تقنية الاستهلال السّردي في الرّواية العربيّة
الباحث المراسل | علي خزام المعمري | وزارة التربية والتعليم |
Date Of Submission :2024-11-24
Date Of Acception :2024-12-10
Date Of Publication :2025-04-22
Date Of Acception :2024-12-10
Date Of Publication :2025-04-22
Referral to this Article
| Statistics
| Share | Download Article
مهاد نظري:
يعيش الرّوائي مخاض الجملة الأولى لروايته، فهو في بحث مضنٍ عن تلك الجملة أو الجمل التي يريد أن يقرأها المتلقي في بداية روايته، فهو بين ألم وأمل، وبين قلق وشغف، ورغم تلك الحالة الشّعورية للرّوائي إلا أنّه في "رحلة صيد" عن الاستهلال السّردي المناسب، وقد يتنوّع الاستهلال من رواية لأخرى، فضلا عن تنوّعه للرّاوي نفسه في رواياته، ومسلَّمة هذه الدّراسة تقوم على أنّ للرواية استهلالها المناسب الذي يتضمّن الفكرة العامّة التي تقوم عليها تلك الرّواية، ويكشف عن نسقها الثّقافي لمرجعيّة شخصياتها.
ويمكن تعريف الاستهلال بأنّه "نقطة عبور" بين فضاءين: واقعي، وتخييلي (لودج، 2002، ص9)، أو هو "مفتاح البيت الكبير"(النصير، 1986، ص39) الذي بواسطته يدخل القارئ إلى الرّواية، فهو "عتبة استراتيجية" (بنحدو، 1998، ص99) يدلف منها المتلقّي -وهو يقرأ النّص الرّوائي- من الواقع الذي يعيشه إلى المتخيَّل الذي يصوّره الرّوائي، أو هو "فعل متعدٍ" كما أطلق عليه أحمد العدوي إذ يشبّه "البدايات الجيدة بالفعل المتعدّي الذي يتجاوز إلى ما بعده، ليكون فاعلا فيه، ومرتبطا به" (العدوي، 2011، ص18)، أو يَعَدُّه عبد الملك أشهبون "وعاء معرفيا وأيديولوجيا يختزن رؤية المؤلف، وموقفه من العالم" (أشهبون، 2004، ص87 ص88)، والاستهلال بهذه الأهمية لابدّ أن يملك "توازنا داخليا إن فقده الرّوائي أو لم يحسن بناءه تخلخل العمل" (حافظ، 1986، ص39).
وقد يأتي الاستهلال مكثّفا أو مفصّلا (الشوابكة، 2006، ص18)، وهذا ربّما يفسّر قِصر الاستهلال من طوله، فالمكثّف مساحته فقرة، أو عبارة، والمفصّل قد يستغرق فصلا أو فصولا؛ ليشمل "الفقرة الأولى، وربما الصفحة الأولى، أو يمتدّ ليشمل الفصل الأول بأكمله" (العدواني، 2011، ص 39).




العينة الرّوائية:
سنناقش تقنية الاستهلال في أربع رواياته وهي: رواية (الشّراع المقدّس) للقطري عبد العزيز آل محمود، وصدرت هذه الرّواية عن دار حمد بن خليفة للنشر والتوزيع بدولة قطر عام 2014، وهي رواية تاريخيّة تروي أحداث الصّراع الدّموي بين الأسطول البرتغالي بقيادة البوكيرك، وكلّ من سلطنة الجبور في المنطقة الشّرقيّة من المملكة العربيّة السّعوديّة حاليّا، ومملكة هرمز التابعة حاليّا لسلطنة عمان، وتروي جانبا من الصّراعات بين دولتي المماليك والعثمانيين، والبلدان التي هاجمها الأسطول البرتغالي مثل: عدن وقلهات ومسقط والهند، أضف إلى ذلك أن هذه الرّواية تسلّط الضوء على دور اليهود في مساعدة الاستعمار البرتغالي للخليج والدول العربية في نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السّادس عشر الميلادي.
والرّواية الثانية هي رواية (السّيّد مرّ من هُنا) للعماني محمد بن سيف الرحبي، الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي ببيروت عام 2011، وتحكي هذه الرّواية سيرة السّلطان سعيد بن سلطان الذي أسس امبراطورية عظيمة في مسقط وزنجبار على الساحل الأفريقي، وهي رواية تجريبية يسعى الرحبي من خلالها إلى البعد عن الخط التقليدي للكتابة السّردية، ومحاولة جادة لتقديم رواية بآليات وحيل سردية مغايرة لكلّ ما هو سائد، فقد اشتغل الرحبي على تداخل الزّمن الحاضر "زمن بطل الرّواية" بالزّمن الماضي "زمن الشّخصيّة المسرودة السّلطان سعيد بن سلطان"، الذي استطاع بهذا التداخل الزمني أن ينتقل البطل/ الحالم والعاشق للسلطان سعيد بن سلطان بين أفضية الزّمان والمكان؛ ليركب مع السّلطان سعيد سفينته، ويصل زنجبار، ويتجوّل في قصوره، ويجالس وزراءه، ويسافر مع أول مبعوث عربي لأمريكا أحمد بن النّعمان الكعبي على السفينة "سلطانة".
وظهرت في هذه الرّواية الشّخصيّات المرجعية بشتى أنواعها التّاريخيّة والاجتماعية والمجازية، حاملة الرّوافد الثّقافية والدّينيّة لكلّ شخصيّة ومدى تأثير تلك الرّوافد في رسم الشّخصيّات وعلاقتها ببعضها البعض، ووضحت في هذه الرّواية إشكالية مرجعية الشّخصيّات ومتخيلها السّردي الذي ظهر جليا في انصهار شخصيّة الرّاوي بشخصيّة البطل، ومدى تأثير المرجعية الثقافية في كلا الشخصيتين.
والرّواية الثالثة هي رواية (المُخوْزِق) للسعودي أشرف إحسان فقيه التي صدرت عن دار أثر للنّشر والتّوزيع بالمملكة العربيّة السّعودية عام 2013، وهي رواية تاريخية فانتازية مرعبة، تحكي قصة أورهان أفندي المبعوث السّري للسّلطان العثماني محمد الفاتح لولاية ولاشيا في شمال الدانوب؛ ليبطل الخرافة المخيفة التي انتشرت من عودة فلاد دراكولا الشهير بالمُخوْزِق حاكم ولاشيا السابق الذي قتله العثمانيون بعد أن أعلن الحرب عليهم، ليلقى أورهان أفندي مصيره المحتوم مخوزقا على عمود خازوقي، وكأن الرّواية تحكي قصة المُخوْزَق "أورهان أفندي" لا المُخوْزِق "فلاد دراكولا".
وتتناول الرّواية من خلال شخصياتها المرجعيّة كالسّياسية والتّاريخيّة والاجتماعية والمجازية تمثلات متعدّدة منها تمثّلات الألم بين العنف الجسدي والعنف النفسي، وتمثّلات جسد المرأة الشبقي والمغري، وتمثلات المهمشين "الغجر" ودورهم في أحداث الرّواية، وتمثلات الحدث التاريخي بين الحقيقة والخرافة، وبين الحضور والغياب.
والرّواية الرابعة والأخيرة هي رواية (نارنجة) للعمانية جوخة الحارثية الصّادرة عن دار الآداب ببيروت عام 2016، وهي رواية تحكي جانبا من تاريخ سلطنة عمان وتحوّلاته الاجتماعية والسّياسية من خلال قصة أربعة أجيال: الجدة، والصّديقة الباكستانية، والذات الساردة (الرّاوية).
وملخص الرّواية يحكي قصة الفتاة العمانية "زهور" الطّالبة الجامعيّة التي ذهبت إلى لندن لتكملة دراستها، واستذكارها لجدتها "بنت عامر" وأختها "سليمة" ثم يتداخل السّرد مع عالم آخر من خارج السّلطنة وهي قصة الفتاة الباكستانيّة "كحل" التي تنحدر من أسرة ارستقراطية لها قوانينها الصّارمة في الحياة، وقصّة حبّها مع زميل دراستها "عمران".
وتناولت الرّواية شخصيات سياسية واجتماعية وتاريخية بمرجعياتها الثّقافية التي ناقشت قضايا اضطهاد المرأة وتمثّلات التّملك بين الرّجل والمرأة، وتمثّلات السّلطة الذّكورية، وتطرح قضايا أخرى كنظرة الطبقة الأرستقراطية لبقيّة الطّبقات في المجتمع، وتمثّلات الفتاة الرّاقية بين رغباتها الشخصيّة ورغبات أسرتها الأرستقراطية.
استهلال (الشّراع المقدّس) ينقذ المستوى الاقتصادي، وينشر المسيحية:
حدود الاستهلال:
يُعدُّ هذا استهلال من أطول استهلالات المدوّنة الرّوائية، فقد شغل فصلا كاملا من الرّواية، وانتشر على ست عشرة صفحة، وعُنْوِنَ بـفضاءين: مكان (مدينة لزبن بالبرتغال) وزمان (ديسمبر عام 1486م)، وهذه ميزة أخرى تضاف لهذا الاستهلال، فهو محمّل بإرث تاريخي في المكان، وحقبة زمنية فارقة.
مضمون الاستهلال:
تبدأ رواية (الشّراع المقدّس) باستهلال وصفي لمدينة لزبن بالبرتغال في شهر ديسمبر عام 1486م، وهو استهلال فضائي (زمكاني)، وضّح الرّاوي في هذا الاستهلال الوضع الاقتصادي والاجتماعي للمدينة التي "كانت تمر بضائقة مالية خانقة، فقد دخلت البرتغال في حروب طويلة مع جارتها إسبانيا، وفي حملاتها على الشمال الأفريقي استهلكت مخزونها المالي"(آل محمود، 2018، ص7)، ممّا دفع بالأسطول البرتغالي لخوض حربه مع المنطقة العربية والخليج؛ لتعويض هذا الوضع المالي المزري، وفي هذا الاستهلال تتكشف لنا أسرار تفكير الطرف الآخر، ومرجعيته الثّقافية في حلّ مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية التي تلمّ به، فلا يرى إلا البلدان الإسلامية منقذا من تلك المشكلات.
وتتجلى تقنية الاستهلال السّردي في هذه الرّواية في الكشف عن أبعاد دلالية عميقة لبيان المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تحيط بأحداث الرّواية زمانيا ومكانيا، وهذا الكشف يضطلع به الوصف في وظيفته السّردية التي تسعى إلى "تزويد ذاكرة القارئ بالمعرفة اللازمة حول الأماكن والشّخصيّات، وتقديم الإشارات التي ترسم الجو، أو تساعد في تكوين الحبكة"، (الزيتوني، 2002، ص172)، ففي هذه الرّواية يستهلّ السّارد روايته بمشهد شخصيات الأطفال "البؤساء"؛ لتوضيح الجو العام لهذا المشهد الذي يحدث في مدينة لزبن بالبرتغال في ديسمبر عام 1486، فيبدأ روايته ساردا الحالة الاقتصادية لهذه المدينة في فصل الشّتاء القارس "مع حلول الليل، يمتلئ الطريق الرئيسي في مدينة لزبن بأجساد البؤساء الذين لا يجدون مأوى من البرد القارس"(آل محمود، 2018، ص7)، ثم يصف حالهم وطريقتهم في الحصول على الطعام والدفء؛ ليفتح للمتلقي دلالات كثيرة لهذا المشهد لعلّ من أهمها المستوى الاقتصادي لمدينة لزبن في ذلك العام الذي يسبق غزو الأسطول البرتغالي للخليج العربي، وهذا المستوى الاقتصادي كان من المسوّغات الأساسية للغزو بجانب المسوّغ الآخر وهو نشر المسيحية.
وهنا تبرز الشخصيّة المرجعية في هذا الاستهلال مع ظهور شخصيّة كوفيلهام وبافيا اليهوديين، وشخصيّة مانويل أخي زوجة ملك البرتغال الذي سيصبح ملكا فيما بعد، وهذه الشّخصيّات الثلاث تعكس المرجعية التّاريخيّة الدّينيّة للغزو البرتغالي للمناطق الإسلامية، يقول مانويل عند حديثه مع كوفيلهام: "سنسيطر على العالم، وننشر المسيحية ونتخلص من كل الهراطقة"(آل محمود، 2018، ص19)، ، وهذا ما أكّده البوكيرك قائد الأسطول البرتغالي لملكه في فصول الرّواية الأخرى "سيموت الرجال من أجل الصليب، ومن أجل الملك، لقد خلقنا الله من أجل هذه المهمة، وسيأخذ أرواحنا من أجل هذه المهمة أيضا، كلنا فداء للملك والصليب"(آل محمود، 2018، ص205).
ونلمح المرجعية الثقافية كذلك في ظهور الطبقية والمستوى الاجتماعي بحمولاتها الاقتصادية والإيديولوجية في مشهد الرجلين اللذين "يلبسان ملابس ثقيلة، ويضعان على رأسيهما أغطية الرأس المخروطية الموصولة بأرديتهما وكأنهما كاهنان كاثوليكيان، مرّا بسرعة بين البؤساء المتدثرين بكل أنواع الأقمشة المقطعة والممزقة"(آل محمود، 2018، ص8)، ، وهنا تتناقض الشّخصيّات المرجعية: التّاريخيّة والاجتماعية في المعيشة والملبس والوضع الاقتصادي، فأجساد الأطفال البؤساء تركض "خلف قادم من بعيد ليجروا أطراف ثوبه، يسألونه أن يتصدق عليهم ببعض المال، وهم يشيرون إلى أفواههم، ويضعون أيديهم على بطونهم في إشارة إلى مدى جوعهم"(آل محمود، 2018، ص7).
ومن أمثلة المرجعية التّاريخيّة في هذا لاستهلال السّردي ربط فتح القسطنطينية عام 1453 بسوء الوضع الاقتصادي للبرتغال "أنتم تعلمون أن أوروبا انقطعت عن العالم بعد أن احتل العثمانيون القسطنطينية عام 1453 بعد ميلاد إلهنا يسوع، فلم نعد نستطيع معرفة ما يدور خلف تلك الأرض، وتعلمون أيضا أن البنادقة قد عقدوا اتفاقيات مع العثمانيين تسمح لهم بالسيطرة على التجارة من الموانئ الإسلامية إلى أوروبا، (...)، وإن لم نستطع كسر هذا الاحتكار فسنموت ببطء"(آل محمود، 2018، ص13 و14).
والملمح الآخر للمرجعية الثقافية الدّينيّة هو إسناد أدوار في هذه الحرب للكهنة مثل "مارو" الذي رسم خارطة للعالم كانت المرجع الرئيسي لتحرك الأسطول البرتغالي، والقديس "جون" الذي "يحكم مملكة كبيرة في إفريقيا، ولديه جيش قوي يستطيع أن يحطم به ممالك المحمديين"(آل محمود، 2018، ص18)، أضف إلى ذلك أن وجود الشّخصيّات اليهودية كـ "موسى" و"كوفيلهام" و"بافيا" لدليل على المرجعية الثقافية الدّينيّة.
ونستخلص من هذا الاستهلال السّردي أن الحافز الأساسي لتلك الحروب التي شنها البرتغاليون على البلدان الإسلامية إنما كانت ذات مرجعية دينية في المقام الأول، وبالتالي لا غرو أن نجد الشّخصيّات الدّينيّة والتّاريخيّة ماثلة للعيان في هذه الرّواية كالرّهبان وأئمة المساجد والسّلاطين، واستهداف المقدّسات الإسلامية كالمساجد، وانطلاق الحملات من الكنائس، وصحبة الرهبان في سفن البرتغاليين.
استهلال (السّيّد مرّ من هنا) أنْسَنة السّوق، وتطْواف الرّاوي:
حدود الاستهلال:
يُعدُّ استهلال رواية (السّيّد مرّ من هنا) من أقصر الاستهلالات في هذه المدوّنة الرّوائية، فقد قسّم الكاتب أحداث روايته ثلاثة أقسام: الأول عنونه بـ "رحلة الحلم" والثاني بـ "حلم الرحلة"، والثالث بـ "حلم"، وما يعنينا هنا هو القسم الأول، فقد رقّمه الكاتب بأرقام بدأت من (1) وانتهت بـ(28)، ومن وجهة نظر الباحث فإن الاستهلال السّردي حمل رقم (1)، ولم يتعدّ الصفحتين.
مضمون الاستهلال:
يركّز الاستهلال السّردي على المكان كرواية (الشّراع المقدّس) لكنه من زاوية أخرى، فقد بدأت الرّواية باستهلال وصفي لسوق مطرح بسلطنة عمان -أحد فضاءات الرّواية- هذه السّوق التي تقع على البحر أو على خليج عمان، وهو استهلال فضائي (زمكاني) لهذه السّوق التي يتجاذبها فصلان من فصول السنة: الشّتاء والصّيف، كما يؤنَس الرّاوي -الشخصيّة الرئيسة في الرّواية- هذا المكان فيجعل له عينين: عين تطلّ على البحر، وأخرى باتجاه الجبال، مع مشهد عام للسّياح الجائلين على الشّارع البحري لهذه السّوق، وللسائرين بتؤدة يسرقون النظرات إلى تلك الأجساد الفاتنة الأوروبية، ثم على العين الأخرى باتجاه الجبال ثمة بائع للجبن المكور الذي يحاول أن يداري إزاره كي لا يقذف به الهبوب بمنأى عن عورته (الرحبي،2011، ص7و8) في تجلّ واضح للوضع الاقتصادي، وإلى الثّقافة السّائدة من سلوكيات، ولنظرة التعجّب والاندهاش من الطّرف الآخر "الأجساد الفاتنة الأوروبية"، مع وجود ملمح آخر للثّقافة السّائدة في عُمان في ذلك الوقت من خلال بعض الأكلات الشّعبية، وطريقة صنعها، وصنوف الملابس الرّجالية المتعدّدة.
إن اللافت للنّظر أنّ "أنسنة المكان" حاضرة في هذا الاستهلال السّردي، وهو تمظهر تجديدي في بنية الرّواية المعاصرة القائمة على إنشاء علاقة خاصّة بين الإنسان والمكان، والبعد عن العلاقات المألوفة بينهما، فبالرغم من كون المكان يدخل "في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية الأخرى للسّرد كالشّخصيّات والأحداث والرؤيات السّردية" (بحراوي، 1990، ص26) إلا أنه -بالأنْسَنة- يقيم علاقات أخرى قائمة على اكتساب صفات بشرية وحركات إنسانية، تنبض بالأحاسيس والمشاعر كالإنسان تماما.
وتقوم الأنْسَنة على الانزياح اللُّغوي الذي يشكّل مادة غنية ليتقمّص المكان صفات الإنسان المشبّع بالانفعالات والأحاسيس، وهي -الأنْسَنة- ظاهرة أسلوبية متجذّرة في الأدب العربي، فـ"الشّعراء منذ العصر الجاهلي أحسّوا بجمالية هذا الأسلوب، وقوّة وقعه على السّامع، فقاموا ببث الحياة الإنسانيّة في غير الإنسان" (الشمري، 2018، ص 23)، لكن مصطلح الأنْسَنة جديد ظهر في العصر الحديث مرتبطا بالأفكار الفلسفيّة الداعية للاهتمام بالإنسان، وجعْله محور الكون والوجود، ومن هنا انتقلت الأنْسَنة إلى الحقل الأدبي بوصفها تقنية فنيّة تقوم على إضفاء صفات الإنسان على غير الإنسان من الأمكنة والحيوانات والظّواهر الطبيعيّة (مرشد،2003، ص7).
وتتمثّل أنسنة المكان في هذا الاستهلال ببعديه: الجسدي والنفسي، ففي البعد الجسدي يكسب الرّاوي السّوق الصفة الإنسانية من خلال جعل عينين للسوق "يطل بعينيه من زاويتين مختلفتين، واحدة على الماء، والأخرى باتجاه الجبال" (الرحبي،2011، ص7)، ينظر بهما كالإنسان: الأولى تنظر للبحر متأثّرة بفصلي الصّيف والشّتاء كما يتأثّر الإنسان بهذين الفصلين، والأخرى تنظر للجبال، متأثّرة بحيوات الطبقة الكادحة، وما يصاحب هذا التأثر من بعد نفسي لتلك العينين.
وفي عيني السّوق توافق حسي ومعنوي: فالعين المطلّة على البحر حيث الأفق الواسع، والنّسيم العليل، والانفتاح على الآخر، تتوافق تلك العين مع أجساد السّياح الكاشفة الآتية من أوروبا، بحثا عن الترفيه، والتواصل مع الأجناس الأخرى، واكتشاف عوالم جديدة، بينما العين المطلّة على الجبال حيث القسوة والخشونة والصّلابة والرّسوخ تتوافق مع حياة بائع الجبن المكوّر ومهنته القاسية ذات الدّخل المحدود، والجهد الشّاق، ووجود طبقة الكادحين البسطاء من المهاجرين الآسيويين وفقراء البلد، ممّا يفضي لنشوء ثنائية تناقضية بين السياح (الأغنياء) الذين يقضون أوقاتهم في التنزه والإنفاق والسياحة، وبين تلك الطّبقة البسيطة (الفقيرة) التي تقضي وقتها في البحث عن لقمة العيش والكدّ وامتهان مهن بسيطة كبيع الجبن والشّاي أو البحث عن المال المشاع في نخيل البلدية المزروعة على جوانب الشّوارع الكبرى.
وفي البعد النفسي لتلك العينين نجد العين المطلّة على البحر تتوقّد صوب السياح الكاشفين عما تيسّر من أجسادهم... وأجسادهنّ، وما يترتّب على هذا "التوقّد" من حالة نفسية تبحث عن اللّذة والمتعة في تلك الأجساد، وفي المقابل نجد العين المطلة على الجبال تتأثّر بالطّبقة الكادحة وتشعر بمدى العوز والحاجة، وما يصاحب هذا التأثّر من حالة نفسيّة تجثم على صدرها الحسرة والألم والحزن.
وقد صاحب الأنْسَنة "تطواف" للرّاوي، فالسّوق هي نقطة عبور بين فضاءين: واقعي، وتخييلي، فثنائية عين السّوق ترمز إلى ثنائية شخصيّة الرّاوي الذي يعيش عالمين: عالم حقيقي وردت شخصيته في الاستهلال، وعالم تخييلي تمثّل في شخصيّة الشّاب الحالم التي وردت في بقية أحداث الرّواية، فالاستهلال هنا يكشف مدى ارتباط الرّاوي بالمكان -سوق مطرح- فرغم أنّ أحداث الرّواية مبنية على التّخييل إلا أنّ لها أصلا واقعيا، فهي تروي معاناة شاب عاش في سوق مطرح، كما عاش والده وأجداده، لكنّه تعرّض لمعاناة، وأزمة مالية نتيجة نصب واحتيال من البشر فلمّا ساءت علاقته بهؤلاء البشر، أقام علاقة "إنسانية" مع السّوق، وأضفى عليها صفات بشرية، وتقمّص دور الشاب الحالم الذي يهرب من واقعه المرير نحو "إنسانية" السّلطان سعيد بن سلطان، وفتنة جمال ابنته خولة.
استهلال (المُخوْزِق) بين خرافات العوالم السّفلية، وأفندي السّلطان:
حدود الاستهلال:
يتكوّن الاستهلال السّردي للرّواية من ثلاث صفحات تضمّنت ثلاثة مكوّنات انفردت بها هذه الرّواية عن بقيّة المدوّنة الرّوائية، فالمكوّن الأول عبارة عن صفحة معنونة بـ "هذه الرّواية" تقدّم ملخّصا عن مضمون الرّواية، ثم المكوّن الثّاني عبارة عن صورة لخارطة حدود الدّولة العُثمانية عام 886هـ - 1481م، والمكوّن الثّالث رسالة فلاد دراكولا-إحدى الشخصيات الغائبة في الرّواية - لملك المجر ماتياس كورفينوس بتاريخ الثاني من نوفمبر 1462 للميلاد.
مضمون الاستهلال:
يبدأ الاستهلال السّردي في رواية (المُخوْزِق) بتمهيد معنون بـ "هذه الرّواية" يحمل في طياته المرجعية التي قامت عليها هذه الرّواية وهي المرجعية التّاريخيّة والدّينيّة، ويُعَدُّ هذا الاستهلال ملخّصا تاريخيا لأحداث الرّواية، وتمهيدا لما سيحدث فيها من مشاهد رعب وخوف.
ويعطي هذا الاستهلال جرعة تاريخيّة لمن لا يعرف الحقبة الزّمنية التي تدور فيها أحداث الرّواية، فهذا الاستهلال مثقل بالشّخصيّات التّاريخيّة والدّينيّة مثل السّلطان محمد الفاتح، ووالي ولاشيا العُثماني، وفلاد دراكولا الشّهير بالمُخوْزِق، أضف إلى ذلك أنّه يحمل تاريخا لإعدام دراكولا، ويوضّح هذا الاستهلال مكان أحداث الرّواية، وهو مكان تاريخي له صفة اعتبارية في التاريخ العُثماني وهي الأراضي التي تقع شمال الدانوب، لاسيّما ولاشيا.
كما يبرز الاستهلال فحوى الأسطورة التي انتشرت كانتشار النّار في الهشيم، وهي عودة الكونت فلاد دراكولا من الجحيم بعد إعدامه، وبوادر ثورة في البلقان دافعها الرّعب الأعمى، وخرافات العوالم السفلية، ثم تلخّص مهمة أورهان إفندي المبعوث السّري للسّلطان محمد الفاتح وهي هدم أسطورة المُخوْزِق فلاد دراكولا.
وفي المكوّن الثاني لهذا الاستهلال خارطة حدود الدولة العثمانية 886هـ - 1481م، وخلال هذه الفترة الزمنية وقعت أحداث هذه الرّواية، ولعلّ وجود هذه الخارطة بداية الرّواية تعين على تخيّل الأحداث في أماكنها الواقعيّة، وتخيّل المسافات بين أماكن وقوعها، فالرّحلة التي بدأها أورهان إفندي من إسطنبول إلى قلعة بوخارست يستطيع المتلقي من خلال اطلاعه على هذه الخارطة تخيّل مسار الرّحلة، وأحداثها المروّعة.
وفي أحداث الرّواية تظهر لنا هذه الخارطة، فقد استعان بها دينيز لكي يستوعب أورهان إفندي جزءا من التّاريخ العُثماني الذي لم يعاصره، "يهز أورهان رأسه محدّقاً في الخريطة السيئة الـتي أحضـرها دينيز، لكنها تفي بالغرض وتقدم تبريراً واضحاً لتشكيك السّلطان مراد في قدرة الكونت على الثبات. ثبت عينيـه علـى ولاشــا وامتدادها الشمالي المعروف باسم (ترانسلفانيا). فوقهمـا تمامـاً كانت مولدافيا. تلك المقاطعات الثلاث وما تحتها، يسميها الأتراك (الروملي)؛ أرض الروم" (فقيه، 2013، ص31).
وفي المكوّن الثّالث لهذا الاستهلال يستحضر الرّوائي جزءا من رسالة فلاد دراكولا لملك المجر ماتياس كورفينوس بتاريخ الثاني من نوفمبر 1462 للميلاد، وفيها يقدّم دراكولا إحصائيات مروّعة لعدد القتلى في مناطق الدانوب، وأسرى الأتراك، وفيها يعلن الحرب على السّلطان محمد "قتلنا قرويين رجالا ونساء، بالغين وأطفـالا. قرويـون من أوبلوسيتزا ونوفوسيلم، حيث يلتقي الدانوب بالبحر، صعودا إلى راموفا قرب تشيليا عند الدانوب الأعلى. وقتلنا ثلاثة وعشرين ألفا وثمانمئة وأربعـة وثمـانين أسيرا تركيا، بدون أن تعد أولئك الذين أحرقنـاهم ببيوتهم، ولا الأتراك الذين قطع جنودنا رؤوسهم. عليه، ينبغي أن تعلموا يا صاحب الجلالـة، بـأني قـد أعلنت الحرب على السّلطان محمد"(فقيه، 2013، ص9).
ونخلص من خلال هذا الاستهلال ذي البنية الحدثية المحورية (الحدث المحوري)، وبالاستهلال المبني على تقديم الشّخصيّات، والمرجعية التّاريخيّة والدّينيّة للرّواية يتّضح الحدث المحوري للرّواية – كما أسلفنا سابقا- وهو إرسال السّلطان محمد الفاتح تابعه أورهان أفندي ليهْدم أسطورة المُخوْزِق فلاد دراكولا التي تتحدّث عن بعثه من الجحيم بعد موته وأنّ إبليس تقمّص روحه، ورجع؛ لينتقم من الأتراك (فقيه، 2013، ص7).
استهلال (نارنجة) رمزية الأصابع والعيون:
حدود الاستهلال:
يتكوّن الاستهلال السّردي في هذه الرّواية من ست صفحات ومعنون بـ "الأصابع"، وتظهر فيه الرّاوية متشظّية بين عالمين: الماضي، والحاضر، وبين فضاءين: الجامعة، وبلدها الأصلي، وبين حالتين: الندم، والفرح.
مضمون الاستهلال:
يبدأ الاستهلال بمشهد "الأصابع" و"العينين" فتلعب العينان دور الرّاصد المتفاجئ لتلك الأصابع الممتلئة والمتجعّدة بأظافر خشنة، وبخاتم وحيد من الفضّة، وبإبهام تنتهي بظفر صلب أسود، محتفظا بآثار جرح بليغ كاد يقطعها، ثم تصف الرّاوية -الشّخصية السّاردة- مشهدا آخر لتقليم تلك الأظافر، ولاسيّما الظّفر الغريب الذي تعجز عنه أضخم قلامة أظافر؛ لتتكرّر المفاجأة مرة أخرى عندما تظهر سكين صغيرة؛ لتقوم بمهمة تقليم الظفر الأسود الصلب، لكنّ الشّخصية السّاردة تقلّم بقية الأظافر السليمة، ثم تترك مهمة الظّفر الأسود في الإبهام المشوّه لصاحبته "المبهمة" حتى اللّحظة (الحارثية، 2016، ص9).
والملاحظ أنّ الشّخصية السّاردة تنتقل بين المشاهد دون مراعاة للزّمن، بل تستخدم الظّفر عاملا سرديا مشتركا بين تلك المشاهد، مع عامل الفجاءة كذلك، ففي مشهد غرفتها الجامعية تعاود العينان دور الرّاصد المتفاجئ، فبينما ترى الشّخصية السّاردة الثلج يتساقط عبر النافذة، وهي حافية القدمين ترى فجأة الظفر الأسود، لكنّه هذه المرة "معقوفا"، وهي تتلوّى من شدة النّدم؛ لترك هذا الظفر الأسود يطول هكذا مهملا ومعقوفا (الحارثية، 2016، ص 9و10).
ونلحظ هنا نوعا آخر من المرجعيات الثّقافية في هذه الرّواية وهي المرجعية الثّقافية الاجتماعية، فكلّ ما يدور في هذا الاستهلال إنما يوضّح جانبا من الحياة مع كبار السن، وما يتوّلد عنه من "صراع بين الأجيال"، وفي جانب آخر من الاستهلال يوضّح الحياة مع زملاء الدّراسة وما تكتنف هذه الحياة من تصرفات وأسرار وحكايات، ممّا يولّد ما يسمى بـ "فن التّعامل مع زملاء الدّراسة"، وقد لعب "الظّفر" دورا محوريا في هذه العلاقات بين الكبار وزملاء الدّراسة، حتى كاد "الظفر" أن يكون شخصيّة مرجعية رمزية، بجانب الشّخصيّات المرجعية الاجتماعية في هذا الاستهلال.
وتحضر الأظافر بكثافة في هذا الاستهلال؛ لتفتح دلالات ورموز عند كلّ شخصيّة فيه:
ظفر الشخصيّة "المبهمة" الذي يرمز للتّجاهل والتّغافل، والشعور بالندم من قبل الشّخصية السّاردة.
ظفر الشّخصية السّاردة المطلي بالأحمر الذي يرمز للفرح والسرور والمشاركة في حفل عيد زميلتها "سرور".
أظفار "سرور" المقلّمة الخالية من الطلاء التي ترمز للشخصيّة البعيدة عن الخدوش والندوب والأنواء.
ويتمثّل الظّفر الأسود بين الظهور والاختفاء، فيظهر عندما تخفي سرور سرّ الزّواج العرفي لأختها "كحل" عن عائلتها، وهو سرّ ثقيل "تجرّه بداخلها مثل إصبع مشوه بظفر أسود معقوف"(الحارثية، 2016، ص13) ، ويظهر "الظفر الأسود" مدافعا عن الشّخصية السّاردة عندما "مرغت" في التراب على يد فطوم وعليان، فقامت الشخصيّة المبهمة بمناولتها العصا قائلة: "اذهبي الآن واضربيهم" (الحارثية، 2016، ص13)، بينما يختفي هذا الظفر الأسود المعقوف في مشهد الدفء والحنان "جالسة، كما ظلت في السنوات العشر الأخيرة، وجهها جميل وملئ بالتجاعيد، وابتسامتها مشرقة وطيبة، وذراعاها ممدودتان لي، حين تمتد ذراعاها باتجاهي تتثنى طرحتها الطويلة زاهية الألوان عشرات الثنيات، يلمع خاتمها الفضي في الخنصر السليم، يتوارى الظفر المصاب، وأنا سأرتمي في حضنها" (الحارثية، 2016، ص11)، ولعلّ هذا الاختفاء راجع إلى أنّ التشوّه لا يتناسب مع أحضان هذا الدفء.
ويظهر في هذا الاستهلال "الطويل" تمثّل الجسد في بعده الجزئي من خلال الأصابع ذات الظّفر المشوّه، أو الأظافر المطلية بالأحمر، أو الأظافر المقلّمة، وكذلك من خلال العيون والذراعين، ويتمثّل الجسد في بعده الكلي في مشهد عراك الأطفال " اقتربت هي بهيكلها الضخم، وطولها الفارع، وجسدها الممتلئ، وأهوت بالعصا التي تتوكأ عليها على فطوم وعليان" (الحارثية، 2016، ص13).
ويحدّد لون الظفر الحالة النفسية للشّخصيّة السّاردة، وعلاقتها بالشّخصيّات الأخرى، فهي تشعر بالندم واللوم عندما تتذكر ذلك الظفر الأسود المعقوف المتجاهل من قبلها، وتشعر بالفرح والسرور عندما تحضر ميلاد صديقتها سرور، وهي قد طلت أظافرها باللون الأحمر، علما بأنّ الظفر الأسود المعقوف لم يشكّل حدثا محوريا في حياة الشخصيّة المبهمة "بنت عامر"، فهي كانت تصخّم بيديها وتحرث الأرض وتزرع أشجار النارنج وتقوم بأعمال البيت، وتعتني بالأطفال، بل شكّلت "العين العوراء" منعطفا إجباريا في حياتها عندما رفض والدها تزويجها قائلا: "لن أزوجها قط فيعيرها أهل الزوج بالعوراء" (الحارثية، 2016، ص159)، تلك العين التي طمستها أعشاب الجهل في طفولتها، ولم ينجح الطبيب "طومس" في علاجها، بل طمس حلمها للأبد.
وفي هذا الاستهلال كذلك أبرز التداخل بين ثقافات الشعوب من خلال علاقات زملاء الدّراسة، والحالات النفسية لكلّ زميل، ففي الشّقة الواحدة يأتي مشهد الشّخصية السّاردة وهي تتلوّى من شدة الندم، في حين أنّ زملاءها الصينيين في المطبخ بأصواتهم، وزميلتها النيجيرية بصوت موسيقاها الصاخبة (الحارثية، 2016، ص9و10).
ونجد مشهد عيد ميلاد الشخصيّة "سرور"، وتبرز عادات وتقاليد الشعوب الأخرى من خلال هذا المشهد الذي بيّن عادة عند طبقة من الشعب الباكستاني تُعدُّ عادة ممقوتة عندما تتزوّج "كحل" أخت سرور -وهي من أسرة مرموقة مثقّفة- من طالب باكستاني أمه فلاحة، ولم يتعلّم اللُّغة الإنجليزية إلا في ثانوية قريته النائية بأقاصي باكستان، وفي الوقت ذاته تكتشف سرور أنّ جدة "زهور" الشّخصية السّاردة جدتها فلاحة، وتعتزّ زهور بجدتها أيّما اعتزاز.
هذا الاستهلال ذو المرجعية الثّقافية الاجتماعية مهّد الطريق لأحداث القصة الأخرى، وجعل المتلقي يستنتج أنّ موضوعة عادات الزّواج وتقاليده هي مضمون هذه الرّواية، وما ينطوي عليه من قبول أو رفض لتلك العادات والتقاليد.
خاتمة
تناول الباحث الاستهلال السّردي، مبيّنا تعريفه، وأهميته وحدوده، ومستعرضا الاستهلال السّردي لأربع روايات معاصرة، واستخلص في خاتمة هذه الدّراسة مجموعة من النتائج من أبرزها:
أهمية الاستهلال السّردي في العمل الرّوائي، وأنّه يمثّل العتبة الجاذبة للمتلقي، ومنه يستطيع الرّوائي الولوج لعوالم روايته بمهارة فائقة، فالاستهلال يُعدُّ فن البداية لكلّ رواية.
برع الرّوائيون في استخدام تقنية الاستهلال السّردي؛ خدمة للفكرة العامة في الرّواية، مع تنوّع واضح في الاستهلال عند كلّ روائي.
ركّز الباحث على الاستهلال الرئيس في المدوّنة الرّوائية، وظهر هذا الاستهلال في الفصل الأول من الرّواية كما في رواية (الشّراع المقدّس) أو في الصفحات الأولى من الرّواية كما ورد في بقية المدوّنة الرّوائية، مع التنويه إلى وجود استهلالات فرعية في جميع المدوّنة الرّوائية.
تفاوتت حدود الاستهلال السّردي الرئيس في المدوّنة الرّوائية، فأقصرها حدا كان استهلال رواية (السّيّد مرّ من هنا) فلم يتعدّ الصفحتين، وأطولها كان استهلال رواية (الشّراع المقدّس)، فقد شغل فصلا كاملا من الرّواية، وانتشر على ست عشرة صفحة.
انفرد استهلال رواية (المُخوْزِق) بمكونات ثلاثة متنوّعة، فالمكوّن الأول عبارة عن صفحة معنونة بـ "هذه الرّواية" تقدّم ملخّصا عن مضمون الرّواية، ثمّ المكوّن الثاني عبارة عن خارطة حدود الدّولة العُثمانية 886هـ - 1481م، والمكوّن الثالث رسالة فلاد دراكولا-إحدى الشّخصيّات الغائبة في الرّواية - لملك المجر ماتياس كورفينوس بتاريخ الثاني من نوفمبر 1462 للميلاد.
أورد الكاتب عبد العزيز آل محمود في استهلال روايته (الشّراع المقدّس) مسوّغات الحرب الصليبية التي شنّها الأسطول البرتغالي على البلدان العربية، لاسيّما دول الخليج العربي، وكان أهم مسوّغين: نشر المسيحيّة، والسّيطرة على تجارة البهارات؛ لإنعاش اقتصاد البرتغال، وأوضح آل محمود في الاستهلال "غرفة العمليات" التي خططت لهذا الغزو، وأبرز جاسوسين وهما: كوفيلهام وبافيا اليهوديين، وهنا تجتمع المسيحية مع اليهودية لحرب المسلمين، ويحمل هذا الاجتماع نسقا ثقافيا مضمرا لما يحدث في المشهد السياسي عند كتابة هذه الرّواية، وما بعدها من مشاهد سياسية.
حاول أشرف فقيه في استهلال روايته (المُخوْزِق) استحضار الأحداث التّاريخيّة التي اتّكأ عليها في سرد روايته، وإيجاد المسوّغات التي جعلت السّلطان محمد الفاتح يبتعث تابعه أورهان أفندي في مهمته السّردية، وقد مزج الكاتب بين الحدث التاريخي الواقعي (الخارطة) و(الرسالة)، وبين حدث عودة أسطورة فلاد دراكولا التخييلي، وبهذا المزج نقل المتلقي إلى فضاء روايته القائمة على التخييل "المقْنع".
ربطت الكاتبة جوخة الحارثية في استهلال روايتها (نارنجة) بين ماضي الرّاوية المتمثّل في ذكرياتها مع جدتها، وبين حاضرها المتمثّل في واقع دراستها الجامعية، وزملائها، وإيجاد عوامل مشتركة بين هذين العالمين: وهو "الإصبع".
حاول محمد الرحبي في استهلال روايته (السّيّد مرّ من هنا) أن يعكس الحالة النفسية التي كان يعيشها الرّاوي، وهي حالة "لا إنسانية" من أوقعوه في أزمته المالية، وذلك من خلال إضفاء "أنْسَنة سوق مطرح"، فهذه السّوق التي عاش فيها، وتربّى في مساجدها ودكاكينها، هي أكثر إنسانية من أولئك المحتالين والنصابين، وهي سوق منفتحة على العالم الخارجي، واستطاعت أن تستوعب مختلف الثقافات، ومختلف البشر على تنوّع مشاربهم، وهيّأ الرّاوي المتلقي لعالمه من تطوافه التخييلي بين السّوق، ومستشفى ابن سينا، وزنجبار، وسفائن السّلطان سعيد بن سلطان، ورجالاته، ورحلته في السّفينة سلطانة للولايات المتّحدة الأمريكية.
المصادر:
آل محمود، عبد العزيز. (2014). رواية الشّراع المقدّس. الدوحة، قطر. دار جامعة حمد بن خليفة للنشر.
الحارثيّة، جوخة. (2016). رواية نارنْجة. بيروت. دار الآداب للنشر والتوزيع.
الرّحبي، محمّد بن سيف. (2011). رواية السّيّد مرّ من هنا. بيروت، لبنان. مؤسّسة الانتشار العربي.
فقيه، أشرف. (2013). رواية المُخوْزِق. المملكة العربيّة السّعودية. الدمام. أثر للنشر والتوزيع.
المراجع:
أشهبون، عبد المالك. (أكتـوبر/ديـسمبر 2004). "خطاب المقدمات في الرّواية العربية". مجلة عالم الفكر، المجلـد33. العدد2. الكويت. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
بحراوي، حسن. (1990). بنية الشكل الرّوائي (الفضاء- الزمن- الشخصيّة). بيروت. المركز الثقافي العربي.
بنحدو، رشيد. (سبتمبر 1998). "بلاغة الاستهلال في روايات عبد الكريم غلاب". مجلة فكر ونقد. العدد11.
حافظ، صبري. (1986). "فن البدايات ووظيفتها في النص القصصي". مجلـة الكرمـل. ع21_22.
الزيتوني، لطيف. (2002). معجم مصطلحات نقد الرّواية. عربي. إنجليزي. فرنسي. لبنان. دار النهار للنشر.
الشمري، ثائر سمير. (2018). التشخيص في الشعر العباسي حتى نهاية القرن الرابع الهجري – دراسة نقدية. عمّان. دار صفاء.
الشوابكة، محمد. (2006). السرد المؤطر في رواية" النهايات" لعبد الرحمن منيف. البنية والدلالـة. عمّان. منشورات أمانة عمّان الكبرى.
العدواني، أحمد. (2011). بداية النص الرّوائي. مقاربة لآليات تشكّل الدلالة. الرياض. النادي الأدبي بالرياض. والدار البيضاء. مركز الثقافي العربي.
لودج، ديفيد. (2002). الفن الرّوائي. ترجمة: ماهر البطوطي. القاهرة. المجلس الأعلى للثقافـة.
مرشد، أحمد. (2003). أنسنة المكان في روايات عبد الرحمن منيف. الإسكندرية. دار الوفاء.
النصير، ياسين. (1993). الاستهلال، فن البدايات في النص الأدبي. بغداد. دار الشؤون الثقافيـة العامـة.