مصادر مسرح باكثير الشعري
الباحث المراسل | د. معتز سلامة عبد الله | وزارة التربية والتعليم |
Date Of Submission :2025-02-26
Date Of Submission :2025-02-26
Date Of Acception :2025-03-21
Date Of Publication :2025-04-22
مصادر مسرح باكثير الشعري
د/معتز سلامة
ناقد ومترجم مصري
مقدمة:
يعدُّ علي أحمد باكثير واحدًا من جيل الرواد الذين نهضوا بالمسرح الشعري العربي، وجعلوا منه لونًا أدبيًا مميزًا بعدما وضع أحمد شوقي أول لبنة في صرح المسرح الشعري العربي، فقد كان كل "من تبع شوقي من الشعراء مثل: عزيز أباظة فى مصر، قد نهج نهج شوقي، دون أن تكون له عبقريته، فلم يضف شيئًا ذا بالٍ إلى الإنجاز الذى حققه شوقي. بل في واقع الأمر إن هذا الإنجاز قد فقد قدرًا غير قليلٍ من قيمته وأثره"(1)، إلى أن جاء (باكثير) ليكتشف إمكانيات الشعر الدرامي، ويحسن توظيفه جيدًا لخدمة هذا الفن.
وقد كتب (باكثير) ثلاث مسرحيات شعرية هى:"همام فى بلاد الأحقاف"، و"إخناتون ونفرتيتي"، و"الوطن الأكبر"، ومسرحية غنائية هى: "قصر الهودج"، وأوبريت غنائي هو:"الشيماء"، وترجم مسرحية "روميو وجولييت" لـ(شكسبير) بالشعر الحر، وترجم أيضًا جزءًا من مسرحية "الليلة الثانية عشر" لـ(شكسبير) أيضًا، ولكن بالشعر العمودي، هذا هو كل إنتاج (باكثير) فى الدراما الشعرية. وقد استاق (باكثير) هذه المسرحيات من مصادر عدة، ومن ثم فإن الباحث يحاول في هذا البحث أن يقدم عرضًا موجزًا لمصادر مسرحياته الشعرية، ولاسيما أن مسرح باكثير الشعري محطة مهمة من محطات الإبداع المسرحي التى ظهرت فى أدبنا العربي، فقد كان- رحمه الله- "قمة تعبيرية شعرًا ونثرًا، قصة ورواية ومسرحية، له بصمات واضحة فى الأدب العربي المعاصر، وغاص فى أعماق التراث والتاريخ العربي، ونهل بغزارة، وأخرج الروائع الخالدة التى زخرت بها دنيا الإعلام والثقافة والأدب."(2)
ويستطيع الباحث في هذا الموضع أن يحدد خمسة مصادر استاق منها (باكثير) مادة مسرحه الشعري هي: تجاربه الشخصية، والأحداث المعاصرة، والتاريخ، وسير أعلام المسلمين، ومسرح شكسبير، وسوف يقوم الباحث فيما يلي بتفصيل ما أجمل.
أولاً:تجاربه الشخصية:
لم تكن حياة (باكثير) حياة هادئة سعيدة، بل كانت حياة عاطفية مليئة بالصراعات والأحزان، فلقد مر (باكثير) بالكثير من المواقف والأحداث الصغيرة والكبيرة، مما خلف لديه تجارب متعددة أفاد منها فى كتاباته. يطالعنا أول المواقف التى أفاد منها (باكثير) فى أعماله الدرامية الشعرية حبه الشديد لزوجته الأولى، ففي فترة صباه تعرف (باكثير) على حقيقة الحب، وتمسك به، ولكن فى قمة فرحته، يفقد هذا الحب، نتيجة لوفاة زوجته، ويصور لنا الدكتور محمد أبو بكر حميد هذا الموقف فيقول:" فلقد زلزل الموت حياة شاعرنا فى حضرموت حين اختطف زوجه فى ريعان الشباب، ووجد نفسه يسقط مريضًا من الحزن، فلا يطيق البقاء فى أرض الذكريات، فيغادر حضرموت إلى عدن سنة (1932)، ثم يضرب فى الأرض يبتغي السلوان فى بعض البلدان، اليمن والحبشة، ثم يجد نفسه فى النهاية فى الحجاز، ويحس أنه يجب أن يتوقف قليلاً ليغسل أحزانه فى الأجواء الروحية فى مكة والمدينة، وإلى جوار الرسول- صلى الله عليه وسلم- ينظم مطولته الميمية "نظام البردة" أو "ذكرى محمد رسول الله" فى أكثر من مائتين وخمسين بيتًا، وفي الطائف يكتب مسرحيته الشعرية - باكورته المسرحية- "همام فى عاصمة الأحقاف" التي يتعرض فيها لمأساته الشخصية ولقضايا حضرموت الاجتماعية."(3)
وهذا يعني أن (باكثير) مزج فى هذه المسرحية بين حزنه الشخصي على زوجته، وحزنه على وطنه حضرموت، فهو يتحدث عن نفسه أثناء كتابته لهذه المسرحية قائلاً: "وكنت إذ ذاك ممتلئًا بالثورة على ما كان عليه حال بلدى حضرموت في التخلف عن ركب الحضارة والتأخر فى كل ميدان من ميادين الحياة، وبالسخط على الأوضاع الاجتماعية السائدة هناك، مضافًا إلى ذلك كله أزمة نفسية أليمة من جراء وفاة شخص عزيز عليّ هو زوجي الأول الذى اختطفها الموت وهى في بواكير الشباب،... فكان أن كتبت مسرحية شعرية أسميتها همام أو فى عاصمة الأحقاف."(4)
إذن أسقط (باكثير) فى مسرحيته الأولى تجاربه الشخصية على عمله، فأتت المسرحية تدور حول صعوبة زواجه من محبوبته، ثم مأساة فقدها بعد أن تزوجها، ويوضح الإهداء المقدم على صفحات العمل الأولى هذا الأمر، إذ يقول:
الإهداء
إلى مصدر الوحي الأول:
إلى ملاكي الجميل الذي سبقني إلى عالم الخلود، وكلما
ذكرته أوحى إلىَّ !
وإلى الشعب الحضرمي الذى أحبه وأعيش من أجله،
أهدي هذه الأقصوصة
كذكرى خالدة للأول،
وذكرى نافعة للثاني
علي أحمد باكثير
ولا نعدم أثرها- أعني مأساة فقدانه محبوبته- أيضًا فى اختياره مسرحية شكسبير "روميو وجولييت" ليقوم بترجمتها، فأحداث المسرحية كلها تدور عن قصة حب صعبة لم يتحقق فيها الارتباط والجمع بين العاشقين، ثم نهايتها المأساوية حيث وفاة الحبيبين.
وأيضا نجد أثرها فى مسرحية "إخناتون و نفرتيتى" حيث الحب الصادق من (إخناتون) لزوجته المتوفاة (تادو)، والتي لا تفيد معه محاولة الأم فى إقناع ابنها بنسيانها، بل يزداد إصرارًا على تمسكه بذكرياتهما، ويعدد هذه الذكريات لأمه، بصورة تدعو إلى الشفقة عليه مما وصل إليه من حب لزوجته:
تي: لا بل سيطوق بقاؤك يا أمنوفيس
وستختار جوهرة أخرى لا تنقص عن تادو
الأمير: لا توجد فى الأرض جوهرة مثل تادو
وأحسبها غير موجودة فى السماء
طالما كانت تستيقظ فى الأسحار تتكتم أنفاسها
وتقبل ما بين عيني في رفق حتى لا توقظني
وأسارقها الطرف حينًا فحينًا فألمح في
شفتيها ارتعاش الصبي قد اختلس الحلوى
من مجتمع جدته الشمطاء وفي عينها
اغتباط الطفل تملأ من ثدي أمه!
ثم يغزو التثاؤب فاها الجميل،
ويلوذ النعاس بأهدابها فتميل إلى
جنبي وتعود إلى نومها فى طمأنينة وغرارة.(5)
ثم يأخذ فى ذكر المواقف التى كانت تحدث بينهما طوال المشهد، والتي تركت ذكريات جميلة له، مما يدل على أن هذه التعبيرات الصادرة من إخناتون ما هى إلا صورة مصغرة مما كان يدور بين (باكثير) وزوجته الأولى. ومن ثم نستطيع أن نقول أن (باكثير) جعل من تجاربه الشخصية أحد المنابع الرئيسة لإنتاجه الفني، فيبدو أن التجربة الشخصية كانت تقود (باكثير) نحو الإبداع الأدبي.
ثانيًا: الأحداث المعاصرة:
يجب على الكاتب عند كتابته لأعماله أن ينظر إلى ما يحيط به من مواقف وأحداث يعيشها الناس لتصل أعماله إلى قلوب المتلقين، فتكون أعماله ذات أثرٍ ملموسٍ فى حياتهم. فالكاتب بما يشعره من مسئولية ملقاه على عاتقه تجاه أمته ووطنه مطالب بأن يكون أكثر من غيره إحساسًا بقضايا أمته ووطنه حتى أن "الأدباء العالميين الذين استطاعوا نقش أسمائهم فى ذاكرة التاريخ كانوا من أشد الناس التصاقًا بمجتمعاتهم، وإحساسًا بمشكلات الناس من حولهم."(6)
و(باكثير) كان من هذا الصنف من الأدباء الذين يتخذون من مواقف أمتهم وأحداث وطنهم مادة لبعض مسرحياته، في محاولة منه للاقتراب من الواقع السيئ لمجتمعه؛ ليغيره، ويطوره، ومن ثم اتخذ من مسرحياته بوقًا يطلق منه آرائه وأفكاره الإصلاحية، ويجسد الواقع باتجاهاته المتباينة. ولعل هذا يظهر لنا بوضوح في مسرحيته الشعرية الأولى"همام فى بلاد الأحقاف". فهو يبرز لنا في هذه المسرحية حياة مجتمعه في حضرموت، وما كان يعيش فيه من التخلف الديني والخرافة من جهة، ومظاهر الظلم الاجتماعي الواضح بشدة نتيجة هذا التخلف من جهة أخرى. فكما يقول الأديب "حسين الصيرفي" أثناء تقديمه لهذا العمل في طبعته الأولى عام (1934(: " تلمح في درامته صورًا سريعة تمثل حياة ذلك القطر الشقيق رازحًا تحت أعباء ثقيلة من بدع متوارثة خلفتها عصور مظلمة، وسياسة غريبة عجيبة تتحكم في مصير شعب خدرته بالعقائد والأوهام، فسيرته في سبلها طائعًا طاعة عمياء، وليس أقدر من العقائد على أسر النفوس الضعيفة."(7)
وهذا ما نلمحه في قول (محمد) صديق (همام) بطل المسرحية عندما رأى مجموعة من المشايخ الدجالين مجتمعين عند ضريح لأحد أوليائهم يزاولون ما يؤمنون به من بدع وخرافات.(8) فهؤلاء الشيوخ يتخذون من الدين وسيلة للسيطرة على فقراء المجتمع الذين يتسمون بالجهل، فيسعى هؤلاء الدجالين إلى نشر الخرافات والأوهام عن أوليائهم ومعجزاتهم، وعن قدراتهم على الكشف والإلهام، ويطلبون من الناس الالتزام بأوامرهم، والإغداق على أضرحة أوليائهم بالكثير من الأموال؛ ليرضى عنهم الأولياء ويقربوهم إلى الله زلفى، فيستجيب الله لدعائهم وتتحقق أحلامهم، والعجيب أن هناك الكثير من الناس مؤمنين بتلك الأفكار، وينفذون أوامر هؤلاء الشيوخ الدجالين نتيجة جهلهم بأمور دينهم.(9)
كما أن سيطرة هؤلاء الشيوخ وصلت إلى درجة أنهم يتحكمون في زواج بنات هذا المجتمع، وذلك لما لهم من سلطان على أولياء أمورهن، وهو ما نلاحظه في عدم زواج (همام) بطل المسرحية في أول الأمر من محبوبته (حُسن) التي تهيم به؛ لأن (ولي الله)- أحد شيوخ الدجل والشعوذة في المسرحية- يرفض ذلك الزواج لما يقوم به (همام) من دعوة الناس لعدم سماع كلامه أو الأخذ به مأخذ الجد، بل حرص (ولي الله) أن يجعل ولي أمر (حُسن) يوافق على خطبتها لشخص آخر، وهذا الشخص استطاع خطبتها بما دفعه من مال لـ(ولي الله) ليبارك هذا الزواج، بالرغم من رفض (حُسن) هذه الخطبة.(10)
ولم يستطع (همام) أن يتزوج من محبوبته إلا بعد أن لجأ إلى الحيلة، فبدأ يتقرب من(ولي الله)، وقام بدفع مبلغ من المال أكثر مما دفعه خصمه لـ(ولي الله) ،وأخذ يُرسل إليه من يبين له أن (همامًا) قد تغيّرت أفكاره، وبدأ يقتنع ببركاته، وانطلت الحيلة على (ولي الله)، فغَيّر رأيه، وطلب من ولي أمر (حُسن) أن يزوجها لـ(همام)؛ وفسَّرَ(ولي الله) له هذا التغيّر في الرأي بأنه رأى في المنام أن (همامًا) أصبح شابًا صالحًا، وأنه الشخص المناسب لـ(حُسن)، أي أنه غيّر رأيه لمجرد أن (همامًا) دفع له مبلغًا أكثر من خصمه، مما يوضح لنا مدى ما وصل من فساد في ذمم هؤلاء الشيوخ، ويوضح لنا في الوقت نفسه مدى تأثيرهم في أفراد الشعب وتمكنهم من السيطرة عليهم، ويوضح لنا مدى التخلف الديني الذي جعل ولي أمر (حُسن) يسمع كلام (ولي الله) في المرتين بدون تفكير لمجرد أنه يعلم أن (ولي الله) أكثر منه علمًا، وأنه يجب أن يسمع كلامه بدون تفكير، فهو- ولي الله – أقرب منه إلى الله ، لذا فكلامه أوامر واجبة التنفيذ.
ويبدو أن هذه القضية كانت شديدة الأهمية بالنسبة لـ(باكثير)، لذا سعى أثناء عرضه لخطوطها، أن يرسم لها طريقة الحل؛ لأن الأديب الجيد ليس هو من يعرض لنا مشكلات الواقع فقط، كأن الأمر فيلم تسجيلي يشاهده المتلقي، بل يكون حريصًا أثناء العرض أن يبرز الحل الذي يراه مناسبًا لهذه المشكلات. وهذا ما قام به (باكثير) عندما جعل (همامًا) يتصدى لهؤلاء الشيوخ الدجالين والمتاجرين باسم الدين، واضعًا على لسانه حل مشكلات المجتمع الحضرمي، فيجعله يستعرض أمام شباب المجتمع الحضرمي أسباب تأخر بلدهم وتخلفها عن ركب الحضارة والتقدم، موضحًا لهم طريق الخلاص والسير نحو التقدم.(11)
ويستغل حفلة سنوية تُعقد بإحدى المدارس، ويحضرها حشد كبير من الناس من كل الطبقات فيخاطبهم منتقدًا طرق التدريس التي يُعلَّم بها النشء الذي سيقود مسيرة النهضة في هذا المجتمع، ولا يكتفي بالنقد فقط بل يحرص على أن يوضح لهم الطرق الصحيحة لتعليم النشء، فيقول:
يا بني مدرستي إني لكم ناصح يصفيكم النصح أميـن
................................................................
إن برنامج تدريسكــــــم ليس برنامج قوم مرتقيــــــن
ترهقون النشء بالحفظ فمن حفظ تقرير إلى حفظ متون
ليس فى ذاكم لهم من صالح إنه يقتل فهم الناشئيـــــــــن
فدعوا الحشو وربوا فيهم ملكات الحذق فى كل الفنون.(12)
ثم ينصح النشء نفسه بأن يفهموا ما يتعلمون جيدًا ثم يُعمِلوا عقولهم ويفكروا ويجتهدوا؛ حتى يسايروا حياتهم العصرية؛ لأن لكل جيل مشكلاته الخاصة التي يجب عليه أن يسعى لحلها، فيقول:
اقرأ وافقه حديث المصطفى تعبروا الشك إلى برد اليقين
لا تهابوا اليوم أن تجتهدوا إن سر العلم للمجتهديــــــــن!!
وكتاب الله باق خالـــــد تتجلى آياته فى كل حيــــــــن
ادرسوه درس أحياء ولا تدرسوه درس قوم ميتيــــــن.(13)
ولكن هل يكفي العلم وحده لنهضة الأمة من عثرتها؟. مع (باكثير) نجد أن العلم يلزمه عمل، فعلم بلا عمل لا طائل من ورائه، ولكي يقنع هؤلاء الشباب يضرب لهم مثلا، فيوضح لهم أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد عمل وكسب من عمل يده، ولم يتّكل على أحد في أن يُطعمه، وكذلك فعلوا صحابة الرسول الأخيار، فقد كانوا يتعلمون ويعملون في الوقت ذاته، فيقول على لسان همام:
أولم يكتسب المختار في عهده والآل والصحب الأول. |
طالب العلم ولا كسب له بسـؤال النـاس لابّد يـُذل. |
ليس من لم يكتسب متكلاً إنمـا الكاسب عين المتكل.(14) |
وبذلك يكون قد وضع باكثير ملامح نهوض مجتمعه الحضرمي من عثرته، مرشدًا المتلقي العام في الوقت ذاته أن طريق العلم والعمل هو الطريق الأمثل الذي يساعد على رقي أي مجتمع.
ومن الأحداث المعاصرة التي تناولها باكثير في هذه المسرحية مشكلة تعليم المرأة في مجتمعه الحضرمي، فقد شاهد باكثير منذ صغره في بلده حضرموت نوعًا من الكبت تتعرض له المرأة باستمرار داخل مجتمعه، إذ من المعروف أن المرأة في المجتمع الحضرمي خاصة، واليمني عامة، في ذلك الوقت، لم تخرج عن صورتين: فهي إما أن تكون فلاحة عاملة نشيطة في الريف، تزاول من الأعمال اليومية ما لا طاقة لكثير من الرجال على مثله، وإما أن تكون أسيرة البيت، وذلك في المدينة، تخرج أحيانًا لشراء بعض الحاجات أو لزيارة الأقارب تحت أكداس متعددة الألوان والأشكال من الملابس والأحجية.(15) أمام هذا الوضع المُزري للمرأة الحضرمية لم يقف (باكثير) موقف المؤيد لهذا الرأي بل ثار عليه، فأخذ يدعو إلى أن تأخذ المرأة حقوقها المشروعة التي كرمها الإسلام بها، فأخذ يدافع عن حقوقها المسلوبة، وخاصة التعليم، إذ نجده يتخذ من شخصية (همام) صوتًا ينشر من خلاله أفكاره التحررية، ولكن في حدود الشريعة الإسلامية، التي كان حريصًا على عدم الحياد عنها، فيجعل (همامًا) يبث روح الحماسة إلى التعليم في روح أخته (زهراء)، ويشجعها على القراءة، والاستمرار في التعلم، وعدم ترك الكتب، مؤكدًا لها أنها تحمل عبء الدعوة إلى الله في مجالها، وبين بنات جنسها، ويفرح بها عندما يراها تحمل عزيمة وإرادة قوية للقيام بهذا الدور، وبما يراه- أيضًا- من روح إصلاحية عالية في حديثها معه.(16)
فـ(باكثير) يريد من هذا العرض لزهراء أن يوضح لنا أن فتاة بمثل هذه الروح الإصلاحية العالية، والحماس المُتّقِد لخدمة مجتمعها، لجديرة بأن تنشأ أجيالاً مؤمنة واعية، وقادرة على أن تحول مجالس النساء التي ينتشر فيها اللهو واللعب إلى مجالس علم وأدب يفيدهنّ.(17)
فـ(همام) يجتهد قدر استطاعته في أن يوصل أفكاره الإصلاحية- التي هي بالأساس أفكار (باكثير)- إلى المجتمع الحضرمي عن طريق المرأة، فالمرأة بالنسبة له صاحبة دورٍ مهمٍ في بناء المجتمع، فكما يقول على لسان زهراء:
صاحبات الزمان نحن! حياة النـ | ـاس فيه والموت في أيدينا. |
إن نشأ فالـورى بنـا سـعداء | وشقاء حياتـهم إن شـينـا.(18) |
كما أنه يوجه المرأة إلى السعي نحو الدفاع عن حقها في التعليم؛ حتى لو اقتضى الأمر مواجهة الرجال، ومطالبتهم بحقها، الذي هو في الأساس فرض شرعيّ:
صِحَنَ في أسماع الرجال: أليـس | العلم فرضا على النساء مبينا؟ |
فيم غادرتم البنات على جهل | وقمتم تعلمون البنينا؟ |
هل أقمتم مدارسًا للواتي | إذ أقمتم مدارسًا للذينا؟(19) |
فـ(باكثير) يؤمن إذن بأهمية تعليم المرأة ولا ينسى في الوقت ذاته أن يجعلها حريصة على ألا تنسى دورها في تربية أولادها، بل هو يبرز دائمًا أن حرص المرأة على تعليمها نابعٌ أولاً من حرصها على حسن تربية أبنائها، فالمرأة المتعلمة هي التي تستطيع أن تربي جيلاً صالحًا للوطن.(20)
يتضح لنا مما سبق أن قضية المرأة في مسرحية (همام) وقفت عند حدود طلب المرأة لحقها في التعليم، كي تتساوى مع الرجل في حق العلم، ومن ثم تستطيع أن تؤدي فروض دينها وهي على علم بما تفعله، وتقوم بتربية أولادها على أحسن وجه، وكانت هذه دعوة طبيعية ومفهومة في ظل مجتمع مغلق يسوده التخلف والجهل بدور المرأة في بناء المجتمع.
وهل معنى ذلك أن (باكثير) كان مهتمًا بوطنه حضرموت فقط فى أعماله؟ كلا بل إن (باكثير) "كان على وعى كامل بما يجرى فى المجتمع حوله سواء فى المحيط الداخلي أم فى المحيط الخارجي."(21) فهو إذ يعالج فى مسرحية همام أمراض مجتمعه الحضرمي، نجده فى مسرحية "الوطن الأكبر" منتبهًا لأحداث الأمة العربية التى يدب فيها مرض الفرقة، فيسعى جاهدًا من خلال بطله (إبراهيم باشا) إلى توحيد الصف العربي في مواجهة أعداء الأمة، فهو يرى أن الشعوب العربية كل منها يكمل الآخر، فلا يمكن أن تصبح مجزأة بل المفروض أن تكون يدًا واحدة على أعدائها، مثلما كانت في القدم، فهناك الكثير من الأمور المشتركة التي توحدها، وتجمعها، إذ يقول (إبراهيم باشا) في نهاية المسرحية:
أترى الأيام تحقق هذا الحلم الجميـــــــل؟
مصر والشام ونجد والحرمان الشريفان
والرافدان وأقصى الغرب وأدناه واليمن
شعب واحد يتكلم باللغة الواحـــــــــــــــــــــدة،
ويسير إلى هدف واحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــد؟
إن مصر والشام صنوان يكمل بعضها
بعضا، لا يستغني واحد منهما عن أخيه
من عهود الفراعنة السابقين، وفى عهدي
الفاطميين والأيوبيين.(22)
يتضح من ذلك أن الأحداث المعاصرة بالنسبة لـ(باكثير)) مصدرٌ مهمٌ يستمد منه مادة مسرحياته الشعرية، وكان حريصًا أثناء استعانته بالأحداث المعاصرة ألا يسقط فريسة التقرير والتسجيل الحرفى، بل تناول الواقع من خلاله رؤيته الشخصية. فهو لم يتعامل مع واقعه على أنه صورة فوتوغرافية، بل إنه رصد هذا الواقع ومسرحه طبقًا لما يراه صحيحًا، فهو لم يتعامل معه على أنه مواقف جامدة لا تحلل، بل حلل كل موقف ومسرحه طبقًا لما يراه صحيحًا، وهذا دليل على" أنه صاحب رأي فى المقام الأول وأن قلمه فى البداية سلاح قبل أن يكون أداة إبداع فحسب، إن كل مسرحية من مسرحيات (باكثير) تقول لنا شيئًا ما- وهذا الذى تقوله فى القسط الأكبر رأيًا سياسيًا أو اجتماعيًا تتضافر بقية عناصر البناء الدرامي لكي تغلفه بغلافة شفافة تظهر أكثر مما تخفي ولكنها دائمًا تعطي للعمل ملامحه الجمالية."(23)
ثالثًا: التاريخ:
الأحداث التاريخية والشخصيات التاريخية ليست مجرد ظواهر كونية عابرة، تنتهي بانتهاء وجودها الواقعي، فإن لها إلى جانب ذلك دلالتها الشمولية الباقية، والقابلة للتجدد- على امتداد التاريخ- في صيغ وأشكال أخرى؛ فدلالة البطولة في قائد معين، أو دلالة النصر في كسب معركة معينة تظل- بعد انتهاء الوجود الواقعي لذلك القائد أو تلك المعركة- باقية، وصالحة لأن تتكرر من خلال مواقف جديدة وأحداث جديدة، وهي في الوقت نفسه قابلة لتحمل تأويلات وتفسيرات جديدة، إذ إن التاريخ ليس وصفًا لحقبة زمنية من وجهة نظر معاصر لها، إنه إدراك إنسان معاصر أو حديث له، فليست هناك إذن صورة جامدة ثابتة لأية فترة من هذا الماضي.(24)
وإذا كان (أحمد شوقي) و(عزيز أباظة) قد أرسيا دعائم مسرحنا الشعري فإنهما كان يستمدان مادة أعمالهما من التاريخ، فبالرغم من كثرة إنتاجهما فإنهما لم يبعدا عن التاريخ إلا فى مسرحيتين "الست هدى" لـ(أحمد شوقي)، و"زهرة" لـ(عزيز أباظة). وهذا الأمر ليس بغريب على المسرح؛ لأن بدايات المسرح الغربي كانت كذلك، فقد وظف رواد المسرح الإغريقي أمثال: إيسخلوس وسوفوكليس وأرستوفان التاريخ في مسرحياتهم. وقد سار (باكثير) على الدرب نفسه فقام بكتابة مجموعة من أعماله المسرحية مستمدًا مادتها من التاريخ، فقد استطاع أن يستوعب التاريخ شكلاً وتصويرًا وتعبيرًا في إنتاجه المسرحي؛ ولعل ما دفعه إلى ذلك هو اهتمامه الشديد بقضايا وطنه السياسية والاجتماعية.
وإذا ما حاولنا أن نصنف الشخصيات التاريخية التي وظفها (باكثير) في مسرحه الشعري فسوف نجدها تندرج تحت ثلاثة أنواع رئيسة: التاريخ الفرعوني والإسلامي والمعاصر، وجميعها تمت بصلة إلى طبيعة الظروف التي كانت تمر بها الأمة العربية في فترة الأربعينات والخمسينات، وهي بحسب ترتيب مسرحياته الشعرية: شخصية الملك الفرعوني (إخناتون) في مسرحية (إخناتون ونفرتيتى)، وشخصية الخليفة الفاطمي (الآمر بأحكام الله) في مسرحية (قصر الهودج)، وشخصية (الشيماء) في الأوبريت الذي يحمل اسمها، وشخصية (إبراهيم باشا) في مسرحية (الوطن الأكبر).
ومن الملاحظ أن (باكثير) فى استخدامه للمادة التاريخية فى عمله المسرحي يتجاوز كون التاريخ نقطة بدء درامية؛ ليكشف عن موقفه من قضايا مجتمعه وأمته، ومن ثم رأيناه يندفع في بدايات كتابته إلىالتاريخ الفرعوني يستلهم منه واحدة من أروع القصص التاريخية الفرعونية؛ ليناقش من خلالها قضية اجتماعية مهمة، وهي قضية التدليس باسم الدين، فسعى من خلال هذه القصة التاريخية إلى فضح أمر رجال الدين المنحرفين، وإظهار مدى تأثيرهم في الشعب المصري القديم عن طريق التدليس باسم الدين، وصراعهم الدائم مع الحق، لعدم انتصار الحق عليهم، مما يؤدي إلى خسارتهم لمكانتهم بين الشعب، وبالتالي خسارتهم للأموال التي يأخذونها من الشعب بدعوى أنها تُقدم قرابين للآلهة. هذه القصة هي قصة ملك التوحيد في مصر القديمة (إخناتون) التي استغلها (باكثير) ليُسقطها على الواقع المصري في فترة الأربعينات التي حضر فيها (باكثير) إلى مصر.
أي أن ما كان يؤرق (باكثير) في هذه الفترة هو استغلال رجال الدين مركزهم الديني والاجتماعي في تحقيق أطماعهم الشخصية، لذا حاول أن يتصدى لهم بكل قوة، ويكشف زيف دعواهم، فها هو يوضح على لسان (إخناتون)- بطل العمل- أن الأموال التي يجمعها الكهنة من الشعب باسم الدين، ليست من حقهم، وأنهم لا يهتمون بتقوى الناس، ولا يحرصون على تعليمهم دينهم أو محاولة تقويمهم إذا ضلوا، الأمر الذي دفعه إلى الاستيلاء علي أموالهم، وإنفاقها فيما يراه صواب - من وجهة نظره- إذ يقول إخناتون:
| ما زاد عليكم أخوكم بفرعونيته بل بدينه، |
| إذ اتخذتم دينكم مهنة تكسبون بها رزقكم. |
| لا تبالون من بعده هُدِى الناس أو ضلوا! |
اطلبوا من مالي ما شئتم أعطكم | |
أما ما ليس بملكي فلا! | |
تلك الأموال للعبادة وهي حرام | |
لغير الرب الحق أتون.(25) | |
ثم يتجه إلى كشف حقيقتهم، وزيف عقيدتهم، وتضليلهم للناس، ومسئوليتهم عن تردي الأوضاع الدينية للمجتمع المصري، فقد استطاعوا بزيف عقيدتهم إقناع الناس أنهم وسطاء التقرب إلى الله، وأن العبد لكي يتقرب إلى الله يجب أن يبذل العطايا والهدايا والقرابين لله عبرهم، وفي الحقيقة أنهم هم الذين يأخذون هذه العطايا لصالحهم، فتزيد ثرواتهم، ويعيش الناس في فقر وتعب(26). بل ويصل تأثير هؤلاء الكهنة إلى حد أنهم يستطيعون القضاء على الحكم وقتل السلطان، ونجد ذلك في حوار الملكة "تي" أم (إخناتون) مع "تاي" مربيته، فتقول الملكة في أثناء حديثها عن إخلاص القائد "حور محب" للملك "إخناتون": فلقد عرض عليه الكهان العرش ليخذله فأبى.(27) ولا يكتفون بذلك، بل وصل الأمر بهم إلى أن يحرضوا الشعب على مليكهم؛ لأنه أخذ أموالهم، ويريد توحيد الآلهة مما يضر بمصالحهم الشخصية، ويؤثر على مكانتهم بين الشعب.(28)
وأمام هذه التصرفات يأمر (إخناتون) قائده (حور محب) في نهاية المسرحية بأن يستخدم السلاح في مواجهة هؤلاء الدجالين الذين أشعلوا نار الفتنة بين الناس، وجعلوهم يثورون على الملك ويخربون البلاد؛ حتى تتخلص البلاد من شرهم، ويوضع حدًا لأطماعهم.(29)
كما سعى (باكثير) في هذه المسرحية أن يرسي مبدأ المساواة بين الحاكم والمحكوم، هذا المبدأ الذي بدا ظاهرًا في كل تصرفات (إخناتون) الملك مع كل من يتعامل معهم من قواد وكهنة وخدم، فهو يتزوج من ابنة خادمه، ويعامل خدم قصره من الفلاحين معاملة الند للند، بل إنه ينادي على قواده وعماله– دائمًا- بلفظ (يا أخي)، وعندما يأتيه الكهنة الذين يكيدون له المكائد وهو يعلم ذلك، ويحرضون الشعب عليه، يرحب بهم قائلا: (أهلاً بالإخوة).(30) ويجعل من مبدأ المساواة أساسًا من أسس دين التوحيد الذي يدعو إليه، فهو يُحدث أمه الملكة (تي) عن مبادئ دينه الجديد، وعما سيحدث في البلاد عندما ينتشر هذا الدين، إذ سيُصبح الكل أخوة متحابون حتى وإن اختلفت بلادهم، لأنهم يجمعهم دين واحد، فيقول:
يوم لا يبغي المصري على السوري، ولا |
يزهى المصري على النوبي، وتلغى الحرب الزبون |
يوم يغدو الناس جميعًا وهم إخوة آمنون.(31) |
وعندما يجتمع مع الكهنة في محاولة لإقناعهم بالدخول في الدين الجديد، وهم يمدحونه، ويوضحون له أنه أصبح أفضل منهم لأنه فرعون ونبي في الوقت ذاته، فيرد عليهم مبينًا أنه عبد مثلهم، ولم يزده أنه فرعون شيئًا، لأن الأمر ليس له علاقة بالمناصب أنما الأفضلية عند الله بالالتزام الديني للفرد: (ما زاد عليكم أخوكم بفرعونيته بل بدينه)(32). فـ(باكثير) يستعين هنا بالمبدأ الإسلامي الذي يؤكد أن أفضلية الإنسان عند الله بالتقوى وليس بأي شيء آخر، حيث يقول الله – عز وجل- :" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ "( سورة الحجرات، الآية :13)؛ وكل ذلك من أجل أن يرسخ فكرة المساواة داخل عمله. كما أنه في حوار مطول بينه وبين الكهنة، يعترض على كلام عميد كهنة آمون الذي صرح فيه أنه أفضل من (ماي) خادم (إخناتون)؛ لأن (ماي) من طبقة الفلاحين بينما (عميد آمون) من طبقة الكهنة التي ترى في نفسها أنها أفضل من باقي فئات الشعب، فيرفض (إخناتون) هذه النظرة الطبقية، ويؤكد لـ(عميد آمون) أنه لا فرق بين الفلاح والكاهن، أو حتى بين الفرعون والفلاح، فالناس جميعًا سواء أمام الرب، لا فرق بينهم- كما وضح من قبل- إلا بالتقوى.(33)
بينما في مسرحية الوطن الأكبر يوظف (باكثير) من التاريخ الحديث شخصية (إبراهيم باشا بن محمد علي باشا) ليُسقط عليها ما يحلم به من توحد العرب في مواجهة أعدائهم، وأمله في أن يجمعهم التوحد في الدين واللغة والعادات والتقاليد إلى الوقوف صفًا واحدًا أمام المخاطر التي تهددهم، وهذا يعني أنه قد ترتب على ظهور النزعات السياسية المتصارعة بين الدول العربية في فترة كتابة باكثير لهذه المسرحية، وعدم قدرتها على مواجهة جيوش الاحتلال، استدعاء حدث تاريخي معاصر يعيد للأذهان العربية فكرة الاتحاد، وأثرها على الشعوب. فها هو (إبراهيم باشا) بطل المسرحية، الذي نشأ ووجد الاحتلال التركي يسيطر على كل الدول العربية، يرفض هذا الاحتلال، ويسعى للقضاء عليه عن طريق الدعوة إلى الوحدة، التي ستساعد على تحرير البلاد العربية من هذا العدو، يصرح لأحد قواده بما يأمل في فعله فيقول:
مهلا يا عبد الله فما زدتنى بالذى قلته علمًا
لو تعلم يا ابن مسعود ما أنا طاو عليه العزم
لقرت عينيك وانزاح همّ فؤادك
والذى نفس إبراهيم بقبضته ما جئنا
بلاد الحجاز ونجد لنخضعها للترك، ولكن
لنعتقها ونحرر سائر أوطان الضاد منهم
وبنينا دولة شما تعيد لنا
ذلك المجد العربى القديم.
.................................................
أ ترى الأيام تحقق هذا الحلم الجميل؟
مصر والشام ونجد والحرمان الشريفان
والرافدان وأقصى الغرب وأدناه واليمن
شعب واحد يتكلم باللغة الواحـــــــــــــــــــــدة. (34)
وهو على يقين بأن هذا اليوم سيأتى وتنهض هذه الشعوب من غفلتها وتواجه الظالمين:
إن هذي الشعوب التى تتكلم بالعربية
من أقصى السودان إلى طوروس، ومن
بحر الظلمات إلى البحر العربى وشط العراق،
لمن حقها أن لا تبقى هكذا متناكرة
تحت هذا الحكم المغولى الهدّام
لابد لها من يوم تعرف فيه
سؤددها المسلوب وتجمع فيه الأمر
فويل يومئذ للطغاة المستبدين.(35)
ولم يتوقف استدعاء باكثير للشخصيات التاريخية عند القضايا القومية والاجتماعية لأمته بل وظف (باكثير) الشخصيات التاريخية فى عمله الدرامي" ليكشف عن مواقف الإنسان بصفة عامة تجاه القانون والعدل فى تناقضهما أو تعادلهما، وهى مواقف تشف عن حيرة الإنسان وبشريته، وهو يواجه تحديات الحياة من حوله، فى لحظة يتصل فيها الماضى بالحاضر، ممتدًا إلى المستقبل، مصورًا تاريخ البشرية فى بحثها الدائب عن ذاتها وخلاصها مع مراعاة الجوانب التراجيدية القرينة بهذه المواجهة الإنسانية."(36) فإذا ما نظرنا إلى مسرحية " إخناتون ونفرتيتى" نجد أن (باكثير) يعرض لنا حوارًا جدليًا بين (حور محب) و(إخناتون) ليقنعنا فيه بأن الحب والسلام يستلزمهما القوة للدفاع عنهما:
حور محب: مولاي أليس يحب إلهك أن يقوى
دينه ويعم الخير؟
إخناتون: بلى ولتحقيق هذا وقفت حياتى.
حور محب: لكن السبيل الذى أنت سالكه مفضي
لاريب لفقد ممالكنا وسقوط الدين معا
فنكون غدًا لا دين الرب نشرنا ولا سلطان
البلاد حفظنا.
إخناتون: هذا والرب كلام حكيم
حور محب: شكرًا مولاي العظيم
ليست هذه حكمتى بل حكمة سيفى
(يضع يمناه على قبضة سيفه)
إخناتون: ماذا تدعوني حكمة سيفك أن أعمل؟
حور محب: مرنى أذهب بخميسي إلى سوريا
وأؤدب فيها الطغاة وأنجد فيها الولاة
وأصلح فيها الأمور وأمنع عنها الحيثيين
وأضرب سدًا منيعًا دون إغارتهم
يقبعون به فى دارهم الأولى أبدًا،
ثم أرسل رسلك فى إثرى ليبثوا فيهم
تعاليمك العليا يدخلوا فى دينك أفواجًا
إخناتون: ليس فى دين الرب إكراه يا حور محب
حور محب: بالحجة والبرهان؟
إخناتون: أجل بالحجة والبرهان
حور محب: حتى هذا يا مولاي لن يتحقق إلا
بحفظ الأمن، ولن يتسنى حفظ الأمن
بغير الضرب على أيدى العابثين.(37)
نجد هنا أن رؤية (باكثير) المثالية تنطلق من أن الحب أساس العلاقات مع الآخرين، والاعتماد على الإقناع والتحاور مع الآخرين هو السبيل إلى النجاح، بل يتجاوز ذلك كما فى المشهد السابق إلى أن القوة ليست فى السيف، بل هى قوة الحجة والبرهان. وهو بهذه الرؤية يتجاوز واقع المسرحية ليؤسس من خلال الشخصية التاريخية – إخناتون- رؤية إنسانية عامة، وعندما يسعى لنشر هذه الرؤية نجده يستخدم الحوار الجدلى بين الشخصيات، فيجمع للمتلقى بين الرأى ونقيضه، ويترك له حرية ترجيح الرأى الأجدر.
وفى موقف آخر يوظف (باكثير)، من التاريخ الإسلامي، الشخصية التاريخية ليوضح لنا قيمة إنسانية أخرى، هي السعادة، التي يرى أنها ليست بالمال أو الجاه بل هي كقيمة إنسانية مثالية مطلقة تتحقق فى لقاء الأحبة والهناءة بالقرب منهم، فنراه يستعرض من خلال موقف (سلمى) فى مسرحية (قصر الهودج) هذه القيمة، فبعد أن يبشروها بالزواج من الخليفة الفاطمي (الآمر بأحكام الله) تشعر بالحزن والشقاء لأنها ستفقد حبيبها ابن عمها (ابن مياح)، فتقول:
وا شقائي
جار الزمان عليا
وأسال الدموع من مقلتيا
أبعدو عنى الحبيب وقالوا
أبشري بالمنى
فواها عليا
هنأونى بأن فقدت حبيبى
ورضيت الخليفة الفاطميا
لو أحسوا ما بي
لرقوا لحالي
وأراقوا الدموع بين يديا.(38)
فاستخدام سلمى لألفاظ (وا شقائي – جار الزمان عليا – أسأل الدموع – فواها عليا) يظهر لنا مدى المعاناة العاطفية التى تمر بها سلمى، فإذا كان الموقف الذي وضعت فيه يستلزم الفرح، لتبشيرها بالزواج من الخليفة الفاطمي فإن القلب حزين لفقد الحبيب، إذن ليست السعادة الإنسانية فى السلطة والجاه، بل السعادة فى راحة القلب، والقرب من المحبوب.
وفى موقف آخر يوظف (باكثير) الشخصية التاريخية ليوضح لنا قيمة إنسانية أخرى، هي التضحية بالغايات الشخصية من أجل الغايات القومية، ففي مسرحية الوطن الأكبر يضع (علي أحمد (باكثير) بطلة المسرحية (نعامة) فى حيرة شديدة عندما أرادت أن تقتل (إبراهيم باشا) بطل المسرحية الذى يسعى لتوحيد العرب؛ لأنه قتل أباها وهي ترغب في أن تثأر لأبيها، إذ تقول:
ها هو الآن نام حبيبي الشجاع
قومي يا نعامة قومي لثأر أبيك
(تحركه) سرحان. سرحان
(لا يجيب) يا له من سبات عميق
قومي يا نعامة قومي لثأر أبيك
..............................................................
نعامة: (تضع رأسه على وسادة بجانبها وتنهض. تتلفت يمينًا وشمالاً)
كيف أقتل إبراهيم؟ أ أقتله وهو منقذ العرب
يا للجرم الأكبر! يا لجرم الأبد!
وحبيبى سرحان، هذا الشفيع الجميل ألا
أصغي لشفاعته فى مولاه عندى
..............................................................
فكيف أخون حبيبي فى أغلى شئ عنده؟
طالما قال لى أنه سوف يبني بي حين يعتق
إبراهيم بلاد العروبة من سلطان الدخيل
أ فأقتله من أجل أب قد طواه الثرى
واستحال عظامًا رميمًا.(39)
فمن خلال هذا المونولوج يتضح لنا مدى الحيرة التى وقعت فيها نعامة، والصراع الدائر في نفسيتها، فـ(باكثير) يضع المتلقى هنا أيضًا بين رأيين مختلفين، ليرى ماذا سيختار المتلقى إذا وضع فى هذا الموقف الصعب؟
ولكن (باكثير) – في كثير من مسرحياته- لا يترك للمتلقي الحرية الكاملة فى اختياره، بل يمارس عليه سلطته كمؤلف فى توضيح الرأي الأصوب، الذى يجب أن تعالج به الأمور، فينهي مسرحياته- عادةً- بالحل الذي يراه مناسبًا لحل المشكلة التي يعرضها، فإخناتون الرافض لقرار الحرب واستخدام القوة ضد أعدائه يتراجع عن رأيه وينادي على السيف بعدما رأى أن البلاد التى يحكمها ستضيع من تحت يديه بسبب عدم مواجهة أعدائه بالشدة والقوة، وأن الدين الذي يسعى لنشره يحارب في كل مكان في مملكته، وأن أعدائه يستخدمون القوة مع أنصاره وعماله فيقول:
سأذبح أعدائى كهان آمون ومن
والاهم وناصرهم لا أبقي منهم نافخ نار!
إنهم ليسوا أعداءك بل هم أعدائي
السيف السيف! ادعوا لى حور محب، أين حور محب؟
حور محب: (يدخل) مولاي!
إخناتون: مرحى هذا أنت لبيتنى.. أين سيفك يا قائدي؟
أين حكمة سيفك؟ دعها تمل عليّ!
حور محب: أنا فى خدمة الحق طوع يمينك يا مولاي.
إخناتون: بل فى خدمتي أنا أمنوفيس ابن أمنوفيس
حور محب: أجل .. فى خدمة مولاي إخناتون العائش
فى الحق ناشر دين الحب ودين السلام
إخناتون: لا سلام ولا حب بعد اليوم!
حور محب: بل اليوم يوم الحب ويوم السلام
(يجرد سيفه)
سنحطم سيف الظلم بسيف العدل.
إخناتون: أجل
حور محب: وننشر دين الرب
إخناتون: على الدنيا كلها.(40)
أما في مسرحية (قصر الهودج) يشعر الخليفة (الآمر بأحكام الله) بالندم لتفريقه بين الحبيبين (سلمى/ وابن مياح) فيتراجع عن ذلك، ويقرر أن يجمع بينهما، ويدفع صداق سلمى نيابة عن ابن مياح:
الخليفة: (لابن مياح) يا بن مياح هلما!
(يقترب ابن مياح) مد يمناك لعمك!
(يمد ابن مياح) يمناه لعمه
(للشيخ عمار) زوج الشاب بسلمى.
عمار: كيف يا مولاي
الخليفة: علمي فوق علمك.
كملت عدة سلمى منذ شهر فقد طلقتها منذ شهور.
أفتعصي يا بن سعد اليوم أمري
عمار: لا ومن ولاك تصريف الأمور
لك منى الطاعة والإخلاص صرفًا كلنا للآمر الناهي فيه!
الخليفة: فلقد أصدقتها عشرين ألفًا
(يلتفت إلى ابن مياح) وهى أغلى يا بن مياح يدا.(41)
بينما نعامة التى كانت تتأهب لتقتل (إبراهيم باشا) نجدها تتراجع عن هذا الأمر، بل تدافع عنه ضد من يريد قتله من إخوتها، وفى النهاية تفرح لنجاته من القتل وتحتسب حياة أبيها فداءً لتوحيد العرب، إذ تقول:
حمد لله الذى نجاك نجى بك
مولاي، لقد أمسيت أحب الناس إلى
قلبى، وأحتسب حياة أبى فى سبيل حياة العرب
طالما كان سرحان يذكر لي آمالك فى
توحيد العرب، وإحياء سؤددها العافي
حتى كاد ينهض أن شيخى من قتلاك
ولولا أن أخي قد توعدني بالموت
إذا لم أنفذ مشيئته ما بسطت إليك
يدي لاغتيالك.(42)
يتضح لنا من خلال الاستشهادات السابقة أن (باكثير) استغل الشخصيات التاريخية في التعبير عن بعض القضايا الإنسانية؛ ليكسب مسرحياته نوعًا من الكلية والشمول، وليضفي عليها ذلك البعد التاريخي الحضاري، الذي يمنحها لونًا من التميز، ويثير في النفوس المشاعر الإنسانية النبيلة.
وقد فتن (باكثير) بسير أعلام المسلمين الأوائل، فأخذ سيرتهم وقام بتحويلها إلى عمل مسرحى أو روائى، ولعل ذلك يرجع-كما يقول نجيب الكيلانى- " إلى إيمانه الشديد بأعلامه- أعلام التاريخ الإسلامى- الأفذاذ وإيجابيتهم والدور الخطير الذى قاموا به فى مجالات الإصلاح الدينى والاجتماعى والسياسى."(43)
وإذا كان (باكثير) استلهم سيرة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وقام بكتاباتها على هيئة ملحمة عظيمة سماها (ملحمة عمر) تقع فى تسعة عشر جزءًا، فإنه استلهم سيرة (الشيماء)- أخت الرسول صلى الله عليه وسلم فى الرضاعة- وقام بكتابة أوبريت مسرحي تاريخي يستعرض من خلاله أحداث السيرة النبوية المطهرة من خلال أناشيد أعدها (باكثير)، ووضعها على لسان بطلة العمل (الشيماء). أي أن مضمون هذا الأوبريت هو سرد السيرة النبوية في إطار درامي. فقد قام (باكثير) بدراسة شخصية الشيماء- دراسة مستفيضة- تعرف من خلالها على المواقف المختلفة التى أسهمت بها فى نشر الإسلام، ثم قام باستخلاص أكثرها إثارة، وأعظمها أثرًا، وبنى منها عمله المسرحي.(44)
ويعد هذا الأوبريت استمرارًا لحالة المسرح الغنائي عند باكثير، إذ يتخلل الحوار فيه مواقف أريد لها أن تلحن وتغنى، على الأسس نفسها، والمنهج نفسه الذي كتبت به مسرحية (قصر الهودج). ويضاف إلى ذلك قرب هذا الأوبريت من الشكل الملحمى، إذ إن " الطابع الملحمي واضح فيه، حيث يمتد زمانًا ومكانًا، وهذا الامتداد الزمانى والمكانى والحرص على ذكر كل أحداث السيرة النبوية المشهورة أدى إلى سرد أحداثها دون تمثيلها، فالطابع الروائي السردي- وهو من خصائص الملحمة- واضح فيه أيضًا."(45)
كما يمتزج فى هذا الأوبريت النثر بالشعر، فلم يكن هذا العمل مسرحية شعرية خالصة بل دمج (باكثير) في الكثير من المواقف النثر، الذى حاول استغلاله ليكون " أداة رئيسية أو وسيلة تمهيدية توصل إلى هذه المواقف، التى هى بمثابة المحاور المعنوية الرئيسية أو الجوهرية للقصة، والتى تتميز- باصطناعها الشعر أداة تعبير- بما فيها من تركيز وتكثيف."(46) ومما يدل على ذلك المشهد الثامن من الفصل الثالث حينما تُبرز الشيماء انتصار المسلمين فى غزوة بدر على قريش وتتغنى بها لإعلاء النصر الإسلامى ونشره فى جميع أجزاء الجزيرة العربية عن طريق أناشيدها.(47) فهذا المشهد جمع بين النثر كوسيلة تمهيدية توصل إلى موقف الصراع الدرامي، والشعر كأداة تعبيرية فيها تركيز وتكثيف يكشف عن المحاور الجوهرية للعمل. ولعل هذا يرجع إلى أن الأوبريت هو العمل الذي تتحاور فيه قنوات التواصل بين خطاب الكتابة النثرية الدرامية وخطاب الكتابة الشعرية الدرامية، وكلما كانت اللغة المستخدمة في الخطابين أكثر استجابةً لمتطلبات البناء الدرامي كانت بالقدر نفسه أكثر شاعرية وتعبيرية في مستويات الجمال الفني للعمل نفسه.
ويؤخذ على (باكثير) فى هذا العمل أنه جعله مليئًا بالأحداث التاريخية الكثيرة التى لا يتحملها عمل مسرحى واحد، بل كان يُفضل أن تخرج فى أكثر من جزء مثلما فعل فى سيرة عمر بن الخطاب، ولكثرة الأحداث نجد أن هناك مشاهد كثيرة قد عطلت الحركة الدرامية فى المسرحية فلم يكن لها أثر فى البناء الدرامي يتم استعراضها عن طريق السرد الشعري على لسان الشيماء، أو باقى شخصيات العمل. ولعل هذا أفقد الأبيات الشعرية الكثير من دراميتها داخل العمل، فالأبيات أتت مباشرة ولم تخدم الصراع الدرامي، وأفقدت الأبيات جماليتها.(48)
وكذلك استعماله للنثر بكثرة أضر العمل الدرامي، فكان يجب عليه الحد من استخدامه، فكما يقول إليوت:" على الشاعر الدرامي الاقتصاد فى استعمال النثر فى المسرحية الشعرية، حيث أن إدخال الحوار النثرى يؤدى إلى تشتيت انتباه المشاهدين من المسرحية إلى وسيلة التعبير عنها."(49)
وهناك تساؤل يطرح نفسه على البحث وهو ما الدافع الذى جعل (باكثير) يتكأ على سيرة الشيماء بالذات فى هذا العمل الذى يستعرض فيه أحداث السيرة النبوية المطهرة، ولما لم يلجأ إلى سيرة أخرى كسيرة أبي بكر الصديق (رضى الله عنه) مثلاً؟ أعتقد أن ما دفع (باكثير) إلى اختيار سيرة الشيماء لعمله الدرامي هذا أنه أراد أن يناقش قضيتين مهمتين هما:
أ- موقف الإسلام من قضية الغناء:
فـ(باكثير) لجأ إلى سيرة الشيماء بالذات ليعرض لنا قضية الغناء فى الإسلام، فها هى الشيماء أخت الرسول من الرضاعة التى اشتهرت بشادية الإسلام" تغني ولم يحرج عليها ذلك، وغنت فى زواجه- صلى الله عليه و سلم- واستمع الناس لصوتها، بل جعلت موهبتها هذه فى خدمة الدعوة الإسلامية ... ولا شك أن (باكثير) وهو يقدم هذا السبق الاجتهادى للحركة الإسلامية المعاصرة فى قضية الغناء قد استند إلى الواقع التاريخى الذى يسكت كل مناهض، ولم يقدم رأيه على استحياء، بل قدمه فى عمل فني حي، كتبه ليعرض على المسرح فتخطفه السينما ليصبح أكثر تداولاً بين الناس."(50) فهو بذلك يقر عملية الغناء الهادف، ويكون بذلك صاحب دعوة تحررية أمام الآراء التقليدية التى كانت موجودة فى هذه الآونة.
ب- دور المرأة فى خدمة الإسلام:
كما سعى (باكثير)- أيضًا- من خلال هذا الأوبريت إلى إظهار دور المرأة فى خدمة الدعوة الإسلامية، وأنها كانت تؤازر الدعوة منذ ظهورها، ولم تتخلَ عن نصرة هذه الدعوة، فإذا كانت بنيتها الجسدية لم تجعلها مؤهلة لحمل السلاح والاشتراك في الغزوات والفتوحات، فإنها تستطيع أن تدافع عنه بما وهبها الله من قدرة على ذلك، وفى حالتنا هذه نجد أن الله وهب الشيماء صوتًا جميلاً استخدمته فى تثبيط قومها عن نصرة الباطل، وحثهم على الإيمان ونصرة دين محمد (صلى الله عليه وسلم)، فعلى سبيل المثال تقول في أحد المشاهد:
إذا قريش كذبت محمدا
فنحن أحرى أن نكون السندا
نحن غدوناه لدينا أمدا
ثم غدا اليوم رسولا سيدا
هيا بنى سعد إلى داعي الهدى
أن آمنوا بالله فردا صمدا
لم يتخذ صاحبة أو ولدا
هيا انصروا نبيكم محمدا
لا يذهبن حظكم منه سدى
قوموا انصروا الحق لسانا ويدا
حتى تكونوا سادة العرب غدا.(51)
وهكذا في باقى أحداث المسرحية إذ تستغل الشيماء قدرتها على تجميع الناس حولها بالغناء ثم تغني الأناشيد التى تنشر بها تعاليم الإسلام السمحة، والحث على نصرة النبى محمد (صلى الله عليه وسلم). وبذلك يواصل (باكثير) دعوته التقدمية إلى أن المرأة لها دور مهم فى خدمة المجتمع، ومؤازرة الرجل فى المواقف الصعبة، وهذا ظاهر فى جميع أعماله المسرحية سواء الشعرية أم النثرية. وأعتقد أنه فيما أوردته لبيان على قدرة (باكثير) على إعادة حياة أعلام الإسلام مسرحيًا، على وجه يحقق الغاية المطلوبة ويوصله إلى هدفه.
وبالرغم من أن التاريخ يعد مادة سهلة لمن يريد الكتابة- لأن الحكايات التاريخية تجمع بين الحبكة والصراع اللذين يمدان " الكاتب المبتدئ بهياكل جاهزة أو شبه جاهزة لمؤلفاته الأدبية."(52)- فإن هناك بعض الصعوبات الفنية التى تواجه المؤلف عند الكتابة، فهو يقدم للمتلقي أحداثًا وشخصيات ومعلومات تساعده على تلقي العمل، ويحاول بكل طاقته " أن يضع تلك المعلومات فى إطار مسرحي صحيح بأن يخلق من المواقف ما يدفع الشخصيات إلى الإفصاح عنها بدافع من انفعال أو ضرورة أو غير ذلك من الحوافز، وبأن يواجه المشاهد منذ البداية بما يثير تطلعه إلى المعرفة حتى إذا ساق إليه شيئًا من الحقائق جاءت استجابة لهذا التطلع."(53) لذا يعتمد الكاتب المسرحي أثناء كتابته للمسرحية المستمدة أحداثها من التاريخ على مبدأ (العزل والاختيار)، فالكاتب المسرحي لا يسعى لتأريخ الأحداث بل يأخذ من الأحداث ما يثير فينا الانفعالات من خلال الصراع الدائر بين الشخصيات، لا سيما أن طبيعة الشعر تسعى للإيجاز والتكثيف، مما يستلزم من المؤلف تجنب التفاصيل العادية التى تضعف العمل، ويركز على الأحداث العظيمة التى تفيد العمل. فقدرة الكاتب على ممارسة عملية (العزل والاختيار) بين العناصر المعروضة لديه تمكنه من إنتاج عمل مسرحى جيد مع الحفاظ على الشكل العام للتاريخ،كما أنها " تعين الكاتب المعاصر على تأكيد استقلاليته عن الشكل المسرحي المألوف، الذى نقلناه عن كتاب الغرب."(54)
وقد نجح (باكثير) فى هذه العملية؛ فقد ركز في مسرحه الشعري على قضية توحيد العرب، وتأكيد مبدأ القومية العربية، ومعالجة قضايا وطنه الاجتماعية، ومن ثم اندفع إلى التاريخ؛ ليختار منه قصة إخناتون وقصة الخليفة الآمر بأحكام الله وقصة إبراهيم باشا لتساعده في عرض هذه القضايا. وقد ركز (باكثير) في قصة إخناتون على الفترة التى كان إخناتون يجاهد فيها لنشر دين التوحيد، وتجميع الناس على دين واحد، ورب واحد، ولعل هذه كانت صرخة ضد تفرق المسلمين فى وقته إلى شيع وأحزاب متناحرة، ووقوع الأراضي العربية تحت سلطة الاحتلال، وعدم وقوف الدول العربية صفًا واحدًا أمام المخاطر التي يتعرضون لها، وبالتالي اتجه تركيزه كله حول تجميع الناس على كلمة سواء، مع التركيز على أن الحب والسلام اللذين يرغب العرب أن يعيشوا فيهما يستلزمهما قوة تحميهما من غدر الغادرين وكيد الماكرين وبطش الطامعين. ومن ثم رأيناه يعزل كل الأحداث التى لا تفيده فى عرض هذه القضية، مثل حياة إخناتون قبل التوحيد، وعلاقته بشعبه، وركز على مرحلة الصراع من أجل توحيد الناس على دين واحد ورب واحد يعبدونه؛ ليُسقط عليها ما يدور حوله من مشكلات سياسية.
وفى مسرحية قصر الهودج نرى (باكثير) يختار قصة عاطفية دارت في فترة الحكم الفاطمي، هذه الفترة التي كان معروفًا عن خلفائها أنهم ظالمون قساة القلب، ويُظهر أحد الخلفاء الفاطميين فى صورة عاشق متيم لا يستطيع فكاكًا من الحب، فيًعلي بكثير من قيمة هذا الحب الذى لم نتعوده من الخلفاء الفاطميين، ويعزله عن باقى أحداث حياة الخليفة، ليؤكد أن الإنسان مهما كانت منزلته لا يستطيع أن يقف أمام الحب، وأن السعادة في تجميع الأحبة أكبر من شهوة حب النفس، وأن التضحية من أجل الآخرين هي أس المحبة الحقة، وأنه إذا كان هناك خلفاء فاطميون قد صدر عنهم أفعال يستنكرها العقل والدين ذكرها لنا التاريخ فإنه على الجانب الآخر كان هناك خلفاء طيبون لا يرضون بالظلم، ويحاولون تصحيح أخطائهم إذا أخطأوا.
بينما فى مسرحية (الوطن الأكبر) نجد أن دافع القومية العربية فى هذه المسرحية بارز بوضوح، إذ يختار (باكثير) من حياة (إبراهيم باشا) – بطل المسرحية- الفترة التى كان يحارب فيها أعداء الوطن؛ لتوحيد الصف العربى لمواجهة الاحتلال العثمانى، وبعث روح القومية العربية بين الأشقاء العرب، وبذل الجهد للاستقلال عن الدولة العثمانية، ومن ثم عزل باقى أحداث حياة (إبراهيم باشا) عن أحداث المسرحية؛ ليجعل المتلقي يركز على هذه المرحلة فقط، ويتأمل كيف الوصول إلى تحقيق الوحدة العربية.
نخلصُ من هذا العنصر إلى أن الإتكاء على التراث التاريخى منح مسرح (باكثير) الشعري دفئًا مميزًا نحس فيه بهمهمة الماضيين، وحركة نفوسهم المنتشرة فى العمل وتخفف من حدته، وتعطينا ملمحًا جديدًا من حياتهم لم نكن نبصره من قبل. فلقد استفاد (باكثير) من ارتباطه بالتاريخ، مما أفاده في تعميق رؤيته للموضوع الذي يعرضه، فالتفاته إلى التاريخ جزء من تمثله العميق للماضى والعناية بما فيه من ثراء يمكن استدراجه ليكون عونًا له فى فهم مشكلات عصره والتعبير عنها بطريقة فذة، ووضع حلول لها. ولذلك لم يكن استدعاء الشخصيات التاريخية في مسرح (باكثير) الشعري وسيلة يستكشف بها (باكثير) تجربته الخاصة، فضلاً عن أنها لم تنبع- في الكثير من النماذج، أو في أغلبها- من حاجة باكثير الداخلية للتعبير الملائم عن مشاعره وانفعالاته الخاصة، بل أصبحت- أعني الشخصيات التاريخية- من الوسائل التي يقنع بها (باكثير) جمهوره الذي يتلقى هذه الأعمال، ويدفعه" نحو الفعل أو الانفعال الذي يتناسب والغاية الاجتماعية أو السياسية أو حتى الأخلاقية لعمله."(55)
فـ(باكثير) إذ يستدعي شخصياته من إطاراتها التاريخية ويعيد صياغة ملامحها فى تشكيل جديد، تنطلق أبعاده الجديدة، بملامح من رؤياه، وتمتلك من السمات الفنية ما يرقى بها إلى مستوى التأثير فى وجدان المتلقين؛ لإيقاظ هؤلاء المتلقين لاتخاذ موقف تجاه الأحداث المحيطة بهم، أي أنه يسعى لإشراك المتلقين فى الحكم على الأحداث، مع استشرافه المستقبل برؤية مثالية ترى أن الغد سيكون مشرقا، وأن القيم الإنسانية أعلى من أي قيم أخرى(56).
خامسًا: مسرح شكسبير:
يعد وليم شكسبير واحدًا من أبرع من كتبوا الدراما في تاريخ المسرح العالمي، فكتاباته الدرامية ما زالت هى الأروع حتى الآن برغم مرور العديد من القرون عليها. وقد كان من الطبيعي أن يتأثر به كتاب المسرح الغربيين والعرب، ومن بينهم (باكثير)، الذى بدأ تأثره به من خلال إطلاعه على المسرح الإنجليزى أثناء دراسته للأدب الإنجليزى عندما التحق بكلية الآداب، جامعة القاهرة. وقد كان تأثر (باكثير) بـــ"شكسبير"على مستويين هما:
1- مستوى الشكل:
فإذا كان أول من أدخل الشعر المرسل إلى المسرح هو الأديب الإنجليزي (ماكفيل) فى مأساته (جوربورك) أو (فيربكس وبوركس)، إذ نظم جزءًا من هذه المسرحية بالشعر المرسل. وإذا كان أول من ألف مسرحية كاملة بالشعر المرسل هو الأديب الإنجليزي (مارلو)، وقد كان قويًا مبدعًا فى استعماله للشعر المرسل حتى سمى البيت من شعره بالبيت الجبار، وقد كان يعتمد على القصة، وعلى روعة الشعر فى السيطرة على مجرى القصة، فإن أفضل من استعمل الشعر المرسل وجعله أداة للحوار يتعمق بها فى تحليل شخصياته، ويجمع بها بين المتناقضات كان شكسبير.(57) ولعل هذا ما دفع (باكثير) إلى ترجمته لمسرحيات شكسبير، فترجم جزءًا من مسرحية (الليلة الثانية عشر) وكانت الترجمة بالشعر العمودى، ولكن (باكثير) لم يعجب بهذه الطريقة في الترجمة لأنه رأها عبارة عن "مقطوعات شعرية تألفها الأذن العربية ولكنها ضعيفة ألمت إلى روح الأصل ونفسه الخاص."(58) وبالتالي توقف عن ترجمتها، ثم بعد فترة قام بترجمة مسرحية (روميو وجولييت) بالشعر المرسل؛ ليثبت لأستاذه الإنجليزي أن الشعر العربي شعر طيع، يستطيع أن يتجاوز شكله القديم، ويواكب الشعر العالمى بل ويتفوق عليه.(59)
بعد ذلك اتجه (باكثير) إلى التأليف المسرحي بواسطة الشعر المرسل، فألف مسرحية (إخناتون ونفرتيتى)، وجعل أداة الحوار فيها الشعر المرسل، وبعد أن نجحت تجربته ووجد أن الشعر المرسل ساعده على الإبداع صرح قائلاً:" إذا أردنا أن نوجد المسرحية الشعرية عندنا فإن أصلح أداة لذلك هو الشعر المرسل حيث أنه يستند إلى التفعيلة- لا البيت- كوحدة نغمية، فتلاحق التفعيلات فى الجملة المسرحية الواحدة متصلة مترابطة دون نظر إلى الحيز الذي تشغله، فقد تشغل ما كان يشغله بيت واحد أو أكثر أو أقل."(60) وقد ساعد هذا النوع (باكثير) على أنه يبدع فى مسرحيته السابقة، ويظهر الأحداث الدرامية، بصورة جيدة، وجعله قادرًا على تحليل الشخصيات، وسبر أغوار نفسها وتحليل تلك النفس وإظهار رؤاها المختلفة، بما ساعد على جذب المتلقي لهذا النوع من المسرحيات.
ومن جهة الشكل أيضًا فقد صدّر (باكثير) بعض مسرحياته الشعرية بآية قرآنية توضح لنا شكل الصراع الدائر فى هذه المسرحية، أو الرسالة التي يريد أن يبثها إلى المتلقي، بحيث تبدو للمتلقي أنها الفكرة التى يدور حولها مضمون المسرحية، وهذا ما يسميه لاجوس أجري (المقدمة المنطقية)، إذ يوضح في كتابه (فن كتابة المسرحية) أن " الصراع الجيد يجب أن يقوم على فكرة سابقة واضحة يحملها أبطال العمل، وينطقون بها ويتم تحقيقها فى نهاية العمل، فهى الفكرة الرئيسية للرواية، أو الغرض الذى تهدف إليه."(61) ويشترط لها لاجوس الوضوح بحيث نستطيع استنباط أحداث الصراع منها. وذلك ما نراه فى أعمال شكسبير فإذا ما أخذنا بعض الأمثلة من رواياته نجد أن المقدمة المنطقية لـ(روميو وجولييت) " أن الحب العظيم يتحدى كل شئ حتى الموت نفسه."، وفى (الملك لير) "الثقة العمياء تؤدي بصاحبها إلى الدمار"، وفى (ماكبث) "الطمع الذي لا يعرف الرحمة ينتهي بالقضاء على نفسه"، وهكذا الأمر في باقي مسرحيات شكسبير.(62)
وإذا ما نظرنا إلى مسرح (باكثير) الشعري، نجده يضع للمتلقي في بداية العمل مقدمة منطقية توضح له مضمون هذا العمل، فعلى سبيل المثال في مسرحية همام صدر باكثير المسرحية بالآية القرآنية الآنية:" ... وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إذ أنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ" (سورة الأحقاف، الآية 21)، وهذا التصدير يوضح مقصدية النص، ويحدد رسالة بطل العمل، فالمسرحية– بناء على ذلك التصدير– عبارة عن إنذار للمجتمع الحضرمي، وإلقاء الضوء على مشكلاته التي يجب حلها لينهض هذا المجتمع. أما في مسرحية "إخناتون ونفرتيتى" يصدر العمل بالآية القرآنية الآتية: "... وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ" (سورة النساء، الآية 164)، فهو يوجه من خلال هذا التصدير رسالة إلى المتلقي، مضمونها أن حياة إخناتون من الممكن أن تكون من قصص الأنبياء التي لم يقصها القرآن الكريم علينا لما فيها من دعوة للتوحيد وثورة دينية شاملة، وتصرفات تشبه- إلى حد ما- تصرفات الأنبياء.
بينما فى مسرحية "قصر الهودج" تبدأ صفحات المسرحية بالآية القرآنية الآتية: "وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالحَقِّ ولَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةٌ وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِى الْخِطَابِ، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ..." (سورة ص، الآيات 21- 24) إذ يوظف (باكثير) هذه الآية القرآنية؛ ليوحي للمتلقي بالصراع الذى سيحدث داخل العمل، والظلم الذى سيقع على أحد الأطراف بسبب الطمع.
وهذا يعني أن تصدير مسرحيات (باكثير)- أو المقدمة المنطقية كما يسميها لاجوس أجري/ أو العتبات كما يسميها جيرار جينت- يحمل بين طياته خلاصة رؤيته لعمله التى يريد أن يبثها فى المتلقى. وبذلك يكون التصدير في هذه المسرحيات قد أسهم في تفسير بعض أحداثها، وكذلك تفسير بعض رؤى (باكثير) ومواقفه، أي أن التصدير هنا يحفز المتلقي ويعطيه إشارات معينة تساعده على الفهم، فهي توجه الانتباه لتيمات العمل والأسئلة المطروحة عليه، مما يساعد على إنتاج المعنى.
2- مستوى المضمون:
أما على مستوى المضمون فقد تأثر (باكثير) بـ(شكسبير) فى معالجته لبعض المواقف الدرامية في مسرحياته الشعرية، لا سيما المواقف السليمة لأبطال شكسبير، فعلى سبيل المثال فى مسرحية (روميو وجولييت) التى عالجها (باكثير) بالترجمة فى هذه المسرحية نجد أن (روميو) يتعامل مع خصومه فى هذه المسرحية بالحب والوداعة بالرغم من معاملتهم السيئة معه، فها هو (روميو) يقابل وقاحة (تيباليت) غريمه بالوداعة والتسامح:
تيباليت: روميو، بغضي لك يعجز أن يلقاك
بأحسن من أن يقول لوجهك أنت لئيم
روميو: لو تعلم يا تيباليت بما يقتضي أن
أهواك، ويجعل هجر كلامك عندي تحية!
ما كنت لئيمًا- وداعا إذن
إني لأخالك تجهلني
تيباليت: لن يمحو قولك مما أسأت إليّ به شيئًا
فارجع يا غلام وسل حسامك
روميو: أحتج عليك،فإني لم أمسك بسوء
قط، ولكن أحبك أكثر مما تظن
وعسى أن تعرف يومًا لماذا أحبك
كابوليت- وعزيز علي اسم أهلك
مثل اسم أهلي- أبشر بخير.(63)
ويبدو أن موقف روميو السلمى تجاه خصومه من أسرة كابوليت قد ترك أثرًا بالغًا فى فكر (باكثير) الدرامي حتى " أصبحت المواقف السليمة لكثير من شخصيات مسرح (باكثير) الرئيسية مواقف عامة سائدة متكررة، بحيث جعل (باكثير) هذه الشخصيات تسالم من يعاديها وتعفو عمن يشهر فى وجهها سيف العداء والكراهية العمياء."(64) فقد وظف (باكثير) هذا الموقف السلمى فى الكثير من أعماله الدرامية الشعرية إذ نرى فى مسرحية (إخناتون و نفرتيتى)، إخناتون لا يريد استخدام السيف مع أعدائه بل يرى أن الحب هو الأساس الذى قامت عليه السموات والأرض، ويجب أن ينتشر بين جميع الناس ليصبحوا إخوانًا لا فرق بينهم:
إخناتون: أجل خرجوا عن طاعة مصر الظالمة الباغية
خرجوا عن طاعة مصر آمون
إنى قد بعثت الرسل إليها وشدت المعابر
فيها لدين الحب ودين السلام
وغدًا يؤدي بعل ذو الانتقام، ويتشوب السفاك،
ويقضى على عشتار الغضوب
ويبيد بمصر فتاح ومين ورع وآمون
ويقضى الآلهة الأخرون ولا يبقى
إلا رب واحد يدعوه الورى أجمعون
الرب الكريم الرحيم العطوف الرءوف الحنون
الذى جعل الحب أساسًا تقوم عليه السموات والأرضون
ذلك اليوم الحق لاريب فيه وإن كره المبطلون
يوم لا يبغي المصري على السوري، ولا
يزهى المصري على النوبي، وتلغى الحرب الزبون
يوم يغدو الناس جميعا وهم إخوة آمنون.(65)
وعندما يوضح له قائده (حور محب) خطأ رأيه، وأن الأعداء يفتكون بأعوانه فى البلاد المختلفة، لا يرضى باستخدام القوة أيضًا، بل يرى أنهم جهلاء وسوف يرجعون عن جهلهم عندما تصلهم رسالته فيستمر فى موقفه السلمى، إذ يقول:
الرب سيحمي وينصر أبناءه الصالحين
يغفر الرب للحيثين أن كانوا جاهلين
سوف تأتيهم رسلي فيكفون عن بغيهم
عندما يؤمنون بهذا الدين،كما كفت
مصر عن بغيها حينما شع فيها النور المبين.(66)
وإذا ما انتقلنا إلى مسرحية (قصر الهودج) فنجد(ابن مياح) العاشق، لا يدافع عن عن حبيبته (سلمى) أو يتمسك بها حينما أراد الخليفة أن يتزوجها بالرغم من أنه يعلم أنها تحبه ولا ترغب في الارتباط بالخليفة، بل يستسلم بسهولة للأمر الواقع، فيرسل رسالة لعمه (عمار) يوضح له أنه سيرحل عن البادية، ويذكر له سبب تركه البلاد فيقول:
إلى عمي الجليل الشيخ عمار بن سعيد
بعد أن شهدنا معا أن الرسول هو مولانا الخليفة
نفسه، رأيت من الصعب أن ترفضوا طلبه، ولا
سيما بعدما أسأتم الأدب معه من حيث لا
تعلمون. لذلك عولت على الرحيل من بلاد الله
الواسعة إلى غير رجعة، لأخلى لسلمى ابنة عمى
سبيل السعادة التى تنتظرها فى قصر الخلافة. وإن
يصل كتابي هذا إليكم وإلا وقد أوغلت بعيدًا فى
الصحراء.
بلغ تحيتى لسلمى- أسعدها الله- ولجميع
الأهل أودعكم جميعا
ابنكم المخلص
أحمد بن مياح بن سعد.(67)
ويبدو الأثر المباشر لـ(شكسبير) فى مسرحية "الوطن الأكبر" إذ نرى (نعامة) المقتول أباها بأمر من (إبراهيم باشا) فى حيرة بين مقتل أبيها والثأر له وبين الإبقاء على حياة (إبراهيم باشا) التي ترى فيه منقذ العرب. ففى أثناء محاولتها اغتيال (إبراهيم باشا) تكون مترددة، فيظهر لها شبح والدها المقتول يحثها على الاستمرار فى هذه المحاولة:
نعامة: كيف أقتل إبراهيم؟ أ أقتله وهو منقذ قومي العرب؟
ياللجرم الأكبر! يالجرم الأبد!
..............................................
أ فأقتله من أجل أب قد طواه الثرى
واستحال عظامًا رميمًا؟
يبدو لها شبح أبيها
ماذا قبلي. من هذا؟ هذا أبى.كيف قام
من القبر؟ لا يا ابي لا تخفني بوجهك هذا الهزيل،
وشعرك ذا الأرجواني يقطر منه الدم.
..............................................
أ تخاف ابنتى مني؟ ويلي أنت سببت لي
هذا يا إبراهيم
إياك نعامة أن تنسي ثأري
يكشف عن صدره، انظري الطعنة فى صدري
ههنا طعنوني هنا
مزقوا مني الأحشاء فسالت تدلى على ساقي
ولحلقي انظري: ههنا ذبحوني. هنا قطعوا
مني الأوداج. فأنشأ يخفق رأسي على كتفي
يا لهول المنظر! يالفظاعته!
هيا أعدي الخنجر، هيا امشي للقاتل، هيا اتبعيني.(68)
فمن يقرأ هذا المشهد لابد أن يتذكر على الفور (هاملت شكسبير) لأن ظهور شبح الوالد القتيل فى الأدب المسرحي"قيمة" شكسبيرية، ولازمة من لوازم شكسبير منذ أن كتب مسرحيته (هاملت)، "وسوف يظل النقاد يشيرون إلى هاملت كلما ظهر شبح على المسرح يحث على الثأر."(69)
********************************************
يتضح لنا من كل ما سبق أن (باكثير) لم يقتصر على مصدر واحد في كتاباته الدرامية الشعرية، بل تعددت مصادره، فهو تارة يستمد مادة عمله من تجاربه الشخصية، وتارة ثانية من مشاهداته الواقعية، وثالثة من معارفه العامة من التاريخ، ورابعة من القصص الدينية، وأخيرة من قراءته لأعمال فنية سابقة، يرى أن يعارضها فكريًا، أو يعيد تفسيرها. لذلك يجب أن ننظر إلى مسرحه الشعري على أساس أنه جزء من عملية معقدة، اجتماعية وثقافية، لا سيما أن (باكثير) يعطينا صورًا متعددة لتشكيل نصه الدرامي الشعري؛ لينفذ من خلاله إلى جوهر التجربة الإنسانية، وليربط بينه وبين واقعه.
********************************************************************
هوامش البحث:
[1]- الراعي، علي. (1992): المسرح فى الوطن العربى (ط2)، عالم المعرفة، الكويت، صـــ163.
-2 قاسم، أحمد شوقي (د. ت): المسرح الإسلامي، روافده ومناهجه، دار الفكر العربي، القاهرة، صــــ219.
3- حميد، محمد أبو بكر (1987): مقدمة ديوان علي أحمد باكثير (أزهار الربى في شعر الصبا) (ط1)، الدار اليمنية للنشر والتوزيع، اليمن، صــ12ـ
-4 باكثير، علي أحمد (د.ت): فن المسرحية، مكتبة مصر، القاهرة، صــ5.
5- باكثير، علي أحمد (د.ت): مسرحية إخناتون ونفرتيتى، مكتبة مصر، القاهرة، صــــــ42.
6- العشماوى، عبد الرحمن صالح (1990): الاتجاه الإسلامى فى آثار علي أحمد باكثير القصصية والمسرحية (ط1)، مطابع الدرعية، السعودية، صــــ93ـ
-7 الصيرفي، حسين كامل (د.ت): مقدمة مسرحية همام أو في بلاد الأحقاف، تأليف/ علي أحمد باكثير، مكتبة مصر، القاهرة، صـ6 وما بعدها.
- 8 مسرحية همام أو في بلاد الأحقاف: صـ34 وما بعدها.
9- السابق: صـ36- صـ38.
10- السابق: صـ33.
11- السابق: صـ24، وما بعدها.
12- السابق: صـــ17 وما بعدها.
13- السابق: صـــــ19.
14- السابق: صـ26 .
15- المقالح، عبد العزيز صالح (1974): الشعر المعاصر فى اليمن، أطروحة ماجستير، كلية الآداب، جامعة عين شمس، القاهرة، صـ15.
16- مسرحية همام أو في بلاد الأحقاف: صـ13.
17- السابق: صـ14.
18- السابق: صـ14.
19- السابق: صـ15.
20- السابق: الصفحة ذاتها.
-21 العشماوى، عبد الرحمن صالح: مرجع سابق صـــــ94ـ
22- السابق، صـــــــ26ـ
23- العلمى، يحيى (1965): علي أحمد باكثير، مجلة المسرح، العدد (19)، هيئة الإذاعة والمسرح، القاهرة، صـــ45ـ
24- انظر، زايد، علي عشري (د.ت): استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة، صـ120، وناصف، مصطفى (د.ت): دراسة الأدب العربي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، صـ205 وما بعدها.
25- مسرحية إخناتون ونفرتيتي، صـ116.
26- السابق: صـ117، وما بعدها.
27- السابق: صـ98 .
28- السابق: صـ97.
29- السابق: صـ142- صـ144.
-30السابق: صـ107 .
31- السابق: صـ108.
32- السابق: صـ115.
33- السابق: صـ117- صـ119.
-34 باكثير، علي أحمد (د.ت): الوطن الأكبر، مكتبة مصر، القاهرة، صـــــ12 وصــ16.
35- السابق: صــ26.
-36 انظر، أبو الرضا، سعد (1981): الكلمة والبناء الدرامى (ط1)، دار الفكر العربى، القاهرة، صـ50.
37- مسرحية إخناتون ونفرتيتى، صـــــ110 وما بعدها.
38- باكثير، علي أحمد (د.ت): قصر الهودج، مكتبة مصر، القاهرة، صــ41ـ
-39 مسرحية الوطن الأكبر: صــ67ـ
40- مسرحية إخناتون ونفرتيتى: صـــــــــ143
41- مسرحية قصر الهودج: صــــــــ78 وما بعدها.
ا -42مسرحية الوطن الأكبر: صـــ72.
- 43 العشماوى، عبد الرحمن صالح: مرجع سابق، صـ82.
44- السابق، صــــ79.
-45 البابكرى، أبو بكر صالح منصور (1999): البناء الملحمى فى مسرح باكثير، أطروحة دكتوراة، كلية الآداب، جامعة عين شمس، القاهرة، صـــ305ــ
-46 إسماعيل، عز الدين (2005): مسرح باكثير الشعرى، سلسلة كراسات نقدية (2)، دار الفكر العربى، القاهرة، صـ61.
47- باكثير، علي أحمد (د.ت): مسرحية الشيماء، مكتبة مصر، القاهرة، صــ88 وما بعدها.
48- يني، عادل إبراهيم (1989): المصادر الأجنبية لمسرح علي أحمد باكثير، أطروحة دكتوراة، المعهد العالى للنقد الفنى، القاهرة، صـــــ262ـ
-49 السابق:صـــــ263.
-50 البابكرى، أبو بكر صالح منصور (1999): مرجع سابق صــــ306.
51- مسرحية الشيماء، صــــ55 .
-52 مندور، محمد (1958): قضايا جديدة فى أدبنا الحديث (ط1)، دار الآداب، بيروت، صـ148ــ
-53 القط، عبد القادر (1998): فن المسرحية (ط1)، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، القاهرة، صـــــ81 وما بعدها.
-54 عبدالله، محمد حسن (2007): أقنعة التاريخ: قراءة مسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، صــــــ48.
55- عصفور، جابر (2000): استعادة الماضي (دراسات في شعر النهضة)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، صـ333.
-56 خليل، انتصار (2007): القضايا الفكرية والتقنيات الفنية فى مسرح معين بسيسو الشعرى (ط1)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، صـــ278.
57- انظر، الدسوقى، عمر (د.ت): المسرحية (ط5)، دار الفكر العربي، القاهرة، صـــ180.
58- باكثير، علي أحمد (د.ت): مقدمة مسرحية روميو وجولييت، مكتبة مصر، القاهرة، صــ1.
-59 باكثير، علي أحمد (د.ت): فن المسرحية، صــ8.
60- السابق: صــ14ـ
-61 اجرى، لاجوس (2000): فن كتابة المسرحية، ت/درينى خشبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، صــ44ـ
62- انظر، المرجع السابق: صـ54- صــ56.
63- سورة الأحقاف، الآية 21.
64- سورة النساء، الآية 164.
65- سورة ص، الآيات 21- 24.
66- شكسبير، وليم (د.ت): مسرحية روميو وجولييت، ترجمة/ علي أحمد باكثير مكتبة مصر، القاهرة، صـــــ103- صـ104.
67- ينى، عادل إبراهيم: مرجع سابق، صـــ159.
68- مسرحية إخناتون ونفرتيتى، صـــــ108ـ
69- السابق: صـــــ109.
-70 مسرحية قصر الهودج، صـــــ37ـ
71- مسرحية الوطن الأكبر، صـــ66- صـ68.
72- السعدني، أحمد (١٩٨٠): أدب باكثير المسرحي، الجزء الأول، المسرح السياسي، مكتبة الطليعة بأسيوط، صــ239.
المصادر والمراجع
- اجرى، لاجوس (2000): فن كتابة المسرحية، ت/درينى خشبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- إسماعيل، عز الدين (2005): مسرح باكثير الشعرى، سلسلة كراسات نقدية (2)، دار الفكر العربى، القاهرة.
- البابكرى، أبو بكر صالح منصور (1999): البناء الملحمى فى مسرح باكثير، أطروحة دكتوراة، كلية الآداب، جامعة عين شمس، القاهرة.
- باكثير، علي أحمد (د.ت): الوطن الأكبر، مكتبة مصر، القاهرة.
- ........................: فن المسرحية، مكتبة مصر، القاهرة.
- ........................: قصر الهودج، مكتبة مصر، القاهرة.
- ........................: مسرحية إخناتون ونفرتيتى، مكتبة مصر، القاهرة.
- ........................: مسرحية الشيماء، مكتبة مصر، القاهرة.
- ........................: مقدمة مسرحية روميو وجولييت، مكتبة مصر، القاهرة.
- حميد، محمد أبو بكر (1987): مقدمة ديوان علي أحمد باكثير (أزهار الربى في شعر الصبا) (ط1)، الدار اليمنية للنشر والتوزيع، اليمن.
- خليل، انتصار (2007): القضايا الفكرية والتقنيات الفنية فى مسرح معين بسيسو الشعرى (ط1)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
- الدسوقى، عمر (د.ت): المسرحية (ط5)، دار الفكر العربي، القاهرة.
- الراعي، علي. (1992): المسرح فى الوطن العربى (ط2)، عالم المعرفة، الكويت.
- أبو الرضا، سعد (1981): الكلمة والبناء الدرامى (ط1)، دار الفكر العربى، القاهرة.
- زايد، علي عشري (د.ت): استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة.
- السعدني، أحمد (١٩٨٠): أدب باكثير المسرحي، الجزء الأول، المسرح السياسي، مكتبة الطليعة بأسيوط.
- شكسبير، وليم (د.ت): مسرحية روميو وجولييت، ترجمة/ علي أحمد باكثير مكتبة مصر، القاهرة.
- الصيرفي، حسين كامل (د.ت): مقدمة مسرحية همام أو في بلاد الأحقاف، تأليف/ علي أحمد باكثير، مكتبة مصر، القاهرة..
- عبد الله، محمد حسن (2007): أقنعة التاريخ: قراءة مسرحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
- العشماوى، عبد الرحمن صالح (1990): الاتجاه الإسلامى فى آثار علي أحمد باكثير القصصية والمسرحية (ط1)، مطابع الدرعية، السعودية.
- عصفور، جابر (2000): استعادة الماضي (دراسات في شعر النهضة)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
- العلمى، يحيى (1965): علي أحمد باكثير، مجلة المسرح، العدد (19)، هيئة الإذاعة والمسرح، القاهرة.
- قاسم، أحمد شوقي (د. ت): المسرح الإسلامي، روافده ومناهجه، دار الفكر العربي، القاهرة.
- القط، عبد القادر (1998): فن المسرحية (ط1)، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، القاهرة.
- المقالح، عبد العزيز صالح (1974): الشعر المعاصر فى اليمن، أطروحة ماجستير، كلية الآداب، جامعة عين شمس، القاهرة.
- مندور، محمد (1958): قضايا جديدة فى أدبنا الحديث (ط1)، دار الآداب، بيروت.
- ناصف، مصطفى (د.ت): دراسة الأدب العربي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة.
- يني، عادل إبراهيم (1989): المصادر الأجنبية لمسرح علي أحمد باكثير، أطروحة دكتوراة، المعهد العالى للنقد الفنى، القاهرة.