المنجز الإبداعي بين سطوة المرجع وشروط الفن: شعرية التشكيل وآفاق التأويل
الباحث المراسل | أ.د. أحمد يحيى علي | أستاذ دكتور بقسم اللغة العربية كلية الألسن جامعة عين شمس بمصر |
Date Of Submission :2024-11-26
Date Of Submission :2025-01-05
Date Of Submission :2025-02-16
Date Of Acception :2025-03-21
Date Of Publication :2025-04-22
بحث بعنوان:
المنجز الإبداعي بين سطوة المرجع وشروط الفن
شعرية التشكيل وآفاق التأويل
تأليف:
أ.د أحمد يحيى علي، أستاذ الأدب والنقد بكلية الألسن، جامعة عين شمس، مصر
ملخص باللغة العربية
يتحرك النص الأدبي – بصفة عامة – في مدار علاقة تعتمد على التماسك، يتشكل طرفاها من واقعي يجليه ما هو فردي ( حياة المبدع/تجاربه)، وما هو جمعي (نسق المرحلة/ الراهن الزماني والمكاني وما يمثله من سلطة تفرض نفسها بدرجات متفاوتة على وعي المرسل المبدع)..ولا شك في أن الاثنين معا اللذين يغزلان من خيوطهما نسيج هذا الواقعي يؤديان دورا مؤثرا في النسق الشكلي الذي يبدو عليه العمل الفني في نهاية المطاف. وفي إطار ثنائية (المشاهدة/المعايشة، والإخبار) تتحرك الدراسة في معالجتها التطبيقية لأحد منجزات بهاء طاهر السردية "قالت ضحى" في محاولة لبيان مدى هيمنة تجربة وانعكاسها على تجربة أخرى. في سعي منا إلى الكشف عن ما هو لغوي وما هو فني ينسجم مع طبيعة الفن الذي ينتمي إليه هذا العمل وما هو ثقافي يحيل إلى عالم الخارج الذي يعد بدرجة كبيرة إطارا حاكما لعملية التأليف ولعملية القراءة في الوقت نفسه، وتفيد الدراسة في منهجيتها من الرؤى المتصلة بالتيار السيميائي في معالجة النص، مع الإفادة من السرديات الحديثة فيما يخص الراوي والشخصية ومنظور الرؤية
الكلمات المفاتيح: الفن والواقع؛ الدلالة؛ البناء السردي؛ الرمزية
Abstract:
The literary text - in general - moves within the orbit of a relationship that depends on cohesion, both sides of which are formed by the individual reality (the creator's life/experiences) and the collective reality (the context of the stage/time and place and the authority it represents, which imposes itself to varying degrees on the consciousness of the creative sender)... There is no doubt that the two together, which spin the fabric of this reality, play an influential role in the formal pattern that the artistic work ultimately looks like. Within the framework of the binary (seeing/experiencing, telling), the study moves in its applied treatment of one of Bahaa Taher's narrative
1. سياق الفن وسياق الواقع علاقة مناسبة:
إن هذه الآلية التفاعلية بين ما هو واقعي وما هو فني تعد بمثابة المادة الخام المشكلة لبنيان ما يمكن تسميته بعلاقة المناسبة الرابطة بين داخل النص الفني (بنيته التشكيلية واحتمالات المعنى الساكنة فيه) وخارجه في عملية يتضافر في صياغة إيقاعها المتحرك القلق الضدان معا: الإحالة إلى ما بعد، من الواقع إلى الفن...والإحالة إلى ما قبل (المقامية)، من الفن/النص إلى الواقع/الخارج بتجلياته المحلية والعالمية على مستوى الزمان والمكان ولا شك في أن متلقي النص في انطلاقه من علاقة التماسك هذه المؤسسة على فكرة المناسبة يبدو لزاما عليه لإضاءة مصابيح كاشفة للمعتم/المخبوء في عالم النص أن ينهض بالنسقين الرحليين معا ذهابا وإيابا: من الواقع إلى الفن.. والعكس.. وهو في ذلك يسعى إلى ملء مساحات دلالية تبدو خالية على هذا الطريق مزدوج الحركة ..وهو في هذا النشاط القائم على الحركة الذهنية يمر على إجراءات العملية النقدية بأطوارها الثلاثة:
• قراءة النص بالاعتماد الرئيس في فهمه على مؤلفه وما يسمى بتجربته الشعورية (المناهج التقليدية في تأويل النصوص وتحليلها)..
• قراءة النص منفصلا عن مؤلفه بوصفه بنية مغلقة/ ما يسمى بمرحلة الحداثة في نقد النص..
• قراءة النص بالاعتماد الرئيس على المتلقي وما يطرحه وعيه على النص من دلالات/ ما يسمى بمرحلة ما بعد الحداثة في مناهج نقد النصوص ..
وتركز الدراسة في مجالها التطبيقي على إحدى روايات بهاء طاهر "قالت ضحى" التي تعتمد في تكوينها على بناء رقمي يتكون من عشرين وحدة.. ومن خلال الصيغة اللغوية للعنوان يمكن الوقوف عند ظلال للجدة الحاكية الأكثر شهرة في ثقافتنا العربية "شهرزاد"، في عملية تواصلية تبرز هذه الفضيلة في الاتصال بما هو تراثي قد قدر له أن يحظى بمساحة انتشار واسعة حول العالم.. إنها ربة الحكاية التي تنسجم مع حاجة فطرية لدى الذات الإنسانية تدفعها إلى الاستئناس بالحكايات روايةً وتلقيًا عبر الاستماع أو القراءة...وشهرزاد التي تستحيل إلى ضحى عند بهاء طاهر تمنحنا من خلال العنوان فهما أوليا: إننا بصدد ذات أنثوية تتولى مهمة السرد بالاستدعاء من فضاء زمن تولى مستخدمة الصيغة "قالت"؛ ومن ثم يصير المسكوت عنه في العنوان، أو هذه الفجوة النصية الفارغة بمثابة مفعول به ربما يأتي جسد العمل من الداخل ليجيب عنه؛ ليكون الفضاء التساؤلي الذي ينشئه القارئ بإزاء عالم الفن مستندا في أحد عناصر بنائه على هذا المركب الاستفهامي: ماذا قالت؟ ... إن سؤال المحتوى ليس إلا واحدَا من مركبات تساؤلية عديدة، منها: كيف قالت؟،لماذا قالت؟، لمن قالت؟ إن الأول يبحث عن آلية الصياغة وهو يتوجه إلى الشكل المتعلق بالحالة الروائية هذه عند بهاء طاهر.. وهو سؤال تجيب عنه طريقة السرد المعتمدة من قبل الراوي.. أما الثاني فيحيل إلى العلة/الدافع من وراء القول.. والغاية المبتغاة من وجوده.. إنه سؤال الفلسفة الذي يفتش فيما وراء الرسالة الفنية بالالتفات إلى الماضي على المستوى الواقعي القائم خارج النص/تجربة الذات في علاقتها بعالمها.. وبالتطلع إلى المستقبل الذي تسكنه الغاية المرجو حصولها في مرحلة ما بعد القول.. ومن ثم فإن البصيرة المتلقية بحاجة إلى التفاتتين: للخلف (الماضي) وللأمام (المستقبل) من منطقة الحاضر النصي الذي تتم له عملية مسح/فحص/استنتاج للجوهر الذي يفترض/يُحتمل أنه يسكنه...
2. جملة العنوان وفضاء الدلالة: إن هذا المبنى الشكلي للعنوان يبدو بحاجة إلى قراءة تنفصل مؤقتا عن تفاصيل العمل من الداخل..: نحن أمام فعل في الزمن الماضي "قالت"، وأمام ما يبدو أنه فاعل يتولى مهمة السرد ينتمي إلى عالم المؤنث "ضحى".. وقد ينحو هذا المؤنث في الوقت ذاته بالوعي المتلقي منحى آخر ليصير علامة دالة على الزمان والمكان معًا.. فإذا ما تم هذا التحول استحالت حالته النحوية إلى أخرى مغايرة؛ ومن ثم يتبدل المنتج الدلالي المترتب على ذلك؛ إننا نستطيع أن نقول: إننا أمام مركب لغوي يطل علينا على هذا الحال: قالت في ضحى.. كأن الفاعل ضمير مستتر تقديره (هي) ربما تكون شهرزاد المتواصلة في الزمان والمكان مع حكايات الجماعة الإنسانية الناشئة بحكم التعانق مع مستجدات عالم الواقع على اتساعه.. أما عن ضحى – وفق هذا التصور – فإنها تشغل موقع المفعول فيه الذي يأخذنا إلى محطة زمنية في نهار الفرد والجماعة تلي البكور والشروق.. وكما أن الفعل يرتبط بزمن فإنه يقتضي أيضا إطارا مكانيا يحصل فيه؛ لذا فإنه ينضاف إلى الفضاء التساؤلي المنعقد من قبل القارئ صيغ أخرى من نوع: متى قالت؟.. أين قالت؟.. وهل هذه الحالة الزمنية التي ينطوي عليها الملفوظ "ضحى" مقصودة محددة بذاتها وبحرفية معناها؟ أم أنها مراوغة مطاطة زئبقية قابلة للتمدد والانكماش؛ إن وقت الضحى عمومًا يشهد سطوعا واضحا لهذه العين الدائرية (الشمس)؛ وهو ما يمنح – بدرجة كبيرة – القدرة على الرؤية المحددة لما هو واقع في عالمها لكن هذا يستدعي نسقا استفهاميا يبعث على الحذر والتصنيف في آن: هل هذا المرئي يمكن التعامل معه بوصفه حقيقة ويقينًا؟، أم بوصفه وهما وخداعا؟ إن ضحى بهاء طاهر ربما تستحضر إلى الوعي هذه المواجهات الحتمية المتكررة في عوالم الأسرة الإنسانية على اختلاف سياقاتها الزمانية والمكانية والثقافية بين طرفين من أجل هذه الغاية: الإمساك بالحق والانحياز إليه؛ فموسى عليه السلام وجماعة الفرعون – على سبيل المثال - كانوا على موعد مع الضحى/الزمان/المكان/امتحان الحقيقة « قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى»؛ لذا فإن الفعل قال في نص القرآن يأخذنا إلى قالت في نص بهاء طاهر في استلهام والتفات في الوقت ذاته من تجربة نبي كموسى عليه السلام إلى تجربة لها خصوصيتها في بحث ومحاولة وصول تعانق حركة الزمن ..كأننا على موعد مع طور متقدم في حياة الذات يلي ليلا وسَحَرًا وفجرا وبكورا وشروقا؛ وهو ما يضع هذه الذات في نظام يمكن نعته بالأبجدي ويوجب علينا متابعتها في ضوئه... إذًا فإن كلتا القراءتين: قالت ضحى/الفاعل الراوي، وقالت.. في ضحى/المفعول فيه تبقى افتراضًا معلقًا في فضاء الذهن المفكر يتم اختبار إمكانية حضوره من عدمه من خلال الرحلة في جسم هذا الكائن النصي لبهاء طاهر...
3. استهلال الرواية تضافر الزمان والمكان: إن زمانية السرد التي تطرح نفسها على وعي القراءة – بدايةً – من خلال الدال "ضحى" في العنوان تأخذنا إلى مرتكز مكاني يستهل به الراوي نشاطه في عالم الحكاية:« انتهت الضجة وكانت جزءا من الحياة في مكتبنا» . في هذا الاستهلال يمنحنا الراوي عبر منطوقه مساحة لرسم مشهد جمعي الطابع يبدو فيه ذاك الصوت السارد جزءا من الفواعل المؤسسة للحدث، كما يكشف عن ذلك الضمير "نا" في التركيب " مكتبنا"...لكن هذا الإطار المكاني الذي يبدو غائما سرعان ما ينضاف إلى ما يمكن تسميته بـ(ال) تعريفية تشكلها دراما الفن وفق ذوقها الخاص: «في كل صباح تأتينا تلك الأصوات من بورصة الأوراق المالية، وعندما تنتهي هناك تعلو في الطريق فنعرف أن وقت انصرافنا نحن أيضا قد اقترب» مازال ذاك السارد الذي يرتدي ثوب الراوي السيري يتحدث باسم جماعة تمارس نسقا وظيفيا خاصا يفتح أفق الدلالة على ما هو مرجعي « وقت انصرافنا نحن أيضا قد اقترب» ؛ إن الذهنية المستقبلة تلتقط من مسار الحدث معاني تحيل إلى الحالة الوظيفية/الإدارية التي تهيمن على قطاع ليس بالقليل من أبناء الجماعة المصرية (المواطن/الموظف)..ولا شك في أن هذا التماس مع الواقع يأتي منسجما - إلى حد كبير- مع هذه الصيغة الجمعية التي يتشكل من خلالها ذاك الصوت الناطق الذي يبدو حتى هذه اللحظة غير محدد الهوية من حيث النوع: هل هو مذكر؟ أم مؤنث؟.. لكن تطور الحدث يضع قدم المتابع فوق لحظة فارقة/فاصلة بين مكانين وربما بين حقبتين « في كل صباح كانت تأتينا تلك الأصوات من بورصة الأوراق المالية» ؛ إن هذا الماضي المستمر الذي يتجلى في تلك الصيغة التكرارية العاكسة لحدث متمدد في زمن قد مضى « في كل صباح كانت تأتينا..» تعد بمثابة مرآة فنية كاشفة عن إطار زمني مفصلي يشف عن حالة مخاض/ولادة لعهد من رحم عهد يوشك أن يكون ذكرى بعد أن كان واقعا معيشًا.. هذه الحالة ليست بنت فرد، لكنها ذات صبغة جمعية تمثل تحولا تاريخيا لافتا سيجعل ذاك الغائم المكاني الكائن في استهلال السرد أكثر سطوعا: «في ذلك الصباح الصيفي في أول الستينيات في اليوم الذي تلا التأميم بدأت الحياة في مكتبنا غريبة حين غلفها السكون لاحظنا للمرة الأولى أننا يجب أن نخفض أصواتنا؛ لأننا نحن أيضا كنا نصيح حين نتكلم» .. بهذه الكلمة "في" تحصل عبر آلة الرواية عملية التحام بين ما هو فني/متخيل وما هو مرجعي له حضوره في مدار التاريخ؛ إن هذه الكلمة/الحرف تمنح الزمان طابعا مكانيا ذا صفة ثبوتية " في.. أول الستينيات"؛ فكأنها دعوة ضمنية تصدر عبر فضاء السرد للوقوف المتأمل عند تلك الحقبة تحديدا، لكن في إطار رؤية جمالية سُتغلَّف بها هذه المرحلة في حركة الجماعة بفضل يد الراوي..
وتعكس منطقة الالتقاء هذه حدا فارقا يسهم على المستوى الواقعي في إحالة الظن إلى يقين؛ إن مسار انتقال الجماعة المصرية في خمسينيات القرن المنصرم كان يوشي بمحاولة اقتراب يصل إلى درجة الاتصال شبه الكامل بنسق أيديولوجي وافد تعبر عنه الفكرة الاشتراكية وما يعلق بها من خلفيات فلسفية.. حتى كان العام الثاني في عقد الستينيات الذي أصبحت فيه هذه الفكرة على المستوى الرسمي/السياسي أمرا واضحا للعيان بواسطة ما عُرف بالقرارات التأميمية التي تؤكد على رغبة النظام السياسي الرسمي في الإشراف المباشر على إدارة منظومة الإنتاج والعمل.. إن حديث الحاكي في ذاك الفضاء الاستهلالي للرواية عن إطارين مكانيين: المكتب الذي جاء منتميا إلى ضمير المتكلمين "نا" والبورصة يلمح بدرجة ما إلى ذاك التحول/الانتقال من حقبة إلى أخرى سيلجها المجموع بحالة شبه كلية واقعا، كما ستلجها شخوص الرواية في عمومها فنا..
إن الراوي في ضوء هذه اللحظة الجمالية التي تنتصف مكانين/طورين يعكسهما رمزيا: مكتبنا سوق البورصة يرسم بصوته خطين متوازيين لكل من الواقع والفن معًا، يلتقيان في النهاية عند نقطة زمانية/مكانية واحدة ذات بعد مرجعي يتمثلها جماليا البناء التركيبي "مكتبنا" الذي تبدأ وتنتهي عنده رحلة الراوي في "قالت ضحى".. لكن هذا الدخول المادي المصطبغ بصبغة قدرية الذي تنهض به الشخصيات فنيا هل يصاحبه ما يمكن تسميته بتماس ذهني وعاطفي مع تلك الفكرة ذات الحضور في سياق التاريخ (الاشتراكية)؟..
4. بناء السرد جدلية الفن والمرجع الخارجي: إن الفضاء التساؤلي المسكون بالمتلقي يمكن النظر إليه بوصفه إطارا تتحرك منطلقة منه شخصيات الحكاية الرئيسة؛ ومن ثم تصير ثنائية (السؤال والجواب) بمثابة مظلة حاكمة لعلاقة تفاعلية تجمع القارئ/السائل بالفن المجيب الذي يجعل من الوضعية الدرامية للشخصيات في مسار حركة الحدث الفني وتطوره أساسا يقف عليه في صياغة أبنية خبرية يتوجه بها إلى ذاك السائل ..الذي يسعى إلى مراقبة مدى مناسبة/انسجام متغيرات الواقع الجمعي مع سياق الحلم الذي تنشد الذات الفردية الاقتراب منه ومحاولة التوحد به في إطار ثنائية تحتضن الجميع (الذات والعالم) بالنظر إلى هذا العالم الفني لبهاء طاهر تحديدا الذي يتقاطع تاريخيا مع ثورة قامت بها الجماعة المصرية في بدايات عقد الخمسينيات من القرن الماضي وبالطبع يلتقي مع من حرك هذه الثورة (عبد الناصر) الذي ظل يجلس على قمة هرم السلطة منذ ما قبل منتصف الخمسينيات بقليل وحتى العام 1970م..ولكل ثورة بالطبع خلفيات أخلاقية تستمد منها طاقة للحركة وتحصل من خلالها على فرص النجاح التي تتهيأ لها.. إضافة إلى مثالية المستقبل الذي تبتغيه مغايرا لحاضر مأزوم كانت هي بمثابة رد فعل/مقاوم/مواجه ساع إلى إزالته بآخر يكون على النقيض.. ومن ثم فإن لقاء الحلم الفردي بالغايات الجمعية التي ترنوا إليها الثورات يمنح هذه الأخيرة رسوخا في الأرض وقدرة على الاستمرار عبر مدارين: فكري/معنوي (أيديولوجيا الثورة) ومادي/شخصي/إنساني (الفواعل البشرية الحاملة لواء هذه الفكرة القائدة لحركة الشارع السائر معها)..والفن بوصفه عالما مستقلا بإزاء عالم الواقع المعيش يقوم بدوره بالرصد والتسجيل وفق عين خاصة وفي ظل الأنواع التي تمثله.. لذا فإن هذه الثنائية المكانية "مكتبنا، البورصة" التي تسافر إلى خارج نص بهاء طاهر لا تلتقي فقط مع الراهن الزماني الذي يخص الجماعة المصرية تحديدا في فترة الخمسينيات والستينيات، إنما تقود إلى فكرة قدرية إنسانية هي الرحيل الجبري في مسار الزمن دون توقف أو انفصال ..لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تتفاعل الذات بطريقة مرنة منفتحة مع المتغيرات التي تصادفها في مسيرها العمري (تصالح الذات مع سياق اللحظة)؟ أم تدخلها جبرا لكنها تخرج منها على مستوى القناعة الذهنية/العاطفية مفضلة الإقامة على سبيل المثال أمام ما يمكن تسميته طلل حقبة في الزمن قد انقضت؟...
إن هذا يطرح قضية لها ظلال درامية في فن بهاء طاهر، هي النزعة الماضوية للشخصية التي تجعل من بعض مفردات الزمن الفائت سلطانًا مهيمنًا على تكوينها الأيديولوجي وما يفرزه من نُظُم سلوكية تقوم بممارستها في إطار نظرتها لنفسها وللعالم المحيط...هذه الحنينية تلقي بأجواء يمكن نعتها بالقلقة في علاقة الذات بمفهوم حركة الزمن، كأنها تلبي قانون الحتمية فتصاحبه متظاهرة بالانقياد له، لكنها تنفصل/تغترب/تخرج مولية وجهها بعيدا عن الجديد الناجم عن هذه الحركة.. لذا تأتي ممارساتها الفعلية بمثابة توكيدات وظيفية لتلك الحالة الذهنية/الوجدانية التي تجعل من الالتفات إلى الماضي نظاما حياتيا جلي الحضور عند النظر إليها...إن مستوى الرواية في "قالت ضحى" يكشف لنا عن ماهية هذا الفاعل الموجود في تركيب العنوان « فقلتُ: أنتِ حزينة لما حدث؟ أجفلت ضحى "أنا"، عادت نحو مكتبها وهي تمسح كفا بكف، كأنها تنفض من يديها شيئا، وقالت: منذ أخذوا الأرض لم يعد هناك ما يمكن أن نفقده، زوجي أيضا لم يبق لديه شيء.. وعندما جلست ضحى إلى مكتبها قالت: أنا مع الثورة، ضحكت بصوت خافت وأنا أعود أيضا قبالتها.. أنا لا أكذب في أروبا المتقدمة ذبحوا أمثالنا أيام الثورة في فرنسا وفي روسيا، هنا أنا أعمل مع حكومة الثورة كيف أكون ضدها؟ هل أنت ضدها؟» . الملاحظ أن الراوي يعمد إلى تنويع الأسس الحاملة لما يسمى بالرؤى الفكرية التي يمكن القول إنه يتبناها أو على الأقل يقدم رصدا جماليا لها؛ فمن إطار المكان (مكتبنا، البورصة) يتحرك ذاك الراوي عبر مستوى الحوار المميز لفن المسرح، من التجسيد بالمكان إلى تشخيص الأيديولوجيا بتوظيف ذوات إنسانية (أنا الناطق وضحى)؛ فضحى هاهنا شخصية أنثوية تلج مع مسار الزمن القدري إلى عهد جديد (الحقبة الناصرية بتجلياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية..) لكن من الواضح بالنظر إلى هذه الحالة المسرحية البادية في نظام السرد أنها تسكن وضعية قلقة يتنازعها عهدان: ماض كانت تحظى فيه بمكان معين يعتمد دلالات الحصول (شريحة الإقطاع/ أصحاب رأس المال..)..وعهد ثان دُفعت إليه، فاستحالت هذه الحالة إلى أخرى على النقيض تتأسس - بدرجة كبيرة - على مكونات أيديولوجية وافدة من سياق ثقافي مختلف.. تتجلى هذه المكونات في مبادئ، مثل: العدل، الكفاية..
إذًا ببصر عقلي مجرد فإن "ضحى" تمثل معادلا دراميا لحقبة خرجت ثورة 1952م تواجهها، وتعد هذه الأنثى الفنية بمثابة ناتج معادلة قد تفاعل فيها طرفان: ثورة فاعلة (جيش/شعب) + واقع مأزوم يقوم على طبقية لافتة يضاف إليها فساد سلطة مع استعمار...فكان من بين عواقب هذه المعادلة انكماش تدريجي لقطاع ما يسمى بالإقطاع والرأسماليين.. لذا فإن ضحى مالكة الأرض قد أضحت ضحى الموظفة التي تعمل لدى الدولة المسئولة بشكل مباشر عن العمل والعمال، الساعية إلى محاكاة أفكار واستنساخ تجارب مماثلة كان لها في العهد الناصري وما تلاه حضور بارز على المستوى الأفقي فيما يسمى بدول الكتلة الشرقية في أروبا، ونظائرها في غيرها من قارات العالم...
إذًا فإن ضحى في هذه المنطقة المسرحية/الحوارية من الحكاية تحيل إلى ما قبل/خارج النص/تحولات الواقع قبل 52 وبعده.. وعند حدود النص الأدبي فإن هذه الأنثى في بناء العنوان تشير إلى إحدى الشخصيات المؤثرة في صناعة الحدث وفي تحريكه وتطويره في ظل وضع نستطيع أن نطلق عليه (اغترابي)، يتوزع فيه الوعي وما يتولد عنه من ممارسات فعلية بين منطقتين:
- أنا/تحقق/حصول/إشباع..
- هو/حالة من الغياب/الفقد/الإحساس بالاستلاب
ومن ثم يصير من الضروري متابعة حركة هذه الشخصية التي تؤدي دورا مؤثرا في إقامة عمارة الحدث الفني الذي يقع موقع المفعول به في هذه الجملة الفعلية الظاهرة بدايةً من خلال العنوان: قالت ضحى ...هنا يلوح في أفق الفضاء التساؤلي استفهام: هل تنهض ضحى بمفردها بمهمة صياغة هذا المفعول به؟.. أم أن مقولها سلوك ينطوي على مراوغة من قبل الراوي بينما يسكن الفاعل الحقيقي في البنية العميقة ليعبر عن ذوات أخرى؟.. أم أن هذا المؤنث هو في جوهره إطار درامي يشخص مجردًا فكريا يحظى بمكان في سياق الواقع والتاريخ؟.. إذًا فإن عمل الآلة التأويلية بين طرفي ثنائية (الإحالة القبلية/السياق الموجود خارج الفن)، و(الإحالة البعدية/تفاصيل البناء الروائي من الداخل) بالإمكان أن يتمخض عن أنظمة خبرية تسعى إلى الكشف بدقة عن هوية هذا الموجود الجمالي "ضحى" ..
5. فاعلية الواقع والحالة الاغترابية للشخصيات: هنا تتوقف العين المتابعة عند هذا الراوي السيري الذي يتجلى دراميا عبر ضمير المتكلم "أنا" في كل فضاء السرد.. الذي يتشكل فنا عند بهاء طاهر من خلال بناء إسنادي اسمي له الغلبة في جُل الحدث الروائي (أنا مُوظَّف) ..ومن ثم فإن نهوضه بدور القاص يأتي منطلقًا من هذا النسق التمثيلي الذي تلبس به في إطار حركة الزمن مع ضحى:« هنا أنا أعمل مع حكومة الثورة؛ كيف أكون ضدها؟! هل أنت ضدها؟" لا يهم أن أكون معها أو ضدها؛ أنا مجرد موظف لا أفهم كثيرا في السياسة ولا أريد أن أفهم، لم أقل لها إن السياسة كانت ذات يوم مأكلي ومشربي، كان ذلك منذ زمن بعيد على أية حال» ..
إن هذه الذات الساردة في ضوء وضعية حوارية تعتمد آلية السؤال الذي منه تتولد المعرفة تبدو في حالة انسحابية يكشف عنها منطوقها " لا يهم"؛ إنه يعد بمثابة مطية حاملة لبذور موقف فكري آخذ في النمو والاتساع بالتوازي مع نمو الشخصية وتطورها.. فبالانتقال من هذا النفي/الانسحاب إلى الناطق المشخص له تنفتح في عالم الفن نافذة يمكن القول: إنها نقطة التقاء/تقاطع بين ما هو متخيل وما هو حقيقي/تاريخي الحصول؛ إن هذه الوضعية الانسحابية لا تعبر عن حالة ذاتية فحسب، بل هي بمثابة حالة جمعية لها ظلال مرجعية لا تخفى عن الأعين الراصدة لطبيعة النظام السياسي والعقلية التي كان يدير بها، في ظل نظام شمولي تتركز فيه صناعة القرار في منطقة مركزية واحدة وما على الرعية - في الغالب – إلا المباركة فقط دون إسهام حقيقي في الاختيار أو التقرير.. إن الدال "موظف" هاهنا إشارة إلى اسم مفعول على وزن (مُفَعَّل)، هذه البنية الصرفية للكلمة تعكس بجلاء حالة مفعولية جمعية تقف موقف المتأثر/المشاهد بإزاء حالة فحولية فاعلة تتمركز – بدرجة كبيرة – في فضاء السلطة بثوبها السياسي؛ لذا فإن هذه المشاهدة قرينة الصمت قد استحالت إلى ما نستطيع أن نسميه بالهجرة إلى الذات، أي رحيلها إلى عالمها الخاص وانكفاءها على ما فيه.. ومن الواضح أن مستوى الرواية قد وفق في أن يأتي لهذا الرحيل بما يناسبه؛ فنجد – على سبيل المثال – الأنا الناطق يلتفت من مدار الحوار الديالوجي الجامع بينه وبين ضحى إلى مدار الحوار المونولوجي عند الإشارة الجمالية إلى هذه الهجرة تحديدا "لم أقل لها إن السياسة كانت ذات يوم مأكلي ومشربي".. هنا يصبح وجود تبرير درامي لهذه الصيغة للشخصية ضروريا في مسار تطور الحدث ليجيب عن مركب استفهامي، مفاده: لماذا هذا الالتفات في حركة الشخصية من الإثبات (مهتم بالسياسة) إلى النفي (غير مهتم..)؟..وفي رحلة تشكيل الجواب يخرج من عباءة هذه الأنا الناطقة شخصيات أخرى، مثل: حاتم وسيد« ..في ذلك اليوم كان الشارع هادئا عندما نزلت ووجدت سيد.. وهو شارد.. ولكني في اليوم التالي سمعت سيد يقول لبائع السجائر.. أنا ضعت يا مصطفى.. وبعد أيام توجه إليَّ سيد بالكلام:.. يا بك أنا مع الحكومة، منعتُ نفسي من الابتسام وأنا أقول: كلنا مع الحكومة يا سيد...ويقول: أنا أتكلم بجد والله يا بك؛ أنا مع الحكومة؛ أنا كما يقول الرئيس ضد الإقطاع وأعوان الاستعمار ولكني أجري على عيال وأمهم.. الناس تظن أن السماسرة كانوا يغرفون ويرمون علي.. القرش صاغ لا غير؛ السمسار منهم كسبان أو خسران هو القرش.. ثم ابتسم وقال: في وجودهم حسدني الناس وحين ذهبوا أضاعوني.. لما دخل سيد في الموضوع وقال: إنه يريد أن يعمل في الوزارة لم أستطع أن أعده بشيء.. ثم سألتُ مصطفى وأنت ماذا ستفعل؟ كان السماسرة زبائنك أيضا؛ فقال بشيء من السخرية.. البركة في موظفي الوزارة وضحك...حاتم هو أول من فكرتُ فيه عندما طلب مني سيد أن يعمل في الوزارة، كان صديق عمري، زميلي في فؤاد الأول الثانوية، ثم كلية الحقوق...عملنا معا في الوزارة نفسها.. التقينا أثناء المظاهرات المتكررة التي كنا نخرج فيها أيامها.. نتبارى في الحماس وفي الوطنية...كنا نهتف بحماس ضد الإنجليز.. ومن أجل الجلاء.. ولم ندخل أنا وحاتم أي حزب، ولكنه بعد الثورة وكنا قد توظفنا دخل هيئة التحرير، ولم أعد أنا أهتم بأية سياسة...ذهبتُ في اليوم التالي لحديثي مع سيد...حكيت لحاتم قصة سيد.. فقال حاتم وهو يضحك: واجبنا حل مشاكل الشعب، سأرى ربما أعينه ساعيًا...سألت حاتم: وهل هناك أخبار عن المنحة الدراسية؟...أوراقك كلها جاهزة ولكن في كل مرة تصعد إلى فوق فتنام لماذا لا تتحرك؟ قلتُ: وأنا أبتسم: ها أنا أتصل بك؛ ألستَ عضوا بارزا في الاتحاد القومي؟ فضحك وقال: ولماذا لا تصبح أنت عضوا» من الواضح أن هناك أوتارا ثلاثة تتكون منها قيثارة السرد هذه:
- حوار الذات مع نفسها (مونولوج)
- حوار الذات مع عالمها المحيط/ شخصيات أخرى: ضحى، سيد، مصطفى، حاتم (ديالوج)
- السرد: الحكاية عن الغير..
وفي ظل هذا التقاطع بين مستويين: الرواية والتمثيل تتحدد للذات صيغتان في الحضور، الأول: تتمتع فيه بطابع فردي محض، يبدو من خلاله ما يمكن تسميته الوجه العميق لها، الذي نعول عليه – عموما – في كشف حقيقة وجودها في عالمها، وتفسير ما يصدر عنها من أفعال تكشف عن رؤية تقييمية لها وللسياق الخارجي بمظاهره المتنوعة.. يحصل ذلك بواسطة متابعة متأنية لهذا التدفق للأفكار داخل فضاء الوعي.. الثاني: يتمثله الحضور الجمعي للذات الذي يعد بمثابة ناتج رئيس يفرزه هذا الحضور الأول؛ لذا فإن تشكل الفعل في عالم الواقع وفي عالم الفن الذي يأتي بموازاته يعد مفعولا به لوعيين فاعلين، الأول: فردي وثيق الصلة بالبنية العميقة للشخصية.. والثاني: تفاعلي يشير إلى ما يظهر من هذه الشخصية أمام العيون الرائية ومن ثم فإن الوقوف عند هذه البنية السطحية دون الغوص في الخلفيات الذهنية/النفسية الكامنة وراءها يعني قصورا في النظرة يترتب عليه نتائج تجانبها الدقة إلى حد كبير...
حوار حاتم مع البطل المتكلم:« لم أفهم أبدا سبب الخيبة التي حلت عليك.. أنت الذي كنت أيام المدرسة والجامعة تمتلئ بالحماس؟.. هل هكذا تريد أن تنتهي من المكتب إلى البيت وبالعكس حتى تخرج إلى المعاش؟ قل لماذا حقيقةً هجرت السياسة وهجرتَ كل شيء آخر؟ قلتُ ناظرا من النافذة إلى رقعة السماء الزرقاء.. لو أعرف يا حاتم سر الخيبة التي حلت عليَّ لما سألتك ماذا أفعل؟ ولكني قلت لك كثيرا ماذا تفعل تعال واعمل معنا في الاتحاد الاشتراكي جرب، هززت رأسي لليمين ولليسار وأنا أقول ليست عندي مواهب للخطب والاجتماعات. بل أنت تخشى أن تتلوث يدك بأشياء لا تريدها. ربما يحدث هذا، ربما تتلوث يدك إن عملت، لكن يا صديقي ما لم تمد يدك فلن تفعل شيئا أبدا»
الحديث عن الاتحاد الاشتراكي في وجود سيد: «فقال حاتم وهو يهز رأسه: الأستاذ ينتظر دعوة على بطاقة ليشترك معنا في خدمة البلد، قلتُ بشيء من الانفعال: هل نضحك على أنفسنا يا حاتم؟ ما دخل البلد في هذه الخطب والاجتماعات؟ من يرد أن يخدم البلد حقيقة يا حاتم يفعل شيئا محددا ولا يتكلم»
حاتم والنظرة البراجماتية المتفاعلة/المستسلمة لمنطق المرحلة:« في مكان مثل مكاني كأني أقفز الحواجز كل يوم ولا أعرف هل سأبقى حتى الغد أم لا. لم أولد ثريا وليس لي قريب من الضباط الأحرار، وكل ورقة يخاف مدير المستخدمين من التوقيع عليها يرسلها إلي. أليس من حقي أن أحمي نفسي بالدخول في التنظيم الذي صنعوه هم؟.. ثم وقف حاتم ليعود إلى مكتبه وهو يسترد نفسه ويضحك بصوت عال لستُ انتهازيا تماما يا صديقي.. ليس مئة بالمئة على الأقل كما تظن، لا أخدعك ولا أخدع سيد ولا أخدع أحدا ولكني أحاول أن تسير المراكب»
لكل تجربة مرتكزات تقوم عليها.. وحوامل تجربة هذا الأنا السارد تبدو في تفاعلها مع دوائر حياتية تملكها شخصيات أخرى؛ فالبحث عن صياغات خبرية تأتي بإزاء أبنية استفهامية تتشكل بمتابعة الحدث تضعنا أمام مسلمة في دنيا الناس، مفادها أن كل إنسان بطل في سياق تجربته، لكنه يشغل في حيوات غيره موقعا يتسع أو يضيق.. وتتفاوت درجة تأثيره من حيث القوة أو الضعف.. إن البحث ذا الصبغة الفلسفية عن تبريرات لهذه الحالة الانسحابية للأنا يستدعي مرورا على محطات عدة، تتشخص دراميا في:
(حاتم، مصطفى، سيد) وكأن قانون الحكي يقتضي لملمة ما يمكن تسميته بأدلة/علامات نصية/جمالية تشارك في تكوين رؤية/موقف في ظل وضع سمته الانسياب السببي/العضوي للأحداث في وعي هذه الأنا من خلال آلية استرجاع تبحث عن تماس مع بعض عناصر الماضي تارةٍ.. وتارة ثانية عبر علاقات تفاعلية تربط هذا الوعي الفردي بشخصيات أخرى في دائرة العالم الآني المحيط..
وفي ظل هذا النسق الرحلي نلمح إشارات تاريخية كاشفة عن بعض الملامح المشكلة لهوية المرحلة التي يصافحها السارد بفنه.. فمن سيد الذي فقد رزقه اليومي بعد غلق البورصة وقرارات التأميم الاشتراكية يتطور الحدث من خلال فواعل جمعية تصنعه، ويمكن النظر إلى هذا التطور في إطار متوالية درامية متعددة الشخصيات متنوعة الأفعال:
- حديث سيد مع الأنا طلبا لوظيفة في حضور بائع السجائر مصطفى ( مشهد احتياج أول).
- الحضور الذهني لحاتم في دائرة وعي البطل وما يترتب عليه من تداع للخواطر( مشهد مونولوجي/حياة فردية خاصة للذات).
- رحيل الأنا إلى حاتم (مشهد لقاء/حياة ديالوجية تفاعلية).
- كأننا أمام مركبات إضافية ذات هيئة جمالية يمكن أن نحدها بـ:
- حديث سيد مع الأنا.
- تذكر الأنا لحاتم.
- رحيل هذه الأنا إلى حاتم ولقاؤها به.
وتتيح هذه النظرة التعامل مع شخصيات السرد – بصفة عامة – وفي داخل هذا العالم الفني على وجه الخصوص في إطار محددات زئبقية الطابع تنكمش وتتمدد وربما تختفي بعد حين، بناء على ما يخدم منظور رؤية الراوي.. كما هو الحال على سبيل المثال بالنسبة إلى شخصية مصطفى التي اختفت تماما من فضاء السرد بعد أن أدت دورها في ذاك اللقاء الثلاثي: الأنا/سيد/مصطفى بائع السجائر.. ربما لأن الأنا القاصة كانت تريد لهذه الشخصية ارتداء ثياب رمزي معين في عين المتلقي يداعب وعيه أثناء رحلة الحكاية.. فتجربة سيد التي تقترب من فضاء الأنا تعتمد على مرحلتين بارزتين:
- مرحلة ما يشبه التسول في جو رأسمالي يتصاغر فيه إلى حد بعيد حضور سيد وأمثاله..
- مرحلة اندماج مع نظام يقوم على إيدولوجيا مغايرة/ المد الاشتراكي الناصري..(ساع في إحدى المصالح الحكومية)..
وعن الموظف (الأنا المتكلمة) فإن بعض مفردات تجربة سيد تنقله وتقربه من ماض قد خلا، لكنه أعاد تشييد بنائه بما يناسب واقعا جديدا متحولا، يتشخص هذا الماضي في حاتم وعلاقته بالأنا.. وبواسطة مستويات السرد الثلاثة: المونولوج/الديالوج/الرواية بضمير الغائب يتقدم حاتم أمام سياق الاستقبال متدثرا برؤية براجماتية/نفعية لعالم يتفاعل معه بآليات مرنة تحقق في النهاية حزمة من المصالح الفردية الخاصة.. وقد اعتمدت الدراما في " قالت ضحى" على عدد من العلامات النصية ذات الصبغة التاريخية:
- التحاق حاتم بهيئة التحرير
- اتصاله بالاتحاد القومي، الذي أضحى فيما بعد الاتحاد الاشتراكي..
إذًا فنحن بصدد نموذج إنساني على استعداد للقيام بعملية إحلال وتجديد لمنظومته القيمية بما يلائم سياقه الجمعي المحيط، بغض النظر عن سلامة الأداء داخل هذا السياق من عدمها.. ولعل مسار الحدث يضعنا أمام جدلية تجليها ثنائية (أنا وحاتم) ؛ فكلاهما يركب سفينة الزمن ويدخل العهد الجديد وفق حتمية قدرية يشترك فيها الجميع دون استثناء.. لكن الأنا تبقى خارج المرحلة تعيش حالة من الانفصال عن بعض الأنماط الحاكمة لها يعكسها نفي درامي ينطوي على أزمة.. إننا نجد هذه الأنا تكتفي من بعيد بمنطق المشاهدة غير المحايدة ، يكشف عن هذا بجلاء هذا الحوار الديالوجي/الجدلي بين الطرفين الذي منه: « الأستاذ ينتظر دعوة على بطاقة ليشترك في خدمة البلد، قلت بشيء من الانفعال: هل نضحك على أنفسنا يا حاتم، ما دخل البلد في هذه الخطب والاجتماعات، من يرد أن يخدم البلد حقيقة يفعل شيئا محددا ولا يتكلم» .. إننا بصدد وعيين يتقاطعان مع زمنين:
- الأول: وعي حقيقي يتدثر بثياب من الصدق تمثله هذه الأنا.
- الثاني: وعي زائف يتعامل مع لعبة المرحلة بالقواعد التي يرتضيها بعض من يمثلونها في مواقع القيادة.. وكأن حاتم يعكس حاضرا معيبا في نظر ذات مازالت – بدرجة ما - تعيش حنينا إلى منظومة قيمية كانت حاضرة فكرا وسلوكا في ماضيها، وتنشد مستقبلا بملامح قد تم تشييدها في فضاء الحلم.. وكأن هذه الأنا هي حاتم الماضي، بينما يشير حاتم إلى حاضر ساخر متنكر منقلب على الحلم الفردوسي الذي كان الماضي ينتظره أن يضحى واقعا ملموسا.. إذًا فإن هذه الرؤية البراجماتية/النفعية للعالم المتشخصة فنيا في حاتم يأتي في مقابلها رؤية رومانسية حالمة ترفض هذا التفاعل المرن مع أداءات سلوكية ذات ظلال سلبية ترتبط بواقع متغير..
وفي ضوء هذا التضاد الدرامي الذي يمكن أن ننعت به ثنائية (أنا وحاتم) بالنظر إلى انفصال الأول في مقابل اتصال الثاني تبدو إشارات نقدية إلى المرحلة تتجاوز حدود النص إلى الخارج نقرؤها في عنوان يحتاج استقراء واستقصاء مفصلين من زوايا عدة: الحقبة الناصرية بين الشعارات الكلامية والإجراءات العملية الملموسة على الأرض.. لكن هل هذه النزعة التي يمكن وصفها بالصوفية من قبل الأنا تهيمن عليها دوافع مثالية محضة؟.. إن البحث عن خبر لهذا الإنشاء سواء أكان بالإثبات أم بالنفي يقتضي توسيعًا وفق منظور كمي لدائرة رؤية الشخصية أو بتعمق رأسي يستدعي وقوفا مطولا في تفاصيل كل تجربة على حدة من تجاربها.. ولا شك في أن هذه الحركة العرضية والطولية تضفي على الشخصية في تحليلها والحكم عليها طابعا مكانيا يوجب على من يقترب منه تحديد كل أبعاده..
وبالنظر إلى الأنا المتكلمة في عالم بهاء طاهر نجد أنها تنطلق من مسار أفقي في الغالب، وذلك عبر مستويات السرد الثلاثة الغالبة على طقس السرد: المونولوج/الديالوج/الرواية بضمير الغائب؛ فتارة تتحرك إلى الوراء لتستحضر من الماضي، ثم تعاود الرجوع إلى الحاضر.. وهو ما يتطلب وقوفا تحليليا تأويليا على المستوى الرأسي مع هذه الحركة الأفقية للذات:
حوار الأنا مع ضحى: « سأقول لك يا ضحى الحقيقة التي لم أقلها لحاتم أو لأحد.. رأينا ملوكا جددا وباشوات جدد يريدون أن يستولوا على البلد التي كنا مستعدين أن نفقد أنا وحاتم حياتنا من أجلها.. وقررنا أن نقوم بمظاهرة كما كنا نفعل قبل الثورة لكي نطلب الحرية.. وخرجت المظاهرة.. وأضفنا أشياء جديدة: يسقط حكم البكباشية وهتافات من هذا النوع...جاءت العربات المدرعة والأحذية الغليظة السوداء تنهال على الأجساد...لماذا كان يشغلني خاطر صغير في تلك اللحظة أن يعرفوا أني موظف فأفصل من عملي وتجوع سعاد وتجوع سميرة وأتشرد أنا؟.. أهو الرعب فقط؟ ..كان إلى جواري ضابط صغير.. فأخذت ذلك الضابط ..وهمست في أذنه: سأعترف لك الذين نظموا المظاهرة هم هذا وهذا.. ومن بين من أشرت إليهم حاتم، فهمس الضابط في أذني لماذا تخون أصدقاءك؟.. وحين بدءوا ضربي بعد ذلك لم أنطق ولم أعترف، ولكني لم أغفر لنفسي هذه اللحظة أبدا، ولم يعرف حاتم حتى الآن شيئا مما حدث.. رأيت بعض أحلامنا تتحقق ...ولكني قلت لا شأن لي بذلك لست كبيرا بما فيه الكفاية»
إذًا فإن أحد الأسس التي ينطلق منها ذاك المكون الرومانسي الحاكم لهذه الأنا يسكن في منطقة العمق النفسي لها، إنه إحساس بخطيئة الخيانة.. ولا شك في أن هذا الرصد الفني للأنا يقدم منظورًا متوازنًا في تقييمها من قبل المتلقي من جانب، وفي تقييمها هي لعالمها من جانب ثان؛ فمثالب سياقها الخارجي ليست هي وحدها المسئولة عن تلك الحالة الانسحابية التي ألمت بها؛ فبعض من الأنساق الفعلية الصادرة عنها تؤدي دورا مؤثرا في ظهور ذاك الفاعل السلبي الصانع لأزمتها، إنه فعل الخيانة الذي يصير بمثابة أيقونة درامية تفتح على عدد من المفردات التي لا تبدو بعيدة عن حال مرجعي يقبع خارج النص الفني:
- الخوف/الرعب من السلطة
- الخوف على الوظيفة؛ فهناك أسرة أنا مسئول عنها ويجب أن أحافظ على عملي الذي يتعيش الجميع من دخله، نموذجها في داخل الرواية " سميرة وسعاد".
- قد يدفع ذلك الخوف بتجلياته إلى الوقوع في منزلقات أخلاقية.. تماما كما حدث من البطل تجاه رفاقه (حاتم وغيره..)..ولا شك في أن منطوق ذاك الراوي السيري الذي يقربه من أدب الاعترافات يجعل منه اختزالا فنيا، أو وفق أحد مصطلحات مبحث البيان في بلاغتنا العربية (المجاز المرسل ذو العلاقة الجزئية) لحالة تصطبغ بصبغة جمعية في عهد ترسخت فيه كثير من مبادئ النظام البوليسي في علاقته بالجبهة الداخلية.. إن الأنا تقدم لنا عبر تفاصيل منظومة الحكاية إشارات رمزية لواقع خارجي في ظل طورين تاريخيين: قبل ثورة 1952م، بعد ثورة 1952م.
6. ثنائية الذات والعالم ورومانسية الرؤية: إن هذه النزعة الصوفية المبنية على إيلام الذات وتطهيرها في ظل هذا الانفصال تأتي بالتوازي مع السعي الحثيث إلى التوحد بذات أنثوية، إنها ضحى؛ إذ يمكن القول: إن هذه الرؤية الرومانسية للعالم القابع خارج دائرة الذات تعتمد نسقين وظيفيين ذوي طابع رحلي: (الرحيل عن... الرحيل إلى...) فحلم الذات الفردية شديد الخصوصية (اللقاء العاطفي بضحى) يشكل في التعامل التقييمي مع الأنا ملاذا نفسيا/فرصة مواتية لملء فجوات في المكون الوجداني لها؛ ومن ثم فإن هذه الحالة الرومانسية للأنا تبدو أكثر سطوعا في ظل علاقة تفاعلية تجمعها بالمؤنث "ضحى"، يساعد على ذلك جوار مادي ملموس يتجلى في زمالة العمل.. ولعل تلك الحالة تقدم تفسيرا له وجاهته: لماذا هذا الحضور الجمعي الذي بدا عليه الراوي السيري في مستهل الحكاية وظهر في التركيب " مكتبنا"...لكن هذه العاطفة/الحب قد مرت بموجات ارتفاع وهبوط بالنظر إلى قيثارة السرد التي قامت بتمثيلها دراميا عبر ثنائية (أنا وضحى) وفق إيقاع متفاوت لا يسير على وتيرة واحدة؛ إذ استحال ذاك الحب – على سبيل المثال - من حال الصمت – كان فقط مقصورا على التدفق في وعي الأنا المذكر، وضحى دون جهر «فكرتُ جيدا في تلك الأيام أن أطلب نقلي من المكتب الميت؛ قلت ربما كان ابتعادي عن ضحى وسيلة لنسيان ذلك الحب الميؤوس منه لإنهاء حيرة أن أظل معها ساعات في مكتب واحد بمفردنا، لا أستطيع أن أصارحها ولا أستطيع أن آمل في شيء ولا أن أعترف لأحد بهذا الحب غير المشروع» إلى معلن من الطرفين: « قلت: أحببتك من وقت طويل، فقالت: أعرف، لم أتعمد شيئا ولكني أحببتك، قالت دون أن تحول وجهها نحوي: أعرف كنت أرى وأعرف، هذا المساء اعترفت لنفسي أني أيضا أحبك، ثم مدت ذراعيها وضمتني..» إن بناء السرد ينطوي على مفارقة يجليها أداء عدد من شخصياته؛ فمن سياق جمعي واقعي يسعى إلى صياغة حلم يمكنه أن يشمل عموم أفراده؛ بوصفه قاسما مشتركا يرتدي ثيابا ثوريا، تأتي بعض ذواته لتنسحب رمزيا من الالتحام بهذا الحلم مفضلة أن تستغرق نفسها - بدرجة كبيرة – في أحلام فردية تخصها هي وحدها؛ يشير إلى ذلك بوضوح النزعة الرومانسية للأنا في انفصالها عن ذاك المؤنث الجمعي (الجماعة المصرية) في بعدها المرجعي والسلطة الراعية لما تراه فردوسا تصبو إليه هذه الجماعة، واتصالها بمؤنث فردي تسعى إلى التوحد به دون أن تعبأ كثيرًا بقانون يسكن خارج دائرة الحلم يحول دون ذلك.. فضحى متزوجة من آخر/شكري..
إن ابتعاد الأنا النفسي قد جاء بموازاته رحيل مكاني إلى روما بمنحة هو وضحى.. وقد هيأ هذا الرحيل المادي للأنا حظوظا أوفر: كمية وكيفية لهذا الاقتراب ذي الصبغة الصوفية مع المؤنث:« ..كان ذلك المعهد شركة كبيرة لمعدات المكاتب...اكتشفنا أنه قريب من الفندق.. وقالت ضحى هذا حسن سنوفر على الأقل ثمن المواصلات، قلتُ سأقضي معك وقتا أطول كل صباح ونحن نمشي إلى هناك..» وفي عمق هذا المُناخ الرومانسي تستحيل ضحى في خاطر الأنا إلى حضور مميز يلتقي بعالم سحري/أسطوري في ظل تدفق الخواطر في حيز الوعي: " سألت نفسي ما سر غرام ضحى بالأطلال؟ أفهم أن يهوى الإنسان الآثار، أن يعيش الماضي ويحييه في داخله.. ولكن عشق ضحى للآثار كان شيئا آخر، لو طاوعتها لقضينا الأيام كلها نتنقل بين المعابد الرومانية والمقابر العتيقة...نعم كيف لا أرى يا ضحى.. وتقولين بصوت خفيض: هل رأيت يا فاوست؟ هذه الدنيا نغم لا عراك، عشق لا تمرد، فسلم لا تفكر. نعم يا ضحى، هأنذا أتنور بحبك وأنتِ في داخلي ومعي، ولكنك حين تبتعدين أخاف...هل أنتَ ذلك الوجه الذي عرفته ليلتها في المعبد الروماني؟...وتسألني ألا تعرفني؟...فأقوم وأريد أن أحتضنك مرة أخرى...وتكررين ذلك السؤال بنبرة مستغربة..ألا تعرفني؟...وتقولين ببساطة ألست زوجتك وأمك وأختك؟...تعال اجلس بجانبي، وتفسحين لي مكانا بجانبك...تنظر إليَّ وكأنها لا تراني، وإنما ترى ورائي وابتسامة خفيفة على شفتيها وهي تقول:« إيسيت التي يقولون عنها إيزيس...وأنا أدفن رأسي في صدرها...مسحت بيدها على شعري..ثم قالت بصوت خافت: لا تبتئس سأجمع أشلاءك من جديد وستكتمل، فقلت هامسا دون أن أتحرك من مكاني: لا يا إيسيت لستُ أوسير..فرفعت هي رأسي قليلا وكررت في يقين سأجمع أشلاءك من جديد وستكتمل»
7. تقاطع الخطابات في "قالت ضحى": إن هذا المستوى في حكاية الحدث يقف بنا أمام نقطة تتزاور عندها خطابات ثلاثة: فنية هي الطافية على السطح أمام العيون المجردة، مرجعية واقعية تستقر خارج النص، أسطورية. فحتى هذه اللحظة من عمر السرد كان وعي القراءة على موعد مع الخطابين: الأول والثاني، لكن المؤنث "ضحى" يلج بنا فضاء جديدا سحري الطابع تدخل فيه هذه الأنثى نسقا تشبيهيًا دراميًا يتحدد لغويا في: أنا إيسيت/إيزيس.. ثم ترتقي مع المخيلة القاصة لتصل إلى ما يمكن تسميته بالبناء الاستعاري الدرامي الذي يصير فيه المشبه هو عين المشبه به، يسطع ذلك جماليا في خطاب المؤنث المتدفق في وعي هذه الأنا «..سأجمع أشلاءك وستكتمل من جديد» ..إننا بصدد رؤية أسطورية يحتضنها الإطار الرومانسي للأنا المتكلم الذي يمارس علاقات تفاعلية مع العالم المحيط بمباركة من بناء مهلهل غير مترابط تعبر عنه هذه الحالة الانسحابية التي تتطور متمددةً لتتحول إلى ما يشبه السُكر بمنظور مجازي ..حتى بعد أن انتهى رباطهما بشكل مادي« ..نحن انتهينا ألا تفهم؟ ظهر شبح واختفى فما أهمية ذلك؟ نحن نلعب الطاولة...ونذهب إلى نشوة في المقابر»
إن بهاء طاهر خريج قسم التاريخ بكلية الآداب يلقي بظلال على تلك الأرض الفنية؛ فكانت ضحى مطية جمالية يُسقط عليها ومن خلالها أثقالا فكرية يسعى إلى توظيفها بلا شك في خدمة رؤى محددة.. إن الأنا التي تعيش اغترابا في عالمها لهي بحاجة ماسة إلى الاكتمال؛ تبحث عن نفسها بناءً على حركة من (الهو) الغائب الذي ينشد أنا حاضرا متحققا وفق ما يأمر به حلمه؛ لذا نجد هذا الرحيل الصوفي الرومانسي يتطور إلى ما يمكن تسميته الوهم المطلوب؛ فها هو ذا أوزوريس/المقتول/الضحية في الأسطورة الفرعونية القديمة يعاد إنتاجه دراميا ليكون هذا البطل الناطق الذي يكابد أزمة تتخذ مظاهر عدة من خلال شخصيات عالم السرد:
- واقع جمعي: لا يعبر في عهد جديد عن كل متطلبات الحلم الذي سبق ثورة يوليو 1952م، حتى البعض القليل الذي يصادف أرضا تتلقفه في حقبة الخمسينيات والستينيات يتعرض للعطب على يد منتفعين يغلبون مصالح خاصة على حساب المجموع.. نلمح ذلك في سلوك سيد الذي يسعى ببراءة وتواضع فكر إلى محاربة الفساد
- الحضور السلبي لسلطان بك وكيل الوزارة
- انحرافات عبد المجيد زوج الأخت سميرة
- حديث حاتم نفسه عن المثالب بلغة الساخر اليائس
- على المستوى السياسي بعض الممارسات الخاطئة للسلطة التي أفضت إلى نتائج نستطيع أن ننعتها بالكارثية.. يظهر ذلك في الإشارات الفنية إلى حرب اليمن وما شابها من تجاوزات.. فكأن "ضحى" فاعلة هذه الصيغة للماضي في العنوان "قالت.." هي المفترض أن تنهض بهذا الدور الخطير: لملمة أشلاء البطل، بالتزامن مع دور أكبر وأشمل في لملمة أشلاء وطن يعيش حالة من الانفصال أو لو شئنا قلنا وعيا زائفا يتجلى بوضوح في ذلك المشهد الحواري الجامع بين سيد والأنا:« ..أنا لا أكتب تقارير يا أستاذ؛ أنا لست جاسوسا كما قلت لي مرة، أنا أقول علنا، ولكن لماذا وما الغرض من ذلك كله؟ الدولة تتظاهر بأنها تريد وهي لا تريد والشعب يتظاهر بأنه يريد وهو لا يريد؛ فماذا يمكن أن يفعل عبد الناصر؟ وماذا يمكن أن أفعل أنا الصغير؟»
8. رمزية المؤنث في عالم الفن: إن ضحى في جوهرها الفني أيقونة/تشخيص جمالي يجسد حياةً بهوية مأزومة، يعبر عنها في عالم بهاء طاهر فواعل عديدة تتقاطع وتتضافر بأدوارها لترسم هذا الوجه المعيب، يبدو هذا جليا في ذاك المشترك الدرامي (الفعل: قال) الذي يعكس أداء الشخصيات بنوعيه: الملفوظ وغير الملفوظ ( قلتُ أنا، قال مصطفى، قال سيد، قال حاتم، قال سلطان بك، قال عبد المجيد، قالت سميرة، قال آخرون داخل النص السردي..، قال آخرون خارج النص السردي..) من هنا يمكن القول: إن ضحى بمثابة نحت درامي – إذا أفدنا من هذا المصطلح في حقل الدراسات اللغوية ففي حضورها الرمزي تعانق وتضافر بين فواعل شخصية عديدة جميعها ينضوي تحت هذا المؤنث ويسكن إليه.. وبموازاة هذا الفعل المؤسس للحدث "قال.." يهيمن على الفضاء الروائي في عمومه جو انفعالي يعتمد على السخرية التي تنطوي بطبيعتها على خطابين: معلن غير مقصود يحيل إلى وعي زائف يغيب عنه الصدق والاقتناع الذاتي؛ ومن ثم السعي المخلص إلى الإقناع به.. ومضمر يمثل حالة لم تستطع الذات التوحد معها؛ فهجرتها طواعية أو اضطرارا أو استسلاما؛ لذا كانت الوظيفة (ضَحِكْ) هي الأخرى مشتركا تتقاطع عنده جُل شخصيات هذا العالم الفني؛ وهو ما يستدعي الجزم بأن جملة العنوان تتعانق مع محذوف حالي تقديره: ساخرةً (قالت ضحى ساخرةً..)
إن جدلية العلاقة بين الجماعة والفرد تطرح نفسها بالوقوف عند المفعول به الناقص في العنوان والمنوط بجسد الرواية أن يقدم تفسيرا معبرٍا؛ فتأسيسًا على فرضية أن تفاصيل عالم "قالت ضحى" تمثل مجازا مرسلا دراميا ذا علاقة كلية؛ إذ أطلقنا الكل (الرواية في مجملها) وأردنا الجزء "..سأجمع أشلاءك وستكتمل من جديد" يمكننا القول: إن بحث الأنا عن نفسها وتوحدها بها يساوي في النهاية تحقق الجماعة؛ فإذا كان الأنا وحاتم وسيد وضحى.. وآخرون يعانون أزمة انفصال عن الحلم؛ فمن الطبيعي أن يلقي ذلك بظلال قاتمة على بنيان الجماعة الذي يسكنه الأفراد...
إن هذا المنطوق للمؤنث ضحى "..سأجمع أشلاءك وستكتمل من جديد" يعد بمثابة إجابة صحيحة لسؤال ينشد اختيارا من متعدد: ماذا قالت ضحى؟...لذا يمكن القول عن هذا المنطوق: إنه الخلية النصية/البذرة التي يتخلق منها هيكل ذاك العالم الفني.. وهي بذرة ليست ببعيدة عن بهاء طاهر المؤرخ.. الذي نلمح وجهًا ثانيًا له في داخل منجزه السردي، ألا وهو وجه المترجم عندما يصادفنا ذاك الحديث عن فاوست ذلك الرمز الآتي من الثقافة والأدب العالميين، ولا شك في أن حضوره يأتي مبررًا – إلى حد كبير- عندما نجد ذوات فاعلة، مثل: حاتم تتخلى عن كثير من مبادئ منظومتها القيمية ذات الصبغة المثالية من أجل مكاسب شخصية في منهجية ماكيافيللية واضحة لا تعنِّي نفسها بالبحث في شرف وسائلها وهي تشبع شهواتها.. بل إن هذه الصورة الذهنية الصافية لضحى التي وصلت إلى حد كونها إيسيت/إيزيس تتلوث هي الأخرى بما يشبه السكر المجازي أو الانتحار المعنوي على الأقل في مدار رؤية البطل، يفضح ذلك على سبيل المثال حوار سيد مع الأنا: « قال سيد بشيء من الحيرة: ولكن ألا يقول الرئيس في كل خطبة: إننا يجب أن نحارب الفساد؟.. أنا أعرف كل شيء وأعرف كل ما يفعله سلطان بك والهانم التي كانت تجلس معك، الرشاوي التي تقبضها والنسبة التي كانت تدفعها لسلطان بك، الشيكات المزورة..» إن إيسيت عند بهاء طاهر ليست ملائكية الحضور بشكل مطلق، بل ترتدي ثوبا إنسانيا، الإيمان للمتدثر به يزيد وينقص، ولأنها ليست كذلك فلا ننتظر منها وهي على هذه الحال أن تلد في القريب حورس المخلص صانع المستقبل الفردوسي.. لذا فإن الإحساس باليأس سمة يصل إليها ذلك العالم كلما اقتربنا من الخواتيم.. ومن ثم فإن القناعة الدلالية التي يصل إليها المتلقي (قالت ضحى ساخرةً: سأجمع أشلاءك وستكتمل من جديد) ما هي إلا امتداد لهذه الحالة الانفصالية التي تعيشها الشخصيات ممزقة بين بنيتين: سطحية، وعميقة.. إن هذه السخرية تعني أنه على الرغم من الوضعية الأسطورية التي عليها المؤنث "ضحى" فإنها ليست مؤهلة بما يكفي، وحتى هذا الحين الزمني الذي يعبر عنه الفن لإزالة مظاهر هذه الأزمة الاغترابية ذات الصبغة الجمعية التي ترمز إلى ما هو حاصل واقعًا...
وتأسيسًا على ذلك نلمح "حاتم" على سبيل المثال في لحظة صدق يحياها تكشف عن وجه حقيقي يسكنه، لكنه يتوارى خلف غبار واقعي يعكر صفو الرؤية في أحيان ليست بالقليلة: « قام حاتم.. وراح يتكلم.. اكتشفتُ أن الظلم لا يبيد؛ يعدون الناس بالعدل وبالعصر الذهبي.. يقطعون رأس الحية ولكن سواء كان هذا الرأس اسمه: لويس السادس عشر، أو فاروق الأول، أو نوري السعيد فإن جسم الحية على عكس الشائع لا يموت، يظل هناك تحت الأرض يتخفى يلد عشرين رأسا بدلا من الرأس الواحد الذي ضاع، ثم يطلع من جديد، واحد من هذه الرؤوس اسمه حماية الثورة من أعدائها.. ورأس آخر اسمه الاستقرار، وباسم الاستقرار يجب أن يعود كل شئ كما كان قبل الثورة ذاتها...وفي هذه الظروف يصبح لطالب العدل اسم جديد، يصبح يساريا أو يمينيا أو كافرا أو عدوا للشعب حسب الظروف»
من هذا المونولوج الدرامي (one man show) يمكن قراءة واقع الثورة المصرية في نسختها الثانية (يناير:2011م) عبر قناعة فنية توفرها الذات القاصة في "قالت ضحى" مفادها أن حياة الجماعة الإنسانية عموما يتسلط عليها حتمية الدفع الإنساني؛ فكل رؤية مهما كانت تحظى بقدر من المثالية ستُقابل برؤية مضادة تمتلك من أسباب القوة ما يجعلها دائما في حالة نشاط يحول دون استحالة هذا المثالي إلى واقع كلي ملموس؛ وهو ما يرسخ لفكرة الكبد التي خُلق فيها ذاك العنصر البشري ﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾ [سورة البلد: الآية 4]
9. بنية النهاية ودائرية عالم السرد: إن ضحى عند بهاء طاهر تفتح نوافذها على أفق حياتي ينطوي على صيغ نهاية مفتوحة لا تصل إلى إشباع وتوحد بالغاية المتمناة التي إن حصلت فلا تعدو أن تكون مؤقتة مرحلية تؤشر لبداية جديدة ورحلة حياتية لن تكون أبدا بمأمن من مواطن أزمة هي يقين/حقيقة لا مجال لتجاهلها..المهم مدى استعداد الذات ورغبتها وقدرتها على مواجهة تلك المواطن متى ظهرت وبدأت تعمل عملها..
هنا يقدم الأنا البطل رد فعل يكشف عن رؤية اغترابية للعالم شديدة الوطأة على نفس الذات وتسطع في سمائها بوضوح هذه الحالة الرومانسية التي تدفع بالمتلبس بها إلى خارج دائرة الواقع في ضوء ما يمكن تسميته (بنية حذف ذهنية/نفسية) تتجلى جماليا فيما يمارسه البطل من أفعال تنعكس في مراياها درجة عالية من الإحباط والإحساس بالعدمية تدفع باتجاه ما يشبه الانتحار المعنوي الذي تفصح عنه حياة هذه الذات في مرحلةٍ ما كان فيها قتل الوقت مع صُحبة سوء.. وعلى المقهى مظهرًا من مظاهر المواجهة السلبية من قبل الأنا تجاه تلك الحالة السلبية ..لكن هذا اللون من رد الفعل ربما يجد له تفسيرا في سياق آخر كذلك الذي جمعه بحاتم: « أنا أعرف يا حاتم أن طلب العدل مرض، ولكنه المرض الوحيد الذي لا يصيب الحيوانات، كل ما في الأمر أننا أنا وأنت شفينا من هذا المرض فأصبحنا نرى أعراضه على الآخرين» إن هناك مفارقة تكمن في تلك القناعة/الأزمة التي تصل إليها الذات بعد نتاج تجارب وتراكم خبرات (طلب العدل مرض)..إن الشعور بالعزلة اجتماعيا ينعكس نفسيا على بنيان هذه الذات التي تندفع إلى الحركة اضطرارا أو استسلاما في إطار وعيين نقيضين، الأول: حقيقي، والثاني: زائف؛ وهو ما يتأكد دراميا بالنظر إلى الصيغة الفنية لشخصية حاتم بإزاء هذه الأنا.. وكأن مستوى الرواية يضع أمام النظر المتأمل خيارين كلاهما صعب: إما أن أكون (حاتم)..وإما أن أكون هذه الأنا.. وكأن عالم الفن بلسان الحال ينشد طريقا ثالثا خارج النص السردي تنهض به ذوات أخرى بعيدا عن هذين النموذجين، ولا شك في أن هذه الغاية تضفي على مستوى الرواية ذاته طابعا رومانسيا حالما يؤكد على مسافة تفصل بالفعل بينه وبين فضاء الشخصيات المقدم لها ويضعنا على أعتاب نتيجة مفادها أن هناك مناظير رؤية متعددة ومتداخلة ومتشابكة تنازع وعي الأديب قبل تجربة الكتابة وفي أثنائها، وليست بالضرورة جميعها يكون منطلقا مما يؤمن به هو، بل ربما يأتي أحدها أو بعضها من دائرة عالمه المحيط متعلقا بأفراد أو كيانات فكرية تنادي بها (أحزاب/حركات سياسية على سبيل المثال)، لكنه في نهاية المطاف يحرص على توسيع دائرة الرؤية عندما يقوم بتشكيلها وإسكانها فنا في داخل ذاك الفضاء الجمالي.. وهي آلية بلا ريب تتمتع بجاذبية وقدرة على استقطاب أكبر قطاع ممكن من المستقبلين..
إذًا فإننا بصدد ما يمكن تسميته بطابع دائري يسم عالمنا وحياة الإنسان فيه يشهد تقاطع النهايات مع البدايات: « جلستْ على أحد المقعدين أمام المكتب فجلستُ قبالتها.. لكن فجأة إذ أجلس أمامها شاردا.. مخدرا بحبها الذي لا يبيد.. أهتف لماذا يا ضحى؟ لماذا كانت السرقة؟ ولماذا كان وقر القمار والفساد؟ ولماذا تركتني فجأة؟.. لم أكن فاوست شريرا جدا كما اعتدت أن تقولي لي ولا كنتِ أنت البريئة الكاملة.. وكانت أسئلتي تخرج متدافعة لا تنتظر جوابا...راحت ضحى تتلفت حولها ثم قالت بما يشبه الهمس.. أعرف أن أخاها الشرير يقهرها فتسقط في الأرض.. ولكنها تبحث في التيه عن أوسير..حين تضل الطريق إليه تصبح هي أيضا أشلاء مبعثرة، ولكنها عندما تجد أوسير تتجنح من جديد..إيسيت رحلت لكنها ستعود وبرز جزء صغير من قرص الشمس»
إن الحدث الروائي قد بدأ رحلته في المكتب وها هو ذا ينتهي إليه وفيه؛ في البدء كان (أنا وضحى)..وفي المنتهى كذلك (أنا وضحى) ..لكن ما يشبه عوامل التعرية قد فعلت فعلها في الاثنين معا فكانت حتمية رفع الأغطية وانكشاف الحجب ليتجلى بعض المخبوء بمثابة كأس قد ذاق منه الاثنان معا؛ إن ضحى عند بهاء طاهر بتجلياتها الفنية والواقعية والأسطورية التي تُخفي تحت عباءتها جُل شخوص الرواية التي تمتزج معا في عجينة صلصالية واحدة قد تخلق منها ذاك الكائن شديد الرمزية شديد الكثافة لهي بمثابة نحت درامي لسياق حياتي في منطقة العقدة/الأزمة/المأزق الحضاري.. لقد انطلق هذا السياق من محطة بداية وفي رحلة المسير يتدثر بأحلام غايات ينشد بها تحققه/تماسكه/يزيل بها مظاهر بعثرته وتفككه.. لكن هذه العقدة تطول/تتسع ليكون ذلك امتحانا قويا لأصحاب النوايا/المصلحين/المالكين أدوات المواجهة.. في أفران واقعية ينصهر فيها الجميع لتخرج منها أعواد عبقرية صُلبة بإمكانها إضاءة مصابيح في جنبات مظلمة؛ لذا فإن حالة اليأس الشعورية البادية التي تزداد وضوحا في الخواتيم ليست كلية وليست مطلقة؛ فتفاديا للمسير الذهني والنفسي في طرق مغلقة مسدودة قد تودي إلى انتحار معنوي وربما مادي تفتح الذات الراوية جزئيًّا في منطقة الختام طريقًا مضيئًا بالقطع سيجد السائرين فيه، في لحظة نهاية قلقة متوترة، ليست تطهيرا يفضي إلى سكون لا ترغبه تلك الذات " إيسيت رحلت، لكنها ستعود.. وبرز جزء صغير من قرص الشمس".. إذًا يتضح أن الراوي في "قالت ضحى" ينطلق في مساره السردي من منطقة عقدة/أزمة لها ظلالها المتواصلة في سياق الحياة المعيش، تتجسد جماليا في هذه الكلمة الدالة "ضحى" وتشكلاتها الفنية في داخل هذا العالم السردي، التي يبدو أنها تأتي استلهاما لسياق قرآني تمثل فيه هذه المنطقة الزمانية والمكانية التي تشير إلى الاجتماع واستعداد الحشود للرؤية الذهنية والبصرية "قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى"، كما تعكس ذروة مواجهة بين حق، وباطل له زينته في العيون بحكم من ينضوون تحته ويقدمونه للجماعة في أثوبة جذابة تسمح له بالحضور المقنع/المشروع ﴿فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم﴾ [ سورة الأعراف: الآية 116] في هذه المنطقة يمكن القول: إنه يتصارع وعيان: حقيقي ينشد الحقيقة/الصدق، ووعي زائف يعتمد منطق المراوغة والتعمية على كل منتمٍ إلى هذا الوعي الأول...ويبدو أن هذه الحالة/الذروة/العقدة ما تزال قائمة في ظل بناء زمني سمته المضارع الذي يتجدد دون توقف في سياق حياة الجماعة البشرية وتتأكد دراميٍا بشكل جلي بالنظر إلى هذه البنية المفتوحة للخاتمة، وكأن ضحى الأزمة الذي ترتفع فيه أصوات البطل/الوعي الزائف لم تتطور بعد إلى ظهيرة ومساء تنفك فيه عقدها بانتصار صوت الوعي الصادق ومن يجتمعون عليه؛ ومن ثم يمكن القول: إن بناء الزمن في الرواية هو بناء ناقص لم يتمم بعد بليل تستريح فيه الجماعة وتسكن بعد تعب وكبد حياتي نهاري تتجلى فيه مسلمة الصراع على أشدها بحكم تداخل الأصوات وتباين الاتجاهات وتشابك مناظير الرؤى الفكرية وما ينجم عنها من أزمات يتلقفها الفن، بل يقف عليها لا يتجاوزها، تماما كما فعل راوي بهاء طاهر في "قالت ضحى".
خاتمة: بناء على هذه المعالجة التطبيقية يتبين الآتي:
• حكاية الواقع ببعديه الفردي والجمعي عبر الفن ينطوي على رؤى متعددة ليست بالضرورة أن تكون جميعها ملكًا خالصًا لقناعات الكاتب.
• ضحى في عالم بهاء طاهر أيقونة جمالية تفتح على حياة تتجاوز حدود الراهن الزماني والمكاني..
• حضور المؤنث في هذه الرواية يكشف عن رؤية رومانسية يمكن القول: إنها تميز عالم الفن بصفة عامة الذي يرحل عن السياق الجمعي ليشاهده من بعيد مغازلا له على طريقة خاصة ترتفع فوق الدلالة المباشرة للملفوظ غزل.
• حضور الأسطورة في هذا العالم الفني يعد بمثابة الهيكل الذي به يتشكل جسده
• إيزيس وأوزوريس، وفاوست علامتان تكشفان عن بهاء طاهر في ثوب المؤرخ والمترجم في سياق الواقع.
• الضحك فعل درامي منتشر في جنبات هذا الفضاء ليعكس حالة انفعالية تنطوي على سخرية..
• تعكس هذه السخرية حالة أزمة وانفصال عن الحلم الذي بفضله تتحرك الذات من منطقة الهو الغائب.. إلى الأنا الحاضر المتحقق..
• الغربة في " قالت ضحى" حالة فردية وجمعية لها مرجعية في حركة الجماعة في مسار التاريخ..
• الحدث الروائي منتج تمت صياغته عبر مستويات سردية عدة: المونولوج، الديالوج، الرواية بضمير الغائب..
• يقدم الفن نفسه أمام جمهوره – في الغالب – من مساحة قلقة/عقدة بين لحظة بداية تم مغادرتها.. ونقطة نهاية لا تأتي وفق مراد الذات..
• بنية النهاية في " قالت ضحى" من النوع المفتوح الذي يشجع على مزيد من الحركة، فالتطهير والإشباع اللذان ينشدهما المتلقي لا يُتاح له تحصيلهما؛ لذا يصير لزاما عليه إنجاز رحلات وهو مشبع بإحساس الفقد المقصود هذا؛ كي يتمكن من نفي ما هو قائم مسيطر على المكون الذهني والعاطفي الخاص به..
• في ضوء هذا المثال الفني عند بهاء طاهر يتضح أن عالم الفن في مجمله ليس إلا نافذة تفتح على واقع حياة من خلال آلية للرصد والوصف دون أن يقدم ما يمكن تسميته بمشاريع للحل يمكن أن نلمسها ونسعى إلى تنفيذها...
• يمثل المؤنث "ضحى" مرادفا فنيا ذا أوجه عدة:
أسطوري فرعوني: يحيل إلى إيزيس في الأسطورة المصرية القديمة.
تراثي عربي: يحيل إلى القاصة شهرزاد في ثقافتنا العربية.
أسطوري عالمي: يشير إلى الوجه القبيح للحياة الذي يمثله فاوست في الأدب الألماني وانتشاره في الأدب العالمي، ويمكن تلخيص رمزيته في هذا التركيب اللغوي "الصفقة مع الشيطان".
تاريخي حديث: يحيل إلى الجماعة المصرية في داخل إطار زماني ومكاني تعبر عنه الحقبة الناصرية على وجه التحديد.
إنساني عام: يحيل إلى فكرة الحياة ذاتها والوضعية القلقة المأزومة للذات في إطار هذه الفكرة، وما تحظى به تلك الوضعية من حضور مستمر لا يزول بشكل مطلق..
• في ظل هذا المنطلق الرومانسي في سرد بهاء طاهر يمكن القول: إن الرومانسية – بصفة عامة – تتميز بطابع رحلي يتجلى في:
رحيل جمالي: يشترك فيه كل منتم بإبداعه الذي يهواه إلى عالم الفن؛ إذ يعني خروجًا من حالة معينة إلى أخرى تتدثر بثوب محدد يعبر عن النوع الفني الذي يمثله.
رحيل ذهني ونفسي: يعني بدرجة كبيرة قدرًا من الانفصال عن معطيات فكرية تهيمن على الوعي بشقيه الفردي والجمعي في سياق زماني محدد.. وبموازاة هذا الرحيل يمكن القول: إن كل عمل فني أيا كان الشكل الذي ينتمي إليه يحمل في طياته صبغة رومانسية بحكم حالة الابتعاد هذه التي تفرض على صاحبها شيئًا من التجرد والانسلاخ بغية الاقتراب مما يمكن تسميته (نظر صاف) ينشد تخلصا من وحالة ضبابية تتولد نتيجة تفاعلات تنشأ بين الفرد والجماعة – غالبا – في سياق الواقع..
رحيل زماني: فبالنظر إلى "قالت ضحى" نجدها قد صدرت في العام 1985م؛ ومن ثم فإن الطابع الرحلي لرومانسية بهاء طاهر يقول: إنه يتعامل مع الحقبة الناصرية في الخمسينيات والستينيات بعد أن ولجت كتاب التاريخ، الذي يعيد هو إنتاجه وفق رؤية جمالية شديدة الخصوصية تنتمي إلى عالم السرد الروائي..إذًا فإن ضحى تعد بمثابة مرآة درامية عاكسة للاثنين معًا: المرئي من الحياة والعالم بامتداداته التي تبدأ من نقطة تمثلها الذات المفردة ثم تتسع تدريجيا في شكل دوائر محلية وعالمية وإنسانية...و طريقة رؤيته عبر هذا السياق المميز (الفن).
10. مصادر البحث ومراجعه:
الكتب:
1. بهاء طاهر، قالت ضحى، عدد 444، روايات الهلال، القاهرة. ربيع ثان، ديسمبر 1985م.
2. تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، عالم الكتب، القاهرة. ط3، 1998.
3. رولان بارت وآخرين، اللغة والخطاب الأدبي، المبحث المعنون بـ" الأدب بلاغة"، تر: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. ، ط1، 1993م.
4. رينيه ويليك، مفاهيم نقدية، تر: محـمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 110، 1987م.
5. سيجموند فرويد، الموجز في التحليل النفسي، تر: سامي محمود علي، عبد السلام القفاش، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 2000م.
6. سيد محـمد قطب وآخرين، الجيولوجيا الثقافية للعلامة الروائية، ، مكتبة الآداب، القاهرة. ط1، 2012م
7. عادل فاخوري، تيارات في السيمياء، دار الطليعة للطباعة، بيروت.ط1، 1990م.
8. ابن فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا)، الصاحبي في فقه اللغة، الطبعة الأولى، 1414هـ، 1993م، مكتبة المعارفن بيروت، لبنان.
9. فريد عوض حيدر، علم الدلالة: دراسة نظرية وتطبيقية، مكتبة الآداب، القاهرة. ط1، 2005م
10. محـمد خطابي، لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. ط1، 1991.
11. مصطفى ناصف، النقد العربي: نحو نظرية ثانية، الفصل الخاص بالبحث عن أسطورة الجماعة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد255، 2000م.