انسجام خطاب رحلة الحج في قصيدة الشيخ موسى بن محمد الكندي

الباحث المراسلد. قمرية الكندية أستاذ متعاون في جامعة نزوى

Date Of Submission :2024-08-10
Date Of Submission :2024-08-10
Date Of Acception :2024-10-09
Date Of Acception :2024-10-09
Date Of Publication :2024-10-29
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

المقدمة

      يُعد أدب الرحلة عند العرب فنا قائما بذاته، تَطَوّر على مدى السنوات منذ الفتوح الإسلامية، وهذا الفن يجمع بين علوم اللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا وعلم الإنسان؛ حيث يُسجل الرحالة ما شاهده في الأمصار المختلفة ويصف الناس والحياة ومواقع البلدان والمدن، ويبين وسائل الحياة والأعمال واللباس والطعام وهيئة المساكن وطباع الناس وغيرها، كل ذلك يحاول تسجيله بأسلوب نثري أدبي واضح سلس في أغلب الأحيان، وقد يُسجل المرتحِل رحلاته شعرا وليس نثرا مع ما في الشعر من خصوصية بسبب الوزن والبحر والقافية، وفي بحثنا هذا ندرس انسجام خطاب رحلة الحج في قصيدة الشيخ موسى بن محمد بن عبدالله الكندي السمدي النزوي من فقهاء القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي، ندرس انسجام النص كون متلقي الخطاب هو من يحكم بانسجام الخطاب من عدمه متوسلا بوسائل عِدَّة وضعها منظرو لسانيات النص.

     يحاول البحث الإجابة عن التساؤلات الآتية:1- هل توجد مؤلَّفات في أدب الرحلة الشعري في الأدب العماني؟ 2-   ما وسائل المتلقي التي تُمكِّنه من الحكم بانسجام النص من عدمه؟ هل يمكن تطبيق معايير النص السبعة أو أحدها على النصوص الشعرية أم أن ذلك مقتصر على النثر؟ وذلك بسبب إشكاليات الفترة الزمنية التي عاش فيها الشيخ موسى بن محمد الكندي؛ حيث كانت عمان ترزح تحت حكمين متباينين: حُكم الأئمة في بعض مناطق عمان وحكم سلاطين بني نبهان في مناطق أخرى، وأحيانا في نفس المنطقة كما هو الحال في نزوى موطن الشاعر التي تربى ونشأ وعاش فيها، ورغم تلك الظروف السياسية وما تبعها من ظروف اجتماعية واقتصادية في المجتمع إلا أن العلماء والفقهاء كانوا يؤلفون ويكتبون، فنجد شاعرنا من المنتجين فقهيا وأدبيا، فلديه كتاب" جلاء البصائر في الزهد والمواعظ والروايات" إضافة لديوانه[1] الذي أخذنا منه هذه القصيدة التي سنبحث في انسجامها، وحتى رحلاتهم الدينية فقد كانوا يؤرخونها نثرا أو شعرا، مع ملاحظة أن الكثير من فقهاء عمان- في فترات زمنية مختلفة- دونوا رحلاتهم إلى الديار المقدسة شعرا، عكس ما كان سائدا في الأراضي الإسلامية من تدوين معظم الرحلات الدينية وغير الدينية نثرا، فهدف البحث إذن بيان مدى انسجام خطاب رحلة الحج في قصيدة الشيخ موسى بن محمد بن عبد الله الكندي. 

     سنتبع في البحث منهج لسانيات النص، وهو منهج حديث نسبيا ظهر بدايات الستينات من القرن العشرين في دُول عدّة في أوروبا وأمريكا الشمالية، وانتقل إلى الدول العربية، وهو منهج مكمِّلٌ لنحو الجملة، ويستعين به في كثير من مصطلحاته وأدواته، هذا المنهج يبحث في النص من كل جوانبه: الداخلية- التي تمثل السياق اللغوي- والخارجية- التي تمثل السياق غير اللغوي مثل السياق السياسي والنفسي والاجتماعي والاقتصادي؛ حيث يركِّز على منتج النص وما يحيط به، ويقوم على معايير سبعةٍ وضعها المنظرون الأوائل مثل دريسلر ودي بو جراند وهي: الاتساق والانسجام و الموقفية و القصدية والمقبولية والإعلامية و التناص. 

    لتحليل هذا النص وبيان انسجامه لا بد من العروج على تعريف الانسجام ولسانيات النص وأدب الرحلة والتعريف بالشيخ موسى بن محمد بن عبد الله الكندي وقصيدته في مبحث أول، ثم معالجة وسائل انسجام النص الستة في مبحثٍ ثانٍ، وأخيرا لا بد من سرد أهم النتائج التي توَصّل لها البحث مع التوصيات.

المبحث الأول: انسجام الخطاب وأدب الرحلة وقصيدة الشيخ موسى بن محمد بن موسى إلى الحج.

المطلب الأول: الانسجام معيارًا من معايير النصية السبعة في اللسانيات النصية.

     من أجَلِّ اهتمامات الدراسات النقدية الحديثة النظر في" التطور الملحوظ في حقل اللسانيات وتحليل الخطاب؛ إذ شهدت اللسانيات المعاصرة تطورا واضحا تمثَّل في النقلة النوعية من لسانيات الجملة إلى لسانيات النص؛ حيث جمعت لسانيات النص ما بين اللغة والنحو والصرف والبلاغة والنقد، وبين علم النفس والاجتماع والفلسفة والمنطق والأنثروبولوجيا؛ كونها علومًا تؤثر بشكلٍ أو بآخر في الإنسان، مبدِعاً كان أم متلقياً" (عاشور وعبد الله، 5/7/ 2016، ص. 343). وبما أن اللسانيات النصية تقوم على المعايير السبعة التي وضعها المنظرون؛ فإنه لا بد من العروج السريع للتعرف عليها، ولاسيما انسجام الخطاب ووسائله المختلفة التي سأحاول من خلالها التعرف على انسجام خطاب الرحلة في قصيدة الشيح موسى بن محمد بن عبد الله الكندي في رحلته للحج.

    اللسانيات النصية تهتم بالنص من جميع جوانبه، ولا تنظر فقط في جُمَلِه التركيبية نحوا وصرفا؛ ولذا تداخلت فيه علوم كثيرة ولم تكتفِ بالنظرة المفردة، ومن هنا جاء التآزر بين نحو الجملة ولسانيات النص التي تُسمى أيضا " نحو الجملة"؛ فقد" وصل الدرس الحديث إلى أن دراسة النصوص يجب أن تكون بنظرةٍ متكاملة وليست تجزيئية؛ لأنها كلٌّ متكامل وليس جملا أو متواليات جُمَلية، ولكن عند الدراسة تُفصَّل مكونات النص إلى أجزاء. ودراسة هذه الأجزاء التكوينية لا يعني الفصل والاستقلال، بل الغرض إيجاد الروابط الشكلية والدلالية بينها؛ لأن الكشف عن الأبنية الدلالية الكبرى العميقة يتم تحديدها عن طريق الأبنية السطحية التي نتوصل لها بتجزئة النص." (الكندي،2020، ص. 11)؛ ولذلك نلاحظ أن كثيرا من مصطلحات لسانيات النص مستوحاة من مصطلحات علم النحو، فمصطلح" لسانيات النص" مستعمل على نطاق في المغرب العربي، أما في المشرق العربي فيسود فيه مصطلح" نحو النص"، مع إضافة ما استُحدث من مصطلحات لتوافق التحليل الجديد الذي يضم عددًا من العلوم الأخرى، وتقوم لسانيات النص على معايير سبعة وضعها المنظِّرون، ومن أهمهم دريسلر ودي بو جراند، حيث يذكر هذا الأخير 1998،):" وأنا أقترح المعايير التالية لجعل النصيةTEXTUALITY   أساسا مشروعا لإيجاد النصوص واستعمالها" (ص. 103).

      ويعدد دي بو جراند المعايير السبعة، وهي: الاتساق والانسجام والقصدية والمقبولية والإعلامية والموقفية والتناص، ويبين أن توافر هذه المعايير في النص هي ما تجعله يتّسم بالنصية، وإن فقد النصُ واحدا أو أكثر من هذه المعايير فلا يُعد نصا مع وجود قَدْرٍ من التغاضي أحيانًا، مع مراعاة أنه في النصوص الأدبية خاصة قد يتخلف فعلًا أحد هذه المعايير أو أكثر لقصدٍ معين يبتغيه منتج النص.

      والاتساق النصي يتحقق بتوافر الوسائل الآتية في النص وهي: الإحالة والاستبدال والحذف والعطف والمصاحبة المعجمية والتكرار، وحتى لا أطيلُ الحديث النظري فإنني سأركز على وسائل الانسجام المختلفة -وهي التي سأبحث من خلالها انسجام خطاب الرحلة في هذه القصيدة؛ فالانسجام" يحيل على خصائص النص أو الخطاب التي تضمن قابليته للتأويل" (موشلر و ريبول، 2010، ص. 500)، فليس الشكل الخارجي فقط ما يجعلنا نحكم على نصية الملفوظ( الاتساق)، وإنما يمثل الانسجامُ النظرَ العميق في النص؛ فالانسجام يهتم بالجانب الدلالي للنص، الذي يحقق تماسك النص داخليا من خلال الوسائل الآتية: السياق والتغريض أو (العنوان)، وبنيات النص وترتيبها، والتكرار والتأويل ومعرفة العالم، ويعرِّف كريستال(,Crystal (2008الانسجام بأنه" خاصية تناغم المفاهيم والعلاقات في النص بحيث نستطيع تصور استدلالات مقبولة فيما يتعلق بالمعنى الضمني للنص" (p.85). وهذا يقود قارئ النص أو الناقد من خلال تأويله واستدلالاته، وربطه بين المفاهيم والعلاقات داخل النص إلى الحكم بانسجام النص من عدمه؛ بمعنى أن الحكم بانسجام نص ما يختلف من قارئ لآخر حسب قراءاته وثقافته واطلاعه وتأويله وعمق استدلاله وربطه بين قراءاته.

المطلب الثاني: أدب الرحلة

     أدب الرحلة عند العرب ليس أدبا حديثا- وإن لم يكن بالمعنى المعروف الآن-  فقد عُرف منذ القرن الثالث الهجري مع الفتوح الإسلامية وتوسُّع رقعة الدولة الإسلامية وحاجة الخلفاء المسلمين لمعرفة البلدان والأمصار التي فتحوها، ثم الحاجة لمعرفة الطرق الواصلة بينها ومعرفة مساحاتها وعدد سكانها وحدودها بغرض جمع الزكاة أو الخراج أو الجزية، فكانت كُتُب المسالك والممالك، ثم توسَّع المرتحلون لأسباب مختلفة، ودونوا ما شاهدوه في رحلاتهم المتنوعة باختلاف غرض الرحلة، فمنها الأغراض السياسية، والدينية، والترفيهية والاقتصادية والعلمية( الجغرافية والاجتماعية)؛ فـ " نمط الرحلات يتعرض إلى جميع نواحي الحياة أو يكاد، إذ تتوفر فيه مادة وفيرة مما يهم المؤرخ والجغرافي وعلماء الاجتماع والاقتصاد ومؤرخي الآداب والأديان والأساطير" ( حسين، 1983،ص.6)، والملاحظ أن ما كُتب في أدب الرحلة على وجه العموم كان نثرا جَمع بين الواقعي والخيالي والأسطوري-ولكنه كان في معظمه واقعي- والعلمي والشعبي يجمع بين الفائدة والمتعة في التعرف على أحوال البلدان والشعوب، يذكر حسين (1983):" يمكننا اعتباره نمطا خاصا من أنماط القول الأدبي، قد لا يرقى إلى مستوى الفن القائم بذاته كفن القصة أو الشعر أو المسرحية أو المقالة الأدبية مثلا، ففيه تجتمع أساليب هذه الفنون وموضوعاتها كلها من غير أن تضبطه معاييرها أو أن يخضع لمقاييسها"( ص.9)، لكن أساليب بعض الكُتّاب جعلت مؤلفاتهم في مصاف كتب الأدب؛ فـ " تتجلى القيمة الأدبية في الرحلات فيما تعرض فيه موادها من أساليب ترتفع بها إلى عالم الأدب، وترقى بها إلى مستوى الخيال الفني" (حسين، 1983، ص. 8). أما من الناحية العلمية فقد" صوّر لنا أدب الرحلات العالَم في بلدانه ومدنه، وفي مسالكه وممالكه، ونقل لنا مظاهر الحياة الإنسانية بكافة ألوانها في مأكلها ومشربها ومسكنها وعاداتها وتقاليدها وقيمها الحضارية"(الغافري، 2013، ص.11).

      نحاول التركيز على الغرض الديني للرحلات العربية، فقد كان التوجه للديار المقدسة- الحج أو العمرة في مكة و زيارة قبر المصطفى في المدينة- هدفا ساميا يسعى إليه من استطاع إليه سبيلا؛ ولذلك نجد الكثير من الرحلات العربية المدونة نثرا هي في الأساس رحلات إلى الحج، و" يبقى السفر إلى الله مختلف تماما، فالسفر لنيل رضوان الله يبعث في النفس طمأنينة وراحة؛ لذلك كان أجمل السفر: هو السفر لأداء الحج والعمرة" (حسن والسالمي، 2021، ص. 79)، ومنها رحلة ابن جبير( ت 614هـ) الأولى التي كانت بهدف زيارة الديار المقدسة، وكذا رحلة أبي عبدالله العبدري(ت 700هـ)، إضافة لرحلة ابن بطوطة (ت 799هـ) الأولى، وقد بدأ رحلاته ولمّا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، وغيرها من الرحلات التي دوّنها أصحابها نثرا. الملاحظ أن كُتّاب الرحلة دونوا رحلاتهم نثرا لِما في النثر من القدرة على الاتساع والتبليغ والوصف والتصرف في القول دونما حدود أو أوزان أو ميزات خاصة، لكننا نجد في المقابل هناك من الشعراء من سجل رحلته شعرا، مع ما في الشعر من حدود، ومنهم شعراء عمانيون مثل السلطان سليمان بن سليمان النبهاني( توفي بين 906هـ و951هـ) الذي" اهتم بتصوير رحلاته ورسمِها في صُوَرٍ ومشاهد متحركة وكأنها رحلة مصوّرة على شريط من كلمات الشعر" (الغافري، 2013، ص 26)، ومثله اللواح الخروصي( ت 981هـ) الذي له عدد من القصائد التي يصف فيها رحلاته للحج رغم كثرة رحلاته العلمية، تذكر الغافري (2013) في حديثها عن إحدى قصائده تلك" واصفا رحيله عن أصحابه إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة يدفعه حب الله ... ويبدو من قصيدته أن مدة الرحلة ستة أيام... يقول فيها:

نودعكم أحبتنا وداعا    قصارى ستة لكم ارتجاعا"[2] 

      وهناك رحلة الكيذاوي (توفي في الربع الأول من القرن الحادي عشر الهجري) وهي رحلة تُصوِّر المشقة والتعب في الوصول إلى الممدوح من بني نبهان. ومنها أرجوزة- في ثلاثمائة وثمانين بيتا- لرحلة سعيد بن عبد الله بن غابش النوفلي، في رحلته إلى شرق أفريقيا؛ حيث نزل زنجبار ثم البر الجنوبي. (الغافري،2013)، ومنها رحلة موسى بن محمد بن عبد الله الكندي إلى الحج.

المطلب الثالث: الشيخ موسى بن محمد بن عبد الله الكندي

     يذكر البطاشي (2016) أنه" الشيخ الفقيه موسى بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن عليّ الكندي السمديّ النزويّ، فقيه وشاعر، ويظهر على شعره وتأليفه، التصوف، والزهد، والمواعظ، من مؤلفاته كتاب:" جلاء البصائر في الزُهد والمواعظ والروايات" يوجد بمكتبة السيد محمد بن أحمد بن سعود البوسعيدي". وقد ناقش البطاشي (2016) علاقة القربى بين الشيخ موسى بن محمد وبين الشيخ أحمد بن عبد الله بن موسى بن سليمان الكندي صاحب" المصنف" وأثبت أنه ليس ابن عمه مباشرة، وأن القائل بذلك لعله يقصد أنه من بيت صاحب كتاب"المصنف"، وبينهما أكثر من ثلاثة قرون؛ وعليه فقد عاش في القرن التاسع الهجري لمساجلته الشعر الشيخَ محمد بن مداد الناعبي الذي نشأ في عقر نزوى، والشيح موسى بن محمد الكندي نشأ في سمد نزوى، فهما متزامنان.

القصيدة:

     هذه القصيدة نظمها الشيخ موسى بن محمد بن عبد الله الكندي في مسيره إلى الحج في ديوانه الموجود في مكتبة السيد محمد بن أحمد بن سعود البوسعيدي، برقم (228) في مسقط، والديوان مخطوط قديم وكثير من أوراقه متمزقة، ولم يبقَ منه ما يصلح للنقل، إلا بعض القصائد (وهذه منها، القصيدة تقع في أربعة وثلاثين بيتا على بحر الوافر). 

هجــرت منازلــي وتركـتُ آلـي       وهيّــجـتُ الهِجـان إلى الزيـال

وقرّبــتُ القلــوص وقـلــتُ إيــه       هــلمّــوا بـالـحقيبــة لارتحالـي

وودعــتُ الأحبـة فاســتهــلــــت       مـــدامعـــهــا بدمـعٍ كــالـلآلـي

وسرتُ أجــوب أجــواز الفيافـي       بإيجــاف ووخـــزٍ وانـتـقــــال

أجشمـها الــهواجــر كـل يـــــومٍ      وخوض الآل في وقت الزوال

وقطع الأرض في طول وعرض      أسافلهــا وتـرتـكـب الأعـالـي

فأوردهـــا المناهـل وهـي طلحـى      تشكي الأين من سهر الليالـي

فلمّــا بلـغــتُ وادي جــنــابـــــــي     فناخــت بالعنــاء وبــالكـلال

فودّعتُ القــلوص وصـرتُ أتلــو      أصيحابـي علـى قُلــل الجبال

بأرض الشحر حتى صرت فيهــا      بهجرتــي التـي علقــت ببالي

إلـى البيـت العتيـق أزور ربــــي     وقبر المصطفى خير الرجال

 فقالــوا البحــر قلــتُ البحرُ بــرٌّ      كــلا التـهجيــر فيه الله كالـي

فســرتُ مـع السلامـة فيـه حتـى       بلغـتُ زبيـد في عشر توالـي

فرُحــت بكـل وجنـــاء تبــــاري      بأرض تهامة كالقصر العالي

نواصــل بالسُّرى الأدلاج شهرا       إلى الحرم الموقت في الجبـال

إلـى البيــت الـذي تهــوي إليـــه     مــدى الأبصــار أفـئدة الرجال

حططتُ ببطن مكة رحل عيسي      وكـنت بها عن الأهلين سالــي

فزرتُ البيــت ثم خرجتُ أسعى      وأدعـو ذا الـعـلاء وذا الجلال

وقلت: بيثــرب شجـنـي وحـبـي      سأبــلـغـه بـعــزم واحـتــمــال

وحمّلنـي ذيـاب علـى جـمـــــال      وبلّــغـني علـى نصـب الجمال

وصلــتُ علـى المـشقّـة واللُّتيَّــا       وهــولٍ مــن معـانــاة الـقـتـال

 وخلّصني المليك مـن الأعـادي       ومـن وخـز الأسِنّــة والـنبــال

وزرت المصطفى خير البرايـا       ودمـعـي فـوق خدي كالعزالي

رســول الله أرســـلـــه بحــــق      وتـمـيـيـز الـحرام من الحـلال

إلى الثقليـن ينذرهـم جــميـعـــا      ويـتـلـو عـنـدهـم صدق المقال

وأدى كــلَّ مــا يـوحَـى إليــــه      وجــاهـد بـالسـيـوف وبالعوالي

 وأظـــهــــر دينــه لله حــقــــا       وقــام بـه وردَّ أولــي الـظـلال

بـه ختـم الإلــه الــرســل حقــا      وشـفـعـه لـمـن شـاء بـالسـؤال

أناجيــه وقـلبــي مـن ذنـــوبـي      أحــاذر إن أُرد عــن ابـتـهــال

فســل لــي يا نبـــيّ الله ربـــي      وربــك أن أكــون لــه مـوالـي

فصلــــى الله خـالـقنــا عليـــــه      صــلاة لا تـبـيـد مـدى الليـالـي

وودعت النبي وصاحبيه بغيـر       ســخـى وقـلـبـي غيــر سـالــي

وعدتُ مع الحجيج إلى عكـاظ       وفي عرفات عدت على الجبال

قضيت مناسكي بصنيـع ربــي       وأُبــتُ مُبَلَغًــا بصــلاح حــــالِ

 

 

 

المبحث الثاني: وسائل انسجام قصيدة رحلة الشيخ موسى بن محمد الكندي إلى الحج

    سنبحث انسجام هذه القصيدة بواسطة الوسائل المختلفة التي قال بها منظرو لسانيات النص وهي: السياق والتغريض أو العنوان وبنيات النص والتكرار والتأويل ومعرفة العالم وترتيب الخطاب.

المطلب الأول: السياق

     السياق إما سياق داخلي لغوي يهتم بنظم الكلام في متواليات جُمَلية- ويهتم به عنصر الاتساق في لسانيات النص- وسياق غير لغوي، أو هو سياق الموقف و" " يُقصد به الملابسات المصاحبة للنص، أو الأحوال والمواقف التي ورد فيها النص أو قيل بشأنها"(مبروك، 2005، ص. 127)، ويشمل السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي؛ فالشاعر ابن بيئته يتأثر بالمُجريات والأحداث. تذكر الكندي (2020) "وفهم النص وتأويله يعتمد على وضع النص في موقعه من سياقه اللغوي والثقافي والاجتماعي وربما النفسي، مع استعانة المتلقي بخبراته ومعارفه المتراكمة السابقة، عن موضوع النص وما يتصل به"(ص.51). أما لغويا، فيهتم بمعالجته عنصر الاتساق الذي له أهمية كبرى في فهم النص والحكم بمدى نصيته عن طريق الوسائل التي وضعها منظرو لسانيات النص وهي (الإحالة والاستبدال والحذف والتكرار والاتساق المعجمي الذي يشمل التكرار والمصاحبة المعجمية)[3] 

     أما السياق غير اللغوي، فيُنظر إليه من جهات عدّة؛ فسياسيا لم يكن الحال مستقرا في عمان؛ ففي القرن التاسع تولى الإمامة في عمان عددٌ من الأئمة وهم على التتابع كما جاء عند السالمي(1995): الحواري بن مالك ثم مالك بن حواري وبعده أبي الحسن بن خميس بن عامر ثم محمد بن سليمان بن أحمد، وبعده بويع عمر بن الخطاب بن محمد الخروصي سنة 885هـ، وفي هذا القرن وقبله القرنين السابع والثامن وبعده العاشر والحادي عشر كانت عمان أيضا في بعض بلدانها تحت حكم بني نبهان (549-1034هـ) "ولعل ملكهم كان يزيد على خمسمائة سنة قال إلا أنه كان فيما بعد هذه السنين يعقدون للأئمة والنباهنة ملوك في شيء من البلدان والأئمة في بلدان أخر والله أعلم"(ص. 1/ 352)، ومن هنا نجد أن الوضع السياسي في القرن التاسع الهجري كان غير مستقر إطلاقا، ولذلك نجد طرق الحج المعروفة من عمان إلى مكة تتخللها الكثير من الصعوبات، فلم يكن الحكام أو الأئمة يجدون الوقت لإعمار هذه الطرق أو توفير سبل الراحة والأمان فيها، بسبب النزاعات السياسية والحروب الداخلية التي انشغلوا بها.

     ورغم أن أهل عمان في القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي الذي عاش فيه الشيخ موسى بن محمد الكندي كان مزدهرا بحريًا؛ فهو معاصر لأحمد بن ماجد الملقب بأسد البحار بدليل أنه عند إدراج اليونسكو للملّاح العُماني أحمد بن ماجد ضمن الشخصيات المؤثرة عالميًا "قال حبيب بن مرهون الهادي الباحث في التاريخ العُماني: "أحمد بن ماجد يُعَدُّ ظاهرة علمية برزت في القرن التاسع الهجري / الخامس عشر الميلادي (825 – 906 هـ / 1421 -1500م)، في عُمان، تلك الفترة الزمنية التي قَلَّ فيها ظهور علماء العلوم الطبيعية في الجزيرة العربية خاصة وفي العالم الإسلامي"[1]( وكالة الأنباء العمانية، 13نوفمبر2021) إلا أننا نجد أن الشاعر الكندي في رحلته من نزوى إلى جنوب اليمن- حاليا- قد خاضها برا وليس بحرا مع ما صوّره فيها من مكابدة أهوال الصحارى حيث يقول:

وســـرت أجـــوب الــفــــيــافــي     بإيـــجاف ووخــــز وانـتـقــال

أجشمـــها الهـواجــر كــل يــــوم    وخوض الآل في وقت الزوال

وقطع الأرض في طول وعرض     أسافــلــهـا وتـرتـكـب الأعالـي 

     أما السياق الثقافي فيظهر أيضا من القول السابق" تلك الفترة الزمنية التي قلّ فيها ظهور علماء العلوم الطبيعية في الجزيرة العربية خاصة وفي العالم الإسلامي"، وربما ينطبق هذا القول على خارج عمان، أما في عمان فقد كان هناك عدد من العلماء والأطباء في تلك الفترة مثل راشد بن خلف الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع والثلث الأول من القرن العاشر، وعلي بن مبارك بن خلف بن محمد بن عبد الله بن هاشم في القرن العاشر، وغيرهم من العلماء، وعلة العموم فالشاعر ابن بيئته وعصره يتأثر بما فيها وبأحداثها.

الوسيلة الثانية: التغريض أو العنوان

    في القرن التاسع الهجري كان تأليف الكُتب قد وصل مرحلة كبيرة من النضج، وكذا وضْعُ العناوين المناسبة لها؛ لأن العنوان عَتَبة أولى للولوج إلى مضمون النص، وقد تفنّن الكُتاب والمؤلفون في وضع تلك العناوين، أما الدواوين الشعرية فلم يكن قديما لها عنوان خاص وإنما يُنسبُ الديوان لشاعره مثل: ديوان امرئ القيس أو ديوان حسان بن ثابت أو ديوان المتنبي، أما القصائد فلم يكن لها عنوانها الخاص، وفهارس الدواوين كانت توضع حسب قافية القصيدة مثل دالية المتنبي ولامية العرب ولامية العجم وهكذا، وقد تكون مناسبة القصيدة بمثابة العنوان كما هو الحال في قصيدتنا هذه؛ فقبل عرض صاحب كتاب" إتحاف الاعيان" للقصيدة قال مقدِّما لها" وقال- أيضا- في مسيره إلى الحج:.."( البطاشي، 2016، ص. 174)، وبما أنه لا عنوان للنص فإننا نلج القصيدة من خلال أبياتها الأولى التي يقول فيها:

هجــرت منازلــي وتركـتُ آلـي      وهيّــجـتُ الهِجـان إلى الزيـال

وقرّبــتُ القلــوص وقـلــتُ إيــه      هــلمّــوا بـالـحقيبــة لارتحالـي

وودعــتُ الأحبـة فاســتهــلــــت      مـــدامعـــهــا بدمـعٍ كــالـلآلـي

    تدل أبيات الافتتاح الأولى على بداية الرحلة وغرضها، وخروج الشيخ إلى سفرة أو هجرة دون دلالة خاصة على المكان المقصود سواء مكة أو غيرها، مع التأكيد بالكلمات (هجر- الزيال- الارتحال- ودّع) هذه الألفاظ في بداية القصيدة توحي بالبعد والمغادرة وعدم الرغبة أو الأمل في العودة. 

    هذه الرحلة لها من الأهمية الدينية والعَقَدية في نفس الشاعر ما يستغني بها عن أي شيء آخر، أو أنه قد سلّم نفسه لله طلبا للثواب والمغفرة، لطول الرحلة ومعرفته بالمخاطر والمتاعب التي يلاقيها المتوجه ليصل على هدفه، فإن لم يعد بعدها فلا أسف على أي أمر آخر في الدنيا. وأبيات الافتتاح هذه تمثل البنية الأولى من بنيات النص. وهذا يقودنا على الوسيلة الثالثة من وسائل انسجام هذا النص.

الوسيلة الثالثة: بنيات النص

البنية العليا:

     يختار منتجُ النص الأدبي الشكلَ الأدبي الذي يناسبه الذي قد يكون خطبة أو رسالة أو قصة أو غيرها من أشكال الأدب، وبما أن الأديب يريد نقل تجربة رحلته، فإنه سينقلها إما نثرا على عادة الكثير من الرحالة، أو شعرا كونه ناظما للشعر، وهذا ما كان منه، ويمثل الشكل الذي يختاره الأديب وعاء لإنتاجه، البنية العليا، فقد عرَّف فان دايك(2001) البنية العليا بأنها" نوع من المخطَّط المجرد الذي يحدد النظام الكلي لنصٍ ما، وتتكون من مجموعة من المقولات التي ترتكز إمكاناتها التأليفية على قواعد عُرفية"(ص. 212)، وقد اختار الشيخ موسى بن محمد بن عبدالله الكندي المخطط أو الشكل أو ما يسمى بالجنس الأدبي وهو الشعر وهذا هو الشكل الذي يجيده، فكما ذكرنا سابقا له ديوان شعر موجود في مكتبة السيد محمد بن أحمد بن سعود البوسعيدي، وهو مخطوط قديم، وكثير من أوراقه متمزقة، ولم يبق منه ما يصلح للنقل، إلا بعض القصائد"( البطاشي، 2016، ص 171)، وهذه القصيدة في أربعة وثلاثين بيتا على بحر الوافر. ويأتي انسجام هذه البنية العليا كون الشيخ موسى بن محمد الكندي متمكنا من الشعر وناظما له.

البنيات الكبرى والبنيات الصغرى:

     يُنقل عن فان دايك (2001) تعريفه للبنية الكبرى بأنها" البنى الدلالية ذات المستوى الأعلى التي تتمخض عن قضية كبرى، أو عن سلسلة القضايا في النص بوساطة عدد من القواعد الكبرى" (ص.373)، والبنية الكبرى هي ما يمكن أن نطلق عليه موضوع الخطاب أو الأفكار الرئيسة للنص، التي تتمخض عنها أفكار أصغر منها تمثل البنيات الصغرى، مع ملاحظة أن ما يُمثل بنية صغرى في النص قد يكون بنية كبرى لبنيات أصغر منها، وما يمثل بنية كبرى في موضع من النص قد يمثل أيضا بنية صغرى بالنظر إلى النص كاملا، وهكذا.

     هذه القصيدة بنيتها الكبرى هي وصف الشيخ موسى بن محمد بن عبد الله الكندي رحلته إلى الحج، ويمكن تقسيم هذه البنية لعدد من البنيات الكبرى على النحو الآتي:

البنية الأولى: الأبيات من الأول إلى الثالث، يعرض بداية الرحلة والوداع ووسيلة الرحلة.

البنية الثانية: من البيت الرابع إلى السادس عشر، يعرض الرحلة الطويلة والمصاعب والوصول إلى مكة. 

البنية الثالثة: من البيت السابع عشر الى البيت الثالث والعشرين، يتحدث عن تأدية مناسك الحج وزيارة قبر الرسول في المدينة المنورة.

البنية الرابعة: من البيت الرابع والعشرين إلى البيت الحادي والثلاثين، يمدح فيها الرسول الكريم.

البنية الخامسة: الأبيات من الثاني والثلاثين إلى الرابع والثلاثين، يذكر فيها وداع قبر النبي والعودة بسلام إلى الوطن.

   هذه البنيات الكبرى الخمس يمكن تقسيمها داخليا إلى بنيات صغرى، ولا سيما البنيتين الثانية والثالثة؛ حيث يمكن استخلاص البنيات الصغرى الآتية: 

  • الرحلة داخل عمان وهلاك القلوص الأولى.
  • سلوك طريق البحر، والتصريح بهدف الرحلة.
  • السير في صحراء تهامة لشهر كامل حتى الوصول لمكة المكرمة.

وفي كل تلك البنيات هناك بنيات أصغر منها (ستظهر عند معالجة وسيلة التأويل ومعرفة العالم). ومن هنا يظهر أن هذه القصيدة بنيتها الكبرى هي وصف الشيخ موسى بن محمد بن عبد الله الكندي رحلته إلى الحج. وتقسيم النص غلى هذه البنيات يجعل المتلقي منسجما مع أبيات القصيدة والمعاني التي قصد الشاعر نقلها في أبياته.

 

 

الوسيلة الرابعة: ترتيب بنيات الخطاب

     منتج أي نص يتوخى معاني ومقاصد يبتغيها؛ فيُرتب نصه حسب تلك المقاصد ترتيبا طَبَعيًّا، إلا إن كان له مقصد خاص فيمكن أن يغاير في ترتيب نصه حسب ذلك المقصد والمعاني التي يبتغيها، يذكر عبد القاهر الجرجاني(1992)" النظمُ والترتيب عمل يعمله مؤلِّف الكلام في معاني الكلِم لا في ألفاظها" (ص. 359)؛ ولذا نجد الشيخ موسى الكندي سار في ترتيب بنيات النص الكبرى ترتيبا طَبَعيا منطقيا حسب أحداث سير الرحلة كما بيّنّا في بنيات النص الكبرى، ولكنّا نجد أن الشاعر قد أحدث كسرا في ترتيب بعض البنيات الصغرى( الأبيات)، مثل البيتين الأول والثاني، فالترتيب الطبعي أن يبدأ بتجهيز الراحلة والحقيبة ليرتحل عن أهله وموطنه ويغادرهم بعد وداعهم ، ثم يذكر هجرته وبُعده عن منازله وأهله وإثارة الراحلة ثم الخروج، لكن الشاعر قدّم الهجرة والبعد والفراق وتهييج الراحلة على ذلك. ومن ناحية آخر نجد أن الشاعر لم يصرِّح بوجهته المقصودة إلا في البيت الحادي عشر، وقد يظن المتلقي في الأبيات العشرة الأولى أن الشاعر يهجر أهله وموطنه ليرتحل ويستقر في مكان أو بلد آخر لأي سبب كان، فتأتي المفاجأة بالتصريح بهدف الرحلة متأخرا، وهذا التأخير مقصود من الشاعر لجذب المتلقي لمتابعة القراءة أو السماع، وننظر أيضا في البنية الرابعة التي يمدح فيها الرسول الكريم، فقد جاءت مباشرة إثر بنية وصوله يثرب بعد المعاناة من قتال قُطّاع الطرق الذين اعتدوا عليهم، وفي هذه البنية الرابعة نجده يباشر زيارة قبر الرسول ويسترسل في مدحه صلى الله عليه وسلم، ويختم القصيدة بذكره العودة إلى الوطن وتأكيده بلوغ مقصده وهو أداء مناسك الحج بقوله في آخر بيت" قضيتُ مناسكي"، وهذه الخاتمة تدلنا على أنه نظم القصيدة بعد عودته من رحلة الحج ووصوله لموطنه، ولم تكن ما يشبه المذكرات اليومية أو الملاحظات، وإنما كان تتابع الرحلة حسب ذاكرة الحاج مع ملاحظة أن رحلة الحج في القرن التاسع الهجرة تستغرق أشهرا وليس أياما أو أسابيعا.

الوسيلة الخامسة: التكرار

     يحضر التكرار كوسيلة من وسائل الاتساق النصي المعجمي، وكذلك وسيلة من وسائل الانسجام

فـ" التكرار زيادة على كونه يؤدي وظائف دلالية معينة، فإنه يؤدي كذلك إلى التماسك النصي، وذلك عن طريق امتداد عنصرٍ ما من بداية النص حتى آخره، هذا العنصر قد يكون كلمة أو عبارة أو جملة أو فقرة، وهذا الامتداد يربط بين عناصر هذا النص، بالتأكيد مع مساعدة عوامل التماسك الأخرى" (الفقي، 2000، ص.2/ 22)، والشاعر في هذه القصيدة استعمل التكرار بأنواعه المختلفة ولا سيما تكرار الترادف مع وجود بعض الخصوصية في المعنى لكل لفظ من  الألفاظ المستعملة؛ فقد استعمل الشيخ الشاعر تكرار الترادف بصورة مستفيضة؛ فمثلا استعمل للراحلة التي تقله من عمان إلى مكة مع تغييرها بسبب التعب والهلاك استعمل لها مصطلحات عدّة مثل( الهجان- القلوص- وجناء-عيس- جِمال)، واستعمل للرحيل ألفاظ عديدة- على الترتيب- :( هجرتُ- تركتُ- الزيال- ارتحالي- ودّعتُ- انتقال- سرتُ- ودّعتُ- هجرتي- التهجير- رحتُ- سرتُ)، واستعمل لإظهار المشقة والجهد والمعاناة في الطريق حتى الوصول ألفاظا أخرى( أجشمها-الأيْن- العناء- الكلال- كالي- نَصَب- المشقة- اللُتيّا[4]- هول)، واستعمال هذه الألفاظ بدءا من البيت الخامس من القصيدة ،وهو البيت الثاني من بدء المسير، إلى البيت الحادي والعشرين وهو البيت الي يمثل آخر محطة في الرحلة وهو الوصول إلى يثرب وزيارة قبر الرسول، بقوله:

وصلــتُ علـى المشقّةـ واللُّتيَّــا       وهــولٍ مــن معـانــاة الـقـتـال

استعمال هذه الألفاظ وإسهاب الشاعر في هذا النوع من الألفاظ للتأكيد الشديد على مدى المعاناة حتى الوصول إلى الهدف؛ وذلك ليضمن انسجام النص وترابطه؛ لأن"الأصل في الربط أن يكون بإعادة اللفظ؛ لأنها أدعى للتذكير وأقوى ضمانًا للوصول إليه". (حسان، 2000، ص.128).

الوسيلة السادسة: التأويل ومعرفة العالم

      المعرفة التراكمية التي يمتلكها الإنسان منذ ولادته وتطورها معه بمرور الزمن تُمثِّلها الخلفية المعرفية التي تعني" تراكم المعارف والتجارب في الذاكرة، وسحبها من جديد أثناء التفاعل مع نصوص جديدة"(حمداوي، د ت، ص.90)، وعن طريق هذه الخلفية يتمكن منتج النص والمتلقي من إنتاج النصوص وفهمها وتأويلها، وما ذكرناه سابقا من معرفة سياق النص والعنوان أو التغريض، وكذلك بنيات النص وترتيب الخطاب  والتكرار كل ذلك لا يتم إلا بمعرفة منتج النص والمتلقي للعالم، وهي كما أوردنا آنفا معرفة تراكمية يكتسبها الفرد من الحياة والاندماج مع المجتمع والانصهار فيه وأخذ الخبرات المختلفة مع الاطلاع على تجارب الآخرين من خلال القراءة الدائمة، إضافة إلى قدرات الكتّاب والقراء في الاستنتاج والربط والتركيب وتعدد القراءات في الموضوع الواحد وفي المواضيع المختلفة، والمتلقي عادة هو من يحكم بانسجام النص، أيًّا كان هذا النص سواء كان خطابا اعتياديا بين الأفراد أو نصًّا أدبيًّا، من خلال معرفته للعالم ونظَرِه في وسائل انسجام النص التي عالجناها سابقا، وذلك بعد أن يكون منتج النص قد اجتهد في أن يوِصل مقاصده المبتغاة بتوسله بوسائل انسجام الخطاب، وتذكر الكندي(2020) أنه" يبقى التأويل مغلقًا ولا يتمكن المتلقي من فتحه على مِصراعيه إلا بالاتكاء على مخزونه المعرفي؛ أي أن المتلقي يجب أن يفهم النص ويُؤوِّله حسب المعطيات الموجودة لديه بالفعل، وفي سياقها، كي لا يبتعد كثيرًا ولا قليلًا عن المعنى المقصود"( ص. 241)، وعند النظر في قصيدة الشيخ موسى بن محمد بن عبدالله الكندي نجِد مظاهر الانسجام بالتمحيص في حاضرة في عدد من جزئيات القصيدة، ومنها: بدء القصيدة بقوله:

هجــرت منازلــي وتركـتُ آلـي       وهيّــجـتُ الهِجـان إلى الزيـال

فأول لفظ استعمله الشاعر في التعبير عن رحلته (هجرتُ) التي توحي بالمغادرة والرحيل واعتقاد عدم العودة مرة أخرى؛ وذلك لإيمان الشاعر التام بسمو الهدف الذي خرج لأجله( الحج)، إضافة لعلمه بالمصاعب والأهوال التي يكابدها الحاج في رحلة الحج سواء في الطُّرُق حتى الوصول لمكة أو عند أداء المناسك، فقد تكون هذه رحلة اللا عودة، وننظر في ترتيب الأبيات الثلاثة الأولى للقصيدة، فقد قدم الشاعر ذكر الهجرة وترك الأهل وإثارة الراحلة على تقريب هذه الراحلة وتجهيز حقيبة السفر ووداع الأهل والأحبة باستعماله الصيغ- على التوالي- (هجرتُ- تركتُ- هيّجْتُ- قرّبتُ- هلموا بالحقيبة- ودعتُ- استهلت)، وذلك لاعتماد الشاعر على نيته التي اعتزمها وهي الرحيل لأداء المناسك فجاء الترتيب على هذا النحو، ومن هنا يكون ترتيب هذه الأبيات الثلاثة منسجما مع نية ومقصد الشيخ الشاعر.

    ذكرنا قبل قليل أن الشاعر يدرك كَمَّ المصاعب التي ستواجهه في رحلته هذه سواء أكانت في الطريق أو في أداء المناسك، ونلحظ مدى تفصيل الشاعر لمصاعب الطريق وطولها وصعوبة قطع الصحارى والجبال والبحر والبر، وهلاك الدواب من الحر والعطش إضافة إلى تربص قُطّاع الطرق بهم ومواجهتهم، نجده في المقابل مَرّ على أداء مناسك الحج نفسها مرورا سريعا سلسا، ولم يذكر شيئا من تفصيلاته إطلاقا وكذلك لم يذكر المدة التي قضاها في مكة، مع أنه ذكر بعض المدد التي قضاها في قطع بعض الأماكن حتى الوصول إلى مكة، لكنه لخّص أداء المناسك في بيتين اثنين فقط في قوله:

حططتُ ببطن مكة رحل عيسي      وكـنت بها عن الأهلين سالــي

فزرتُ البيــت ثم خرجتُ أسعى     وأدعـو ذا الـعـلاء وذا الجلال                                                       

لعل الشاعر لم يفصِّل في المناسك لأن الجميع يتساوى في أدائها وكَم التعب الذي يواجهونه لحين الانتهاء منه، فلا فرق بين الحُجاج في ذلك أيا كان موطنهم الذي قدموا منه، على عكس مصاعب الطريق التي تختلف حسب الطريق الذي سلكه الحاج ومدى الصعوبات والتسهيلات التي تواجهه في الطريق لحين الوصول.

    ننظر أيضا إلى جانب آخر ألا وهو رحلة العودة التي يذكرها ولم يفصّل فيها أبدا، وإنما اختصرها أيضا في بيتين اثنين بقوله:

وعدتُ مع الحجيج إلى عكاظ       وفي عرفات عدت على الجبال

قضيت مناسكي بصنيـع ربــي      وأُبــتُ مُبَلَغًــا بصــلاح حــــالِ

والبيت الأول منهما يمثل رحلة العودة من يثرب إلى مكة، أما رحلة العودة من مكة إلى نزوى فلم يتحدث عنها إطلاقا، وكأن طول المسافة والبعد والمصاعب لم يلحظهما في طريق الإياب، وإنما كان ذلك في طريق الذهاب بسبب شوقه وحرصه على الوصول لأداء المناسك وزيارة الرسول الكريم وشوقه لتلك البقاع، فوجد الطريق طويلة صعبة تحفها المخاطر، على عكس طريق العودة فقد اطمأنت نفسه، ويدلنا على ذلك البيت الأخير من القصيدة، فالشطر الأول منه يلخص رحلة الإياب؛ فقضاء المناسك بتوفيق الله رغم كل الصعاب هو المقصد والمبتغى، وفي الشطر الثاني يذكر عودته مع أمل في صلاح حاله وأحواله الدينية وربما الجسمية والعقلية والمالية وغيرها بعد أداء المناسك والدعاء. وذلك عكس ما كان في رحلة الذهاب؛ وأبيات القصيدة قدمت لنا طريق الحج الذي كان يسلكه العمانيون في القرن التاسع الهجري بالتفصيل؛ حيث ذكر بالتتابع في القصيدة (منازلي (سمد نزوى) - أجواز الفيافي (صحارى الشرقية والوسطى حاليا) - وادي جنابي (في جعلان بني بو علي وهي موطن قبيلة الجنيبي، وتتفرع عنها عدة أفخاذ منها الفوارس والمجعلي والغيلاني والمخيني وغيرها) - أرض الشحر (محافظة ظفار حاليا) (جريدة عمان، الأحد / 16 / ذو الحجة / 1445 هـ - 23 يونيو 2024 م)- طريق البحر- زبيد (مدينة الحُديدة في اليمن حاليا، وكانت عاصمة اليمن في القرن الخامس عشر الميلادي)- أرض تهامة (السهل المحاذي لساحل البحر الأحمر الشرقي، جزء منه في اليمن حاليا، والجزء الآخر في السعودية، سار الشاعر فيه شهرا حتى الوصول إلى ميقات القادمين من اليمن وهو ميقات يلملم)- مواصلة السير في الحجاز حتى الوصول لمكة المكرمة- يثرب- عكاظ- عرفات- العودة ربما في الطريق نفسها)، وهذا الطريق الذي سار فيه الشاعر مع بقية القافلة إلى الحج يتناسب مع ما ذكرته العديد من الدراسات التاريخية الحديثة عن طرق الحج القديمة، فقد ذكرت وكالة الأنباء السعودية (فقد كانت هناك سبع طرق رئيسة للحجاج تأتي من مختلف أرجاء الدولة الإسلامية، وهي طريق الكوفة / مكة المكرمة، وطريق البصرة/ مكة، وطريق الحج المصري ويسلكه حجاج المغرب والأندلس وافريقيا، وطريق الحج الشامي ينطلق من دمشق، طرق الحاج اليمني؛ حيث يسلكون أحد ثلاث طرق وهي الطريق الساحلي الذي يمر بجوار البحر محاذيا له من الشرق ويبدأ من عدن والطريق الداخلي أو الأوسط ويعرف باسم الجادة السلطانية ويبدأ من تعز، والطريق الأعلى ويُعرف بالطريق الجبلي وينطلق من صنعاء، ثم طريقا الحاج العماني ينطلق الأول من عمان متوجها إلى يبرين( جنوب الأحساء في السعودية حاليا) ثم البحرين وبعدها اليمامة ويواصل الحاج طريقه، والطريق الآخر للحاج العماني يتجه إلى فرق ( في نزوى) ثم عوكلان فساحل هباه وبعدها الشحر، وهناك يختار الحاج العماني أحد طرق الحاج اليمني الثلاثة.) (الجمعة، 10/ 12/ 1438)، وهذا الأخير هو الذي سار فيه الشيخ موسى بن محمد الكندي في طريقه للحج، ولعله سلك في رحلة العودة الطريق نفسها، فلم يأت بتفصيلات لها.

     ننظر أيضا في مدح الشيخ الشاعر للمصطفى صلى الله عليه وسلم في تسعة أبيات ويوردها بعد حديثه عن مواجهته مع القافلة لقطاع الطرق وحدوث قتال بينهم، ثم وصوله للمدينة وزيارة قبر الرسول الكريم، قد ينظر القارئ إلى وجود أبيات المدح في نهاية قصيدة وصف رحلة الحج غير مناسب، أو أنه لا يوجد انسجام بين موضوع القصيدة أو بنيتها الكبرى ووجود المدح في نهايتها، لكن عند النظر نجد أن الشاعر لم يُقحم المدح إقحاما وإنما كان نتيجة طبيعية؛ فقد جاشت نفسه عند زيارته لقبر وفاضت شوقا وحبا، فنتجت هذه الأبيات التي ذكر فيها حبه الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم، وتأديته للرسالة على أكمل وجه ، فقد بين للناس الحلال والحرام ، وذكر أن رسالته عالمية للإنس والجن جميعا، وأنه قد بلّغ  القرآن المنزل عليه، إضافة إلى الجهاد والحروب التي خاضها الرسول الكريم والمسلمون معه لصد الأعداء ونشر الإسلام، وأوضح أن الدين الذي جاء به محمد هو الدين الذي يرتضيه الله للناس إلى قيام الساعة. وقد يكون هذا المدح مقصودا من الشاعر في خطاطته الذهنية لهذه القصيدة، فكان مبتغاه أداء مناسك الحج ثم زيارة قبر الرسول ومنه ينطلق إلى مدح النبي الكريم وأخيرا الدعاء. وعليه نرى الخطاب منسجما تماما مع مقاصد الشاعر.

الخاتمة:

     مثّل خطاب رحلة الحج في قصيدة الشيخ موسى بن محمد بن عبد الله الكندي نصا منسجما بالنظر في مفتَتح القصيدة والسياق العام الذي نظم فيه الشيخ موسى الكندي هذه القصيدة، إضافة إلى بنيات القصيدة والترتيب الذي اتبعه الشيخ لهذه البنيات، بحضور التكرار متداخلا في البنيات المختلفة، مع نظرة المتلقي وتأويله طبقا لمعرفته للعالم وتجاربه السابقة، وقد خلص البحث إلى عدد من النتائج:

  • لسانيات النص منهج متكامل مُكَمِّل لنحو الجملة، يُعنى بالنص في مكوناته الداخلية والخارجية، يقوم على معايير سبعة: الاتساق والانسجام والقصدية والمقبولية والموقفية والإعلامية والتناص.
  • حضور أدب الرحلة الشعري بقوة في المؤلفات العمانية في الفترات الزمنية المختلفة.
  • يقع على عاتق متلقي النص الحكم بانسجام الخطاب من عدمه بالنظر في وسائل انسجام الخطاب: السياق والعنوان وبنيات النص وترتيبها والتكرار والتأويل حسب المعطيات وعدم تكليف النص ما لا يحتمله.
  • القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي، كان مزدهرا علميا وثقافيا في عمان؛ نظرا لكثرة العلماء والمؤلفات في الميادين المختلفة والمراسلات والمساجلات بين الأدباء.
  • وفي النهاية نرى ان هذه الدراسة بداية لدراسات أخرى أكثر سعة وعمقا، فنوصي بدراسة متخصصة لأدب الرحلة العمانية الشعرية ياستعمال المناهج المختلفة عامة ومنهج لسانيات النص خاصة.

 

المراجع

 

الجرجاني، عبد القاهر. (1992). ط3. دلائل الإعجاز. قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر. دار المدني: جدة، ومطبعة المدني: القاهرة.

جريدة عمان، الأحد / 16 / ذو الحجة / 1445 هـ - 23 يونيو 2024 م) https://www.omandaily.om 

حسان، تمام. (2000). ط 2. البيان في روائع القرآن. عالم الكتب.

حسن، نصر الدين إبراهيم أحمد، والسالمي، هيثم بن أحمد بن سليمان. (28 فبراير 2021). (قيمة

       الرحلات العمانية وخصائصها). مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية. م 5. ع 2. 

حسين، محمود حسني. (1983). ط2. أدب الرحلة عند العرب. دار الأندلس. 

الحمداوي، جميل. (د.ت). محاضرات في لسانيات النص. كتاب إلكتروني، شبكة الألوكة.

دايك، فان. (2001). علم النص مدخل متداخل الاختصاصات، ترجمة وتعليق: سعيد حسن بحيري. دار القاهرة للكتاب.

دي بو جراند، روبرت. (1998). النص والخطاب والإجراء. ترجمة: تمام حسان، عالم الكتب.

عاشور، ميلود مصطفى، وعبد الله، إياد نجيب. (5/7/2016). القصدية والمقبولية بين التراث

       النقدي والدرس اللساني الحديث. مجلة جامعة المدينة العالمية بجامعة العلوم الإسلام بماليزي. 

الغافري، مريم بنت حميد. (2013).أدب الرحلات العمانية (رحلة السلطان خليفة بن حارب إلى أوروبا أنموذجا). بيت الغشام للنشر والترجمة. 

الفقي، صبحي إبراهيم. (2000). علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق- دراسة تطبيقية على

      السور المكية. دار قباء للطباعة والنشر.

الكندية، قمرية بنت سعيد. (2020). الاتساق والانسجام في ضوء القصدية والمقبولية في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. أطروحة دكتوراه غير منشورة. جامعة السلطان قابوس.

مبروك، محمد مختار جمعة. (2005)، دلالة السياق وأثرها في النص الأدبي- دراسة نقدية: بحث

       مستل من المجلة العلمية لكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين، ع 23.                       مزعل، خالد توفيق. (2016) مصطلحا (البنية الكبرى والبنية العليا) عند فان دايك، مجلة كلية     التربية للبنات للعلوم الإنسانية، ع 18، السنة العاشرة.

موشلر، جاك، وريبول، آن. (2010). ط 2. القاموس الموسوعي للتداولية. ترجمة: مجموعة من

      الأساتذة والباحثين، بإشراف عز الدين المجدوب، المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا.

الوداعي، عيسى جواد. (2013).  التماسك النصي في الدرس اللغوي العربي، كتاب لسانيات النص

     وتحليل الخطاب، المؤتمر الدولي الأول. كنوز المعرفة.

وكالة الأنباء العمانية، 13نوفمبر2021 https://omannews.gov.om/topics/ar/6/show/179174

وكالة الأنباء السعودية. (الجمعة، 10/ 12/ 1438) حج / طرق الحجاج .. دروب وسبل عدة

       وجهتها بيت الله العتيق. https://www.spa.gov.sa/w479314 )

المراجع الأجنبية

    Crystal, David. (2008). Sixth edition. A dictionary of Linguistics and Phonetics, Blackwell publishing.                                                                                                                               

 

 

 


 


 


 


[1]- الديوان بدون عنوان.

[2]نرى أنه يستحيل أن تكون مدة رحلة الحج ستة أيام في القرن العاشر الهجري، وإنما قصد الشاعر ستة أشهر.

[3]ربما يكون لدينا لاحقا دراسة منفصلة لاتساق خطاب هذه الرحلة.

[4]المصائب الكبيرة والصغيرة.