الشخصية/البطل وإشكاليّةُ الزمن في رواية
الباحث المراسل | أ.د. فليح أحمد | جامعة نزوى |
د. محمود الصقري | جامعة نزوى |
Date Of Submission :2024-08-14
Date Of Acception :2024-10-09
Date Of Publication :2024-10-29
إشكاليّة البطل والشخصية الروائيّة
يتدخّل النقد الثقافي في تشكيل رؤية نقدية ذات طبيعة ثقافية لا تتوقف عند جماليات الفعل الأدبي الجمالي وإنّما تتوسّع نحو أنساق النص وفضائه الثقافي العام، وتأثير ذلك في بنية اللغة بنظامها الألسني غير الخاضع لرؤية جمالية محض، وهو على هذا النحو "فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد علوم اللغة وحقول الألسنية مَعْنِيٌّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء. من حيث دور كل منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي"(الغذامي، 2001، ص84-83)، إذ يتجلى هذا المستهلك بوصفه المقصد الأساس من الممارسة النقدية بمقدار ما يتأثر ويؤثر في الأنساق الثقافية التي يحملها النص الأدبي.
الممارسة النقدية الثقافية تبحث في إشكالية المعنى الأدبي الثقافي للنص وانعكاسه على مجتمع القراءة وتدخّله في تشكيله الثقافي والرؤيوي، "فالنقد الثقافي يتعامل مع النص بوصفه نسقاً من الرموز والأفكار، بدءاً من مادة النص المحسوسة، وصولاً إلى طبيعته التكوينية، ثم أثره التنفيذي، دون فصل بين هذه الثلاثية، مع ربطها بالواقع الخارجي وحركته الدائمة التي تحكمها ظواهر الاندفاع حينًاً، والانفعال حينًاً، والتذكّر حينًاً ثالثاً"(عبد المطلب،2003، ص93)، وبهذه الثلاثية تتضح الصورة العامة لهذا المنهج النقدي وهو يحيط بكامل الظاهرة النصية ولا يقتصر على جانب من دون آخر، في ستراتيجية نصية تقود النص الأدبي نحو مقاصده الأساسية من غير عوائق.
ظهر مصطلح "البطل" بوصفه نموذجاً ثقافياً نصياً في بدايات النقد السردي المشتغل على القصة والرواية، حين كان يُنظر إلى الشخصية الرئيسة التي تنهض عليها مجمل أحداث العمل الروائي بوصفها البطل المحوري للعمل، وذلك لأنّ الشخصية جزء من فاعلية البناء اللغوي لحركية السرد، فـ"الخطاب الروائي بشكل عام هو بنية لغوية دالة! وهو تشكيل لغوي سردي دال، يصوغ عالماً موحداً خاصاً، تتنوع وتتعدد وتختلف في داخله اللغات والأساليب والأحداث والأشخاص والأصوات والعلاقات والأمكنة والأزمنة"(هوثورين، 1986، ص132)، وهذا الاختلاف والتنوع يتيح فرصة كافية لنمو شخصية البطل وتمظهره على أنحاء مختلفة تجعل منه البؤرة الأساس في سيميائية حراك السرد الروائي، إذ تشتغل اللغة الروائية في قلب الصنعة وبؤرتها حين يتوقف عليها الجانب الأكبر من التماسك النصي في العمل السردي، ولاسيما فيما يتعلق ببناء الشخصيات ونموها وحراكها داخل لغة طيّعة تحفظ تماسك النص وبناءه وحركيته السردية المتناسبة(شبيل، 2001، ص198).
لذا فإنّ عملية بناء الشخصية على وفق منظور مصطلح "البطل" هي أخطر مرحلة من مراحل تشكّل قضايا الرواية وشواغلها، فهي مرتبطة بتوكيد الهيكل العام للنص (فريجات، 2000،ص87)، على وفق رؤية تستجيب للتفاعل الحيّ بين الشخصية بتحولاتها ونموها من جهة وعناصر التشكيل السردي الأخرى الموازية لها من جهة أخرى.
تتمركز رواية "إنسان الزمن الجديد" لعمر الطالب في شخصية مركزية محورية تلاحقها إضاءة الراوي بتركيز شديد، ضمن شبكة حلقات محورية عديدة يرسي فيها الأبعاد الرئيسة لهذه الشخصية بتمظهراتها المتعددة، ويؤكد حضورها الحار والمتدفق على مساحة غير اعتيادية من جغرافية الرواية المكانية، إذ ينتشر تأثيرها على الواقع السردي للرواية من أولها إلى آخرها على نحو بارز ومتميز. (الطالب، 1981)
"هادي" بطل الرواية وشخصيتها الأولى ذات الطبيعة التنويرية المهيمنة على مساحة كبيرة من الحدث الروائي يتحرك في المناخ العام للرواية برشاقة وانسياب ودينامية، وتدور الشخصيات الثانوية الأخرى المتعلّقة بشخصية هادي على نحو أو آخر في فلكها وتسندها سردياً، وبمجموعها تشكل إضافة حركية جديدة تسهم في كشف ملامح البطل وتجلياته وعلاقاته وأفكاره، إذ يكاد يكون هو الشاغل الأساس لمحورية الحدث السردي وقضاياه وأطروحاته.
يمتلك البطل في تشكيله الشخصيّ الظاهر ثقافة وسعة أفق وفكراً تقدمياً وتخصصاً علمياً في أكثر من مجال في حقول العلم والمعرفة المتعددة، تتيح له معرفة الحياة بدقّة وعلمية على النحو الذي يجعله قادراً على توظيف هذه المعرفة لأجل تجلٍّ أعمق وأكثر وضوحاً لطبقات الشخصية وجيوبها وتمظهراتها وأعرافها وشواغلها وقضاياها.
لقد استطاع الدخول إلى مختبرات الحياة الواسعة في الداخل السردي الروائي وفي طبقات الحدث وزواياه وظلاله، ليكثف خبرته العميقة في الوصول إلى الهدف المنشود والمرصود في إطار مقولة الرواية، في سياق تفاعل صميمي حيّ مع واقع الحياة السردية المجتمعة بآفاقها السياسية والاجتماعية والنفسية والثقافية في معترك فضائي واحد.
لا يعدّ البطل في هذه الرواية حالة فردية تبحث عن مسوغ للوجود أو كنهٍ للحياة الفلسفية المكوّنة لموقفه من العالم ورؤيته للأشياء، لكنه يشكل في هذا السياق حالة عامة وموقفاً إنسانياً يعمل على تحليل تناقضات الكون المعقّدة داخل محتوى رؤيته ومجالها السردي الخاص، واستلهام المنطلقات العاملة على إحداث تثوير شامل في مفردات الحياة باتجاه إيصال البشرية إلى مناخ حيوي متميز وهادف، ينظر إلى الجانب المشرق في الحياة بدلالة الجانب المظلم الذي يعدّ وجوده ضرورة لفهم النقيض.
تعتمد شخصية "هادي" في مرورها الحضاري الإشكالي نحو توجيه الأفكار وتعميقها وتشغيلها في مسارات نوعية محددة الانقلاب على المظاهر المتدنية في التعامل مع الحياة والشروع بصيغ تعامل جديدة راقية، يتساوق مع التوجهات التقدمية الآذنة بإنهاء مطلق الانكسار والتبعثر والولوج في بدايات عالم جديد، لا يشعر الإنسان فيه باحتمالات تساقطية يتراجع فيه ضميره إلى الوراء، وإنما بالحياة دافقة حلوة معطاءة تستجيب للمنطق الإنساني في التكوين البشري وتعلي من شأنه الوجودي. وفي سياق التجليات المتواصلة للبطل في مراحل التطور الدرامي للحدث، يحدد موقفه الفلسفي من نظريات الحياة وطقوسها ومدلولاتها وإشاراتها الحية، ويؤلّف علاماته الشخصية الخاصة جداً فضلاً على علاماته العامة التي تربطه بالزمن والمكان والحدث بنمطيه "التاريخي المستعار" و"الراهن السردي".
يبدأ "هادي" رحلته السردية البطولية بوصفه الشخصية الأكثر حضوراً وتمثلاً وقوّة في نسيج الرواية بتجاوز المألوفات المتشابكة في دراما الحدث السردي، للوصول إلى حالة البطولة الإنسانية غير المقترنة بالمقاسات العادية التقليدية للبطولة، على النحو الذي ينتج فيه صيغاً ورؤيات وصفات وملامح وسياقات عمل وأفكاراً وقيماً متعددة ومتنوعة ومتطورة، تشتغل في ظلّ تكوّن مميّز ومختلف للشخصية السردية الضاغطة في إطار الحدث الروائي، وهي تتمركز حول ذاتها ومحيطها ورؤيتها وتبدّى في كلّ منعطف وزاوية وطيّة من الحدث الروائي، كي تثبت حضورها الاستثنائي اللافت على الأصعدة كافة.
يمثل البطل السردي هنا اندفاعاً قوياً لحركة الشخصية في المجال السردي للرواية باتجاه اختراق سكونية الحياة الحكائية وتصدّعها ومثولها بين يدي الحدث العام، لكي تتجلى الملامح العامة لشخصيته التي تتمركز في العالم الداخلي له وتنمو سردياً على نحو عميق وشامل، مثلما تسعى إلى التأثير في العالم الخارجي الحاضن لعالمه الداخلي. وذلك برفض الحياة التي تطاردها النواميس التقليدية وتخنق إمكاناتها وتهدّم رغبتها في الإنجاز والفعل، التي لا يمكن لها أن تنفجر في خضم الانتقال المنطقي التقليدي للإنسان العام داخل رؤية تحدّ من الاندفاع والمغامرة والجرأة والبسالة، في المراحل المفتعلة المهيمنة التي يخاف الناس عادةً الانقلاب عليها أو حتى مناقشاتها لفرط حضور سلطتها السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو العرفية، في موقف ثقافي يجعل من بطل الرواية محرّضاً على الثورة في السرّ والعلن.
اختار "هادي" بطل الرواية المتفرد في هيمنته الشخصية على مسار الحدث السردي ومساراته فيها طريقَ الانقلاب على الزمن والمكان والسياق والنسق معاً، ليرسم في خضمها تفاصيل شخصيته المعبّرة عن جوهر مقولته وحكمته التي يواصل فيها العمل داخل الحدث السردي بحثاً عن نتائج واضحة:
"ما هذه الضجة؟ أعرفكم بنفسي هادي أنا.. واحد من البلهاء... عنترة المهزوم أمام غنج عبلة... اسكندر مكسور القرنين... نوح من غير سفينة. يقول عني السذج: نال كل شيء.. الحياة.. نال أكثر مما يستحق، إني أتنازل عن كل ما عندي مقابل غبائكم.. بلاهتكم... أردت دائما أن أحيا كما تحبون: أعلف.. أتكاثر.. أسبت.. أتكاسل.. أدفع الحيوانات الأخرى للعمل، فإذا ما توانت ناطحتها". (الطالب، 1981، 9)
تأتي مقاومته للحياة هنا مقاومة عاصفة مدمرة، فهو يحاول ضمن حركية سرده الذاتي العابر للحدود أن يدمر الحياة بقوانينها الضاربة في التخلّف في هذه الصور السردية التي يرسمها لمجتمع الرواية، ليبني على إثرها حياة جديدة مستقلّة تنقلب على الأعراف والقوانين والأسس القديمة المهترئة، ويصادر أرواح الذين يرقدون على أرصفة الحياة الصفراء ولا يفهون منها إلا التسلسل الجغرافي والاجتماعي لخريطتها الصماء، ويتعاملون معها من الخارج فتبقى حياتهم خارجية مسطحة.
اختار بطل الرواية "هادي" سرد ذاته الشخصية العابرة للمحيط بدلالة ذوات الآخرين الملتفّة حوله، وعليه ففي ظل هذا الوضع الحكائي الصراعي عليه أن يقبل التحديات ويصارع الموت المتحكّم في المصير السردي للشخصيات من أجل الحياة التي تنتظر في الخارج، إنها مغامرة مرّة وقاسية تلك التي ارتضى لنفسه "الراوي الذاتي/البطل" الدخول في خضمّها والمغامرة لأجل تكريس مقولته فيها، إنها في بعدها الآخر تمثيل للفكر الناضج والفهم الجديد للحياة الذي تحمله الشخصية إلى مجتمع الرواية، وتسعى بما أوتيت من قوة وشجاعة وإقدام أن ترسم مساراً جديداً للفعل والرؤية والنظر إلى قوانين الأشياء المتحكّمة في المصائر، وهو ما جعل البطل يحظى بهذه الصفة ويعبر عنها في أفعاله السردية:
"صحت بهم إنكم لن تستطيعوا معي صبرا.. أنزلوني اليمّ، أعطوني سفينة نوح بعد أن ثقبوها.. صارعت الموت، إنها أشد منازلة خضتها، تستطيعون تصورها وهي تجري في صورة لا تدرك باللمس.. لا شيء تحتها.. لا شيء حولها".(الطالب، 1981، 9)
هذه الرؤية النفاذة التي يمتلكها البطل بحساسيته النوعية المرهفة تحتم عليه الدخول في ميدان ثورة عارمة تنقل الحدث الروائي من نقطة السكون إلى فضاء الحركة، تتألق فيه اندفاعاته البطولية التي تتجاوز العاطفة فيها بعض حدود العقل استجابة لقوّة الوجدان وهيمنته، لكنها ما تلبث أن تصطدم بجدار البحث الأولي المركزي عن الذات التي ستفرز في جوهر معطياتها بذور البطولة الفكرية التي تتحلى بها الشخصية، فتخور القوى بإزاء هذا الاصطدام لتمثل عقبة مهمة في طريق ثورة الشخصية على الأشياء التي لا تتلاءم مع جوهر مقولته ورؤيته وفلسفته، وتسكن الثورة سكوناً نسبياً يعمّق حالة الصراع الدرامي للحدث السردي، ولكن هذا السكون لا يعني في أي من أحواله السقوط أو الفشل ونهاية المغامرة بل على العكس يعني تطوير البنية السردية لصالح دراما الحدث.
هنا تأتي الاستعارات التاريخية الدينية وتناصات البطل الشخصية مع أبطالها بوصفها وسيلة تعبيرية من وسائل تعميق وتوسيع صورة الشخصية الذاتية في الرواية. فموت أبي ذر الذي أتى عليه الراوي في ظلّ حركية هذا التناص الشخصي ليس إلا مرحلة تعثّر لا تشكّل في نتيجتها النهائية سقوطاً نهائياً للمقولة السردية القائمة على التحدّي والمقاومة، فهو مشروع سردي وحكائي وإنساني دائم وقابل للاستمرارية على طول الحدث السردي، وفيها يبحث البطل عن مكملات جديد يستهلها من قضية موت أبي ذر وما تنطوي عليه من سيميائية ورومزية فاعلة ومنتِجة على أكثر من صعيد، إذ يمثل في إطار الفضاء العام ومداخلاته الفكرية نموذجاً من النماذج الإبداعية الخيرة في مشروع الحياة.
إنّ شخصية أبي ذر الغفاري التاريخية المعروفة إنما تمثل صرخة مدوية أراد الطغاة إسكاتها لكنها لم تسكت في قلب "هادي" الباحث عن ذاته الضائعة في مجتمع مضيّع، إذ يستعيرها ويتقمّص روحها الثورية الهادرة هنا ليتمثّل بها في شخصيته بدلالة قناع شخصية أبي ذر، على النحو الذي أشعلت في داخله بوادر حكاية الثورة والإصرار والتحدي والذهاب إلى أبعد مدى في التعبير عن الذات وما تحلم به من مصير، وستحل روح أبي ذر بصورتها الشاملة المتمثلة بالثورة والخير والعطاء غير القابل للفناء في شكل آخر مختلف من أشكال الحياة المبدعة، وهي تروي سيرة البطل على مستوى الاستعادة التاريخية لشخصية الغفاري المعروفة وعلى صعيد الدور الذي تقوم به شخصية/البطل في الرواية:
"صاح المنادي.. مات أبو ذر.. فقد العالم إنسانه.. فقد الحليم حلمه.. مات أبو ذر.. زرعوا عمامته.. لحيته.. قلبه الطيب.. أثمرت العمامة أفاعي.. أزهرت اللحية غرباناً.. مات القلب الطيب ولم يزهر.. أكلت الغربان الأفاعي.. ماتت الأفاعي والغربان.. لم يرجع أبو ذر.. مات وابتعد.. رحل إلى حيث لا وصول.. إلى حيث الوصول رحيل جديد..". (الطالب، 1981، 42)
لكنّ الاختيار النهائي للبطل في تجسيد حيّ لأصالته وحبه وقوته وعنفوانه، وهو الساعي إلى شدّ أبعاده التركيبية بأساسيات البناء العام لشخصيته من حيث العاطفة – الفكر-، تلك المحاولة الدائمة لإثبات الوجود وتركيز المواصفات الاستثنائية التي تعمل على شحنه بدفقات جديدة من القوة، في السبيل نحو استظهار قيم شخصية إنسانية جديدة وتثمير أخرى في كيانه البطل على أكثر من مستوى. فيأتي اتحاده بشخصية "محمود" إضافة محورية جديدة لشخصيته، باتجاه توليد طاقة إضافية مشحونة بالقوّة والقدرة، تعمل على اكتسابه شرعية التحدي وإنهاء السيطرة البلهاء على مفاتيح الفكر ورقاب البشر:
"انطلق نشيدي
- تبدو وحيداً.
- مثلك.
- اسمي هادي.
- أنادى (محمود).
- سأخطف نجمه لأخط لك كلمة.
- أحاول الكتابة.
- أتذوق الكتب سلوتي الوحيدة.
- وفلم لذيذ.
- تماماً، ونغم جميل....
- وسير في الحقول.
- ونجاح باهر.
- إننا متشابهان". (الطالب، 1981، 43)
إنّ "محمود" هو البديل الشرعي أو الموازي الموضوعي لأبي ذر في إطار الاستحضار الشخصاني لقوّةٍ مساعدةٍ تقارب وضعه وفلسفته ورؤيته للعالم، بوصفهما رمزين "أحدهما سردي والآخر واقعي" من رموز الحياة المتفجرة بالفعل والعطاء والحرية والأمل، وعلامتين من علامات التحرر والانفتاح على مسار الحضارة في سياق العثور على سرّ الحياة وسحرها ومضمونها الإنساني والثقافي.
"تسألونني: ماذا وجدت في رحيلي؟ أصارحكم.. لم أجد غير الخواء والعدم.. لم أعش لأنتصر.. لم أعش لأهزم.. ثم رحلت.. رحلت لا من أجل النصر.. ولا بغية الهزيمة.. رحلت لأجد لذة الرحيل.. فلم أجد غير السأم والملل". (الطالب، 1981، 57)
يتطور البحث الفلسفي والصوفي المضني لفعل الشخصية في تجلٍّ جديد داخل عوالم الوحدة التي توفر له قدره أكبر على اكتشاف ذاته، وعلى التأمل الذي يبعث في داخله شيئاً من الانتشاء والاحساس السردي العميق بتصاعد درجات الذات وتجلّيها، إذ يحدد في سياقها موقفه الفلسفي من الزواج الذي وظفه الروائي هنا رمزاً للانغماس السلبي في حركة الحياة المادية واستجابة لمقتضياتها وضروراتها.
ذاتويّة شخصيّة البطل وإشكالية التواصل
تعدّ شخصية "هادي" في الكثير من أفعالها السردية على مسرح الرواية ذات طبيعة فردية شخصية تؤمن بقيمة الذات إيماناً كبيراً، مما شكّلت لها مساحة "ذاتوية" ظاهرة وبارزة بدت وكأنّ طبيعة علاقتها بالآخر تتوفر على قدر من الصعوبة والالتباس والإشكال، غير أنّ الشخصية لا يمكنها أن تقدّم شيئاً جديراً بالاحترام للآخرين من دون أن تؤمن بذاتها إيماناً كبيراً يكاد يكون مطلقاً، وتجعل من قدراتها الذاتية وسيلة لخدمة الآخر والأخذ بيده في محاولات كثيرة ومتنوعة، لذا فقد بدأت شخصية البطل تؤكّد بطولتها الاجتماعية والثقافية أولاً قبل أن تفكر بمدّ يد العون للآخر في السبيل نحو تمثيل الرؤية السردية الخاصة بها، وهذا النسق الشخصي المرتبط بالبطل إنما يستجيب لرؤية ثقافية قارّة في جوهر المجتمع الذي يقاربه الراوي وتثيره أيديولوجيا التشكيل السردي في الرواية.
إن العيش للذات في سياق الفكر الذاتوي هذا لا يمكن تفسيره على أنه موقف سلبي أناني من حركة العالم والأشياء، لكنه موقف فلسفي يدفع البطل إلى وضع استجلائي للخلاص من حالة التشيؤ والضياع التي يعيشها البطل المثقف المعاصر، في خضم شبكة من تناقضات الواقع الاجتماعي والفلسفي والحضاري:
"ضحكت أعماقي.. أتزوج هل يمكن أن أفعل بعد أن فشلت في زواجي الأول أن أحيا كل دقائقي كل لحظاتي؟! أنام.. أستيقظ.. أجوع.. آكل.. أفكر.. أتبلد.. أسمع موسيقى.. أصمت في وحدتي.. أرى صور العالم عبر آلة.. أغمض عيني على العالم.. اسمع دقات قلبي.. هل يمكن؟! أبداً أنا لا احتمل ذلك أريد أن أحيا لذاتي".(الطالب، 1981، 121 -122)
كما أنه يسيطر على حزنه بقوة ويتحكم في مسيرة آلامة إذ يعالج الألم والحزن بماء الحياة، وهو يسجل في هذا التداعي السليم موقفاً ايجابياً من الحياة، وهذه الايجابية واعية مدركة لخلفيات التعامل مع أعماق الاشياء أو على الأصح عقدها، فالشعر عنده بعث للحياة من واقع المعاناة، والشعر في الرواية ماهو إلا رمز للذات المبدعة:
غسلت نفسك بدموع المطر، الرذاذ يضرب الزجاج، الألم يصفع نفسه.. تناولت ديوان شعر تعزف على كلماته لتحيا".(الطالب، 1981، 130)
لكنه ما يلبث أن يلج حزنه الأزلي ويغوص في أعماقه وآباره وتضاريسه ومنعطفاته وإشكالاته، يتلفّ عليه باحثاً عن عالم من الخدر المطلق الذي يغادر فيه مآسي الحياة، ليعالج الحياة معالجة جديدة لأجل إنهاء حالة الصحو المضمخ بالعذاب المتواصل. فحالة الدفق التي يستمتع بها وينتشي، هي قطع لصلته بالحركة المجتمعية العادية ومضاعفة وحدته وفرادة وجوده. إنه بحاجة أكبر لتوافر فرصة التمتع الروحي لأركان شخصيته كي لا يسقط في دائرة الشخصية المأزومة المتهالكة:
"لماذا استيقظ.. دائماً أردت أن أدفن.. في قبر.. في الحروف.. في الصور.. في الأنغام.. ما أحلى أن أدفن في فراشي.. هذه المتعة.. متعة الدفن أنتشي بها".(الطالب، 1981، 132)
وعندما يحاول أن يستفيق تهاجمه النظرات المخيفة للموجودات المتحجرة التي تصد حركة الحياة وتمنع اندفاعها، ويستمر في الدوران بحثاً عن مخرج مفتوح يقضي على طوق التحدي المتصلب لتدفقه، على نحو يمنح الشخصية سمة البطولة التي لا تتوقف عند حدود البطولة التقليدية بل المتعلقة بحساسية الموقف وذكائه وقوته الروحية:
النظرات تصفعني.. أدور.. أدور.. أدور.. كدوامة بحرية.. وما أن أستفيق حتى أصفع بنظرة حجرية أخرى.. أدور.. أدور..". (الطالب، 1981، 139)
تستمر رحلة البطل لكشف مظاهر الحياة المشوّهة التي تصطدم بها شخصيته اللائبة الباحثة عن مصيرٍ ما في خضم أخطار لا نهاية لها. ويبدأ الصراع الخالد بين صفائه المحرّك لفعله السردي وزيف الأقنعة التي تغطي تشوّه الوجوه القلقة. فهو ينطلق من هذا المسار باتجاه اكتساب مواصفاته التي يصر على أن تكون استثنائية، في سياق تحليله المتواصل لإشكاليات كينونة الإنسان وتركيز وجوده:
"حمراء هي الحياة.. أصفر هو الزهر.. أسود النبيذ.. ترابي الخبز.. لنطرد أساطين التمثيل من حدائق الحياة حيث تربعوا.. لنزيح كل الاقنعة عن الوجوه المشوهة.. لنسحق كل الطلاء.. نرميه في المزابل.. الدم يلوث ثغورهم الباسمة.. ابتسامة التلذذ.. ابتسامة النشوة التي تسبق أكلة لذيذة".(الطالب، 1981، 147)
أما الانتقال المتباين في تدخلات عالم شخصية المرأة فيشكل محاولة أخرى لاكتشاف محور آخر من المحاور التي تتركب منها شخصية البطل ذات الطبيعة الإشكالية، وتفتح هذه الشخصية بذلك جبهة ثقافية أكثر حيوية وحرارة وإشكالاً لتعميق رؤيته وتوسيع حدود جدله مع الأشياء والقضايا والشواغل السردية. لكن عالم المرأة وعلى الرغم من كلّ غناه وثرائه وخصبه على المستويات كافة، إلا أنه لا يمنحه بعداً جديداً يعبّر عن امتزاجه اللحظوي الحار بامتدادات هذا العالم في جسد الكون المترامي الأطراف. بمعنى أنّ التجربة التي يعيشها البطل في هذا المجال لا تضيف شيئاً إلى المناخ الفكري والثقافي والرؤيوي الذي يبحث عن قنوات تطوره وإسناده وتموينه في أمكنة أخرى، بل يعزّز فردانيته ووحدته في سياق الوضع الإشكالي الذي يحيا في خضمّه ويستجيب لقوانينه، إذ لا تتجلّى مواهبه في التفكير إلا في ظلّ وحدة وغربة وحساسية تأملية خاصة:
جرحتني السكين جرحاً عميقاً.. الماء البسيط يصدر عن صوت متنافر في اللهب، ظلانا يتطاولان على الجدار الزاهي.. شيء في داخلنا يصعد صرخة.. ارتطاماً.. كسراً.. إشعاعاً من الأعماق نقياً مبهماً دواراً خائفاً لا يستقر. لوّن ذاتينا سهم كسر في داخلنا".. (الطالب، 1981، 152)
يتعاظم التذمر من نار الحياة التي تتشظّى أمامه من الزوايا كلّها، لكنه على الرغم من ذلك لا يوحي بالانتهاء والوصول إلى نهاية المنازلة، وإنما هو تعبير دقيق عن عظمة المعاناة التي يعيشها البطل وعمقها وإشكاليتها، وشدة فعل تيار الفكر المضاد الذي يحاول سحق فكره التقدمي العصري وسحبه إلى دائرة التخلّف، وهو ما يعمّق فكرة البطولة في الشخصية ويمنحها قوة أكبر وصموداً أعلى وأشدّ:
"أوثر الهوة في قاع الجحيم.. أرحم ألف مرة من نار الحياة الراعفة.. في قلب مطعون بآلاف النصول وانشطارات التمزق وسطامات اللهيب". (الطالب، 1981، 166)
يبقى الإصرار على الطلوع الأسطوري من تضاعيف الحزن وحصيلة التجربة القاسية، لأنه وصول مقرون بتكامل الشخصية السردية واستقطاب ملامح غير عادية في استمرارية التجربة الحيوية في أعماق الحدث الروائي، تلك التجربة التي تشكل إضافة سردية نوعية إلى البناء العام لشخصية البطل:
الصبح أروع ما يكون عندما ينشق من بين الدموع.. ثقب الحزن لطيف.. شطره سماوات زرقاء.. تسبح أنجمها في نهر أمل جار".(الطالب، 1981، 180)
ثم تتصارع الرغبة في البحث عن الوجود الثابت عبر إنهاء حالة الوجود المتجول، واستيعاب المناخ الفكري لأبعاد شخصية البطل الداخلية، في سياق معادلة جدلية تتراوح في تشكيلها بين الثانت والمتحوّل:
تبحث في كل مكان عن ظل مستعار.. أنت منفي عن الجدران والأرض الموطأة من جميع الاقدام.. أنت رمز متجول لإنسان الزمن الذي لا يؤمن بالزمن". (الطالب، 1981، 202)
يصطحب "هادي" مرة أخرى ألمه الكبير الذي ينجح في تحطيم شكله الخارجي وإحداث انعطافات كبيرة في سلوكه اليومي، لكنه مع ذلك لا يحدث تغييراً جوهرياً في رؤى القلب النابض بالحب، الذي لا يعرف الموت لأنه تعلم الحياة:
"ياللألم.. ألم كوكب ميت استقر في أعماق حجرتي.. حياتي طائر صغير طوت السهام المتقابلة جناحيه.. سقط في قعر الفضاء.. يرجه بخفقان قلبه الحي الذي لم يمت..".(الطالب، 1981، 218)
ويتجلى فيه الهمّ النفسي العظيم الذي يمتزج بهمّ الوطن وانكساراته بطاقة تأثيره على قيمة البطولة في الشخصية وإسهامها في تشكيل رؤيته ذات الفضاء السردي المشتبك، فتصبح شخصية البطل مكملاً موضوعياً لشخصية الوطن أو مرادفاً لها، إذ يضيف الوطن إلى سماته الشخصية بعداً جديداً، عبر انتقال الهم الخاص إلى الهم العام وعبر اتساع مساحة التحرك والتفاعل لشخصية البطل، وهو يسعى إلى تقليل حجم مأساته وترويض أزمته في الدخول إلى فضاء العام وتأجيل فضاء الخاص إلى زمن آخر:
"ليس هذا وقت الرؤى والاحلام بل الوقت الذي يشرع في القلب للحقائق الدامية.. لقلب مهزوم.. كوطني منهرس تحت وطء أقدام ثقيلة.. تتطلّع نحو أفق ممزق دام.. استرد فيه قلبي العتيق.. تسترد فيه بلادي كرامتها المهدورة. إن قلب بلادي الجريح مازال ينبض قلبي مازال ينبض لانقده ثمن القوة.. لانقدها ثمن الولاء". (الطالب، 1981، 220)
يحدد "هادي" في سير التجليات المتوالدة من الحدث المركزي الشاغل للرواية موقفه الفلسفي من الصداقة، تلك التي تشكل في فكره مفهوماً عميقاً جداً بوصفها أرقى فنون الاختيار، فهي عنده أسمى من الحب، وأقوى من رابطة الدم، وأروع من كل العلاقات الاجتماعية، لذلك عندما يسقط الصديق في مهاوي الخيانة لا يحقد عليه لأنه تخلص من غدّة الحقد، وليس من سبيل في تفهّم هذه الفلسفة إلا التعجب والحيرة:
"ما أغرب نظرة الصديق لحظة يضربه الصديق في صميم القلب.. إنها نظرة لا تحقد فليس لديها وقت للحقد.. إنها تتعجب.. تتساءل حتى يأكلها العفن". (الطالب، 1981، 232)
تبرز أقصى صور التجلي عندما يكشف البطل إنسانه الداخلي الذي يعيشه ويستظهره على شاشة السرد وفي أجزاء كثيرة منها، وهو يتميّز بنصاعة أفكاره، وتألّق مبادئه، وإحساسه اللا متناهي بضرورة الحياة وعلو قيمها وتمّز رؤيتها، فهو الحالة الوحيدة الحية التي تعيش وسط ركام هائل من الأشياء الميتة الزائلة. إنه الخروج الحتمي من عوالم الالم ومتاهات الحزن ودفء السكون والتحجر والتشيؤ:
"إن الوجوه النظيفة لاتقبل التلون يكفي أن يكتشف الإنسان شيئاً جديداً، إن قمة النصر أن تكتشف أنك تحيا وسط الأموات". (الطالب، 1981، 239)
وعلى الرغم من اكتشافه مجاهيل البشرية وألغازها المعقدة فهو ما يزال يبحث عن كهنه هو ومصيره الإنساني والثقفي الخاص، عن خيط الامتزاج الفعلي مع حيوات البشر، الكنه العميق الثري الكفيل بقتل إحساسه الفضيع بالضياع والوحدة والوحشة والتبعثر، ويدفعه إلى الإفادة من غزاواته الكثيرة في أحشاء البشرية:
"فتحت لي البشرية أحشاءها اطلعتني الحياة على اعماقها.. رغم كل شيء أحس بالضياع". (الطالب، 1981، 242)
إنّ الذي يرمي ذاته في عمق هذا الشقاء المستمر ويحكم حركته باليأس ما هو إلا ثمن حبه وعشقه للأشياء الجميلة جميعاً، ولأنه لا يجيد استخدام دبلوماسية العواطف، إنه صريح مع نفسه ومع الآخرين، محبّ لجميع ظواهر الحياة الحيّة والحرّة ولا بدّ أن ينعكس حبه هذا عقاباً صارماً في ظلّ معادلة ناقصة ومشوّهة تحكم حركة المجتمع الرجعي.
يتحمل البطل ذلك عن قناعة ظاهرة مبنية على الإيمان المطلق بالنضال من أجل الإنسان، ومن أجل انتصار الحياة مهما عظم الصراع وطال زمنه. فالبطل هنا يمثل شخصية مناضلة مشبعة بروح النضال والفكر الحرّ:
"أنا بعيد عنهم في دهشة المجهود.. ها أنا أغوص في وحل الشارع مهجوراً بين نثّ المطر وضربات الرياح، أنا ضالّ يائس لأنني أحب الأشياء جميعاً.. كما لو كانت طبيعية... أقاسي لا نهائية الشقاء الذي قرأته في الاخرين.. أتلقى عقابي في كل نفر صامت في كل إنسان يمرّ منك..". (الطالب، 1981، 243-244)
ما يلبث الوضع النفسي للبطل بالتأزم والتشكيك بافتقاد القدرة على السير والمواصلة مرة أخرى، ولكنها وقفة تجلٍ وتأمّل تشحن البطل باندفاعةٍ قويةٍ نحو الجديد والطريف والمبتكر والتنويري في تمثّل الأشياء ومقاربتها واحتواء رؤيتها، من أجل كشفٍ أعمق لدراما الشخصية التي يسعى الراوي إلى تشكيلها وضخّها دائماً بطاقة أكبر:
"هل أنا مجنون؟.. لو لم أكن واعياً حالتي.. لو لم أحللها.. أسبر أغوارها لاعترفت بالجنون". (الطالب، 1981، 246)
تبقى أزمة الحياة في طبقات الحدث الروائي أعمق من أن يحسمها "هادي" البطل، ويحاصر مرة أخرى وأخرى في وهم إنهاء عقد البشرية ونقلها إلى حياة أفضل، إذ تستقر على أساسها حياته لأنها مرهونة بنقاء العالم وتخلصه المثالي الحالم من شوائب التمزق والتوحش، نحو انفتاح حرّ على التحضّر والرقيّ.
تتناسب أبعاده النفسية والفلسفية والثقافية والحضارية التي تنمو نموّاً محورياً مع تطوّر الحدث السردي تناسباً طردياً مع تصاعد المدّ الحضاري الإشكالي للطبيعة البشرية في حضورها السردي داخل حدث الرواية:
"لا أجد ما يلذني ليس من يحبني.. أنا وحدي.. أجلس كصرخة توشك أن تنفجر بعد أن سحقتني قذارة الحياة.. أرى في وجه المرأة ضعفي.. قيودي.. أمد يدي نحو المجهول بأصابعي المتوترة بيدي اللتين لهما هيئة الأشياء الممزقة.." (الطالب، 1981، 252)
يصل الشعور بالهزيمة في منعطف معين من منعطفات حركة شخصية البطل في الرواية إلى أقصاه عندما يسقط الحب في ظل النكسه والانكسار، ويتمظهر على أعتاب الخنق المادي للبنى الحضارية في أعماق البطل الإشكالي الباحث عن نفسه ومجده وصيرورته في زمن السقوط والهزيمة والتفكّك الثقافي:
"عادني ما شجاني من أغنيات.. تذكرت رموزاً طباشيرية رسمت على الجدران حياتي.. لم يحل سرها أحد أين تبدأ الذاكرة..؟ متى يزول الحاضر فيحلق الماضي بمواله.. ولا يبقى من الشقاء غير مصغر الورق.. الحب يبقى بعد نكسه سلامنا.. كفن الحب إذا ما اشتد الأسى تفتق ما تزال أقدام الحب الذاوي تعقد حبل الهزيمة حول عنقي.. أنا إنسان مهزوم أركض هرباً أنظر ظل هزيمتي النكراء". (الطالب، 1981، 257)
تأخذ السعادة في مفهومها الميداني الظاهر عنده في مساق الحدث السردي شكل الهدف أو المستقر الهادىء، لنفس قلقة باحثة عن شكل ما من أشكال الحقيقة في أية زاوي من زوايا الوجود، في زمن ملتبس كلما ضغطت على جزء ظاهر منه تحسست الزيف والتشويه والدجل والخيانة والفقدان، الذي يقوّض إنسانية وبشرية الإنسان في وجوده وفكره وتطلّعه.
فمن هذا المنظور الرؤيوي يبدو وكأنه في حرب مستمرة على الباطل بأشكاله كافة، وبالانكسارات المتوالية التي يعانيها البشر جراء هيمنته وقوّة حضوره في الأشياء، وما هذا إلا دليل حيّ وعميق وحرّ على أصالته التي تتألق في أكثر من مكان في الرواية، وهي تجتهد في تشكيل رؤيته نحو هذه المفردات والسعي إلى تركيز المشهد السردي وتشديد إضاءته عليها. فهو يرفض الموت المجاني المجرّد من غير الوصول إلى الحقيقة أو على الأقل مقاربة الإحساس الفعلي بالوجود، لأن فكرة الموت على هذا الأساس ليست سوى هزيمة، ومغادرة خاسرة لموقع الرفض الذي تبنّته الشخصية منذ التشكّلات الأولى لنموذجها في ميدان السرد.
إن فوز الحياة به أكثر فرحاً لديه من فوزه بالحياة داخل منظور العلاقة الديامية بين الطرفين، وتتصاعد أخلاقياته الإنسانية بأنساق متصاعدة إلى مرحلة النصر والتكامل والشروع بيوم الولادة الحضارية لذات البطل، في سياق التوكيد اللفظي اللساني والسردي لفكرة الرفض في مقاربة الأزمات والمشكلات:
قضيت عمري باحثاً عن الأزمات، كانت إنسانيتي رافضة، أرفض زمن القتل، أرفض زمن الخيبة، أرفض اليأس" (الطالب، 1981، 294)
يؤسس الروائي على هذا النحو "إنسان الزمن الجديد" في رسم هذه التجليات الخاصة بشخصية البطل، التي تتألق فيها شخصية الرواية المركزية شخصية "هادي" واضعاً لمسات جديدة واضحة ومتقدمة على رواية التشكيل الشخصاني، وهو يهدف إلى التمركز حول شخصية مموِّلة للحدث ولبقية الشخصيات وعناصر التشكيل السردي على النحو الذي اكتسبت فيه هذه الشخصية مصطلح "البطل" بقوة دون بقية المصطلحات المجاوِرة.
حركية السرد الزمنيّ: المقولة والرؤية
يتحدّد التشكيل الزمني في فن الرواية بوصفه الضابط المركزي والمحوري لحركية السرد ونشاطه في العمل، إذ من دون نشاط فعالية التشكيل الزمني داخل الفضاء الروائي على أعلى وأمثل درجة ممكنة من الانضباط والصيرورة والتماسك، فإن عمل عناصر الرواية الأخرى سيتعرّض حتماً للكثير من احتمالات الضعف والتشتت والانفراط، على النحو الذي يتهدّد فيه خطابها وتنكسر مكوّناتها النصيّة، ولا شكّ في أنّ زمن الحكاية هو الزمن المرتبط بشخصية البطل في حراكها السرديّ المنتشر على مساحة الزمن كاملة، وهو ما يوازي الزمن الخارجي العام "زمن الواقع" حين يبحث الراوي عن مناظرة زمنية لا بدّ من حصولها بين زمن الرواية وزمن الواقع المواجه له، في إطار التمثّل النقدي الثقافي الذي تشتغل عليه رواية "إنسان الزمن الجديد" حين يتبدّى فضاء العنونة بوصفه نوراً كاشفاً عن العلاقة بين المتخيّل والواقع، في قضية إسناد الدور الذي يقوم به البطل "هادي" مناظراً لـ"هادي" آخر مقصود في هذه المعادلة السردية الروائية، وهي تتحرّى تكريس الرؤية الثقافية وتسرديها في فضاء الرواية.
تعدّ الرواية في هذا الإطار السردي الثقافي "فناً زمنياً أو عملاً لغوياً يجري ويمتدّ داخل النص" (بوخاتم، 2005، ص285) في مسارات متعددة بحيث يكوّن النسيج المركزي للجسد الروائي، والعمود الفقري للتكوين السردي في النص، على النحو الذي يمكننا وصفه هنا بأنه "ماء السرد"، ولعلّ هذا الماء السرديّ ينهمر أكثر في سواقي العمل الروائي حين يجد القارىء ذاته الثقافية وقد توغلت في الفضاء السردي بعمق.
إذ مما لا شك فيه أن "السرد فن زمني أساساً" (الرقيق، 1998، ص26)، لا يمكنه أن يتشكّل حتى في أبسط صوره من دون حضور فاعل وأساس وحيوي للزمن، ينهض بمهمة الضابط المركزي الذي يحتضن عمل بقية العناصر ويسهّل بناءها وتشكيلها، ويدير دفّة العمليات السردية المكوّنة داخل أفق السرد. ونتيجة لهذه الأهمية الكبرى لعنصر الزمن في بناء الرواية فقد ظلّ مثار جدل وخلاف وتباين في فهم درجة أهميته وحضوره في فضاء السرد، وربما كان "الجدل بين التقليديين والتجريبيين في الرواية الحديثة هو إلى حدّ ما جدل حول الزمن" (مندولا، 1997، ص19)، لأن كل عناصر التكوين السردي الأخرى يتوقف عملها وقوّة حضورها وتأثيرها على شكل الزمن في الرواية.
توصف الرواية على هذا الأساس في حاضنتها الثقافية والفكرية والسردية بأنها "تركيبة معقّدة من قيم الزمن" (مندولا، 1997، ص75)، ومظاهره وتشكّلاته، تنفتح على صيغ وأنواع وأشكال وأنماط ووحدات زمنية كثيرة ومتنوعة، تعمل في فضاء الرواية ضمن سياقات وبرامج عمل وتشكيل وتكوين مختلفة، تؤسس بمجموعها قيمة عنصر الزمن في الخطاب السردي الروائي.
لا يأتي الزمن بطبيعة الحال على مستوى فهمه وإدراكه وتمثّل معطياته وفلسفته ورؤيته من فراغ، فهو معروف ومحسوس ومعيش ومتداول ومرئي ومسموع على نطاق واسع وعميق في جميع مفاصل الحياة منذ نشأة البشرية، ولا يمكن لأي إنسان مهما بلغت بدائيته وعفويته أن يعزل الزمن من فضاء حياته ومصيره، وذلك لأنه محكوم به شاء أم أبى، لذا فمثلما أن الزمن هو وسيط الحياة فهو وسيط الرواية أيضاً (ميرهوف، 1972، ص9)، على أساس أن الرواية شكل فني متخيّل من أشكال الحياة وهي تعبّر عن هذه الأشكال برؤية فنية.
تحتل رواية "إنسان الزمن الجديد" على صعيد شكلها ومقولتها الروائية ورؤيتها السردية مكاناً بارزاً ومهماً في ميدان العمل الروائي العراقي عموماً، وعلى الرغم من أن الرواية العراقية ما زالت تبحث عن طريقها الخاص ورؤيتها المتفردة –عربياً- على وفق معطيات وضرورات واقع انتسابها الموضوعي إلى الجنس والمكان، فلا نستطيع أن نلغي الأعمال الروائية المتميزة التي تكاثرت على نحو واضح في السنوات الخيرة على أكثر من صعيد. ويمكن القول إن رواية عمر الطالب ما هي إلا واحدة من هذه الأعمال الروائية التجريبية، التي تحاول أن تمنح الرواية العراقية بعدها المتفائل، وتؤسس في هذا السياق لبعض التقاليد الأبداعية لهذا الجنس الأدبي الواسع الانتشار.
قد لا تكون الرواية سهلة من حيث البناء المعماري ومن حيث الأبعاد الفكرية والرؤيوية والفلسفية، وقد تتعب قارئها تعباً يمنحه لذة الاقتناص والوصول، وقد تدفعه إلى ملاحقة الحدث بأنفاس لاهثة عبر التداعي المركب لشخصية "هادي" الشخصية الرئيسة في الرواية، وإلى تحديق الرؤية بشكل دقيق في الأماكن القليلة الأضاءة، وقد تثيره لغة الرواية الشعرية وتبعث في داخله نشوة تلقٍ غريبة، وفي كلّ ذلك ومن خلاله تشتغل على حشد ممكناتها النصية لبلوغ المقولة الروائية التي تتصدّى لها، في ظلّ الشخصية البطولية المركزية وهي تنفتح على الحدث والرؤية لترسم مجالها الفلسفي ضمن رؤية نوعية خاصة.
ربما تصدم أفكار الرواية وسهامها السردية وعي قارئها وتقلقه وتضعه باستمرار في دائرة الأسئلة التي تتناسل أسئلة، وتهدم في ذاته صرح الكثير من القيم المهترئة التي أعاقت حركة الحياة والتطور فيه. وقد تهزه وتنفره وتضحكه وتبكيه، وقد يتيه في عوالم تداخلاتها النفسية والفلسفية، وقد يقرأها مرات ومرات ويكتشف جديداً في كل قراءة، وقد يبحث عن زمنه فيها أو عنها في زمنه، وهي في كل هذا وذاك تتحرّك في إطار مقولتها وتؤكّد عليها على نحو غزير وعميق وصريح ومقصود.
إيقاع الزمن السرديّ وتحولاته
يمثل الزمن الفرصة الإيقاعية السردية الأكثر تجلياً في مضمار السرد الروائي إذ "من المتعذر أن نعثر على سرد خال من الزمن، وإذا جاز لنا افتراضا أن نفكر في زمن خال من السرد، فلا يمكن أن نلغي الزمن من السرد" (بحراوي، 1990، ص117)، ويمكن على هذا النحو مراقبة تشكلات الإيقاع السردي من الحراك الذي يبعثه الزمن في الفضاء الروائي، على الرغم من أن عناصر السرد الروائي بأجمعها بوسعها بعث إيقاع معيّن داخل مفاصل السرد الروائيّ، فللمكان إيقاعه وللحدث وللحوار وللوصف وللشخصية، لكنّ الزمن السردي مسكون بالإيقاع على نحو يكاد يكون مطلقاً إذا ما أراد السارد استثمار طاقاته على النحو الذي يناسب تجربته الروائية.
تبدأ فكرة طرح عنصر الزمن ودلالاته في القسم الثاني من الرواية على نحو واضح ومقصود في درجة أساس من درجات التشكيل، إذ يتصدر السؤال الأكبر: من الذي يأتي؟ للدلالة العميقة على بحث سردي فلسفي وثقافي عن معنى الزمن وماهيتة في سياق الانتقال الزمني المتباين بين الوحدات الزمنية داخل الفضاء العام للسرد، وسؤال المجيء الفعلي مشبع بإيقاع زمني قادم مرهون بشبكة من الاحتمالات التي تفضي إلى مضمون ثقافي، يتعلّق بهوية الشخصية المركزية/البطل في بحثها عن مساقات سردية تستطيع فيها أن تُظهِر قدرتها على فرض إيقاعها الزمني دائماً وعلى نحو أصيل وفاعل ومنتِج.
في الساعة السابعة صباحاً تبدأ أحداث الرواية بصنع زمنها الخاص باستخدام المفردات التقليدية للزمن، إذ تكون حركة الزمن هنا مشوبة بشئ من التثاؤب والحذر توحي بافتقاد الصلة الروحية بالزمن ـ الأمل، وتشي بالطابع الروتيني التقليدي من خلال إمساك شخصية "هادي" بأعمدة الزمن التقليدي وإحساس "هادي" بلا جدوى من الزمن، إذ هو يتصرّف بوحدات الزمن استناداً إلى طبيعة شخصيته الإشكالية ووعيه الذاهب إلى الثورة على الراهن والبحث عن فرص للتغيير. الا أن تكيف عناصر الحدث الروائي لعنصر الزمن عبر التداعي المتداخل، يجعل فكرة الزمن أكثر مرونة في استيعاب وتمثّل جزئيات المونولوج الداخلي وتفاصيله، وشدّه للمناخ الزمني العام للرواية.
كما يطرح "هادي" في خضم بحثه الزمني المأزوم احتمالات الخلاص الروحاني "الثقافي" من أسر الزمن الثقيل، إنها دعوة ذاتية شاعرية لاجتياز حواجز الزمن المنهك، والمضي قُدُماً نحو زمن متخيّل تجري فيه الأمور بحسب رغبته وتوقه وحلمه، وعلى وفق مزاجه المختلف والمغاير لكلّ ما حوله:
"عليّ أن أتعلم كيف أتجنب جدران رأسي أن أقضي زمني في زاوية قصوى في ففن زهرة.. في وكر قبّرة.. على سطح غيمة.. في جوف السطل.. عند انحسار شعاع.. أن أركب موجه كي لا أكون لعبة للصخور.. أن أقفز نمراً.. أتحرك عصفوراً.. أتجمع ندى". (الطالب، 1981، 138)
فالحل الرومانسي الذي ينهض على تأمل الشخصية لذاتها من زاوية معينة، يمكن في بعض الاحيان كفيلاً بمنح الحياة شيئاً من الروعة لأن المقولة الفلسفية التي تفسّر جزءاً مهماً من سلوك الشخصية وقناعتها بالأشياء:
"الجد يبدد روعة الحياة". (الطالب، 1981، 140)
ويسحقها في متاهات رسمية الزمن وتحجره وهيمنته التقليدية على الأشياء، على النحو الذي يضع حداً فاصلاً بين شعرية الحياة وعنف الزمن. هذا الزمن بتقدمه البطيء يؤكد عدميته لأن التشبيه بالنبات الزائل والمتحوّل والفصليّ ينفي عنه صفة الخلود. كما أن ارتجافه يعطيه الصفة القلقة غير المستقرة:
"الزمان ينمو كالنبات.. يرتجف كالدخان.. يمتد في داخله أميالاً طويلة". (الطالب، 1981، 142)
كما أنه يتسم بثقله وامتداده وانشطاره على جدران الانتظار التي تجعل الزمن يتوقف في لحظة سردية معينة، تتحوّل فيها ذات المنتظِر إلى كيان مهدد بالموت المعنوي داخل إحساس بهزيمة الداخل قبل هزيمة الخارج:
"بعد ملايين السنين الضوئية.. أخبرك الحاجب أن ممتاز بك مشغول:" (الطالب، 1981، 145)
ويستهلك الزمن المنتظر في أتون التشيؤ وانعدام القدرة على الصمود والإقرار باستحالة التغير، حين يمتد ويتمدد فاعل الانتظار ليستغرق الجسد ويعوق حركته:
"الغد.. بعد غد.. بعد بعد غد.. بعد بعد بعد غد أكلت الأيام انتظاراً.. ابتلعت الأسابيع عظاماً شوكية انزرعت في حلقك".(الطالب، 1981، 145)
لهذا يبحث البطل دائماً عن مسوغ لتسريع الزمن السردي ونقله من الحالة السكونية إلى الحالة الحركية، من أجل أن يتفعّل عمل الذاكرة في ظلّ الراهن وينتج مساراً مفتوحاً نحو المستقبل الذي يحمل رؤيته للعالم:
عاودك الغناء.. أزهر في عينيك الأمل.. خطاك صاروخ الزمن ينهب المسافات". (الطالب، 1981، 146)
ويتنهد الزمن المعكوس في فضاء الرواية العام ليقدّم خطابه في أفق السرد بعد أن استعاد عافيته وصار قادراً على التحكّم بالزمن، فطريقة إيقاف الزمن وسحب المستقبل ورؤية الماضي من هذا المنظور السردي هو الذي يعطي الزمن الآتي صفة الموت، التلاشي، اللاجدوى، الرهبة، في صراع بين الأمل واليأس:
"الغد ينير لنا الأمس.. لنعد أدراجنا إليه بخطونا الحائر.. الصبح يغلق نوافذه.. يسدل الستائر.. جلس الصيف حيث مات الربيع.. الوقت يمضي حاملا دلويه.. دلواً للألم ودلواً للغناء".(الطالب، 1981، 148)
ولكن لا الألم ولا الغناء بقادرين على تغيير الموقف الزمني وتحييد رؤيته، وإذا كان هنالك شيء من التغيير فهو يسير نحو التعقد والتأزم وليس لإيجاد حلّ أفضل لمشكلة الزمن:
"ذهب الزمان الذي يشيب فيه المرء.. قدم الزمان الذي يشيب به المرء.. مضى النهار الذي يجرح به العيون.. وجاء النهار الذي يشقق الشفاه". (الطالب، 1981، 148)
يبقى "هادي" يرنو إلى حرق الزمن وإغراقه بين يدي تجربته وصولاً إلى الشكل الجديد للزمن، فهو يحاول اختراق القانون التقليدي للزمن عبر استدعاء القيم الخارقة التي يكتنزها حلمه الأسطوري في التجاوز والاختراق:
"ـ أنا مستعد للتعويض... أمسكت عصى موسى.. ضربت البحر الذي يفصلنا...". (الطالب، 1981، 152)
يستمر البحث الدقيق المتواصل والمضني والحالم عن جذور الزمن النفسي الداخلي، لإيجاد منافذ تحويلية للزمن الحلم إذ يستطيع أن ينجز أنموذجه في التعبير والعيش:
ـ هو عادل ويبحث عن عادل.. يبحث عن نفسه؟!. كلنا نبحث عن أنفسنا. اعتقدت أنني وجدت نفسي لكنني لم أجدها.. مازلت أبحث عن نفسي".(الطالب، 1981، 166)
يعدّ البحث عن الذات في هذا السياق السردي هو المعادل الموضوعي للبحث عن الزمن المفقود، عبر العثور على الأبعاد النفسية الضائعة للذات. والزمن -موضوع البحث السردي- ليس هدفاً محدداً ذا أبعاد (فيزيقية)، وإنما هو امتداد لامتناهٍ، إنه زمن ممتد متطور دينامي، باعتبار أن سكونية الزمن تعني موته بالضرورة، وهو الباحث عن زمن حيّ:
"ـ أنا لا أريد الوصول.. الوصول يعني الموت" (الطالب، 1981، 169)
أما الإبداع فهو بمثابة الخيار الأول والأكيد والحاسم للتخلص من ربقة الزمن الرتيب، وتجاوزه لحظاته القاسية المدمرة باتجاه أفق سردي يتحرّك فيه الزمن بسهولة:
"قرأت: الإنسان هو الإنسان.. قيود اللحظات في كل مكان تأسرنا، فتنتفض على الرتابة الاعتيادية بما نريقه على الورق من دمائنا الطاغية على ضفاف الملال.. الغريب في حياته لا يتأثر بمعالم المحيط ولم تخفف البلدان من وحشة اغترابه". (الطالب، 1981، 170)
ذلك لأنه لا يتحمل في طياته زمناً آن له أن يتغير وأن ينفجر، وأن يتحرك نحو معطيات جديدة تتناسب مع تطور فكر إنسانه وتطلعاته الحضارية الراقية نحو الأشياء.
يتحول الزمن في مضامين متغيراته العديدة في الرواية إلى البحث عن فضاء الجمال المرتقب، بوصفه عنصر الحياة الأكثر تدفقاً وفعالية وتألقاً وحضوراً وهيمنة على فعل الزمن المستمر، إذ يكمن في انشطاره وتمثلاته وتجلياته الزمن العادي المتجسد في مراكز الذوات وأقبية التيه والغربة والضياع:
"ـ لا نجد الجمال إلا في انشطار أنفسنا.. في تيهاننا.. في غربتنا". (الطالب، 1981، 173)
يستمر"هادي" في رفض نفسه داخل قيود الزمن العادي الذي يحيط الجميع ويسوّرهم في تقليديته، فهو الرافض الدائم للقوانين التي تمون هذا الزمن بمفردات السكون والارتداد والاضطهاد والقهر والسكونية:
"ـ قصدك ألا تشارك عشيرتك دينها.
ـ لسنا في العصر الجاهلي.
خرج غاضباً دون تحية". (الطالب، 1981، 183)
يتطور الصراع المدمر القاتل في أحداث تلاشي القدرة على التوفيق بين البحث عن الزمن الجديد، المتمثل بالافكار الجديدة التي آمن بها "هادي" وسخر جلّ حياته للدفاع عنها، وسلفية الزمن وتراجعه وتهرئه المتمثل بمعطيات الواقع الراهن وقيمه ومواضعاته التقليدية إذ تتقدّم الوحدات المرتهنة بالثقل والسكون والتحجر:
"أنا في عصر أكثر جاهلية.. أشد ما تكون فيه الحاجة إلى العشيرة.. كيف أوفق بين أفكاري وواقعي؟!إنني أنشطر.. اتنزى.. أصلب كل يوم ألف مرة"(الطالب،1981، 184)
إن الزمن الرتيب العام الذي يبحث (هادي) عن آفاق تغييره وتحطيمه، إنما هو في جوهره امرأة عاهر في ممارستها لعبة الحياة كما يصفها، فالعهر في رتابته وجنوحه وقتله الروح البشرية النقيّة، والعاطفة الراقية، والطهر الأصيل، هو هذا الزمن في قسوته وروتينية طقوسه وقوانينه الصدئة.
وفي سياق التحولات المتباينة للزمن يظهر على السطح بين آونة وأخرى أساس أوليّ مقرون بالقدرة على إمكانية الحصول على مفاتيح الآتي المشرق المنتصر، داخل رؤية ثقافية باطنية تعكس منطق العدل والحرية والخير:
"لأول مرة في يومك هذا أحسست بالأمل بالخير الذي يمكنه أن ينتصر دائماً". (الطالب، 1981، 198)
ثم يبين باستجلاء خواء الارتباط بالبنى المتهاوية للزمن العتيق، المتكيء في صيرورته على طبيعة السلوك السلبي البدائي في استيعاب كنه الحياة وفهم أساسيات تركيبها، فيظهر الزمن على هذا النحو مداناً محبطاً:
"اكفهر عندنا فتحت الخزانة الحديدة.. خزانة خاوية.. ورقة صغيرة رقدت في أحد أدراجها.. سطر عليها بخط أنيق..
رصيد في مصرف.... 300 دينار
مدين لـ.... 500 دينار
مدين لـ.... 150 دينار
مدين لـ.... 700 دينار
أجهش في البكاء لأول مرة منذ رأى والده يموت بين يديه..". (الطالب، 1981، 200)
وتتوالى في سياق الأحداث المتداخلة والمتتالية للرواية نماذج كثيرة من أشكال الزمن التقليدي، الذي يبعث في الأوصال المتحركة للشخصية المستقبلة لآلياته خدراً من صمت الزمن يقيد الحركة ويبعث على الموت والعدم:
"أفيون الشرق ينبعث من مذياع.. (خذني لحنانك خذني عن الوجود وابعدني) تتمايل تتمايل عند منعطف زقاق على حلم سديمي الله حي.. الله هو".(الطالب، 1981، 206)
لكن "هادي" الباحث الدائم عن زمنه الخاص والنوعي في فضاء السرد وتجلياته وطبقاته المتعددة بكل إصرار وتحدٍّ، يرفض السقوط ويصمد امام مغريات الزمن العاهر، فهو الذي يحتوي براءة الحياة ونصاعة وجهها إيماناً منه بقدرتها على إيصاله إلى مبتغاه في نهاية المطاف، ومنحه بذور العطاء والتحول والثورة:
"ضحك سالم لا تلحي لن يفعل أنه قديس لم اعهده يتعاطى منكراً أبداً.. إنه يحب.. يحب كل شيء في الحياة لا يريد تدنيس الحياة". (الطالب، 1981، 207)
ويقذف بـ"هادي" بين الفينة والفنية في ساحات الصراع الخالد بين الفكر والواقع بوصفه صراعاً أصيلاً في بنية التشكيل السردي في الرواية، ومن ثمّ بين العقل والعاطفة، وهو الذي يريد أن يعجل من حركة الحياة كي يختزل الزمن المادي الذي يصارعه من خلال ضغطه وحسم مواقفه المترددة، ويبقى السؤال الازلي مع ذلك قائماً وشائكاً:
_ لا أدري ما أفعل؟.
_ تزوج من تحب.
_ أحب (أوهام).
_ تزوجها.
_ عقدت على درية..
_ افسخ العقد.
_ يطالبونني بألفي دينار.
_ تزوجهما معاً.
_ فكرة رائعة.". (الطالب، 1981، 215)
كما أنه ينكر على الزمن دورانه اللامجدي في حلقة مفرغة إلا من شرائح ساذجة لا تحترم الزمن، ويضرب بتقاليد الإصرار على هذا الدوران السائب في معترك الزمن وهو يعود إلى ذاته ويتنصر لها على حساب كل ما هو خارجي وعابر.
"كل أسبوع أكثر من دعوة لا تذهب إليها جميعاً". (الطالب، 1981، 217)
ويتنفس "هادي" طموحه الزمني المستقل والخاص، ويستدعي في أركان ذاته اللائبة القلقة حاجة الثورة والتحول والانفتاح على زمن جديد، فحبه هو المعادل الموضوعي والثوري لزمنه، إنه لا يحب واحدة بعينها، إنه يحب تلك التي يرى في بنفسج عينيها بشرى الزمن الجديد، وينتزع من أتون جرحها المتدفق وجه الصبح ونوازع الشروق:
"ياللألم.. ألم كوكب ميت استقر في أعماق حجرتي.. حياتي طائر صغير طوت السهام المتقابلة جناحيه.. سقط في قعر الفضاء.. يرجه بخفقان قلبه الحي الذي لم يمت.. ما للثواني تتراكم فوق أهدابي ألما ممضاً قاسياً... (الطالب، 1981، 218)
بدأت لحظات الزمن الجديد إذن تلوح في الأفق الداخلي الغائر في أعماق الشخصية، بعد أن وصل الزمن القديم إلى حالة من الاستهلاك القيمي لعناصره الرئيسة وبناه الاساسية، وتتعدد أمام "هادي" خيارات التخلص من أسر الزمن التقليدي المزمن عبر مونولوج عميق مشحون بالأسئلة والخيارات، إذ تتشكّل شبكة من اللقطات الحوارية بين الذات والذات، وبين الذات والآخر المتجسّد على شكل صورة في ضميره.
التشكيل الزمني ومعمارية الهرم الروائيّ
تتحرّى رواية "إنسان الزمن الجديد" إشكالية الزمن الحكائي في سبيل استكمال البنية الهرمية المعمارية لها وتتدخل في المضمار الأساس لحركة الزمن حول الشخصية أملاً في إحداث تحولات كبيرة على مستوى الحدث الروائي، لكن محاولة العثور على مفاتيح التحول المثمر تتكسر أمام هذه هشاشة الخيارات الضعيفة المهتزة في لوحة المشهد، التي لا تمثل في الواقع إلا أشكالاً غارقة في مباشرتها وسطحيتها، وغير قادرة في حدود ما هو مقترح من حلول على إحداث تحولٍ واضح في مجرى الأحداث وتحولاتها الحكائية.
يمكث الأمل المنشود في دائرة الحلم فحسب، فالذي يحتاجه "هادي" في تحدّيه للزمن داخل الحادثة الروائية هو ثورة زمنية تقتلع الجذور كلها، لتعيد إنتاج زمنه الخاص والزمن العام معاً على وفق رؤيته وفضائه. على أن ترسي هذه الرؤية الجديدة دعائم التقاليد الزمنية المتفتّحة على أفقه وفضائه، أما هذا المتراجحات التقليدية المتداخلة المهيمنة على حركة الزمن العام فلا تمتلك القدرة الفعلية على صمود والبقاء في دائرة الفعل السردي:
"قالت لك جينا: إنني أحبك.. لا أستطيع بعداً عنك إذا ما عدت إلى وطنك لن أطيق الحياة.
- أصطحبك.
- هل يسمحون بالزواج من الأجنبيات في بلدكم؟ قالت نوال: سأعدّ حفلة رائعة لزواجنا...". (الطالب، 1981، 223)
وكما تهاوت وانكسرت المواقف النفسية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية للزمن العادي في إطار المعاينة الشخصية للراوي الذاتي، ينهاوى الموقف السياسي العام وينكسر عبر تشخيص زمنه المرحلي المتقلب، إذ تسقط أخلاقية هذا الموقف وينظم إلى مجموعة العهر التي يسعى الراوي إلى دحرها في رحلته السردية العابرة للأشياء:
"همس موظف في أذنك: - لقد ارتدى عدة فروات.. فروته القديمة خضراء.. كان يدعي أنه من السادة الأولياء.. بعد أن اشتعلت العمائم الخضر بدماء الثوار.. ارتدى فروة حمراء.. ادعى أنه ابن كادح بروليتاري.. عندما أحبطت الثورة بسرطان الدم تحللت كرياتها الحمراء إلى ماء.. ارتدى فروة بنفسجية". (الطالب، 1981، 229)
تبقى القدرة على مواصلة البحث والإصرار عليه مرهونة بالتحدّي والإصرار على اتخاذ المبدأ المركزي المتعلّق بأنموذج المقولة الروائية أساساً للبحث ومناراً يستضيء به البطل الباحث عن الجدوى، إذ تتجلّى رؤيته من خلال نقد التلوّن والزيف الذي يجعل المواقف الشخصية والفكرية تتغيّر بتغيّر اللون السائد والمهيمن على حركة الزمن:
"-تحقيق؟!
-نعم التهم الموجهة إليك عدّة.. إفشاء أسرار جلسة سابقة، عدم التعاطف مع المؤسسة، سلبيتك في الحياة، مقاطعتك للحفلات والدعوات، رفضك لندوة تلفزيونية، رفضك لالقاء محاضرة عامة". (الطالب، 1981، 238)
تستمر الرواية على يد الراوي الذاتي "البطل" في كشف وتعرية مفردات الزمن التقليدي العام، ورسم صورة الانهيار القادم الأكيد لصرحها في المفردات والملامح والصور والشخصيات والمظاهر والرسوم والمشاهد واللقطات:
"مستنقع الأوحال يلطخ حذاءك.. التحقيق.. سعاد.. وصيدها.. عبد الحميد الكبيسي.. السلبية.. سميرة وسهراتها الشيقة.. رفعت الشاذلي.. ماهر.. رغبة خليل ودعوتها.. ليلى سكرتريك الحب المنتحر.. ترقيتك...". (الطالب، 1981، 240)
فالزمن الآتي هنا يبدو مساوياً للبقاء والمكوث موضوعياً، فبالقدر الذي يكون فيه الآتي نقياً فإنه يقرّب زمن الوصول إلى البداية التي تتيح له فرصة تمثّل الزمن وإدرك قيمته. وبقدر ما تلمح التلوث بادياً في وجهه يمكن أن ندرك أن حلم الوصول ما زال بعيداً وقاسياً، فالنقاء بوصفه قيمة موضوعية ترفع من شأن ذات البطل وتضعه في مقام متميّز على صعيد زمنيته ومكانيته وحضوره السردي في الحدث الروائي، هي الشأن المطلوب في هذا السياق لأنه يعني الوجه الاخر للزمن الجديد:
داخلك يسح دمعاً.. لا تبك الدموع تغسل الآثام لا آثام لك ما دمت صادقاً مع نفسك مع الآخرين.. قلب طاهر خال من الزيف مقضي عليك بالألم وسط هذا الزيف (أين أجد النقاء؟!)". (الطالب، 1981، 240)
ومثلما يخاف العالم المعيش بقيمه وشخوصه وفضائه نقاء الزمن الجديد وهو يتمثّل الأشياء على نحو مختلف، فهو في الوقت نفسه الشكل المبحوث عنه من الزمن، إذ إن شخوص هذا الزمن هم الذين يدعون بدايته بالقيامة التي تمثل في نظرهم نهاية العالم، بينما تمثل في نظر "هادي" بداية الزمن الجديد إذ تتجلّى أفكاره وتتقدّم رؤاه:
"كل الدلائل تشبر بالقيامة.. الغلاء.. الأمراض.. الموت بالسكته.. الكفر.. ألبسة النساء والشباب.. عدم التفريق بين الذكر والأنثى.. عدم احترام الكبير.. التدخين أمام الآباء.. شرب الخمر.. التلفزيون.. السينما.. الملاهي". (الطالب، 1981، 241)
لذلك يبقى "هادي" يكنّ للزمن الجديد احتراماً نوعياً خاصاً نابعاً من ايمانه المطلق بحتمية الانتقال السريع نحو محتوى جديد للزمن في قابل الأحداث، تتحرك فيه الأشياء برقيّ أكثر وإنتاج أعلى لتصل إلى مستى الطموح:
"نظرت إلى ساعتك.. الزمن يسرقك.. لا وقت لك لتبدده.. استأذنت قبل أن يأتيك بالشاي". (الطالب، 1981، 242)
ولأن الزمن الحاضر بمضمونه الراهن والساكن والمتخلّف لا يوفر حساسية الاندفاع نحو المستقبل، فيصبح اللجوء إلى الماضي واستشراف المستقبل من خلاله أفضل من الارتماء في أحضان سكونية الحاضر وعمق المقيت:
الأيدي في عناق.. لقاء حب من الماضي.. حب لا يعرف الرياء.
ـ عجباً لأول مرة أراك في سوقنا القديم.
ـ إنني بحاجة إلى إعادة الماضي". (الطالب، 1981، 242)
إذ يبقى القطيع المترامي يغفو على شعارات الزمن التقليدي المستلب، إن أفراده بمعتقداتهم ورؤياتهم المحدودة لا يعرفون معنى البحث عن جديد، انهم يضاجعون السهل المكتشف كما يضاجعون العاهرة الميتة:
"ـ ما الحياة.. سكر.. نساء.. عمل.. نوم". (الطالب، 1981، 243)
تظهر إلى وجود الرواية مرة أخرى مفردات عقيمة أخرى للزمن الهيكلي المتداعي الذي يسكنه الفراغ، وتهيمن على مقدراته القيم المختلفة والمتباينة في وضعها الإنساني والحضاري، لتحيل على المكان المستلب:
"تتحدث عن النظام..الاحترام.. المناصب.. العدالة الاجتماعية.. الملابس.. السيارات.. القصور.. الأزياء الباريسية.. العمارات والأرضي.. مجلة الشبكة.. الأحذية.. الأربطة.. داخل حسن.. معجزات الأولياء.. أم كلثوم..". (الطالب، 1981، 247)
لا تنفك قسوة الزمن التقليدي تجتهد وتبتكر السبل في تحطيم بناء الإنسان وتقويض حماسه للتغيير، وتحاول تهديم صرح عزيمته وتستمر في محاصرته حتى يوشك أن يتحطم ويشيخ على أعتاب البحث الصعب في خضمّ هذه المنازلة الزمنية القاسي، ليبقى التواصل مع الزمن الجديد المفتوح على الآفاق كلّها نوعاً من الجهاد الشخصي العنيف مع الذات الزمنية، يعالج فيه البطل بؤس الإنسان المستمرّ وشقاءه الأزلي.
إن الخلاص في الجدة والإبداع والحركة التي تمثل في تشكيلها العام الزمن- الأمل، الذي سوف يعمل على انتشال الإنسان من كآبته وأوهامه:
"كنت تصنع لنفسك قيمة فائقة لقد اعتقدت أنك أكثر من مجرد إنسان. لقد هوى الآن كل ذلك في العدم.. العدم الذي تجري به الأيام. هذا أنا الآن أمدّ جسمي على كرسيّ وأغفو في نفسي، جسم يميل إلى الصغر ليس في ما يؤخذ عليّ أو ما يستلفت النظر ما جدوى تضرعي.. ثورتي.. ليس أمامي بعد هذا أن أكون سعيداً أو شقياً...". (الطالب، 1981، 251)
فعلى الرغم من ايحاء هذا التداعي بالوصول إلى مرحلة افتقاد الإيمان بالوصول والنكوص إلى مرحلة الهزيمة والانسحاب من دائرة التحدّي، إلا أن التوق المتمركز في نهاية الشوط المتداعي هذا يؤكد على أن بذور القدرة ما زالت موجودة وحاضرة وقابلة للاستدعاء والفعل، على الرغم من غيابها النسبي. إنها ما تلبث أن تظهر بصورة أكثر إشرقاً وتألقاً في محطة أخرى مشرقة من محطات التحول الزمني، لتثري حضور نفس الزمن الجديد، الأمل الباعث على الفرح والإيمان بجدوى الوجود والبحث:
"حمدية تبيّض كتاباتك.. تراجع أوراقك.. تجيب على رسائلك.. تختار ربطات عنقك.. حمدية تصطحبك إلى السينما تقرأ الكتب التي تقرؤها.. تناقشك.. تسمع الموسيقى التي تحب.. تحب الفرح مثلك.. حمدية صراحة ثورة.. عناد جميل.. طيبة أرض بكر.. زوغان ثعلب.. حذر قبره.. فتنة قطاة..." (الطالب، 1981، 257)
فحمدية إذن شكل من أشكال الزمن الجديد، أو حالة من حالات التحول، وإن الزمن التقليدي الذي يعيشه البطل هو زمن الاضطهاد والقمع وانتهاك الحريات، ومسخ شخصية الانسان، وإخفاء ملامحه البدائية الأولية:
"عندما عدت من الخارج توسلت إليها ألا تطعمك ما تحب هي بل ما تحب أنت.. أردت أن تسمتع على الأقل بحرية الأكل أحرقت اللحمة التي طلبتها.. حولت الخضار إلى شوربة.. لعنتك ولعنت أوربا وأكلها وناسها.. حكمت عليك (بالعلف الانساني) هكذا تسمي طعامك المعتاد الذي تتناوله من معلفك الكبير هذا (أي حيوان أنا ـ ثور.. خنزير ـ حرتيت.. ضبع ذئب.. كلها أفضل مني.. على الأقل تتناول ما تريد أن تأكله)". (الطالب، 1981، 264)
ويلجأ البطل إلى اتخاذ طريق سلبي للخلاص بعد أن تُستنفد أمامه كلّ معطيات الزمن القديم التي فقدت مبرر وجودها، فيلوذ بهذا النموذج إلى اختيار طريق انهاء الوجود المادي بحثاً عن شظايا الزمن الجديد:
همس في أذنك جربت كل شيء إلا الموت.. أريد أن أموت..
ـ أنت الذي يملك كل ما يحلم به الإنسان.
ـ لأفقد كل شيء.. لأني مللت كل شيء.
ـ أريد استبدال الوجود بالعدم لأثبت أنني موجود.. لا أحس بوجودي وسط كل هذه الأشياء التي ملكتها مرغماً.
ـ أنت عبثي". (الطالب، 1981، 265)
تظهر مرة أخرى صورة الزمن التقليدي في شكل الالتزامات المجتمعية القاسية الغارقة في إعدامها لاستقلاية الانسان وهدر زمنه وشخصيته وفلسفته وروحه الوثابة، وهي تتجسّد بوصفها قتلاً لروح التمرد والابداع عنده:
"فكرت أن تستقل.. أن تحيا كما تريد، جننت أمام المجتمع أمام التزاماتك" (الطالب، 1981، 267)
تتصاعد عناصر الدفاع المستميت والبارع عن كلمة الزمن الجديد، بواقعيتها المتميزة وصوتها العميق المدوي، وعنادها في محاربة الزيف ورجعية الزمن وسلفية الأفكار وانتهاك حرية الرأي ومقولة الإنسان:
"ـ أنا احترم الأشياء لا أستهين بها.. أقول ما أعتقد وهذا ماتفعله شخصياتي..
ـ شخصياتك خالية.
ـ بالعكس كلها واقعية من صلب حياتنا.
ـ هراء كلامك هراء.
ـ أريد أن يسمع صوتي إنسان". (الطالب، 1981، 272)
هذه الكلمة الجديدة هي اختيار للطريق الصعب المتعب، وهي رفض لزمن القتل والخيبة واليأس، إنه ثورة على السقوط من أجل الوصول إلى حدود الزمن الخصب المزروع بالنجاح والثقة والعطاء الخلاق المفعم بالحب والثقافة، فالإيمان بهذه القدرة المتقدة على التحول والتغيير تنتشر على مساحة واسعة من جغرافية الرواية الفكرية، إذ تتجسد في هذا حساسية المعادلة البشرية:
"الحياة جميلة مهما أجدبت". (الطالب، 1981، 299)
يبقى البحث عن المصير يسير في الخط الزمني العام لعالم الرواية، ويتجسد هذه المرة في الشكل الفولكلوري الذي تميزت به الرواية، واستطاع الروائي أن يطوعها بجدارة لخدمة الحدث العام للرواية:
"وأغنية عتيقة تدوم في رأسك (ما اندل دلوني)". (الطالب، 1981، 301)
لكنّ الطريق الصحيح هو ذلك الذي يعرفه "هادي"، وربما كان منتمياً إلى لحظته الفكري بشكل أو بأخر، أو بامتلاكه الحدس العجيب الذي يفسر له لغز الآتي ويكشف تجلياته. ففي خضم التحولات الكبيرة والمتنوعة للزمن في مسيرة الرواية، وفي سياق الكشف المتواصل لزيف وتهرىء الزمن وقدمه وضياعه وانسحاقه، يتأكد قرب الوصول إلى زمن ثوري جديد مفعم بالعطاء الانساني.
تعدّ هذه الرواية في صفحة من صفحات مقولتها ورؤيتها تبشير بالثورة، ثورة الإنسان المستقل الحرّ والزمن الحرّ الذي يعوّل على الإيمان العميق بالحرية، وهو تبشير بالزمن الجديد القادم المتمنّى على صعيد حلم الشخصيات، زمن الحكاية القارّ في جوهر الفعل السردي، والحياة الجديدة المفعمة بالثقافة وحقوق الإنسان، والإنسان في فضاء الغد الجديد الذي يحمل له شبكة من الوعود والأمنيات والرؤيات والرؤى والأحلام الجميلة.
يتشكل المعمار الزمني للرواية بشكل ذي خصوصية زمنية تتناسب مع كثافة الحدث وقوته وسرعة حركته البشرية داخل جسد المجتمع. وينتشر زمن الرواية في مقياسه الحكائي على مدى سبع عشرة ساعة.. تبدأ بالساعة السابعة صباحاً. تلك الساعة المليئة بالحركة والدفق بحكم تعود الناس على أنها ساعة البداية والنشاط ولاحركو التي تؤسس لنشاط بداية اليوم الزمني، وتحدث ثلاث انتقالات على مدى ساعة واحدة لكون هذه الفترة الزمنية مشبعة بحيويتها الحركية. وتبدأ هذه الانتقالات من الساعة السابعة صباحاً إلى الثامنة صباحاً عبر السابعة والنصف صباحاً، إذ تصبح كل نصف ساعة لها وظيفة زمنية محددة. ثم ما تلبث أن تبطؤ الحركة اتساقاً مع بطء الحركة البشرية قياسا لحركة الحياة وديناميتها.
تبدأ الحركة البطيئة ما بعد الثامنة حتى الثانية عشرة، ومنها إلى الثانية، ثم الثانية والثلث، حتى السادسة، إذ تتشكل أربع انتقالات على مدى إحدى عشرة ساعة تبدأ في الثامنة صباحاً وتنتهي في السادسة مساء، على لانحو الذي تشتغل فيه كل ساعة برؤية زمنية معينة . أما الانتقالات الأخرى بحركتها المتوسطة التي تقل عن حركة الانتقالات الأولى، فإنها تزيد نسبيا عن حركة الانتقالات الثانية. إذ إن الحركة البشرية في هذه الفترة الزمنية تتسم بشىء من النشاط الاجتماعي والنفسي الأكثر حرية، فالليل يمنح الإنسان شيئاً من الانطلاق في الحركة والفعل والتمظهر، وتواصلاً أكبر مع الزمن.
وتبدأ هذه الحركة بعد السادسة مساء، وتنتقل إلى السابعة والنصف مساء، ثم التاسعة مساء، ثم الحادية عشرة، حتى الثانية عشرة ليلاً، وبعدها يتوقف الزمن أو يسكن، ليعطي فرصة تأمل ومعاينة لحركات الزمن السابقة، وهذه الحركة الزمنية السردية للشخصيات والأحداث تمثل جوهر الفعل الحكائي الحامل لمقولة الرواية ورؤيتها.
إنّ هذا التشكيل الزمني لم يأت اعتباطاً وإنما بناءً على معمار خاص يرتفع وينخفض ويتسع ويتمدد ويتحرك ويقف ويمتد ويتقلص، انسجاماً مع زمنية التحرك اليومي للبشر في الفعاليات الانسانية وأدائها الطبيعي في المكان والعالم والأشياء، وقد جاءت الشخصيات كي تعبّر عن هذا المحتوى بهذه السيولة السردية وكأنّ الراوي يسلّط كاميرا بعدسة حاوية ولاقطة على أرض الواقع، لأجل بلوغ حالة نوعية من التصوير وتحميل الصورة أكثر من دلالة وقيمة.
بهذا يتفوق عنصر الزمن في رواية "إنسان الزمن الجديد" على عناصرها الأخرى ويموّنها بطاقته وحساسيته ومداه، ويهيمن عليها في إطار التشكيل الروائي المشترك والمتفاعل لعناصر السرد، ويمتزج الزمن على هذا الأساس بالحدث امتزاجاً صميمياً عالياً ويوجّه كثيراً من ميكانزماته نحو فاعلية أكبر واوسع، مما يرفع الحراك الزمني في فضاء الرواية السردي إلى أعلى مستوى ويزيد ألقها ويؤكد عطاءها الحكائي السوسيوثقافي الثرّ.
نتائج الدراسة
وفق ماتم تحليله ودراسته توصل الباحثان إلى النتائج التالية:
- إنّ عملية بناء الشخصية على وفق منظور مصطلح "البطل" هي أخطر مرحلة من مراحل تشكّل قضايا الرواية وشواغلها، على وفق رؤية تستجيب للتفاعل الحيّ بين الشخصية بتحولاتها ونموها من جهة وعناصر التشكيل السردي الأخرى الموازية لها من جهة أخرى.
- قيمة أفكار الرواية وتأثيرها تكمن في وعي قارئها لتضعه باستمرار في دائرة الأسئلة التي تتناسل أسئلة، وتهدم في ذاته صرح الكثير من القيم المهترئة التي أعاقت حركة الحياة والتطور فيه. وقد يتيه في عوالم تداخلاتها النفسية والفلسفية، ويبحث عن زمنه فيها أو عنها في زمنه، وهي في كل هذا وذاك تتحرّك في إطار مقولتها وتؤكّد عليها على نحو غزير وعميق وصريح ومقصود داخل معظم مفاصل الرواية.
- اثبت البحث فعالية توظيف عنصر الزمن ودلالاته في القسم الثاني من الرواية على نحو واضح ومقصود في درجة أساس من درجات التشكيل، إذ يتصدر السؤال الأكبر: من الذي يأتي؟ للدلالة العميقة على بحث سردي فلسفي وثقافي عن معنى الزمن وماهيته في سياق الانتقال الزمني المتباين بين الوحدات الزمنية داخل الفضاء العام للسرد، وتمثيل الإجابة المحتمَلة على شكل أحداث وأفعال سردية مختلفة.
- قدرة عنصر الزمن في رواية "إنسان الزمن الجديد" للتفوق على عناصرها الأخرى وتموينها بطاقته وحساسيته، ويهيمن عليها في إطار التشكيل الروائي المشترك والمتفاعل لعناصر السرد، ويمتزج الزمن على هذا الأساس بالحدث امتزاجاً صميمياً عالياً مما يرفع الحراك الزمني في فضاء الرواية السردي إلى أعلى مستوى ممكن.
المصادر والمراجع
- الغذامي، عبد الله محمد،2001، النقد الثقافي ـــ قراءة في الأنساق الثقافية العربية، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، لبنان.
- عبد المطلب، محمد، 2003، النقد الأدبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسة الشباب، العدد5، القاهرة،
- هوثورن، جيريمي، 1986، مدخل لدراسة الرواية، ترجمة: غازي درويش عطية، سلسلة المائة كتاب، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد، الدار التونسية، بغداد.
- شبيل، عبد العزيز،2001، نظرية الاجناس الادبية في التراث النثري، جدلية الحضور والغياب، دار الحامي، تونس.
- فريجات، عادل،2000، مرايا الرواية، دراسات تطبيقية في الفن الروائي، إصدارات اتحاد الكتاب العرب، دمشق.
- الطالب، عمر،1981، إنسان الزمن الجديد، منشورات المركز الثقافي الاجتماعي، جامعة الموصل، الموصل.
- بو خاتم، مولاي علي، 2005، مصطلحات النقد العربي السيميائي (الإشكالية والأصول والامتداد)، موقع اتحاد الكتاب العرب.
- الرقيق، عبد الوهاب، 1998، في السرد، ط1، دار محمد علي الحامي، صفاقس، تونس.
- مندولا، أ.أ، 1997، الزمن والرواية، ط1، ترجمة بكر عباس، دار صادر، بيروت.
- ميرهوف، هانز ، 1972، الزمن في الأدب، ترجمة أسعد رزوق، مؤسسة سجل العرب، القاهرة.
- بحراوي، حسن، 1990، بنية الشكل الروائي، (الفضاء–الزمن-الشخصية)، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت.