کلمة المتحدث الرئیس سماحة الشیخ أحمد بن حمد الخلیلي، المفتي العام لسلطنة عُمان

الباحث المراسلد. أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام لسلطنة عمان

Date Of Publication :2022-11-06
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

 

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله حقَّ حمده، حمدًا یوافی نعمه ویکافئ مزیده، لا حدَّ لغایته، ولا أمد لنهایته، سبحانه لا أحصی ثناءً علیه، هو کما أثنى على نفسه، یهب ما یشاء لمن یشاء، ویفضِّل الناس بعضهم على بعض، تلک هی سنَّة الله فی خلقه. والصَّلاة والسَّلام على سیِّدنا ونبیِّنا محمَّد، قائد الغُرِّ المحجَّلین، وهِبَة الله تعالى للعالمین، الذی علَّم من الجهالة، وهدى من الضَّلالة، وبصَّر من العَمَى، وأنقذ من الرَّدى، وعلى آله وصحبه، وعلى تابعیهم بإحسانٍ إلى یوم الدین.

صاحب السُّموِّ السیِّد أسعد بن طارق آل سعید، ممثِّل جلالة السلطان المعظَّم، أصحاب المعالی والسعادة والفضیلة، أیُّها الإخوة الحضور، الطلبة والطالبات، أحیِّیکم جمیعًا بتحیَّة الإسلام المبارکة الطیِّبة، فالسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته.

وإنَّها لَفرصة أن یجمعنا الله I فی هذا الصَّرح العلمیِّ الشامخ، فی مدینة نزوى، عاصمة العلم والإمامة، التی کانت تُشْرِقُ على عُمان بأسرها، إذ کانت موردًا لکلِّ ظامئ إلى العلم، یأتون إلیها من کلِّ فجٍّ عمیقٍ، وتعاقبت أئمَّة الدین على تَخْتِهَا، کما یقول العلاَّمة والشاعر الکبیر أبو مسلم رحمه الله تعالى:

أئمَّةٌ حُفِــــــــــــــــــظَ الدِّینُ الحَنِیفُ بِـــهِم 

مِنْ یوم قِیــــــــــــــــــــــلَ لدِینِ اللهِ أدْیَــانُ

صِیدٌ کِـــــــــــــــرَامٌ أُبَاةُ الضَّیْمِ أُسْدُ شَـرً  

شُمْسُ العَـــــــــــــــــــزَائِمِ أوَّاهُونَ رُهْبَـانُ

سُفْنُ النَّـــــــــــجَاةِ هُدَاةُ النَّاسِ قَادَتــــــــهُمْ

طُهْرُ السَّـرَائِرِ للإسْلاَمِ حِیــــــــــــــــــطَانُ

تَقَیَّلُوا مِدَحَ القُرآنِ أجْمَعَــــــــــــــــــــــهَـا 

إذا اسْتَـــــــــــــــــــــحَقَّ مَدِیحَ اللهِ إیمَـــانُ

والیوم یُحْتَفَى بنموذجٍ من هؤلاء الأئمَّة العادلین، بالإمام العادل التقیِّ العلَّامة المحقِّق محمَّد بن عبد الله الخلیلی رحمه الله تعالى. وماذا عسى أن أقول فی حقِّ هذا العلَم الشامخ، فی حقِّ هذا الإمام الکبیر، الذی جمع بین العدل فی الحُکم، والتحقیق فی العلم، والأخلاق العالیة الفاضلة، فکان مثالاً للاقتداء بالنبیِّ صلوات الله وسلامه علیه. ولا أزال أذکر کلمة قالها قسِّیسٌ أمریکیٌّ لی عندما اجتمعت به وسألنی عن العلاقة بالإمام، وقال: حدَّثنا الطبیب تومس عنه بأنَّه کان یُمَثِّلُ خُلُقَ إبراهیم u الذی جاء ربَّه بقلبٍ سلیمٍ، هذه شهادةٌ من قسٍّ أمریکیٍّ سمعتُها منه مباشرةً. وقد شهد الکثیر ممَّن أدرکوه وممَّن سمعوا عنه بأخلاقه العالیة، وسلامة قلبه، واستقامته فی الدین، واتِّباعه لأمر الله، واقتدائه برسل الله سبحانه.

أمَّا إذا جئنا إلى مکانة الإمام من حیث العلم، فإنَّ ألسنة الناس شاهدة، وکما یُقَال: «ألسنة الخلق شهود الحقِّ»، فالذین عاصروه وعرفوا دوره فی هذه الحیاة تحدَّثت ألسنتهم وأقلامهم عمَّا کان متَّصفًا به من غزارة العلم وسعته، فالشاعر الکبیر الملقب بشیخ البیان محمَّد بن شیخان السالمیُّ یقول:

أمَّا الإمامُ أبو خلیلٍ فَهْوَ فــــــی 

نَشْـرِ العُلومِ غَدَا عَدِیمَ مُمَاثِـــــلِ

ذُو رَحْمَةٍ للمُتَّقینَ ونِقْمَــــــــــــةٍ

للمُعْتَدِینَ ونعمةٍ للسَّـــــــــــــائلِ

وإذا الشَّدائدُ ضَیَّقَتْ حَلَقَاتِــــهَا 

رُمِیَتْ بِکَشْفٍ مِنْهُ کَافٍ کَـــافِلِ

 

ومن الکلمات التی قیلت فی تأبینه ما قاله رئیس الجمعیَّة العربیَّة بزنجبار الشیخ عبد الله بن سلیمان الحارثی فی کلمته التی ألقاها بعد الصلاة علیه، عندما اشترک المسلمون هناک على اختلاف مذاهبهم فی الصلاة علیه، فقد قال فیما قاله فی وصفه: «تبحَّر فی الأصول، وأخذ حظَّه من الفروع، وفاق أقرانه، وتفرَّد عن أصحابه بکثیرٍ من المسائل؛ لأنَّه بلغ درجة الاجتهاد، وصار فی الذروة العلیا التی لا یُزَاحمُهُ فیها مُزَاحِم، عرف ذلک معاصروه، وتشهد بذلک فتاواه».

ومثل ذلک ما قاله الشیخ البلیغ أحمد بن حمدون الحارثی أیضًا فی کلمةٍ تأبینیَّةٍ، قال: «طودٌ بل بحرٌ من العلم، کاد أن یُؤلِّف بین الغنم والأسود الْمُسَاورة، مضى إلى العالم الروحانیِّ یرفُلُ فی حُلَلِه السندسیَّة، وآثارُه تُخَلِّد له حُسْنَ الثناء على الألسن، وحُبًّا من أعماق القلوب t، وأغدق علیه سحائب الرحمة، وأحسن عزاء المسلمین فی مُصَابه».

أمَّا بالنسبة إلى الذین عاصروه هنا فی عُمان، فکلمات الثناء علیه من أقرانه وتلامذته هی أکثر من أن تُحْصَى. کان ممَّا شهد به العلَّامة الجلیل شیخنا ابن جُمَیِّل قال فیه: «أعلم أهل العصر فی عُمان، وسمعنا الشهادات الکثیرة من العلماء الذین کانوا حول الإمام یعترفون بتفوُّقه علیهم، وفضله من بینهم. وممَّن شهدوا له: شیخه الإمام نور الدین السالمی رحمه الله تعالى، الذی اعترف له فی بعض المناقشات التی کانت بینه وبینه بأنَّه علَّامةٌ جلیلٌ».

ولعلَّ أعظم هذه الشهادات جمیعًا شهادة قطب الأئمَّة، رحمه الله تعالى، الذی کتب إلى الإمام وهو عمره قد جاوز التسعین -أی: عمر القطب فی ذلک الوقت جاوز التسعین- وعمر الإمام فی نحو الثلاثین، أو أنَّه کان یناهز الثلاثین، کتب إلیه رسالة یطلب منه بأن یشهد له بأنَّه بلغ الدرجة الثالثة من درجات الاجتهاد، وهی درجة الاجتهاد المطلق، وقال: «أرجو أن تنفعنی هذه الشهادة».

فطَلَبٌ من إمامٍ معترفٍ له بتفوُّقه فی العلوم، حتَّى لُقِّب بقطب الأئمَّة، کان المقدَّم على أهل زمانه جمیعًا، یقدِّمُهُ إلى شابٍّ فی عمر الثلاثین، أو أنَّه کان یناهز الثلاثین فی ذلک الوقت لیس بالأمر الهیِّن، إنَّما هو شهادة للمطلوب منه قبل أن تکون شهادة لمن طلبها، أی: هی شهادة من قطب الأئمَّة بعلوِّ منزلة الإمام فی العلم.

وقد کان - بجانب هذا العلم الواسع- حصیفَ الرأی، ثاقبَ الفکر، یحتمل الشدائد بصدرٍ أوسع من رحاب الفضاء، وکان مهیَّـأً لحلِّ کلِّ مشکلةٍ من المشکلات، هذا ممَّا عُرِفَ عنه، ولا ریب أنَّ هذه المنزلة إنَّما وصل إلیها بأمرین اثنین:

وصل إلیها باجتهاده فی طلب العلم، کما کان مشهورًا بذلک؛ فقد تواتر عنه أنَّه کان إبَّان طلبه فی مذاکرة العلم فی إحدى اللیالی فی مسجدٍ من المساجد، وانصرف القائم على ذلک المسجد، وطلب من الإمام أن یُطْفِئ الضوء، وکان ذلک بعد صلاة العشاء، فرجع إلى المسجد لأذان الفجر، فإذا بالضوء مکانه، فکان یُبْدی أسفه بأنَّ الإمام غفل عن إطفاء الضوء، ولَمَّا دخل وجده مُکِبًّا على کتابه مکانه لم ینتبه لِلَّیل الذی مرَّ، بل کان طول لیله عاکفًا على کتابه، فالعلم إنَّما حصل بالجدِّ فی الطلب، کما یُقَال:

بِجِدٍّ لا بِجَدٍّ منْ مُجِـــــــدِّ 

وهلْ جَدٌّ بلا جِدٍّ بِمُجْد؟

 

فإنَّ الجِدَّ والجَدَّ إذا اجتمعا حقَّقا العجائب، وفَعَلاَ الکثیر فی نفوس الناس. وبجانب ذلک: الورع الذی یُصَاحبه الإخلاص لله I، فإنَّ الورع یفعل فی الناس الشیء الکثیر. العلم هو طریقٌ إلى الهدایة، ولکن یسلک هذه الطریق مَنْ کان ورعًا فی عمله، حریصًا على مرضاة ربِّه I.

 

وخُـــــذْ بــــــدلیل العلم یهــدک إنَّـــه 

طـــــریق یحــــار العقل فیه وعیــــرُ

وفِعْلُکَ حَسْبَ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ التُّقَــــى

على غَیْـــــــرِ علمٍ ضَیْعَةٌ وغُــــــرورُ

فــــــــما زَکَتِ الأعـْمَالُ إلاَّ لِمُبْــصِـرٍ

على نـــــــورِ علمٍ فی الطریقِ یَسِیـــرُ

أتدَّخِرُ الأعْمَالَ جَـــــــــهْلاً بوجــهها؟ 

وأنـــــــتَ إلى علمٍ هُنَـــــــاکَ فَقِیــــرُ

فیَا طــــــــالبَ اللهِ ائتِهِ مِنْ طَــــرِیقِه

وإلاَّ فبـــــــالحِرْمَانِ أنتَ جــــــــدیرُ

فلستَ إذا لم تَهْتَدِ الدَّرْبَ واصــــلاً 

قبیلُکَ فی جَهْلِ السُّــــلوکِ دَبِیــــرُ

وما العلمُ إلاَّ ما أردتَ بـــه التُّــقَى 

وإلاَّ فــخِطْءٌ ما حملْــــتَ کبیـــــرُ

فکمْ حاملٍ علمًا وفی الجهْلِ لوْ درى 

سلامَتــــــــهُ ممَّا إلیه یَــــــصِیـــــــرُ

ومـــــــا أنتَ بــــــالعلمِ الغزیرِ بِمُفْلِحٍ

وما لکَ جِدٌّ فی التُّقاةِ غــــزیـــــــــرُ

وحسْبُکَ علـــــمًا نافعًا فَرْدُ حِـکْمَةٍ 

بها السـرُّ حـیٌّ والجوارحُ نـــــــــورُ

تعلَّمْ لوجْهِ اللهِ واعْمَلْ لوجْــــــــــهِهِ

وَثِقْ مِنْهُ بالموْعُودِ فَهْوَ جَدِیـــــــــرُ

 

فکلٌّ من طلب العلم والعمل بالعلم یجب أن یکون بإخلاصٍ لله I. ولا ریب أنَّ العلم هو المیزة التی میَّز الله I بها الإنسان، هو السبب الذی فُضِّل به على غیره من أجناس المخلوقات العلویَّة والسُّفلیَّة، إنَّما فُضِّل الإنسان بسبب العلم، فالله I بیَّن مکانة العلم عندما بیَّن للملأ الأعلى مکانة الإنسان الذی خلقه وهیَّأه لأَنْ یَحْمِلَ رسالة العلم، فقد قال I: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلاَئِکَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِیفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِیهَا مَن یُفْسِدُ فِیهَا وَیَسْفِکُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَنُقَدِّسُ لَکَ قَالَ إِنِّی أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ کُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِکَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِی بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِن کُنتُمْ صَادِقِینَ * قَالُواْ سُبْحَانَکَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّکَ أَنتَ الْعَلِیمُ الْحَکِیمُ * قَالَ یَا ءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّکُمْ إِنِّی أَعْلَمُ غَیْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا کُنتُمْ تَکْتُمُونَ﴾ [سورة البقرة: 30-33]، کان هذا هو سبب استخلاف الإنسان فی الأرض، فإذن هذه الخلافة إنَّما هی منوطة بهذا العلم، بتشبُّع الإنسان من العلوم على اختلاف أنواعها؛ لأنَّه من خلال وظیفته فی هذه الحیاة لا بُدَّ من أن یتعامل مع جمیع الْمُکوَّنات الأخرى، هذه الْمُکوَّنات لا بُدَّ من أن یکون على معرفةٍ بخصائصها، ولا یُمْکِنُه ذلک إلاَّ بالتمییز بینها، ومعرفةُ أسمائها سببٌ لهذا التمییز؛ ولذلک امتحن الله I الملائکة، وعندما تحقَّق نجاح آدم - أبی البشر - على الملائکة فی هذا الأمر، أمر الله تعالى الملائکة أن یسجدوا له اعترافًا بهذا التفوُّق الذی تفوَّقه الإنسان علیهم.

وقد توالت رسالات الله I إلى عباده حاملةً إلى الناس هدایة العلم، فجمیع المرسلین إنَّما بُعِثُوا مُعَلِّمین، بُعِثُوا ﴿مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلاَّ یَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [سورة النساء: 165]. وعندما کانت الدَّورة الأخیرة التی هی مِسْکُ الختام، دورة النبیِّ محمَّد ﷺ، إنَّما کانت هذه الرسالة مفتتحة بکلمة: «اِقْرَأْ»، وهی أوَّل کلمةٍ یُخَاطَب بها النبیُّ ﷺ، ومن خلال شَخْصِه الکریم تُخَاطَبُ هذه الأمَّةُ جمیعًا، فهی مطالبة بأن تکون أمَّة قراءة.

وممَّا یتبادر أنَّ هذه الکلمة لا یُمْکِن أن تسُدَّ کلمةٌ أخرى مَسَدَّها، فلو قیل بدلاً منها: «اِعْلَمْ» أو: «افْهَمْ» أو: «تَبَیَّنْ» أو: «أدْرِکْ» أو نحو ذلک... لم تأت کلمة من تلک الکلمات لِتَسُدَّ مسدَّ هذه الکلمة. إنَّما جاءت کلمة: «اقْرَأ» فاتحةً لهذا الوحی، للإیذان بأنَّ هذه الأمَّة مُطَالبة بأن تَخرج من الأمیَّة التی کانت علیها حتَّى تکون رائدةً فی القراءة والکتابة، أمِرَتْ بأن تقرأ المکتوب.

والکتابة هی وسیلة تخلید العلم، ووسیلة نشره بین الناس جمیعًا؛ فإنَّ الکتابة هی السبب لنقل العلوم من جیلٍ إلى جیلٍ، ونقلها من أمَّةٍ إلى أمَّةٍ، ومن أرضٍ إلى أرضٍ، وقد کانت الوسیلةُ الوحیدةُ القلمَ، ولا یزال القلم له هذا الدور؛ ولذلک امتنَّ الله I على عباده بأن علَّمهم بالقلم، وعلَّمهم ما لم یکونوا یعلمون، ﴿اِقْرَأْ وَرَبُّکَ الْأَکْرَمُ * الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ﴾ [سورة العَلَق: 3- 5].

وقد امتنَّ الله I على الناس بأنَّ النبیَّ ﷺ الذی بعثه بین الأمیِّین - وهو منهم - جاء مُعَلِّمًا لهم لیُنقِذَهُم من هذه الضَّلالة، ولیُخْرِجَهم من هذه الجهالة، فالله I یقول: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ إِذْ بَعَثَ فِیهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ ءَایَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِن کَانُوا مِن قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُبِینٍ﴾ [سورة آلِ عِمْرَان: 164]. ویمتنُّ على العرب الأمیِّین خاصَّة بذلک، فیقول: ﴿هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الْأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِّنْهُمْ یَتْلُو عَلَیْهِمْ ءَایَاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَإِن کَانُوا مِن قَبْلُ لَفِی ضَلَالٍ مُّبِینٍ﴾ [سورة الجُمُعَة: 2]، ونحن نرى هنا بأنَّ الله I امتنَّ بنبیِّه ﷺ مُزَکِّیًا قبل أن یمتنَّ به مُعَلِّمًا؛ إذ صدَّر بالتزکیة فذکرها قبل التعلیم، کما کان ذلک أیضا فی قوله تعالى: ﴿کَمَا أَرْسَلْنَا فِیکُمْ رَسُولاً مِّنکُمْ یَتْلُو عَلَیْکُمْ ءَایَاتِنَا وَیُزَکِّیکُمْ وَیُعَلِّمُکُمُ الْکِتَابَ وَالْحِکْمَةَ وَیُعَلِّمُکُم مَّا لَمْ تَکُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْکُرُونِی أَذْکُرْکُمْ وَاشْکُرُوا لِی وَلَا تَکْفُرُونِ﴾ [سورة البَقَرة: 151-152]؛ ذلک لأنَّ العلم بلا تزکیةٍ لا قیمة له، فالله I ضرب ذلک المثل السَّیِّئ فی الذی آتاه آیاته ﴿فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّیْطَانُ فَکَانَ مِنَ الْغَاوِینَ﴾ [سورة الأعرَاف: 175]؛ وما ذلک إلاَّ لأنَّ علمه الغزیر لم یُجْدِه شیئًا مع فقدان التزکیة التی هی تنقیةٌ للنفس البشریَّة من جمیع طبائعها السَّیِّئة، ووصْلِهَا بالله I، والله سبحانه بیَّن فی کتابه أنَّ مَنْ لَمْ یُزَکِّ نَفْسَه دسَّاها، وأنَّ مَنْ دسَّاها فقد أشقاها، أمَّا مَنْ زکَّاها فقد أسعدها، فالله تعالى یقول: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَکَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [سورة الشَّمْس: 7-10].

والتزکیة إنَّما تکون بالعمل بالعلم، مع إخلاص هذا العمل لله سبحانه، بحیث یُطْلَبُ العلمُ لوجه الله تعالى، فحسبنا أن نرى ذلک المثل الذی ضربه الله I فی بنی إسرائیل، وهو إن کان من حیث لفظه فی بنی إسرائیل خاصَّة فهو من حیث معناه یشمل کُلَّ مَنْ کان على طریقتهم، إذ یقول سبحانه: ﴿مَثَلُ الَّذِینَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ یَحْمِلُوهَا کَمَثَلِ الْحِمَارِ یَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا یَهْدِی الْقَوْمَ الظَّالِمِینَ﴾ [سورة الجُمُعَة: 5]، وإذا کان هذا فی الذین حُمِّلوا التوراة فإنَّ الذین حُمِّلوا القرآن إن لم یحملوه بجدارةٍ، ویعملوا به، ویُکَیِّفُوا حیاتهم وفق تعالیمه؛ أیضًا هم حقیقون بهذا الْمَثَلِ نفسه، وإذا کان الله تعالى یُخَاطب أهل الکتاب بقوله: ﴿لَسْتُمْ عَلَى شَیْءٍ حَتَّى تُقِیمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِیلَ﴾ [سورة المائِدَة: 68]؛ فإنَّ أمَّة القرآن لیست على شیءٍ أیضًا حتَّى تُقِیمَ القرآن.

فهؤلاء الصَّالحون رَقَوا إلى هذه الدرجات العُلَى بالعلم وبالتزکیة، بإخلاص النفوس لله I، واتِّصالهم بالله.

 

 

مَحَبَّةُ اللهِ سِـرٌّ أینَمَا وَقَعَـــــــــــــــــتْ 

لَهَا على عَالَمِ الإمْکَانِ إذْعَـــــــــــــانُ

تُعْطِیکَ فَتْحًا وإنْ سُدَّتْ مَغَالِقُــــــــهُ 

وَطَوْرُ عَقْلِکَ فی ذا الفَتْحِ حَـــــیْرَانُ

فــــلا علیکَ إذا صَحَّتْ مَحَبَّتُـــــــــهُ

إذا وفَى لکَ هذا الخَلْقُ أو خَانُـــــوا

 

محبَّة الله I تُحَقِّق العجائب فی هذه الحیاة، وحُبُّ الله I مرهونٌ باتِّباع النبیِّ ﷺ والاقتداء به، فإنَّ الله U یقول: ﴿قُلْ إِن کُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللَّهُ وَیَغْفِرْ لَکُمْ ذُنُوبَکُمْ﴾ [سورة آلِ عِمْرَان: 31]، جعل اتِّباع النبیِّ ﷺ مُکْتَنَفًا بطرفی المحبَّة، بمحبَّة العباد لله - لأنَّ هذا الاتِّباع تصدیقٌ لهذا الحُبِّ، حُبِّ الله I -ومحبَّة الله للعباد التی تکون جزاءً على هذا الحُبِّ، وجزاءً على اتِّباع الرسول ﷺ.

وما على الإنسان إذا أحبَّ الله تعالى فأحبَّه الله مِنْ شیءٍ بعد ذلک؛ لأنَّ العالم ینفتح له بإذن الله I، ویُطَوِّع الله I له النفوس، إذ هذه النفوس جَبَلَهَا الله تعالى على الإعجاب بأهل الخیر -وإن لم یکن أهلها من أهل الخیر-، إلاَّ أنَّ الإعجاب بأهل الخیر طبیعةٌ مرکوزةٌ فی النفوس، کما سمعنا هذا الرجل الذی یعترف للإمام بأنَّه على خُلُق إبراهیم u، وهو لیس على دینه، ولا یُؤمِنُ بملَّته، ولا یتَّبع طریقته، ولکن مع ذلک یعترف هذا الاعتراف.

وکما اعترف الکثیر الکثیر ممَّن یعادون النبیَّ ﷺ بقدره العظیم، وجلاله الذی لا یُسَامى، وأنَّه یفوق على الخلق أجمعین، کم مِنْ أحدٍ اعترف بهذا القدر العظیم للنبیِّ - علیه وعلى آله وصحبه أفضل الصَّلاة والتسلیم - مع عدم الإیمان رأسًا، منهم ملاحدة لا یعترفون بدینٍ ولا یعترفون بملَّةٍ، ولکنهم وقفوا مشدوهین أمام عظمة شخصیَّة الرسول ﷺ، واعترفوا لهذه الشخصیَّة بالفضل العظیم!.

کان من بین هؤلاء: «شبلی شمیِّل» الذی کان فی الأصل کاثولیکیًّا، ثُمَّ کفر بالکاثولیکیَّة وبکلِّ شیءٍ، وخرج من کُلِّ دینٍ، وصار ملحدًا لا یؤمن إلاَّ بالمادِّیَّات، ولکن عندما کان یقرأ فی مجلَّة «المنار» ما کان یُحَرِّرُه العلَّامة السیِّد رشید رضا فی هذه المجلَّة من صفحاتٍ خاصَّةٍ بمناقب النبیِّ ﷺ، بعث إلیه رسالة مختصرة، وبعد هذه الرسالة أبیات، قال فی رسالته: «إلى غزالیِّ عصره، السیِّد محمَّد رشید رضا، صاحب مجلَّة المنار، أنت تنظر إلى محمَّد کنبیٍّ وتجعله عظیمًا، وأنا أنظر إلیه کرجلٍ وأجعله أعظم، ونحن وإن کُنَّا فی الاعتقاد، الدین أو المبدأ الدینیِّ، على طرفی نقیض؛ فإنَّنا یجمع بیننا العقل الواسع والإخلاص فی القول، وذلک أوثق لِعُرَى المودَّة بیننا». «الحَقُّ أولى أن یُقَال» تحت هذا العنوان کتب هذه الأبیات:

دعْ مِنْ محمَّد فی ســـــــــدى قُرْآنِهِ 

ما قَدْ نَحاهُ لِلُحْمَةِ الغَایَـــــــــــــــاتِ

إنِّی وإنْ أکُ قَدْ کَفَرْتُ بِدِینِــــــــــهِ

هَلْ أکْفُرنَّ بِمُحْکَمِ الآیَـــــــــــــــاتِ

أو ما حَوَتْ فی نَاصِعِ الألْفَاظِ مِنْ 

حِکَمٍ رَوَادِعَ لِلْهَوَى وَعِظَــــــــــاتِ

وشَرَائِع لو أنَّهمْ عَقلُوا بِهـــــــــــا 

ما قیَّدُوا العمْرَانَ بالعَــــــــــــاداتِ

نِعْمَ الْمُدبِّـرُ والحکِیمُ وإنَّــــــــــــهُ 

رَبُّ الفَصَاحَةِ مُصْطَفى الکَلِمَــاتِ

رَجُلُ الحِجَا رَجُلُ السِّیَاسَةِ وَالدَّهَـا

بَطَلٌ حَلِیفُ النَّصْـرِ فی الغَــارَاتِ

بِبَلاغَةِ القُرْآنِ قَدْ غَلَبَ النُّهَــــى 

وَبِسَیْفِه أنْحَى على الهَامَــــــــاتِ

مِنْ دُونِه الأبْطَالُ فی کُلِّ الوَرَى 

من سَابِـــــــقٍ أو حَاضـرٍ أو آتِ

 

فإذن، هذا دلیلٌ على أنَّ الصَّلاح فی العمل والاستقامة والتفوُّق فی المناقب ممَّا یورث الناس محبَّة، سواء من مُحِبِّیهم، أو من خصومهم، قد تکون هذه المحبَّة حتَّى من الخصوم المعاندین، کهؤلاء الملاحدة الذین یدعون إلى الکفر بالله، وعدم التدیُّن بأیِّ دینٍ من الأدیان، کُفْرًا بکلِّ القیم الدینیَّة، هؤلاء مع ذلک قد یُعْجَبون بالصَّالحین، وقد یُعْجَبون بأهل الخیر؛ فلذلک کان من الضروریِّ بمکانٍ أن نُدْرک قیمة العلم الذی یکون مصحوبًا بتزکیة النفوس وتهذیب الأخلاق والرُّقیِّ بهذه الأخلاق.

فنحن نرى أنَّ الله I عندما وصف النبیَّ ﷺ لم یَصِفْهُ بالعلم الغزیر، لم یقل له: «وإنَّکَ لعلى علمٍ غزیرٍ»، وإنَّما وصفه بالخُلُق العظیم، إذ قال: ﴿وَإِنَّکَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِیمٍ﴾ [سورة الْقَلَمِ: 4]، والنبیُّ ﷺ نفسه یُخْبِرُ عن قیمة الأخلاق، إذ یقول: «بُعِثْتُ مُتَمِّمًا لمکَارِمِ الأخْلَاقِ»، فالمهم التخلُّق بهذه الأخلاق، بأخلاق النُّبوَّة، أخلاق الرسول ﷺ التی کانت تُجَسِّد القرآن، کما قالت أمُّ المؤمنین عائشة، رضی الله تعالى، عنها عندما سُئِلَت عن خُلُقه ﷺ قالت: «کَانَ خُلُقُهُ القُرْآن». وقد انعکس هذا الخلق الرفیع الذی کان علیه -صلوات الله وسلامه علیه- على مَنْ حوله مِنَ الصحابة، وعلى مَنْ جاء بعدهم مُتَّبعًا لهم بإحسانٍ إلى یوم القیامة، کُلُّ مَنْ کان یسیر على هذا النهج فإنَّما هو متخلِّقٌ بأخلاق القرآن.

فعلینا جمیعًا أن نحرص على التخلُّق بأخلاق القرآن، وعلى المؤسَّسات العلمیَّة من الروضة إلى الدراسات العلیا أن تُعْنَى بالأخلاق بجانب العنایة بالعلم، إذ لا بُدَّ أن تُعْنَى بالأخلاق، وغرس هذه الأخلاق، والمحافظة على القیم، والاستقامة فی الظاهر والباطن، فإنَّ هذه هی التزکیة التی یجب أن نحرص على تزکیة نفوسنا بها، وأن نحرص على تزکیة أبنائنا بها، فإنَّ أبناءنا هم أفلاذ أکبادنا، فعلینا أن نحرص على استقامتهم وصلاحهم، فالشاعر یقول:

وإنَّما أوْلادُنَـــــا بَیْنَنَــــــــــا 

أکْبَادُنَا تَمْشِـی علــى الأرْضِ

لو هَبَّتِ الرِّیحُ على بَعْضِهِمْ 

لامْتَنَعَتْ عَیْنِی عن الغَمْـــضِ

 

فإذا کان هبوب الریح على الأولاد یمنع عن آبائهم وأمَّهاتهم غَمْضَ أعینهم، فکیف بما یُخْشَى علیهم من عذاب الله تعالى إن لم یتَّبعوا النهج الصحیح، النهج الذی ینقذهم من الرَّدى، ویجعلهم فی مُبَوَّأ الکرامة فی مقعد صدقٍ، عند مَنْ أکرمهم الله تعالى وأنعم علیهم، من النبیِّین والصدِّیقین والشُّهَداء والصَّالحین؟!.

ولا ریب أنَّ العنایة بهذا التاریخ، والعنایة بهذه الأمجاد، والعنایة بهؤلاء العظماء فی هذا العهد الزاهر الذی یقوده حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعید المعظَّم -حفظه الله وعافاه، وردَّه إلینا سالِمًا غانمًا-؛ لا ریب أنَّ هذه العنایة تعنی اهتمام القائد بأن یکون الحاضر امتدادًا للماضی، وأن یُضَمَّ الطارف إلى التلید من هذه الأمجاد، وأن یُحَافظ على هذا التاریخ، وأن یُحَافظ على هذا النَّشء؛ لیسیر هذه السِّیرة الزکیَّة. فنحن نُطَالب الآباء والأمَّهات، والمدرِّسین والمدرِّسات، ونطالب جمیع المؤسَّسات التعلیمیَّة أن تحرص جمیعًا على غرس هذه الأخلاق، وغرس هذه المعانی القیِّمة فی نفوس الناشئة؛ لتستمرَّ هذه الناشئة على حمل هذه الرسالة، رسالة الخیر إلى الناس جمیعًا.

وأشکرکم شکرًا جزیلاً، وأخصُّ بشکری جامعة نزوى ومَنْ فیها، وأسأل الله I أن یَشْفِیَ رئیسها وأن یُعِیْدَه إلیها سالِمًا غانمًا؛ وأشکر أیضًا مرکز الخلیل بن أحمد الفراهیدی، ومرکز سناو الثقافی، راجیًا من الله تعالى التوفیق للکلِّ، لکلِّ ما فیه الخیر، والشکر للجمیع،

والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته.