الأفريقيّة، وتحتقر الأسود وتستغله استغلالا لا يقتصر على الخدمة بل يتعداه إلى الجنس، بينما يظهر الرجل العربي (عبداللطيف) غارقا في رغباته الجنسيّة وتظهر المرأة العربية (فردوس) قاسية عنيفة على المرأة الأفريقيّة.
وصورة الأفريقيّ في رواية دلشاد لم تختلف عن صورته في الثّقافة العربيّة التي تحمل الكثير من الأنساق الثّقافيّة اتجاه السود، حاضرًا وماضيًا فالتراث العربيّ كرّس فكرة "أنّ هؤلاء السود لا دين لهم، ولا شريعة ... العري هو الظاهرة المهيمنة على أكثر أجناس السودان والزنوج" (نادر، 2004م، صفحة 45) وارتبطت القوميّة الأفريقيّة باللون الأسود وهو لونٌ "مكروهٌ كراهيّة عرضيّة لا لذاته مرة لكونه لباس فرعون، وتارة لكونه لباس أهل النار، وأخرى لكونه لباس أعداء الله ورسوله" (نادر، 2004م، صفحة 154)
وبما أنّ القوميّة الأفريقيّة مستضعفة في التصوّر الجمعيّ فإنّ صورتها في رواية دلشاد لم تخرج عن نطاق ذلك التصوّر، فالسادة يشترون الأفارقة ويبيعونهم ويمتلكون حق تغيير أسمائهم، فكل الشخصيّات الأفريقيّة في الرواية لم تحتفظ بأسمائها لأنّ السادة غيّروا تلك الأسماء السواحليّة إلى أسماء عربيّة مثل: غبشوه، وسخي، وفرشوه، والطاووس، والمتمعّن في أغلب تلك الأسماء لا يجد كبير عناء في إدراك دلالتها العنصريّة، وما تحمله من نظرة دونيّة للقومية الأفريقيّة.
5ـ القوميّة الإنجليزية
تعدّ القوميّة الإنجليزية أقل القوميّات حضورا في رواية (دلشاد) إلّا أنّ حضورها جاء مختلفا، فهي القوميّة القوية المستبدة، التي تسيطر على الوطن وصاحبة الكلمة العليا التي تفوق كلمة سلطان البلاد، فأهل البلد لا يعدونها صديقة على خلاف الخطاب الرسمي للبلد وهذا ما تؤكّده الرواية على لسان (عبداللطيف) إذ يقول: "متى كانت بريطانيا صديقة؟ ومنذ متى صدّق السّلاطين ذلك؟ أوليست شركة الهند الشرقية والسيطرة على التجارة والموانئ، وما تفرضه المصالح في هذه البحار؟" (خلفان، 2022، صفحة 204) ويضيف (عبد اللطيف) في وصف علاقة السلطان تيمور بالإنجليز بأنه "عافت نفسه الحكم لكثرة تدخلاتهم في شؤون الحكم البلاد، وتلاعبهم بسّلطانه" (خلفان، 2022، صفحة 205)
وفي مشهد يوم تنصيب السلطان يجلس السّلطان لتولي العرش ويجلس بجانبه الكولونيل البريطاني وبجانبه العلم البريطاني (خلفان، 2022، صفحة 203) وهذه المشهد السيميائي يعبر بوضوح عن سيطرة البريطانيين على عُمان، فالسلطان يمثل الحكم المحلي أو الحكم السيادي في البلد، ويُمثل الكولونيل البريطاني الاحتلال الاستعماري والتدخل الأجنبي، أما وجود العلم البريطانيّ بجانبه فيثبت سيطرة الاستعمار البريطانيّ على البلد، ويمكن تفسير الجلوس بجانب بعضهما البعض بأنه يرمز إلى التبعيّة فالسّلطان يمثل الطبقة الحاكمة المحلية التي وقعت تحت تأثير الاحتلال البريطاني وسيطرته.
وتتمثل التبعيّة في وجود الكولونيل البريطاني بجوار السلطان يوم التنصيب، ووجود العلم البريطاني بجانب السّلطان يدل على التأثير الثقافي والاقتصادي للبريطانيين على الحكم المحلي؛ نتيجة اتفاقيات اقتصادية وسياسية بين الطرفين، إلّا أنّه يظهر العلاقة السلطوية أكثر من علاقة الشراكة.
المحور الثالث ـ التحول من قومية إلى قومية أخرى
قد تؤدي التغيرات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة العنيفة إلى فقدان الهوية القوميّة قصرا، ويُعدُّ الفقدان القصري للهوية القوميّة ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد، وقد تناولها الأدب بطرائق مختلفة، منها:
الشخصيات الرمزيّة: يمكن أن تتجسد فقدان الهوية القوميّة في شخصيات رمزية تعيش تحت تأثير التغيرات والتحولات الاجتماعية والثّقافيّة، فقد يتناول الروائي هذه الشخصيات للوقوف على التناقضات الداخلية التي تعاني منها نتيجة الاضطرابات في هويتها.
تغير المكان والزمان: قد يوظف الكاتب العودة السرديّة والتغييرات في الإعدادات الزمانيّة والمكانيّة للإشارة إلى تأثير الظروف التاريخيّة والاجتماعيّة على الهويّة القوميّة، فالمكانة القديمة للشعب قد تتغير أو تطمس تحت تأثير قوى خارجية.
التناقضات الثّقافيّة: قد تظهر التناقضات الثّقافيّة والاجتماعية كنتيجة للتغيرات التاريخيّة وتأثير العولمة والتواصل الثقافي، وتُظهِر أنماطًا جديدة من الهوية أو انصهارًا بين عناصر ثقافية مختلفة. (معالي، 2020، صفحة 100ـ 110)
مثّل فقدان الهوية القوميّة قصراً تحديات في العالم المعاصر فله تأثيراته على الهويّة الفرديّة والجماعيّة، ويمكن للأدب أن يقف على هذه القضية للتأمل في التغيرات الثّقافيّة والهويات المتغيّرة في زمن متسارع وعالم متصل؛ فقد ترض الرّواية بعض النماذج لمن فقدوا هويتهم القوميّة ولم يعدوا يمارسون عاداتهم وتقاليدهم التي كبروا عليها في طفولتهم سواء أكان ذلك بسبب العبودية أو الخوف.
وفي هذه الرواية نماذج لفقدان الهُوية كليًّا أو جزئيًّا، فبطل الرواية (دلشاد) فقد هويته القوميّة وتحول من العربيّة إلى البلوشيّة؛ وذلك التحول ما كان له أن يحدث لولا المعاناة التي كان يعاني منها مع قوميّته الأصليّة (العربيّة) بسبب نسبه، وهذه المعاناة قد اختفت عندما تحول إلى القوميّة الأخرى (البلوشيّة)، وغيّر اسمه من (فرحان) العربيّ إلى (دلشاد) البلوشيّ، ولنا أن نتساءل عن سر قبول القوميّة البلوشيّة بشخصيّة (فرحان) العربي ليعيش بينهم أبسبب انفتاح هذه القوميّة على القوميّات الأخرى أم بسبب جوانب الالتقاء بين (فرحان) وبين قوميّة البلوش؟ ويبدو أنّ الغربة جمعت بين الطرفين: (فرحان) العربيّ و(أسرة حليمة) البلوشيّة، غربة النسب، وغربة الوطن.
وبتتبع القوميّة في رواية (دلشاد) يظهر تحولان قوميّان اثنان: أولهما تحوّل دلشاد من قوميته العربيّة إلى البلوشيّة عندما كان صغيرًا، فتعلم البلوشيّة " لقد وجدت كل الكلمات التي تعلمني إياها نورية جميلة، وكل كلمات الشتيمة التي يعلمني إياها عيسى وحسين -عندما يكونان غاضبين- مفيدة جدًا" (خلفان، 2022، صفحة 10، 11) وعاش حياتهم في الخيام، ويقول (دلشاد) " سأنتقل للعيش مع ما حليمة، سأتزوج نورية وسأصبح بلوشيًّا مثلهم" (خلفان، 2022، صفحة 10)؛ وهذا الانتقال ليس انتقالا مكانيًّا فحسب بل هو انتقال على مستوى الهُويّة إذ يعدُّ (دلشاد) انتقاله تحولا من قوميته التي ولد فيها وهي العربيّة إلى قوميّة ثانية وهي القوميّة البلوشيّة، أما اسمه العربيّ (فرحان) الذي أسمته به أمّه "حلفت أمي إني خرجت من رحمها وأنا أضحك، وأنها أسمتني فرحان" (خلفان، 2022، صفحة 9) فقد تغيّر إلى اسم بلوشيّ (دلشاد) ويعني الضاحك فأمه الثانيّة اسمته به: "إن لهذا الولد قلبًا فرخًا، فأسمته (دلشاد)" (خلفان، 2022، صفحة 15) لم يعترض (فرحان) العربي على تغيير اسمه إلى (دلشاد) البلوشيّ وتقبل الأمر "صار عيسى وحسن ونورية ينادونه به أيضا، ثم تعلّمه الصغار في الحارة فأشاعوه، وصارت كل الحارة تناديه به" (خلفان، 2022، صفحة 15)
أما التحول القومي الثاني في الرواية فيتمثّل في (مريم) ابنة (دلشاد) التي تحولت من القوميّة البلوشيّة إلى القوميّة العربيّة، حيث انتقلت من عيش الخيام في حارة (اللوغان) إلى بيت (لوماه) نتيجة الظروف القاهرة التي أصابت والدها، وتعلّمت العربيّة، وكادت أن تفقد لغتها البلوشيّة التي تربت عليها. وبعد موت زوجها (عبداللطيف) رجعت إلى القومية البلوشية في حارة (الشجيعية).
كان التحوّل في الحالتين ناتجًا عن الظروف فقد هرب (دلشاد) من أبناء جلدته لأنهم يعايرونه بابن الزنى؛ فقد وُلد عبر علاقة محرمة، وأما (مريم) فقد لجأ أبوها (دلشاد) إلى بيت (لوماه) حتى لا تقع ابنته فريسة المجتمع "خفت عليها من الدرب ومن المارة أكثر" (خلفان، 2022، صفحة 67) وإذا كان (دلشاد) قد سعى بنفسه للتحوّل من القوميّة العربيّة إلى القوميّة البلوشيّة فإنّ تحوّل (مريم) من البلوشيّة إلى العربيّة كان برغبة أبيها (دلشاد)، وهنا تتجلّى الذكوريّة المطلقة والتحكّم في مصير المرأة.
وهناك أسباب لتغيير أسماء الشخصيّات في الروايات (الخطيب، العدد الخامس والعشرون 2011، صفحة 145، 146) منها التطور والنمو: فقد يكون تغيير اسم الشخصيّة نوعًا من التعبير عن نموها أو تطورها. وقد يكون هذا في سياق روحي أو نفسي أو اجتماعي، وهذا ما نجده في شخصيّة (دلشاد) إذ تطورت الشخصيّة فبعد أن كان منبوذا عند قوميته (العربيّة) أصبح مقبولًا عند أبناء القوميّة البلوشيّة، وما كان له أن يحقق ذلك القبول لولا تغيير اسمه العربيّ (فرحان) إلى الاسم البلوشيّ (دلشاد).
ومن أسباب تغيير أسماء الشخصيّات اكتساب هويّة جديّدة: فقد يكون تغيير اسم الشخصيّة ضرورة عندما تحمل هويّة جديّدة بسبب الهروب، أو تغيير المكانة الاجتماعيّة، وهذا ينطبق على كلِّ من شخصيتي (فرحان) و(مويزي)، فالشخصية الأولى صارت تحمل اسم (دلشاد) بسبب تغيير الهوية من العربية إلى البلوشيّة، أما الشخصية الثانية فصارت تحمل اسم (غبشوه) فقد جاء في الرواية على لسانها قولها: "سألتني سيدتي فريدة عن اسمي قلت لها: مويزي. فأنا لم أحب غبشوه يومًا، ولم أفهم لِمَ ينادوني بذلك الاسم الذي لم تختره أمي لي" (خلفان، 2022، صفحة 257) فتغيير اسمها كان بسبب تغيّر المكانة الاجتماعية، من فتاة حرة في بلدها الأفريقيّة إلى خادمة مملوكة في عُمان.
المحور الرابع ـ العلاقة بين القوميّات في الرواية
تتخذ العلاقة بين قوميّة وأخرى أشكالا متنوعة ما بين الانسجام والتعايش إلى التنافر والتحارب وصولًا إلى الاستغلال والاستعباد، وتكون السيطرة عن طريق المال أو القوة، ومن ذلك تنتج العبودية، وسلطنة عُمان مثلها مثل غيرها من الدول العربيّة وغير العربيّة، فظاهرة العبودية متجذرة في ثقافتها، وتجدر الإشارة إلى أن الرق ألغي تماما في عُمان عام 1970 بعد حكم السّلطان قابوس. (البدواوي، زيارة الموقع 25/ 7/ 2023م)
وتتحدث الرّواية عن الرق بوصفه عادة اجتماعيّة تمارسها الطبقات الغنية من قوميّة ما على الطبقات الفقيرة من قوميّة مختلفة، وتبدو القوميّة الأفريقية مستضعفة في رواية (دلشاد) مسلوبة الحقوق، بل صارت متاعا يباع ويشترى، وغالبا ما يؤخذ الأفارقة صغارا من قراهم ويباعون لتجّار الرقيق، وهذا ما صرّحت به الكاتبة على لسان شخصية (ماموزي) وهي تسرد ماضيها: "لا أعرف كم كان عمري عندما تم بيعي لحبابي أحمد في مسقط" (خلفان، 2022، صفحة 255) وتقول في مقطع آخر "لم أكن أعرف أني مملوكة لأحد، وأني أُباع وأُشترى مثل الأشياء الأخرى التي كنت أذهب إلى السوق من أجلها" (خلفان، 2022، صفحة 257)
لم تنقل الكاتبة ـ مع إجادتها لتوظيف تعدد الأصوات ـ رأي القوميّة الأفريقيّة اتجاه القوميّات التي استضعفتها، فلم تبدِ الشخصيّات الأفريقيّة ردات فعلٍ ضدَّ الشخصيات التي استعبدتها، فمقاومة فعل الاستعباد بدا ضعيفا ولم يتجاوز ـ غالبًا ـ الرفض الداخليّ، فشخصية (مامويزي) لم تتقبل تغيير اسمها إلى (فرشوه)، إلّا أنّ رفضها للاسم الجديد ظلّ رفضًا داخليًّا، وكانت الحالة الوحيدة للمقاومة الفاعلة نسبيًّا هي من جانب (شمسة) التي دخلت بيت (لوماه) بعد أن وجدها خادم لوماه (جوهر) وعاشت بينهم حتى واقعها سيد البيت وحملت منه، وأرادت (فريدة) أم عبداللطيف أن تزوجها بالخادم (سخي) ولكنها هربت إلى القنصلية البريطانية (خلفان، 2022، صفحة 233) ويبدو أن الهروب كان من الزواج لا من العبوديّة. أما التعبير عن الرأي في العبوديّة فقد اقتصر على شخصية (ماموزي) فقط دون غيرها من الشخصيّات.
وتظهر الرواية علاقة انبهار رجال القوميّة العربيّة من نساء القوميّة الإنجليزيّة، ويتجلّى ذلك في الرواية حين مشى (حميد بن عبدالله) خلف السائحة الغربية إذ يصف ذلك قائلا: "مشيت وراءهما، أو في الحقيقة وراءها، وراء المظلة، فالرجل ما عاد منظورًا عندي...لا أعرف كم بقيت في مكاني لا أرى إلا ابتسامتها وهي تغيب" (خلفان، 2022، صفحة 248) فهي لحظة انبهار الشرق بالغرب، والمشي خلفه من دون وعي؛ فكل ما في هذه السائحة يدعو إلى الانبهار مثل: ابتسامتها ومظلتها البيضاء، ووجهها الأبيض والجسد النحيل وأنفها الصغير المدبب وعيناها الزرقاوان كالبحر والثوب القطني الأبيض والحقيبة البيضاء. (خلفان، 2022، صفحة 248)
ونلاحظ أن الانبهار كان من اللون الأبيض الذي يقل في أجواء مسقط الحارة وشظف العيش والجوع وقلة النظافة، وكأنما هناك مقارنة بين الغربي النظيف الذي جاء للفرجة والاستمتاع في مسقط، والعمانيّ الشرقيّ الساكن في حارات مسقط وقد أنهكه الجوع والمرض فقد "مات كثيرون في حارات مسقط، داخل السور وخارجه" (خلفان، 2022، صفحة 28) لقد انبهر (حميد بن عبدالله) بالغرب في كلّ شيء فصار يتمثّل سلوكهم فقد شوهد "يرتدي البنطلون والقميص وسترة من الكتّان كما يفعل الإنجليز، وأنه كان يحمل كاميرا مثلهم، ويلتقط صورا كما يفعلون في رحلاتهم" (خلفان، 2022، صفحة 241)
وفي مقابل ذلك الانبهار من (حميد بن عبدالله) فإنّ القوميّة العربيّة تحمل الكره والعداء للقوميّة الإنجليزيّة بسبب الاحتلال والسيطرة والتحكم في مقدّرات الأوطان، وهذا ما نتبيّنه من حوار شخصيّات الرواية (عبد اللطيف و حميد بن عبدالله وجمعة رمضان وخلف بن صالح و...) في مسجد (علي موسى): " الإنجليز ما يهمهم من يحكم البلاد.. يهمهم من يخدمهم ولا يكسر لهم كلمة" (خلفان، 2022، صفحة 184) وعدم الثقة في الإنجليز عقيدة راسخة عند العمانيين وهذا ما يؤكده الاستفهام الإنكاري على لسان شخصية عبداللطيف يوم تنصيب السلطان إذ يقول: "فمن متى كانت بريطانيا صديقة؟" (خلفان، 2022، صفحة 2004) ويدرك أبناء القوميّة العربيّة طمع الإنجليز في نفط عمان منذ ومن والد السلطان وهذا ما يدل عليه حوار الشخصيّات: "نسيتو النفط؟ من زمن أبوه وهم يدوروه وكل مرة يطرشوا حد يسبره في الصحراء" (خلفان، 2022، صفحة 184) ويستمر الحوار ليصل إلى التساؤل عن الإنجليز أهم أصدقاء أم سادة ليكون الجواب: "الأكثر أنهم سادة ولو ما حد يريد يقر بهذا الشي" (خلفان، 2022، صفحة 185)
وتتجلّى كراهية العربيّ للإنجليز في قصة خالد الذي قتله الإنجليز عند امتناعه عن تلبية نزواتهم الجنسية "أخبرت صالح بن أحمد عن خالد، أخبرته أنه لم يقتل نفسه كما أبرق لهم الإنجليز، أخبرته بالرصاصة التي جاءته من الخلف" (خلفان، 2022، صفحة 277). والرصاصة التي جاءت من الخلف لها دلالتان: الغدر أو محاولة الهروب، ولم يكن خالد يريد الهرب؛ إلّا أنّ الإنجليزي أطلق عليه الرصاصة من الخلف؛ ولهذا اشتعل الغضب في صدر خلف بن سويلم على الإنجليز.
المحور الخامس ـ القوميّة وصراع الهُويّة
تمثّل الطقوس الدينيّة والعادات الاجتماعيّة والأزياء الوطنيّة علاماتٍ سيميائيةً تحيل على هوية الفرد أو المجموعة، وتحمل معاني ثقافيّة وتاريخيّة ودينيّة، وعندما تحتفظ أقليّة قوميّةٌ بمظاهر تخصّها دون غيرها على الرغم من أنها تعيش بين قوميّة أخرى تمثّل الأكثرية؛ فهذا يدل على صراعها للمحافظة على هُويّتها الخاصة من الذوبان في أمواج هويّة الأكثريّة القوميّة؛ إذ تقاوم التأثيرات الخارجية التي قد تهدد المظاهر الدالة على هُويّتها.
تحمل المظاهر الدالة على الهُويّة القوميّة علامات سيميائية دالة على معانٍ متنوّعة حسب الموقف الذي تظهر فيه وحسب المتلقي الذي توجّه إليه، فارتداء الأقليّة القوميّة لزيّها التقليدي يحمل علامات مختلفة حسب الموقف، فقد يدل على الفخر بالأصول في المواقف الاحتفاليّة، وعلى التحدي للاحتلال في المواقف السياسيّة، وعلى الترويج للسياحة في المواقف الاقتصاديّة، أمّا المتلقي فقد يفسر ذلك بطرق مختلفة، فقد يراها علامة على التمسك بالأصالة، أو على التحدي والصمود، أو على التخلف والرجعيّة.
عاشت في مسقط قوميات متنوّعة أبرزها القوميّة العربيّة وهم الغالبيّة من السكان، وهناك الأقليّات المتمثّلة في القوميّة البلوشيّة والفارسية والبانيان، ومن الطبيعي أن تبرز مظاهر هُويّة القومية العربية فهم الغالبيّة وإلى عرقهم تنتمي السلطة السياسيّة؛ إلا أنّ الأقليّات القوميّة أظهرت هويّتها من خلال ممارسة الطقوس الدينيّة والاجتماعيّة، فظل البلوشي متمسكًا بلغته بعاداته وتقاليده وحافظ على الأغاني والأشعار والحكايات التي تربطه بقوميّته (خلفان، 2022، صفحة 71) وكذلك البانيان ظلّوا متمسكين بلغتهم وبنوا معبدًا لهم في مسقط، أما الإنجليزي فقد مارس شذوذه الجنسي وسطوته وحبه للتحكم، واحتفظ بملابسه.
وتشكّل القوميّة العربية الأغلبية في مدينتي (مسقط ومطرح) وغيرها من المدن العمانيّة؛ فالمنتمي إلى هذه القوميّة يعتز بملابسه الدالة على عروبته من ناحية وعمانيّته من ناحية أخرى، فالتاجر الصوري يرتدي " الملابس النظيفة، التي يلبسها هو وابنه والخنجر الصورية الجميلة التي يتمنطق بها، والسباعية التي يضعها على كتفه" (خلفان، 2022، صفحة 119) فالملابس نسق دال على الانتماء القومي.
ويبدو النسق القوميّ في رواية (دلشاد) من خلال ملابس شخصية (عبداللطيف لوماه): "أخرجتْ لي مريم ثياب الوجاهة، فلبست العباءة ولففت على رأسي عمامة من الكشمير، وتمنطقت بخنجري وتعطرت بالعود والمسك، وخرجت بعصاي" (خلفان، 2022، صفحة 202) فهذه الملابس تحيل على القوميّة العربية في عمان وتكرّس التباين بين القوميّات.
أما (الماستر علي) فهو من اللواتيا ولم يكن لبسه مثل (عبداللطيف) و(التاجر الصوري) "فكان يرتدي دشداشة بيضاء عليها صديري أسود، تتدلى من طرفه سلسلة ساعة ... ويعتمر كمة بيضاء صغيرة، ويضع عوينات دائرية على عينيه مشبوكة بسلك من المعدن" (خلفان، 2022، صفحة 373) فـ الصديري الأسود لا يدخل في زيّ عرب عمان.
تكشف الرواية عن تمسّك الهنود بزيّهم في مسقط، فعندما سافر (دلشاد) إلى الهند أكد على أنّ لباس الرجل الهنديّ هناك لا يختلف عن لباس البانيان في مسقط إذ يقول: "ظهر رجل هندي فارع الطول أمامنا، يرتدي قميصا طويلا وسروالا، يضع نقطة حمراء على جبينه، ويلبس زورقا صغيرًا من القماش على رأسه كما يفعل البانيان في مسقط" (خلفان، 2022، صفحة 143) وما تمسّك بانيان مسقط بزيّهم إلا دليل على الصراع للحفاظ على هُويّة القوميّة الهنديّة بين الأغلبيّة العربيّة.
وكما أنّ البانيان أقليّة بين القوميّة العربيّة في مسقط فإنّ العربيّ يصبح أقليّة في الهند وحفاظه على زيّه هناك يدل على تمسّكه بهويّته ولولا ذلك لما أمكن تمييزه عن غيره، ففي الهند تعرف (دلشاد) على هوية التاجر العربيّ (بن سري) من ملابسه "رأيت رجلًا يلبس دشداشة وعلى رأسه يضع غترة وعقالًا مقصبًا وفي يده عصا غلظة، عرفت أنه ليس عمانيًا" (خلفان، 2022، صفحة 290) فاللّباس يكون لغة غير ملفوظة تعبر عن الانتماء القوميّ والإقليميّ لمن يرتديه؛ إذ يعد الزي "العلامة الأولى التي يميز بها الناس الشخص الغريب الوافد على بلدتهم، ويبدو أن الناس يتحدث بعضهم إلى البعض الآخر عن طريق الزِّي واللّباس، ويقدم كل منهم نفسه بلغة زيه" (عادل، 2001م)
ويتجلى صراع الهُويّة في حنين (مريم) إلى زيها البلوشيّ قبل أن تجبرها الظروف على تغييره عندما صارت خادمة في بيت (عبداللطيف لوماه) تقول حين دخلت سوق مطرح: "فرحت برؤية الثياب الملونة التي كنت أرتدي مثلها حتى دخلت بيت لوماه، حيث ألقت عليَّ فردوس لباس الجواري، ثم جاءني عبد اللطيف بالحرير الهندي فلففت فيه، ونسيت شغل البالوار[3] ونقش السبك ستشن والكيناراه التي تزين الأكمام والحواشي وتبهج القلب ... صادقت امرأة أو امرأتين، ولم تكن أي منهن تلبس البويبوي[4] وتلتف فيه مثلي، ولهذا ربما استغربني الناس فتابعتني العيون ورصدت حركتي، وقد لي غطيت وجهي بالخمار الرقيق." (خلفان، 2022، صفحة 339) هذا الحنين ليس حنينًا إلى الأزياء فحسب بل هو حنين إلى الهُويّة البلوشيّة.
ويتجلّى التمسكّ بالهويّة القوميّة في الرواية من خلال لون ثوب الحداد فقد كانت (مريم) ترتدي الثوب الأبيض رمزًا للحداد على غير ما هو مألوف عند العرب في عمان تقول: "بعد مدة طلبت النساء مني أن أخلع ثياب الحداد البيضاء وعرضن أنْ يخطنَ لي مثل ما يرتدين وأن ينقشن لي القمصان البلوشيّة" (خلفان، 2022، صفحة 344) وتؤكد مريم حزنها على زوجها في تلك الفترة فتقول: "ما زلت حزينة على زوجي وقلبي ما زال مفطورًا عليه، ولا أستطيع ارتداء الألوان الزاهية" (خلفان، 2022، صفحة 344) فالتمسك ببياض ثوب الحداد من أقليّة قوميّة تعيش وسط أكثريّة قوميّة تعتمد السواد رمزًا للحداد هو حفاظ على الهُويّة.
ولا يمكن تفسير رمزية الألوان خارج السياق الثقافي؛ إذ "يشكل لبس الأسود علامة الحداد في بعض البلدان وفي أقاليم أخرى يلبس أهلها ملابس بيضاء في العزاء، فالأسود والأبيض علامتا حداد في ثقافات متباينة تكتسبان دلالتيهما من السياق الثقافي" (غزول، 1986م، صفحة 10) فالألوان ليست خيارات شخصية وحسب بل هي جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعيّ والثقافيّ الذي يعيش فيه الفرد.
الخاتمة:
كشفت الدراسة عن حضور بارزٍ للأنساق الثقافيّة المتنوّعة في رواية (دلشاد)؛ إلّا أنّ عنايتنا كانت بالنسق الإيديولوجي القوميّ، من خلال خمس قوميّات كان لها حضورها المتفاوت في الرواية وهي: (البلوشيّة، والعربيّة، والأفريقيّة، والهندية، والإنجليزيّة)، وكشفت الدراسة عن العلاقات المتباينة بين هذه القوميّات: كعلاقة التصالح مع الآخر والقبول به، علاقة الرفض والاضطهاد، وعلاقة التسليم والرضا بالواقع، وعلاقة الصراع للحفاظ على الهُويّة، وقد توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج نجملها في الآتي:
- برزت في رواية دلشاد أنساق ثّقافيّة متنوّعة نتيجة تلاقي القوميات والثّقافات المختلفة، في مكان وقوع أحداث الرواية (مسقط ومطرح).
- بدت الإيديولوجية القومية في رواية (دلشاد) في أنساق معلنة تارة وأنساق مضمرة تارة أخرى، فقد تظهر صريحة جلية تعلن عن انتمائها، وقد تتخفّى خلف ممارسات مجتمعيّة تتطلّب التأويل لتحيل عليها.
- أثبتت الدراسة أن الأنساق الاجتماعيّة في رواية (دلشاد) ليست خلفية للأحداث فحسب، بل هي قوى فاعلة تشكل حياة الشّخصيّات وتوجه السرد.
ـ قدمت رواية (دلشاد) نقدًا حادًا للمجتمع العمانيّ من خلال تصوير التفاوت الطبقيّ والتحيزات الجندريّة والعرقيّة والتقّاليد الاجتماعيّة، وإبراز العلاقة بين القوميّات المختلفة.
ـ أسست الإيديولوجيّة القوميّة لظهور الطبقيّة في المجتمع؛ إذ إنّ التقسيم الطبقي إلى ثنائيّات: السادة، والعبيد، الأغنياء والفقراء، الشيخ والأجير ينطلق غالبا من الأصل القومي.
- عبّرت بعض الشخصيّات في الرواية عن هويّتها من خلال التمسك بملابس القوميّة التي تنتمي إليها، فتجاوزت الملابس كونها غطاءً للجسد لتصبح وسيلة للتعبير عن الهُويّة القوميّة.
ـ دفعت الإيديولوجيّة القومية إلى أفعال عنصريّة نحو القوميّات الأخرى، كالاستعباد والممارسات الجنسيّة المحرمة، ورفض التزاوج.
قائمة المصادر والمراجع:
1)أحمد الإسماعبلي. (العدد11، شتاء 2015م). التعددية الإثنية واللغوية والدينية في عُمان وعلاقتها بالاستقرار السياسي. مجلة عمران عُمان
2) بشرى خلفان. (2022). دلشاد (سيرة الجوع والشبع) (المجلد السابعة). الكويت: منشورات تكوين.
3) حبيب الجناحي. (نوفمبر 1980م). دور عُمان في نشاط التجارة العالمية. حصاد ندوة الدراسات العُمانية المجلد الثالث
4) حنين إبراهيم معالي. (2020). الرِّواية بين الأيدلوجيا والفن (المجلد 1). الأردن، عمان: الآن ناشرون وموزعون.
5) خلفان البدواوي. (زيارة الموقع 25/ 7/ 2023م). العرق والعبودية في عُمان. ، https://al-hamish.net/13681/.
6) عبدالغني مصطفى. (1994). الاتجاه القومي في الرواية. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون وتلآداب.
7) عبدالله الغذامي. (2005). النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، (المجلد 3). الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي.
8) علي عبدالرحيم صالح. (2013م). الإرهاب من وجه نظر علم الاجتماع وعلم النفس. عُمان، الأردن: دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، .
9) عماد علي الخطيب. (أيلول, العدد الخامس والعشرون 2011). دلالة أسماء الشخصيات في الرواية الأردنيّة"دراسة سيميائية في نماذج مختارة". مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات .
10) غلام حداد عادل. (2001م). ثقافة العري أو عري الثقافة. (عبد الرحمن العلوي، المترجمون) بيروت: دار الهادي للطباعة والنشر.
11) فريال جبوري غزول. (1986م). علم العلامات السيميوطيقيا. تأليف سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة. القاهرة، مصر.
12) كاظم نادر. (2004م). تمثيلات الآخر صور السود في المتخيل العربي الوسيط (المجلد 1). بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
13) لوريمير جي جي. (2015م). تاريخ عُمان في دليل الخليج العربي ووسط الجزيرة العربية (المجلد 1). بيروت: الدار العربية للموسوعات.
14) هاجر حراثي. (2001). عنف المرأة في رواية ذاكرة الجسد. تأليف الرواية والعنف (صفحة 27). تونس: دار سحر للنشر تونس، تونس.
15) هيثم سرحان. (2008). الأنظمة السيميائية (دراسة في السرد العربي القديم) (المجلد 1). طرابس، ليبيا: دار الكتاب الجديد المتحدة.
[1] (لوكان) أو (لوغان) تعني أهل القرية الشداد، مقابلة مع شاهين البلوشي، الباحث في القومية البلوشية، 25/7/2023.
[2] تقع خلف قلعة الراوية، انظر العريمي، محمد، مقال بعنوان: (ماذا تعرف عن بوابات مسقط؟). https://www.atheer.om/. تمت زيارته في 2/8/2023م
[3] (البالوار): النطق الصحيح لها (باديوار) وهي كلمة بلوشية تعني النقوش الموجودة في اللباس البلوشي، مقابلة مع شاهين البلوشي، في 18/3/2024.
[4] (البويبوي): عباءة لونها أسود يغطي جسم المرأة وله نقاب تضعه النساء عند الحاجة، وهو لباس مستورد من زنجبار، مقابلة مع شاهين البلوشي، في 18/3/2024.