التأريخ للغة والأغراض الشعرية عند الرافعي (دراسة نقدية في نظرية التطور)
الباحث المراسل | عيسى بن سعيد الحوقاني | جامعة نزوى |
المقدمة:
إنّ البحث عن الجذور الأولى لنظريّة التطوّر يعطي دلالةً على أنّ أرسطو قد أشار إليها في كتابه (البويطيقا) (ويليك،1987، ص30) إذ ربط بين المراحل التي يمر بها الجنس الأدبيّ والمراحل التي يمرّ بها الكائن الحيّ، فالتراجيديا في نظره تطوّرت ونمت تدريجيًّا عن طريق الإضافات، حتى وصلت إلى الاكتمال والنضج، ولم يجد المبدعون ما يمكن إضافته إليها فتوقفت عن النمو، وشأنها في ذلك شأن الإنسان إذ ينمو ويتطوّر تدريجيًّا منذ ولادته فلما يصل إلى مرحلة الاكتمال والنضج لا يكون قادرًا على النمو، فيضعف تدريجيًا حتى يصل إلى مصيره المحتوم.
ولم يستمر مفهوم التطوّر على ذلك التصوّر الذي وضعه أرسطو، بل تغيّر مع "هيجل" (Hegel) إذ جاء بمفهوم يخالف حتميّة التغيّر البطيء واستمراريّته، فالتغيّرات الثوريّة المفاجئة قد تشكّل حركة التاريخ وقد ينتج عنها ارتداد إلى الأضداد، أو عمليّات إلغاء واستبقاء، فالموضوعيّة تختلف عن الطبيعة اختلافًا كبيرًا، ولهذا "أسقط استعمال التشبيه البيولوجيّ تمامًا، وصار ينظر إلى الشعر بوصفه يطوّر نفسه في عمليّة أخذ وعطاء دائمة مع المجتمع والتاريخ، ولكنْ بشكلٍ يختلف تمام الاختلاف عمّا يجري في الطبيعة"(ويليك،1987، ص32)
ومع (داروين-Darwin) تعود فكرة التطوّر فالكائنات الحيّة حسب (داروين) لم تُخلق مكتملة في صورتها التي نراها عليها الآن، بل تطوّرت على حسب ظروف الطبيعة المحيطة بها، فالكائنات كما يقول داروين: "ترعرعت في ظروف حياتيّة ليست بمثل الاتّساق، ومختلفة بعض الشيء عن تلك الظروف التي تعرّضت لها الأنواع الأصليّة الأبويّة في ظلّ الطبيعة" (داروين، 2004، ص 62) ويؤكد (داروين) على أنّ "التمايز عادة ما يستمر لعدة أجيال، ولا توجد أيّ حالة مسجّلة لتوقّف أيّ كائن قابل للتمايز عن التغيير"(داروين، 2004، ص 62)
وبالنظر في تراثنا العربيّ نجد أنّ (ابن خلدون) قد أشار في مقدمته إلى التغيّر الدائم الذي يعتري الكائنات الحيّة، وعلى هذا يكون (ابن خلدون) سابقًا على (داروين) في الالتفات إلى نظريّة التطوّر وهذا ما أكّده ساطع الحصريّ إذ يقول: "قبل داروين بخمسة قرون اكتشف ابن خلدون هذه الحقيقة وصاغها صياغة علميّة دقيقة" (الحصريّ 1961، ص300) ويبدو جليًّا أنّ الحصريّ يشير إلى كلام (ابن خلدون) عن الكائنات الحيّة إذ يقول: "ومعنى الاتصال في هذه المكونات أنّ آخر أفق منها مستعدّ بالاستعداد الغريب لأن يصير إلى أول أفق بعده، واتّسع عالم الحيوان وتعدّدت أنواعه وانتهى في تدرّج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والرّؤية ترتفع إليه من عالم (القدرة)([1]) الذي اجتمع فيه الحسّ والإدراك ولم ينته إلى الرؤية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده، وهذا غاية شهودنا"، (ابن خلدون، 2004، ص 207) لقد أنزل (ابن خلدون) الدول منزلة الكائن الحيّ الذي يولَد ثم ينمو ثم يشيخ ويهرم حتى يصل إلى الفناء، فجعل للدولة خمسة أطوارٍ تبدأ بطور البداوة، ثم طور التحضّر، وبعدها طور تأسيس الدولة، ثم طور التدهور وأخيرًا الوصول إلى طور الانهيار، ويبدو أنّ (ابن خلدون) ينطلق من الجبريّة التاريخيّة في نشأة الدّول وانهيارها.
وقد بدأ تطبيق نظريّة التطوّر في التأريخ الأدبيّ عند الغرب منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلاديّ، إذ إنّ الأفكار التطوّريّة الجديدة التي أتى بها (داروين) صارت بحسب (رينيه ويليك - (René Wellek) "تطبّق بشغفٍ على تاريخ الأدب في أقطار عدة غير أنّه من الصعب تحديد الأولويّات بدقة، وتمييز الأفكار الداروينيّة والسبنسريّة الجديدة من تلك التي كانت بمثابة العودة إلى التطوريّة العضويّة أو الهيغليّة" (ويليك،1987، ص32) ويرى (رينيه ويليك) أنّ التطوّريّة أوسع دلالة من أن تُحصر في الداروينيّة، ولهذا "لا ينبغي أن يُطلق على التطوّريّة اصطلاح الداروينيّة إلّا إذا كان المقصود التفسير الميكانيكيّ لعمليّة التطوّر (وهو ما أسهم به داروين بشكل خاص) وإلّا إذا استخدمت أفكارًا مثل البقاء للأصلح، والانتحاب الطبيعيّ، وتحوّل النوع"(ويليك،1987، ص33)
والأدب حسب هذا التصوّر مثل الكائن الحي يخضع لنظريّة التطوّر؛ إذ يقوده القدر المحتوم إلى أطوار ليس في وسعه أن يحيد عنها، فالأجناس الأدبيّة عند (فريدرخ شليغل-Friedrich Schlegel) تمرّ بنظام تطوّر طبيعيّ؛ إذ تبدأ بالنمو، فالانتشار، فالازدهار، فالنضج، فالتصلّب، فالفناء، وهذا المصير قدرٌ محتومٌ، ويبدو أنّ الذين يربطون الأدب بنظريّة التطوّر يفترضون في الأجناس الأدبيّة تغيّرًا بطيئًا مستمرًّا كما يحدث في نمو الكائنات الحيّة، إلّا أنّ الافتراض في تطور الأجناس الأدبيّة يهمّش دور المبدع في مسيرة التطوّر إذ يصبح التطور حتميًّا في مسيرة كلّ جنسٍ أدبيٍّ.
وقد انبرى جملةٌ من المؤرخين لتطبيق هذه النظريّة للتأريخ للأدب، ففي عام (1763) حاول (جون براون-John Brown) كتابة تاريخ عام للشعر الإنجليزيّ، وفي عام (1764) ظهر كتاب (تاريخ الفنّ في العصور القديمة) لـ (فنكلمان- Winckelmann)، وبعده طبّق (جون أدنغتن سمندر) عام (1884) نظريّة التطوّر على تاريخ الدراما الإليزابيثيّة وقد حرص على تطبيقها بصرامة على وفق التشبيه البيلوجيّ، بعد (سمندر) طبّق جملة من المؤرخين نظرية التطور على التاريخ الأدبيّ فلا يكاد كتاب من كتب تلك العقود يخلو من تطبيق الأفكار الداروينيّة، ومن هؤلاء (ريتشارد غرين مولتن) في كتابيه (شكسبير كفنان دراميّ) الصادر عام (1885) وكتاب (الدراسة الحديثة للأدب) الصادر عام (1915) (ويليك،1987، ص33)
وحاول (فردناند برونتيير-Brunetière Ferdinand) نقل بعض المفاهيم البيولوجيّة الصرفة من الداروينيّة إلى الأدب؛ إذ اعتقد أنّ للأنواع الأدبيّة وجودًا في الواقع كوجود الأنواع البيولوجيّة؛ فاستمرّ في المقارنة بين تاريخ الأنواع الأدبيّة وتاريخ الكائنات البشريّة، فالتراجيديا الفرنسيّة ـ في نظره ـ ولدت مع (جودل)، ونضجت مع (كورني)، وشاخت مع (فولتير)، ثم ماتت مع (هوغو)، إلّا أنّ هذا التشبيه فاسدٌ في كلّ نقطة من نقاطه، كما يرى (رينيه ويليك). (ويليك،1987، ص35)
وانطلق (برونتير) من فكرة (الصراع من أجل البقاء) في تأريخه للأنواع الأدبيّة، إذ إنّ الأنواع الأدبيّة تتحوّل إلى أنواع أدبيّة أخرى لكي تبقى، ويبدو أنّ شوقي ضيف قبل نظريًّا بالنظريّة الأساسيّة التي اتّبعها (برونتير) ورأى أنّها صحيحة، وعلى الرغم من القبول النظريّ فإنّه يؤكد على وجود فروقٍ بينهما فالأطوار الأدبيّة لا يقضي بعضها على بعض، فالطور اللاحق لا يمحو السابق، "وآية ذلك أنّنا نطرب للشعر الذي كتبه الجاهليّون على الرغم من أنّه يمثّل طورًا مغرقًا في القدم، فالطور الجديد في الشعر لا يحكم على طورٍ قديمٍ بالفناء" (ضيف، 1992، ط7، ص 94) ويعدّ شوقي ضيف الضعف الذي يصيب بعض الأنواع الأدبيّة في عصر من العصور ضعفًا عابرًا إذ "قد يصيب نوعًا أدبيًّا ضربٌ من الضعف في عصر وتعود إليه الحيويّة والنضرة في عصرٍ لاحقٍ" (ضيف، 1992، ط7، ص 95) وعلى الرغم من القبول النظري لنظريّة التطوّر فإن شوقي ضيف يرفض المبالغة في تمثّلها في التأريخ للأجناس الأدبيّة.
إنّ الضعف العابر الذي يلح عليه شوقي ضيف يدل على حتميّة عودة الحيويّة إلى الأنواع التي ذهبت نضارتها، وهذا التصوّر لا يمكننا التسليم به، فسجع الكهان مثلًا قد ضعف واضمحل بظهور الإسلام؛ فهل يعني ذلك أنّ ما أصابه ضعف عابر؟ وهل نتوقع أن تعود إليه الحيويّة في عصر من العصور اللاحقة؟ أنظل ننتظر عودة الحيويّة إلى النقائض، والموشّحات، والمقامات أم نوقن بوصولها طور النهاية؟ ولهذا تبقى مسألة الضعف العابر وانتظار عودة الحيويّة إلى الأنواع المضمحلة ضربًا من المجازفة في تأريخ أدبنا العربيّ.
وقد لاحظ (كليمان) أنّ النظر في التواريخ الأدبيّة المكتوبة يفضي إلى "أنّها تنهض جميعها على زمنيّة مثاليّة تتبنّى ثلاث مراحل أساسيّة للتطوّر الإنساني أو الطبيعي: نشأة، نضج، شيخوخة / أصل، أوج، انحطاط / بداية وسط نهاية. تلك هي الخطاطة التي يُعاد استنساخها في الأعمال المدرسيّة حيث كان تطبيق قاعدة: عرض، شرح، خاتمة، بمثابة شرط للنجاح"(موازان، 2010، ص179ـ180)
ومن الذين ناقشوا نظريّة التطوّر (رينيه وليك) و(آوستن وآرن) في كتابهما (نظريّة الأدب)، فالتطوّر في علم الحياة له في تصوّرهما معنيان مختلفان: الأول يتمثّل في عمليّة نمو البيضة لتصبح طائرًا، والثاني يتمثّل في تغيير مخّ السمكة إلى مخّ الإنسان و"هنا لا نجد سلسلة من المخاخ تتطوّر بالفعل، ولكن هناك تصوّر مطلق للمخ يمكن تحديده عن طريق وظيفته" (وليك، ووآرن، 1991، ص 356) ثمّ يتساءل المؤلّفان: هل يمكن أن نتحدّث عن التطوّر الأدبيّ بأيّ من المعنييّن المشار إليهما؟ وحتى يجيبا عن سؤالهما ناقشا في المعنى الأول للتطوّر عمل كلّ من (فرديناند برونتير-(Ferdinand Bruntiere و(جون أدنجتتن سيموندز-John Addington Symonds) اللذَين افترضا أنّ الأجناس الأدبيّة مناظرة للأجناس في الطبيعة، فالأجناس الأدبيّة حين تصل إلى درجة من الكمال لا بدّ أن تذوي وتضعف ثم أخيرًا تختفي، أضف إلى هذا أنّ الأجناس الأدبيّة تتحوّل إلى أجناس أعلى متباينة كما يحدث للأجناس البشريّة طبقًا لنظرية داروين، وبعد نقاش المفهوم يقرّر المؤلّفان (رينيه ووليك) و(آوستن وآرن) أنّ "فكرة التطوّر بالمعنى الأول من الكلمة لم يزد على أن يكون مجازًا طريفًا" (وليك، ووآرن، 1991، ص 356)
أمّا المعنى الثاني للتّطور فإنّه عندهما "يبدو أقرب إلى المفهوم الحقيقيّ للتطوّر التاريخيّ" (وليك، ووآرن، 1991، ص 357) إلّا أنّهما يؤكّدان علة وجود " فرق هام بين هذا المعنى الثاني للتطوّر البيولوجيّ والتطوّر التاريخيّ بمعناه الصحيح. لنفهم والتطوّر التاريخيّ مميّزًا عن التطوّر البيولوجيّ؛ ينبغي أن ننجح في المحافظة على تفرّد الحدث التاريخيّ دون أن ننزل بالعمليّة التاريخيّة إلى أن تكون مجموعة من الأحداث المتتابعة غير المترابطة" (وليك، ووآرن، 1991، ص 357) لقد حاول المؤلفان إثبات أنّ تطوّر الأدب يختلف عن تطوّر علم الحياة البيولوجيّ، وأنّه لا علاقة له بفكرة التقدّم المنسّق نحو نموذجٍ أزليّ واحد، أمّا التاريخ فلا يمكن أن يُكتب إلّا بالرجوع إلى مخطّطات متغيّرة للقيم تنتزع من التاريخ نفسه، وعلى الرغم من رفضهما التناظر البيولوجيّ بين نمو الأدب وعمليّة التطوّر المغلقة من الميلاد إلى الممات؛ فإنّهما يقرّان بمشروعيّة منهج التطوّر في التأريخ الأدبيّ إذ يقولان: "مهما كان من مساوئ المنهج، فإنّه منهج مشروع ولا يمكن رفضه بكلّيّته" (وليك، ووآرن، 1991، ص 359)
وهكذا يبدو جليًّا أنّ الإقرار بمشروعيّة تطبيق المنهج القائم على نظريّة التطوّر للتأريخ للأدب لا يعني إثبات صلاحيّته، وإنّما يبقى الأمر رهين التقييم من خلال الوقوف على التجارب العمليّة لتطبيق هذا المنهج، وسنحاول الوقوف على تجربة مصطفى صادق الرافعي في كتابه (تاريخ آداب العرب).
وقد اقتضت متطلبات الدراسة تقسيمها إلى مقدمة وأربعة محاور، هي:
1ـ كتاب (تاريخ آداب العرب) ودوافع تأليفه
2ـ نظرة الرافعي إلى مصطلح أدب
3ـ تطبيق نظريّة التطوّر في التأريخ للّغة والصناعات البديعيّة
4ـ تطبيق نظريّة التطوّر في التأريخ للأغراض الشعريّة
المحور الأول: كتاب (تاريخ آداب العرب) ودوافع تأليفه:
كان لإنشاء الجامعة المصريّة سنة (1907) دورٌ كبيرٌ في تنشيط حركة التأليف في "تاريخ الأدب العربيّ" إذ استحدثت الجامعة مقرّر تاريخ الأدب لطلبتها، وكان يعوز الجامعة المنهج الذي تعتمده للتدريس، فتعرض أساتذتها للنقد، مما دفع الجامعة إلى إعلان مسابقةٍ بين الأدباء لتأليف كتاب في أدبيات اللغة العربيّة ورصدت جائزة مقدارها مائة جنيه للفائز ثم رُفعت إلى مائتين، وحددت مدة سبعة أشهر، لتأليف الكتاب، فانبرى الكتّاب والأدباء للتأليف فكان منهم جرجي زيدان ومصطفى صادق الرافعي، يقول محمد العريان في تصدير كتاب "تاريخ آداب العرب" للرافعيّ: "كان أسبق المؤلفات ظهورًا لدعوة الجامعة، الجزء الأول من كتاب جرجي زيدان، ثم هذا الكتاب الذي بين أيدينا، سبقه ذاك بشهر أو شهرين سبقًا مطبعيًّا" (العريان، تصدير كتاب تاريخ آداب العرب، ج1974،1م، ص 8)
إنّ التأريخ للأدب العربيّ حسب نظريّة التطوّر كانت قد خطرت لجرجي زيدان حين شرع في تأليف كتاب (تاريخ آداب اللغة العربيّة) إلّا أنّه تردّد بين تقسيم الأدب حسب نظريّة التطوّر وتقسيمه حسب العصور السياسيّة، ثم عدل عن الخيار الأول إلى الآخر إذ يقول: "تردّدنا كثيرًا في الخطة التي نتّخذها في تقسيم هذا الكتاب، بين أن نقسّمه حسب العلوم أو حسب العصور، ومعنى قسمته حسب العلوم أن نستوفي الكلام في كل علم على حدة من نشأته إلى الآن، على أن نبدأ بأقدمها فنذكر تاريخ الشعر مثلًا وتراجم الشعراء وما تقلّب على الشعر من أول عهده إلى الآن" (زيدان، طبعة دار الهلال، بدون تاريخ ،ج1، ص 9) وإذا كان زيدان قد تردد في تطبيق نظريّة التطوّر وعدل عنها إلى التحقيب السياسيّ؛ فإنّ الرافعي سار فيها قدمًا في كتابه (تاريخ آداب العرب) وقبل أن نتناول تطبيق الرافعي هذه النظريّة لا بدّ لنا أنْ نقف على كتاب الرافعيّ والدوافع التي دفعت به للكتابة في هذا الضرب من التأليف.
صدر كتاب "تاريخ آداب العرب" لمصطفى صادق الرافعيّ بعد كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية" لجرجي زيدان بشهر أو شهرين ويبدو أنّ سبق زيدان كان سبقًا مطبعيًّا، وقد ظهرت الطبعة الأولى من كتاب الرافعيّ سنة (1329ـ1911)([2]) وقبل تناول أجزاء الكتاب لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التأليف في تاريخ الأدب العربيّ لم يكن من اهتمامات الرافعيّ وهذا ما يؤكده محمد سعيد العريان في تصدير الكتاب إذ يقول: "لم يكن للرافعيّ في الأدب قبل هذا الكتاب رأيٌّ ذو خطر، أو دراسة ذات أثر أو جولان في باب من أبواب الكتابة، وإنّما كان مقصورًا على الشعر ... والسبب الذي عاج بالرافعي عن مذهبه في الشعر إلى هذا المذهب في التأليف هو إنشاء الجامعة المصريّة في سنة 1907" (العريان، تصدير كتاب تاريخ آداب العرب، ج1974،1م، ص6)
ولم يكن للرافعي حظ من الشهادات العلميّة غير الابتدائيّة، فتطلّع بعد إنشاء الجامعة إلى ما يقال هناك في دروس الأدب ـ وحسب العريان ـ "ما استطاعت الجامعة أن تثبت له أنّ فيها دروسًا للأدب، وما استطاع الرافعيّ أن يقنع نفسه بأنّ في الجامعة أساتذة يُدرّسون الأدب، فكتب مقالًا في الجريدة يحمل فيه على الجامعة وعلى أساتذة الجامعة وعلى منهج الأدب في الجامعة"(العريان، تصدير كتاب تاريخ آداب العرب، ج1974،1م، ص6،7)ويبدو أنّ هذا المقال الناقد للجامعة المصريّة ومنهجها في تدريس الأدب قد أتى أُكله إذ أعلنت الجامعة عن مسابقة التأليف في تاريخ آداب اللغة العربية عام (1909).
ويبدو أنّ مسابقة الجامعة المصريّة كانت المحرك الأول لخروج الرافعي عن مجاله في الشعر والنثر الفنيّ، ودخوله في مجال تاريخ الأدب، وإنْ لم يتقدم بكتابه لتلك المسابقة، وبهذا يكون زيدان والرافعي أول من ألّف في تاريخ الأدب من خارج المنظومة التعليميّة، إذ إن ّمن سبقهما وأغلب من أتى بعدهما كانوا يؤلفون كتبًا مدرسيّة علميّة لتعليم طلابهم، فتلك الكتب كانت في أصلها ـ غالبًا ـ مذكرات مقدمة من الأستاذة إلى طلبتهم، ومع هذا فإنّ الهدف التعليميّ تسرّب إلى كتابيهما، إذ إنّ باعث التأليف كان تعليميًّا بعد مسابقة الجامعة المصريّة.
قسم الرافعيّ كتابه إلى ثلاثة أجزاءٍ، ويشتمل الجزء الأول على تمهيد وبابين، ويتناول في الباب الأول قضايا لغويّةً كأصول اللغات، واللغة الإسماعيليّة واللغة القرشيّة وأبنية الكلام، واللغة العاميّة، أما الباب الثاني فيتناول فيه القضايا المتعلقة بالرواية والرواة، مثل: الإسناد في الحديث والإسناد في الأدب وأوليّة التدوين، وأسباب الوضع، أمّا في الجزء الثاني فد أرّخ للقرآن الكريم والبلاغة النبويّة، إذ تناول قضايا جمع القرآن وتدوينه، والقراءة وطرق أدائها، والقرّاء والقراءات، وأسلوب القرآن وإعجازه، والبلاغة النبويّة وأثرها في اللغة العربيّة، وقد طبع هذا الجزء منفردًا عدة مرّات بعنوان "إعجاز القرآن الكريم"، أمّا الجزء الثالث فيشتمل على خمسة أبواب تناول في الأول تاريخ الشعر العربيّ ومذاهبه، وفي الثاني حقيقة المعلّقات وشعرائها، وفي الثالث أدب الأندلس، وفي الرابع التأليف وتاريخه عند العرب، وفي الخامس، الصناعات اللفظيّة.
المحور الثاني: نظرة الرافعي إلى مصطلح أدب
إنّ طبيعة التأليف في (تاريخ الأدب) تحتّم على مؤرّخ الأدب أن يقتصر تأريخه على المواد الأدبيّة دون غيرها، إلّا أنّ مؤرخي الأدب لم يتّفقوا على دلالة مصطلح (الأدب) فهي تتسع عند هذا وتضيق عند ذاك، ونتج عن ذلك الاختلاف في دلالة مصطلح (الأدب) تباينٌ في المواد التي يُؤرّخ لها، فقد يولي هذا المؤرّخ عنايةً بنصوص لا يوليها الآخر أيّ اهتمام، لأنّ تلك النصوص أدبيّة في نظر هذا، وغير أدبيّة في نظر ذاك.
وإذا تتبعنا تعريف الأدب عند مؤرخي الأدب قبل الرافعي فإنّنا نجد الأدب عند حسن توفيق العدل "كلّ ما يُؤدّب المرء، ويدعوه إلى الفضائل، وينهاه عن الرذائل، وهو أدبان: أدب النفس وهو معلوم، وأدب الدرس وهو ما ينتج عن دراسة علوم اللسان؛ لأنّها تؤدّب الإنسان، وتدعوه إلى تحلّيه بالفضائل، ولهذا سموها بعلوم الأدب" (العدل، 2001، ص32) وحسب هذا الفهم لمصطلح "الأدب" يبحث تاريخ أدب اللغة "حالة الحياة العقليّة والبيانيّة للأمّة في عصورها المختلفة"، (العدل، 2001، ص32) ولا شكّ في أنّ هذا الفهم لمصطلح "الأدب" جعل العدل يتتبّع تاريخ وضع النحو، وتاريخ النقط والإعجام في الخط العربيّ، كما تتبّع تاريخ التدوين، والحديث، وتاريخ نشأة علوم التاريخ، والطب، والكيمياء، والأغاني، كما أرّخ للحياة العقليّة والعقائد الدينيّة، ولا عجب في ذلك، لأنّ هذه المواد كلّها تدخل في نطاق "الأدب" على وفق التعريف الذي اعتمده العدل.
ولم يجرؤ أغلب مؤرّخي الأدب العربيّ الذين أتوا بعد حسن توفيق العدل على نفي الانتماء الأدبيّ عن تلك العلوم، إلّا أنّهم لجؤوا إلى وضع تعريفين للأدب أحدهما عام، والآخر خاص، فالأدب حسب تعريفهم العام يُطلق على جميع الظواهر الفكريّة التي شغلت الناس، وتركوا فيها آثارًا مكتوبة، وقد أكّد زيدان على أنّ تاريخ آداب اللغة هو "تاريخ علومها، أو تاريخ ثمار عقول أبنائها، ونتائج قرائحهم، فهو تاريخ الأمة من الوجهة الأدبيّة والعلميّة" (العدل، 2001، ص13) ولهذا أرّخ زيدان للنحو والنحاة، وللتاريخ والمؤرّخين، وللجغرافيا والجغرافيّين، وللعلوم الإسلاميّة الشرعيّة، وعلوم السياسة والإدارة، كما أرّخ للعلوم الدخيلة ـ كما يُطلق عليها ـ كالطب، والصيدلة، والكيمياء، والرياضيات.
وقد أنكر الرافعيّ على مؤرّخي الأدب العربيّ تبعيّتهم للمستشرقين في توسعة مفهوم الأدب حتى صاروا "لا يأنفون أن يعدّوا من أدبيّات اللغة تاريخ علم الفلك مثلًا، وإن كانت روائع الألفاظ تُشبّه بالنجوم، ولا أن يقرنوا علم الصرف بعلم الكيمياء، وإن كان لكلّ منهما وزن معلوم"، (الرافعي،1974م ج1، ص 16) وقد تتبع الرافعيّ التطور التاريخيّ لدلالة كلمة "أدب" شأنه في ذلك شأن غيره من المؤلفين، وأورد جملة من التعريفات التي حوتها كتب التراث الأدبيّ، ليصل إلى أنّه "يستحيل أن يكون معنى الأدب الاصطلاحيّ جاهليًّا، ولا أن يكون من مصطلحات القرن الأول، لأنّ الكلمة لم تجىء في شيءٍ من شعر المخضرمين ولا المحدثين" (الرافعي،1974م ج1، ص 33)
ويبدو أنّ الرافعي شكّ في الرواية التي أسندها صاحب (العقد الفريد) لعبدالله بن العباس ـ رضي الله عنهما ـ وهي قوله: "كفاك من علم الدين أن تعلم ما لا يسع جهله، وكفاك من علم الأدب أن تروي الشاهد والمثل" (ابن عبد ربه، 1983م، ج2، ص262) ويرى الرافعي أنّ مقتضى هذه الرواية أن يكون (علم الأدب) بالغًا في الاتساع في عهد ابن العباس حتى صار أقل ما لا يسع جهله منه رواية الشاهد والمثل، وهذا الأمر في نظر الرافعي "نهاية الغرابة والشذوذ، لأنّ ابن عباس توفي فيما بين سنة 68و 74هـ، على اختلاف أقوال المؤرخين، ولم يكن يومئذٍ بالتحقيق ما يصح أن يسمى علم الأدب"، (الرافعي،1974م ج1، ص 33) وينكر الرافعيّ على المتأخرين تناقل رواية صاحب (العقد الفريد) "دون أن ينتبهوا لما فيها من فساد الدلالة التاريخيّة" (الرافعي،1974م ج1، ص 33) ويؤكد الرافعي أنّ "الكلمة لمحمد بن علي بن عبدالله بن عباس، كما أسندها إليه الجاحظ في كتاب البيان والتبيين" (الرافعي،1974م ج1، ص 33) ويتابع الرافعيّ سرد أدلة فساد رواية ابن عبدربه لإثبات أنّ العرب لم تعرف مصطلح (الأدب) للدلالة على الإبداع في الشعر والنثر في عصر ابن عباس، بل يؤكّد أنّ العرب في القرن الأول كانوا يطلقون على هذا الإبداع (علم العرب) مستدلًّا على ذلك بما ذكره المسعوديّ في (مروج الذهب).
ويرى الرافعي أنّه بعد أن عُرفت حدود الأدب في القرن الهجري الثاني واشتهرت كلمة الأدب "بقيت لفظة (الأدباء) خاصة بالمؤدبين، لا تطلق على الكتّاب والشعراء واستمرّت لقبًّا على أولئك إلى منتصف القرن الثالث" (الرافعي،1974م ج1، ص 34) وحينما اتّخذ الشعراء الشعر حرفةً يتكسبون منها ويطلبون بها سبل العيش طمعًا في جائزةٍ من أمير أو وزير "انتقل إليهم لقب الأدباء، للمناسبة بين الفئتين في الحرفة" (الرافعي،1974م ج1، ص 34) ويرى الرافعي أنّ الكتّاب والشعراء لم يستقلوا بلقب (الأدباء) استقلالًا تامًا إلّا في منتصف القرن الرابع الهجريّ إذ يقول: "لم ينتصف القرن الرابع حتى كان لفظ (الأدباء) قد زال عن العلماء جملة، وانفرد بمزيّته الشعراء والكتّاب في الشهرة المستفيضة، لاستقلال العلوم يومئذٍ" (الرافعي،1974م ج1، ص 36)
والمتتبّع لكتاب الرافعي لا يجد تعريفًا صريحًا للأدب ولكن يمكننا أن نستشف ذلك من سبر أغوار عمله، وقبل ذلك لا بد من الإشارة إلى أنّ نظرة مؤرخي الأدب العربيّ إلى مفهوم (الأدب) قد تباينت وتعددت، إذ جاء بعضها في مقدمات كتبهم وبعضها الآخر جاء في مواطن مختلفة من تلك الكتب، وقد اتخذ تعريفهم للأدب مسلكين: مسلكًا نظر إلى الأدب نظرة موسوعيّة يمكن أن نطلق عليها (التعريف العام)، ومسلكًا نظر إلى الأدب بشيءٍ من التقنين والتحديد ويمكن أن نطلق عليه (التعريف الخاص)، وإلى هذين التعريفين أشار شوقي ضيف إذ أكّد أنّ تاريخ الأدب "إمّا أن يلتزم فيه المؤرّخ المعنى العام لكلمة أدب، فيؤرّخ للحياة العقليّة والشعوريّة في الأمّة تاريخًا عامًّا، وإمّا أن يلتزم المعنى الخاص، فيؤرّخ للشعراء والكتّاب تاريخًا خاصًّا" (ضيف، تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، ط8، دار المعارف، دون تاريخ، ص11).
ويبدو أنّ أغلب الكتّاب العرب الذين أرّخوا للأدب العربيّ كانوا مقيّدين بالحمولة التراثيّة لمصطلح (الأدب) فنظروا إلى الأدب نظرة شموليّة كما هو شأن جرجي زيدان إلّا أنّه أقرّ في الجزء الثالث من كتابه بأنّه لا يستطيع الالتزام بالتوسّع في مفهوم الأدب لأنّ ذلك يتطلّب زيادة في أجزاء الكتاب، إذ يقول: "أخذنا على أنفسنا أن نتوسّع في علوم الأدب والتاريخ والجغرافيا واللغة وغيرها مما تتداوله الأيدي من الموضوعات المختلفة، ونختصر في كتب الفقه والحديث، وغيرهما من العلوم الدينيّة أو الشرعيّة لطولها وكثرتها، فإنّ الإفاضة فيها تستغرق كتابًا مستقلًّا، وأن نختصر في العلوم الطبيعيّة القديمة لذهاب دولتها"، (زيدان، طبعة دار الهلال، بدون تاريخ ،ج3، ص104) ويرى حسين الواد أنّ هذا تنكّرٌ صريحٌ من جرجي زيدان لتعريف الأدب الذي اعتمد عليه في بداية كتابه، ولا شكّ في أنّ الأخذ بالمعنى العام أوقع مؤرّخي الأدب في الخلط بين المصطلحات، وأخرج أعمالهم من تاريخ هذا الكائن الكلاميّ الذي يُعدّ أدبًا إلى تاريخ الثقافة أو الحضارة.(الواد، 1993، ص56)
وقد عارض الرافعيّ منهج تقسيم الأدب إلى عصور إذ إنّها في نظره "لا تصلح أن تكون أبوابًا لتاريخ آداب اللغة" (الواد، 1993،ص18) ولهذا يقسّم الرافعيّ كتابه إلى أبحاث على وفق تقسيمٍ فنيٍّ؛ فيتتبع الغرض الأدبيّ ويؤرّخ له منذ نشأته إلى توقفه أو جموده، يقول شارحًا منهجه لمقارنته بمنهج الآخرين: "رأينا الطريقة المُثلى أن نذهب في تأليفنا مذهب الضمّ لا التفريق، وأن نجعل الكتاب على الأبحاث التي هي معاني الحوادث لا على العصور؛ فنخصص الآداب بالتاريخ، لا التاريخ بالآداب كما يفعلون، وبذلك يأخذ كلّ بحث من مبتدئه إلى منتهاه" (الرافعي،1974م ج1، ص 24)
لقد أخضع الرافعيّ اللغة العربيّة والفنون الأدبيّة لنظريّة التطوّر القائمة على ناموس النشوء والارتقاء، فلكلّ شيءٍ بدايةٌ ونهايةٌ؛ لهذا أرّخ للأدب العربيّ على أساس أنّ لأيّ لغة من اللغات ولأي فنٍّ من الفنون الأدبيّة بدايةً تكون ضعيفةً ثم ترتقي لتصل إلى قمة الهرم ويكون مصيرها الانحطاط لا محالة، فاللغة والأدب في نظره يمران بالأطوار التي يمر بها الإنسان من طفولة وشباب وشيخوخة تقود إلى الموت، وعلى وفق هذا التصوّر أرّخ الرافعي للغة من ناحية وللأغراض الشعريّة من ناحية أخرى، إذ حاول على وفق نظريّة التطوّر أن يؤرّخ لمسيرة لغة الشعر الجاهليّ، ولمسيرة العربيّة في الأندلس، وتتبّع كذلك تاريخ الصناعة اللفظية، وعلى مستوى الأغراض تتبع مسيرة المدح، والرثاء، والغزل والنسيب، والوصف، والشعر الحكميّ، وأرّخ لفن الموشّح وتناول الدوبيت، والمواليا، والزجل وغيرها من الفنون المستحدثة، وسنحاول دراسة تطبيقه لنظريّة التطوّر في تأريخه للّغة والصناعات البديعيّة، وتأريخه للأغراض الشعريّة.
المحور الثالث: تطبيق نظريّة التطوّر في التأريخ للّغة والصناعات البديعيّة
إنّ المتتبّع لدراسة الرافعي خشونة الشعر الجاهليّ يدرك جليّا أنّها دراسة قائمة على نظريّة التطوّر وهذا ما يؤكّده قوله عن لغة هذا الشعر: "ليس الذي نجده نحن في شعر الجاهليّة من جفاء المعنى وخشونة اللفظ وعثرة بعض الأساليب مما كانوا يجدونه هم أو يأخذونه على أنفسهم فإنّ الألفاظ صورة معنويّة من الاجتماع، وإنّ الزمن يفعل في إحالة هذه الألفاظ من مدلولاتها ما تفعل أطوار العمر في معاني النشأة فالشباب فالكهولة، إذ لا يكون ما يسرّك وأنت طفل مثلا بالذي يسرك وأنت شاب نفس ذلك السرور الأول في معناه وموقعه" (الرافعي، 1974م، ج3، ص246) فلغة الشعر الجاهليّ مرّت بذات المراحل التي يمرّ بها الكائن الحيّ من نشأة وشبابٍ وكهولة، ولكلّ مرحلة من هذه المراحل الثلاث خصوصيّته.
ويواصل الرافعيّ تتبّع مسيرة لغة الشعر الجاهليّ ليؤكد وصولها لمصيرها المحتوم الذي تقرّره نظرية التطوّر إذ يقول: "ولما كانت ألفاظ اللغة لا تؤدي أكثر من الصور، ومعانٍ منتزعة من حياة أهل تلك اللغة المبنيّة على مصطلحات ومواصفات مألوفة بينهم، كان تبديل هذه الحياة بما يصوّر الاجتماع من الأسباب الكثيرة ذاهبًا بحقائق تلك الألفاظ، إذ يعطيها صورًا ومعاني معدومة أو معلومة علمًا تأريخيًّا لا سبيل معه إلى تحقيق الوصف بالمشاهدة أو بالعادة والألفة ونحو ذلك، فمن ثم تنزل الألفاظ منزلة الغريب، ويغرق بعضها في الغرابة إذا انعدمت صورته الذهنيّة من الاجتماع، فيجري مجرى الألفاظ المماتة"(الرافعي، 1974م، ج3، ص246) هكذا كان مصير لغة الشعر الجاهليّ في نظر الرافعي فبعد أنْ كانت مزدهرةً بسبب قدرتها على إعطاء صورٍ مألوفةٍ للمتخاطبين بها تعذر عليها ذلك، فأصبحت غريبةً عند الناس فانعدمت قدرتها على إعطاء تلك الصور المألوفة الحاضرة في الذهن فآلت ألفاظها إلى الموت والفناء.
وعلى وفق نظريّة التطوّر أرّخ الرافعيّ للغة العربيّة ومصيرها في أرض الأندلس، إذ يطالعنا بعنوان (مصرع العربيّة في الأندلس) (الرافعي، 1974م، ج3، ص326) فهذا هو المصير المحتوم الذي تقرّره هذه النظريّة، ولهذا يرسم الرافعيّ هدفه من التأريخ للغة العربيّة في الأندلس قائلًا: "نحن نريد الآن أن نبيّن كيف صُرعت العربيّة بعد أن صارعت طويلًا، فنأتي على تاريخها في تلك البلاد في الطفولة والكهولة، لأنّنا لم نذكر في كلّ ما سبق إلّا ظاهرًا من حياتها، وبقي تشريح باطنها لتعرف الأسباب والعلل في الحياة والموت"، (الرافعي، 1974م، ج3، ص326) هنا يتجلّى إصرار الرافعيّ على إسقاط المراحل التي يمرّ بها الكائن الحيّ على اللغة العربيّة في الأندلس ولهذا يطالعنا بعنوان (آخرة اللغة العربيّة) (الرافعي، 1974م، ج3، ص335) لبيّن لنا ما آلت إليه العربيّة في الأندلس، فبعد ازدهارها ضعفت، ثم تدهورت بسقوط غرناطة "وبعد ذلك زهاء قرنٍ من الزمان صار فيه تعلّم العربيّة مظنّة الإلحاد" (الرافعي، 1974م، ج3، ص335) ولم يبق من تعلّمها إلّا الأثر الضئيل "حسب الطالب منها أن يُحسن لفظ بعض الأسماء العربيّة حتى يخرج بذلك إلى أفريقيّة داعيةً للنصرانيّة" (الرافعي، 1974م، ج3، ص336)
ويتتبع الرافعي تاريخ الصناعة البديعيّة منطلقًا من نظريّة التطوّر؛ إذ يرى أنّها خاضعةٌ لناموس النشوء والارتقاء، فيبدأ بنشأتها، ثم ازدهارها، وصولًا إلى ضعفها، ثم تدهورها فانهيارها، يقول مخاطبًا المتلقي: "مرَّ بك من أمر الصناعتين في النظم والنثر ما تستخرج منه تاريخ الارتقاء في الكلام وتعرف به مدلوله؛ إذ يعطيك من حوادثه الأدبيّة ما يعطيك من حوادثه الماديّة من القياس الذي تضبط به النتائج وتجتمع الحدود"،(الرافعي، 1974م، ج3، ص353) ويؤكد الرافعيّ حتميّة السير على وفق هذه النظريّة لمعرفة المراحل التي مرّت بها الصناعة اللفظية فلا يمكن أنْ تصل الأمّة إلى (الانحطاط) قبل أنْ تحقق (الارتقاء) إذ يرى أنّه "لا بدّ لمن أراد أن يستقرئ حوادث الانحطاط من معرفة تاريخ الارتقاء؛ لأنه ضدٌّ معلقٌ على ضدّه، فلا تنحطّ الأمة حتى تكون قد ارتقت" (الرافعي، 1974م، ج3، ص353)
ويصرّ الرافعي على ربط الصناعات اللفظيّة بالكائن الحيّ فحتى ترتقي لا بدّ أن يحصل فيها تغيير ونمو كما هو شأن الإنسان، لأنّ "الارتقاء في كلّ شيءٍ؛ إنّما هو تغييرٌ في مادته على مقادير تعطيه في القوة بنسبة الزيادة في ذلك التغيُّر في مجموعه، فالطفل يرتقي بتغير مادة جسمه إلى مقادير القوة حتى يصير رجلًا، ولكن إذا أخذ جسمه في النماء والزيادة وأخذت حاسة من حواسه في النقص والانحطاط، ولم يكن ذلك النماء في مجموعه ارتقاء مطلقًا بل احتاج إلى أن يفصل فيه" (الرافعي، 1974م، ج3، ص353)
إنّ نمو بعض حواس الطفل وتراجع الأخرى لا يحقق نموًّا مطلقًا لذلك الطفل، هذه الحال يسقطها الرافعيّ على الصناعات الأدبيّة إذ يقول: "كذلك الشأن في هذه الصناعات الأدبيّة؛ فإنّها ليست في مجموع اللغة ارتقاءً ولا انحطاطًا، وإنّما يوصف كلّ جنس منها بأثره" (الرافعي، 1974م، ج3، ص353) فقد يحصل نموُّ في صناعات أدبيّة وتراجع في أخرى وهذا حسب الرافعي لا يعدّ نموًّا مطلقًا لتلك الصناعات ويجب على المؤرّخ أن يفصّل فيه، ويبرهن الرافعي على تفاوت نموّ الصناعات الأدبيّة بأنواع البديع فمنها ما يعدّ من أسباب رقيّ اللغة ومنها ما يعدّ من أسباب انحطاطها ومردّ ذلك إلى توظيف الأديب لها، فإنْ أحسن توظيفها كانت من أسباب الرقي كما يقول الرافعيّ: "فإنّك إذا نظرت إلى أنّ من أنواع البديع ما يورث اللغة حسنًا في الألفاظ، وحلاوةً في مخارج الكلام... وحتى تكون هذه الزيادة بعينها فيما لها من قوة الهوى والتعشق، وأن تلك الأنواع تقتضي من الكاتب أو الشاعر لطافة الحيلة وحسن التأتي وتمكين الأسباب ... لم يجز لك أن تعدّها في اللغة إلّا من أسباب الارتقاء" (الرافعي، 1974م، ج3، ص353)
أمّا إذا لم يحسن الأديب توظيفها؛ فذلك يعدّ من أسباب الانحطاط لأنّ "من أنواع البديع أيضًا ما يكسب اللغة هجنة ويلحقها بضروب الصناعات والحرف، ويصير بها إلى مضيعة وكلال، وهو على ما تقتضيه من الكدّ والاستكراه وكثرة التكلّف زينة عاطلة وفتنة باطلة، وأنّ هذه الأنواع مصائد للأقلام وحصائد للألسنة ـ لم يجز لك أنْ تحتسبها في اللغة إلّا من أسباب الانحطاط، لأنّها وإن كانت زيادة في المادة إلّا أنّها نقصٌ في القوة، فمثلها مثل ما يزيد في الجسم من الأمراض كالسرطان وغيره" (الرافعي، 1974م، ج3، ص354) فهذا النمو وهذه الزيادة في جسم اللغة لا تكسبها قوةً بل تكسبها ضعفًا، ولهذا يعدّها الرافعي مرضًا في جسم اللغة؛ تؤدي إلى ضعفه وتدهوره ثم انهياره.
لقد أرّخ الرافعي الصناعات اللفظيّة منذ نشأتها حتى مماتها؛ متتبّعًا الأطوار التي مرّت بها إذ يرى أنّها نشأت في الدور الثاني من الأدوار التي مرّت بها العلوم فحسب الرافعيّ " لكلّ علمٍ ثلاثة أدوار: فهو يبدأ بدرس حقائقه التي أفردته فاعتبر بها علمًا، ثم يؤدي هذا الدرس إلى الاكتساب والاستنباط وما يتبعهما من تمحيص الحقائق الأولى، ثم ينتهي الاكتساب إلى الدور الذي يبلغ فيه العلم أن يكون جزءًا من أجزاء الوحدة العلميّة... وعلى هذا لا تكون الصناعات قد نشأت في علم الأدب إلّا في الدور الثاني، وهو دور الاكتساب والتزيّد، غير أنّها نشأت على قدر الحاجة إليها ... فخرج أكثرها مهذبًا" (الرافعي، 1974م، ج3، ص354) هكذا يحدد الرافعي مرحلة النشأة؛ إذ تبدو فيها الصناعات البديعيّة خاليةً من اللبس والتعقيد.
وتنتقل الصناعات البديعيّة إلى المرحلة الثانية في القرن الرابع الهجري إذ "أخذوا يتوسعون في ذلك لا يعدون مقدار التملّح والظرف وما يجري مجراهما، لأنّ معدة اللغة يومئذٍ تسيغ ذلك وتمثّله" (الرافعي، 1974م، ج3، ص354) ففي هذه المرحلة بلغت الصناعات البديعيّة أوجها وشبابها، وعُدّت الطريقة الأنيقة في الإبداع الأدبيّ، ثم تنتقل هذه الصناعات تدريجيًّا إلى مراحل الضعف والانحطاط وذلك "لما أخذت اللغة تضعف... ووجد الأدباء من جهل الخاصة وانصرافهم عن الأدب الصحيح ما صرفهم إلى أنفسهم وجعل بأسهم بينهم؛ فتنافسوا في الاكتساب والإغراب، وصارت الصناعات مقصودة لذاتها، فتبعتها اللغة بعد أن كانت متبوعة" (الرافعي، 1974م، ج3، ص355) وتستمر الصناعات البديعيّة في ضعفها بعد شيخوختها وصولا إلى مرحلة التدهور والانهيار والموت إذ يحدثنا الرافعي عن أدباء القرن الثالث عشر الهجريّ وما فعلوه من الإغراق في الصنعة "ولم تزل تلك حالهم حتى انتصف القرن الثالث عشر، فأخذت تلك الجراثيم تضعف ثم تقل ثم تتلاشى إلى عصر النهضة الحديثة، فماتت إلّا في بعض زوايا المساجد وبقيت في الزوايا خبايا" (الرافعي، 1974م، ج3، ص355)
إنّ المتتبّع لتأريخ الرافعي للغة والصناعات البديعيّة يدرك جليًّا أنّ الرجل ينطلق من نظريّة التطوّر، فيتعامل مع الكائنات اللغويّة كما يتعامل مع الكائنات البشريّة؛ إذ ينشأ كلاهما من ضعفٍ فقوةٍ فضعفٍ من بعد قوةٍ فموت وفناء، فكما أنّ موت الكائنات البشريّة حتميّ فموت الكائنات اللغويّة كذلك حتميٌّ، ولا شكّ في أنّ هذه النظرة ـوإن كانت جاذبة من الناحية النظريّة فإنّ إشكاليّات متعدّدة تعتريها من الناحية العمليّة.
المحور الرابع: تطبيق نظريّة التطوّر في التأريخ للأغراض الشعريّة
أرّخ الرافعي للشعر العربيّ في كتابه (تاريخ آداب العرب) بحسب الأغراض الشعريّة إلّا أنّه أخضع تلك الأغراض لنظريّة التطوّر، ويرى عبد السلام الشاذليّ أنّ الرافعيّ كان "أميل إلى دراسة تاريخ الأدب العربيّ من زاوية تطوّر الفنون الأدبيّة، فهو يدرس الظواهر الأدبيّة لا من حيث القسمة الزمنيّة؛ ولكن من حيث القسمة الفنيّة والأدبيّة"(الشاذلي،1989، ص204) ولذلك يعدّ الرافعيّ أول من أرّخ للأدب العربيّ حسب الأغراض الأدبيّة، إلّا أنّه ينطلق في تأريخه للأدب العربيّ من (نظريّة التطوّر)؛ ولذلك أخضع اللغة وآدابها لناموس النشوء والارتقاء إذ تمر اللغة وآدابها ـ في نظره ـ بالأطوار التي يمر بها الإنسان من طفولة وشباب وشيخوخة تقود إلى الفناء.
والأغراض الشعريّة ـ في نظر الرافعي ـ اقتضتها طبيعة الإنسان العربيّ في العهد الجاهليّ، فنشأت تلك الأغراض ثم تطوّرت ونمت في تدرّجها الزمنيّ لتواكب التطوّر الذي شهده المجتمع الإسلاميّ كما هو الحال في أغراض الهجاء والمدح، والرثاء، والغزل، والوصف، كما نشأت أغراض دخيلة على الطبع العربيّ نتيجة عوامل اجتماعيّة جعلت الناس يحتاجون إليها، كالشعر الهزليّ، والقصصيّ والعلميّ، كما ظهرت عوامل أخرى أدّت إلى استحداث الموشّح والدّوبيت، والمواليا، وغيرها من الشعر العاميّ.
وينطلق الرافعي في تأريخه لأغراض الشعر العربيّ من تصوّرٍ يقوم على أنّ كلّ غرضٍ من الأغراض الأدبيّة خاضعٌ لناموس النشوء والارتقاء، إذ يسير على وفق حركة زمنيّة تبدأ بنشأته ثم رقيّه ثم ضعفه وانتهاء باندثاره أو جموده بسبب توقف حركة التطوير فيه، وهذا ما يظهر جليًّا في تأريخه لغرض (الهجاء) إذ يمهد لمرحلة ما قبل نشأة الهجاء قائلًا: "العرب أمة أخلاق، لم تصفها الحضارة، ولم يذهب بخشونتها النعيم والترف، فهي جاريةٌ طبيعةً في مجرى العادات الوراثيّة، الذي تخطفه العصور ويتحيّف جوانبه تيار الاجتماع، وبديهيّ أنّ ذلك المجرى لا يكون مطّردًا على اتساق، بل هو يستقيم وينحرف... لذلك يرى العربيّ نفسه خُلقًا محضًا، ولكن فطرة الحياة غلطت على بعض جوانب منه وكشفت عن بعضها". (الرافعي، 1974م، ج3، ص80)
ويؤكد الرافعي أنّ العرب ظلوا متمسكين بالأخلاق إلّا أنّهم لا يضربون الأمثال بمن لم يستغرق الخلق الواحد ويستوفي مناقبه كما يعرفونها؛ لأنّه عندهم دون المستوى، وهنا صارت الظروف مهيّأةً لظهور غرض الهجاء "فلما قضى عليهم نظام الحياة بالمغالبة، كان جانب التنافس بالأخلاق أغلب فيهم على جانب المنازعة بالأعمال، لأنّ العمل مظهر الخلق، وقلما يأتون شيئًا من أعمالهم إلّا ابتغاء أن يُظهروا تلك الأخلاق، أو يكتسبوا من يساعدهم على المبالغة في إظهارها، وذلك بيّن في حروبهم ومنافراتهم وكثير من عوائدهم؛ فكان من الطبيعيّ أن يدعو إلى ظهور الهجاء" (الرافعي، 1974م، ج3، ص81) هكذا كانت مرحلة نشأة غرض الهجاء كما يراها الرافعيّ، ويبدو الهجاء في هذه المرحلة مقتصرًا على تجريد المهجو من الخلق الرفيع المتعارف عليه في المجتمع دون التعرّض للسب والشتم، ولكنّه "فصل المرء من مجموع الخلق الحي الذي يؤلف قوميّة الجماعة وتركه عضوًا ميّتًا" (الرافعي، 1974م، ج3، ص81) وهذا الهجاء الذي أنتج في هذه المرحلة يخلو من السباب والإفحاش ويُطلق عليه (هجو الأشراف).
وينتقل الهجاء إلى المرحلة الثالثة "وكان السباب والإفحاش فيه مما يحيله عن أن يكون هجوًا ولا يضر المهجو شيئًا"، (الرافعي، 1974م، ج3، ص81) ففي هذه المرحلة حسب الرافعيّ فقد الهجاء تأثيره حين صار سبابًا ولهذا فإنّ الرجال "لا يعبؤون به لأنّه هجو المهجوّين بطبيعتهم وهم السفلة" (الرافعي، 1974م، ج3، ص81) وما كانت العرب تلجأ إلى هذا النوع من الهجاء سابقًا إذ "ليس يجنح إليه الشاعر إلّا إذا عجز عن إصابة المغمز الذي يكمن فيه الألم من الموضع الصحيح" (الرافعي، 1974م، ج3، ص81)
إنّ المسلك الذي سلكه الرافعي في تأريخ غرض الهجاء يكشف بما لا يدع مجالًا للشكّ أنّه قد أخضعه لنظريّة التطور، إذ نشأ غرض الهجاء ضعيفًا ثم ازدهر ثم ضعف فتدهور، وانهار حين أخطأ الشعراء في إصابة مكمن الألم، فانحرفوا بغرض الهجاء إلى مسلك الشتم السباب ليفقد تأثيره الذي كان عليه في مرحلة ازدهاره.
وعلى وفق نظرية التطور يتتبع الرافعي المسيرة التاريخيّة لغرض الرثاء، فأصل نشأته "إنّما يقال على الوفاء، فيقضي الشاعر بقوله حقوقًا سلفت، أو على السجيّة إذا كان الشاعر قد فجع ببعض أهله، أمّا أن يقال على الرغبة فلا" (الرافعي، 1974م، ج3، ص106) ويؤكّد الرافعيّ أنّ العرب في بداية نشأة غرض الرثاء التزموا "مذهبًا واحدًا، وهو ذكر ما يدل على أنّ الميّت قد مات، فيجمعون بين التفجّع والحسرة والأسف والتلهف والاستعظام، ثم يذكرون صفات المديح مبللة بالدموع" (الرافعي، 1974م، ج3، ص106)؛ إذ لم يكن هناك فصل بين المرثية والمدحة إلّا ذكر ما يدل على أنّه متوفى، ولهذا لم يتبسّطوا في معاني الرثاء والفجيعة، فالرثاء في الشعر العربيّ يختلف عنه عند اليونان والعبرانيين فهم أبكى الناس، وقد أرجع الرافعيّ نقص هذا الجانب عند العرب إلى طبيعتهم البدوية، ولا شكّ في أنّ الجزم بنفي قول الرثاء على الرغبة يتطلّب بحثًا يستقصي ما وصل إلينا من قصائد الرثاء، ودراسة العلاقة التي تربط بين الراثي والمرثي دراسةً اجتماعيّة ونفسيّة، ويبدو أنّ الرافعيّ قد أطلق هذا الحكم دون بحثٍ وتقصٍ لهذا الغرض في الشعر العربيّ، كما لا يمكن التسليم بمقارنة الرافعي بين الرثاء عند العرب والرثاء عند اليونان والعبرانيّين لأنّه لم يقدّم في كتابه نصوصًا يُثبتُ بها صحة تلك المقارنة.
وقد التزم الشعراء في غرض الرثاء قواعد وأسسًا لم يخرجوا عنها فقد "كانوا لا يرثون قتلى الحروب؛ لأنّهم ما خرجوا إلّا ليقتلوا، فإذا بكوهم كان ذلك هجاء أو في حكمه" (الرافعي، 1974م، ج3، ص106) فأصل الرثاء أن يكون "لمن يموت حتف أنفه، أو يُقتل في غير حرب من حروب التاريخ، كالغارة ونحوها" (الرافعي، 1974م، ج3، ص106) كما يؤكد الرافعيّ أنّ "الرثاء لا يتعلّق بالنسيب كما يتعلّق به المدح والهجاء" (الرافعي، 1974م، ج3، ص107) إلّا أنّ غرض الرثاء خاضع لناموس النشوء والارتقاء، شأنه في ذلك شأن باقي الأغراض، فلم يلتزم المتأخرون بالأسس التي سار عليها المتقدّمون، فقد يجمع الشاعر بين الرثاء والنسيب، كما قد يجمع بين التعزية والتهنئة، وهذا لم يكن مألوفًا "وكان أول ذلك حين مات معاوية وقُدّم يزيد ولده، فلم يُقْدِم أحدٌ على تعزيته، حتى دخل عليه عبدالله بن همام السلولي فأنشده، ففتح للناس بعده باب القول" (الرافعي، 1974م، ج3، ص108) ولا شكّ في أنّ النصوص التي وصلت إلينا من العصر الجاهليّ تُثبتُ خلاف ما ذهب إليه الرافعيّ، فما أكثر القصائد التي قيلت فيمن قُتلوا في ساحات المعارك[3].
ويتتبع الرافعيّ خاصيّة الجمع بين التعزية والتهنئة في غرض الرثاء ابتداء من عبدالله بن همام السلولي، ثم غيلان بن مسلمة الثقفيّ، ثم يتحدّث عن إجادة كلّ من أبي نواس وأبي تمّام لهذا المسلك، ويختم بابن نباتة إذ لا يوجد بعده من يُؤتمُّ به في هذا المسلك وهذا ما يؤكّده قوله: "وليس في المتأخرين من يؤمّ في هذه الطريقة غير جمال الدين بن نباتة المصريّ، من شعراء القرن السابع" (الرافعي، 1974م، ج3، ص109) فقد بلغ هذا المسلك في الرثاء ذروته عند ابن نباتة إذ إنّه جاء في قصيدته الميميّة التي عزى فيها عبد الملك المؤيّد صاحب حماه، وهنأ ولده الأفضل "بما يُعدُّ من عجائب الصنعة، لأنّه استطرد في القصيدة على طولها بالجمع بين التهنئة والتعزية إلى آخرها" (الرافعي، 1974م، ج3، ص109)
وهكذا يتتبع الرافعيّ غرض الرثاء من أول نشأته في العهد الجاهليّ عندما كان "يُقال على الوفاء ... أو على السجيّة"، (الرافعي، 1974م، ج3، ص106) وإذا رُثي به القتلى؛ عُدّ عندهم ضربًا من الهجاء، ثم أصبح "للرثاء شأنٌ في أول الدولة الأمويّة" (الرافعي، 1974م، ج3، ص109) فصارت "المراثي يُناح بها نوحًا على القتلى والأموات"(الرافعي، 1974م، ج3، ص109) وقد انحدر الرثاء ـ حسب الرافعيّ ـ بسبب ما أحدثه المتأخرون عندما صاروا "يرثون به الدواب، والأثاث، والأدوات" (الرافعي، 1974م، ج3، ص110) وعلى الرغم من تتبّع الرافعيّ لمسيرة الرثاء في الشعر العربي تتبعًا دقيقًا؛ فإنّه لم يُشر إلى تاريخ رثاء المرأة، وخاصةً رثاء الزوجات الذي لم يعرفه الشعر العربيّ إلّا في العصر الأمويّ مع رائيّة جرير، هكذا أرّخ الرافعيّ لغرض الرثاء على وفق نظريّة التطوّر إذ أخضعه لناموس النشوء والارتقاء.
ومن الأغراض التي أرّخ لها الرافعي على وفق نظريّة التطوّر غرض (الغزل) إذ كانت نشأته نسيبًا، وقد "كان فيه من التصابي والرقة أكثر مما يكون من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلة أكثر مما يكون فيه من الإباء والعزة"، (الرافعي، 1974م، ج3، ص111) ثم انتقل إلى مرحلة ثانيّة فكان "أوّل من تعهّر في شعره من العرب وشبّب بالنساء، إنّما هو امرؤ القيس بإجماع الرواة، ... وكان قبل امرئ القيس خاله المهلهل، وهو زير نساء ... ولم يجىء بعد هذين الشاعرين من يتهالك في غزله غير النابغة الذبيانيّ، وقد أفحش في بعض نسيبه إفحاشًا كأنّه روميّ أو فارسيّ". (الرافعي، 1974م، ج3، ص111، 112)
ثم ينتقل إلى مرحلة ثالثة وذلك "لمّا جاء الإسلام آمنت العيون المريبة وصدق النظر في عفته، وتلجلجت الألسنة فيما كانت تنطق به؛ فكان ذلك أبلغ في عفّة النسيب، حتى صار يؤخذ من طرف اللسان، ولا يقصد به إلّا إقامة السنة التي درج عليها العرب... ومضى الشعراء على ذلك إلى زمن عمر بن الخطّاب" (الرافعي، 1974م، ج3، ص113) وينتقل الغزل في عهد عمر إلى مرحلة رابعة يضعف فيها إذ "تقدم عمر إلى الشعراء أن لا يتشبب أحدٌ بامرأة إلّا جلده"، (الرافعي، 1974م، ج3، ص113) وفي عهد معاوية تحصل نقلة كبيرة في غرض الغزل إذ انتشر الترف وظهر الغناء الذي يحتاج إلى الغزل مادةً له "فما هدأت الفتن بعد عثمان واستقرّ الأمر لمعاوية حتى قويت قلوب وضعفت عقول، ... وظهر يومئذٍ الغناء مُمترىً فيه حتى أباحه يزيد بن معاوية ففشا في الحجاز، والنسيب مادة الغناء وبه يقوم أمره" (الرافعي، 1974م، ج3، ص113) ثم انحدر الغزل في نظر الرافعيّ إذ ظهر "في وضع يشبه أن يكون فارسيًّا أو روميًّا لا يلتئم مع أخلاق العرب؛ تُحكى فيه قصة الغزل ويُفتخر فيه بنقض العفة وانحلال الطباع" (الرافعي، 1974م، ج3، ص113)
إنّ مرحلة الانحدار والانهيار في غرض الغزل التي يحدثنا عنها الرافعيّ لا تبدو مرحلة إعلان موت لهذا الغرض؛ إذ يعاود ألقه في فترات لاحقة من فترات التاريخ، إلّا أنّه لم يتحول إلى غرض آخر ولا إلى جنس أدبي آخر؛ بل ظل محافظًا على خصائص جنسه كاملة وهذا يتعارض مع الأصول التي تقوم عليها نظريّة التطوّر، وتبدو مراحل التحوّل في غرض الغزل مصطنعةً متكلفة؛ إذ يقدمها الرافعي على شكل سردٍ حكائيّ لا يدل على ما يمكن أن نطلق عليه تحولات في مسيرة هذا الغرض الشعريّ.
وغرض المدح كغيره من الأغراض الشعريّة عند الرافعيّ خاضعٌ لقانون نظريّة التطوّر فله حركة زمنيّة تبدأ بنشأته ثم رقيّه ثم ضعفه وانتهاء باندثاره أو جموده بسبب توقف حركة التطوير فيه، إذ إنّ للمدح حسب الرافعي اتجاهين: الأول كان "قبل أن تضعف أعصاب البداوة" (الرافعي، 1974م، ج3، ص94) والآخر "لما وهنت أعصاب البداوة في بعض الشعراء، بما وجدوا من مسّ الترف والنعيم وجعلوا يبتغون بالشعر المنالة والكسب"، (الرافعي، 1974م، ج3، ص95) ويؤكد الرافعي أن المديح لا يخرج عن هذين الشطرين إذ يقول: "هذان شطرا المديح، لا يكون إلّا في أحدهما" (الرافعي، 1974م، ج3، ص94)
وعلى وفق هذا التصوّر يتتبع الرافعي نشأة غرض المديح، فلم يكن في نشأته إلّا فخرًا، إذ إنّ العرب قبل أن تضعف أعصاب البداوة فيهم "كان مديحهم فخرًا كلّه، لأنّ أساس الطبيعة البدويّة فضيلة الاعتماد على النفس، وهي التي تحدث الكبرياء الصحيحة، فلا تكاد تجد في شعر المهلهل، أو امرئ القيس، وطبقتهما مدحًا مبنيًّا على الملق والمداهنة، وتصنّع الأخلاق، وإن وُجد شيءٌ من ذلك قبل النابغة وزهير فهو مصنوعٌ لا شكّ في صنعته وتوليده" (الرافعي، 1974م، ج3، ص94) هذه كانت مرحلة نشأة غرض المدح، ثم انتقل إلى مرحلته الثانيّة حينما صارت "الكبرياء رذيلةً ممقوتةً... والمديح الذي يصوّر هذه الكبرياء الكاذبة لا بدّ أن يكون أكذب منها حتى تعرض عليه غرابة المبالغة شيئًا من رونق الحقيقة، وهو حينئذٍ صنعةٌ وتكلّفٌ" (الرافعي، 1974م، ج3، ص94) هكذا يتجه المدح نحو التكلّف والكذب في اعتلال مرَضيٍّ تدريجيٍّ من الصحة إلى السقم "غير أنّ هذا التحوّل المرَضيّ في المديح إنّما كان يأخذ منه على التدرّيج، في أوّل أمره، فبقي مديح زهير طبيعيًّا لم يحاول فيه صبغ الحقيقة بذلك اللون الأسود الذي يعطيها على الوهم منظر الاستعباد" (الرافعي، 1974م، ج3، ص95)
وإذا كان زهيرٌ قد تمسّك بطبيعة المدح الأصيل؛ وسلِم هذا الغرضُ في عهده من الانحدار فإنّه "لم يسلَم من أمر النابغة، لأنّ زهيرًا كان لا يقول على الرغبة والطمع، وكان يمدح رجلًا من الأشراف بصفات مثله الصحيحة، والنابغة كان يتكسّب من المناذرة والغساسنة، وهم ملوك ... ولمّا هرب من النعمان جعل يعتذر إليه باعتذاريّاته المشهورة، عمد إلى تجويد المديح وزخرفته، ينفخ به كبرياءه فيصغر في جنبها ما أتاه ويتجاوز عنه" (الرافعي، 1974م، ج3، ص95)هكذا تبدأ المرحلة الثالثة المتمثلة في بداية مرحلة ضعف غرض المدح بوصف الرجل الشريف بما ليس فيه، وبعدها يصبح المدح مبتذلًا في طبقات الناس بعد أن كان مقصورًا على الأشراف والملوك، وهذا التحوّل يبدأ مع الأعشى إذ "لم تكن له همة إلّا في المدح والهجاء ... ما مدح أحدًا إلّا رفعه، ولا هجا أحدًا إلّا وضعه، والأمور يومئذٍ تطير للشعر طيرانًا؛ فكان الأعشى على التحقيق أوّل من احترف المديح وابتذله في طبقات الناس؛ ولذلك اضطر أن ينفخ معانيه بالمبالغة والإغراق" (الرافعي، 1974م، ج3، ص95،96)
وتدرّج المدح في انحداره في عهد الأمويين إذ صار حرفةً يتقرّب بها الشعراء إلى الحكّام "فاستقلّت طريقة المديح من يومئذٍ، وأطاله الشعراء، وقد أجمعوا على أنّ كثيّرًا أول من فعل ذلك" (الرافعي، 1974م، ج3، ص97) وفي عهد العباسيّين صار الحكّام يجلسون للشعراء في يوم معيّن ويطلبون المديح ويشترطون فيه، ويعطون الشعراء عطاء جزلًا، وقد وصل الأمر بالشعراء المتأخرين أنّهم ينقلون المديح من رجل إلى رجل، وقد كان هذا دأب البحتريّ، وكذلك فعله أبو تمّام، وهكذا ينحدر غرض المدح حتى يصل به الانحطاط في عصر التمدّن الإسلاميّ وامتزاج العرب بالفرس إلى ظهور شعر الكدية أو الشعر الساسانيّ.(الرافعي، 1974م، ج3، ص97ـ101)
ويبدو أنّ غرض المدح قد مرّ بأربعة أطوار، فقد نشأ في طوره الأول منبثقًا من الفخر في طبيعته البدويّة القائمة على الكبرياء والصدق وتمجيد الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة، وأمّا في طوره الثاني فقد دخله شيءٌ من التصنّع والزخرفة لمدح الملوك، وأمّا في طوره الثالث؛ فلم يعد مقصورًا على الملوك والأشراف بل صار يقال في عامة الناس طمعًا في العطاء، وأما في طوره الرابع فقد صار حرفة للتّكسّب فغلب عليه الكذب والتملّق، وصار علية القوم يطلبونه من الشعراء، ويخصصون المجالس للاستماع إلى مدح الذي يُقال فيهم.
وهكذا يسير الرافعي في تأريخه لأغراض الفخر والحماسة والوصف، والحكمة، والشعر الأخلاقيّ، والشعر الهزليّ، ولا يتسع المقام لتفصيل الحديث عن كلّ هذا، إذ إنّ الأغراض التي تناولناها تسد مسد التي سكتنا عنها، فالمنهج واحدٌ والتصوّر ثابتٌ بذل فيه الرافعي طاقته للبحث عن نقاط التحوّل من طورٍ إلى طور في كلّ غرضٍ من الأغراض الشعريّة التي أرّخ لها، ويبدو أنّه وفّق تارةً، وتكلّف تارةً أخرى لإسقاط نظريّةٍ جُلبت من مجال العلوم الطبيعيّة إلى العلوم الإنسانيّة، ولا شك في أنّ ما يناسب العلوم الطبيعيّة قد لا يناسب العلوم الإنسانيّة، بل ما ينطبق على تاريخ الحضارة والسياسة لا يلزم أن ينطبق على تاريخ الأدب.
الخاتمة:
كشف تتبّعنا كتب تاريخ الأدب العربيّ أنّ الرافعيّ كان أول من أرّخ للأدب العربيّ حسب الأغراض الأدبيّة، ولم ينتهج ـ حسب اطّلاعنا ـ أحدٌ من مؤرّخي الأدب العربيّ هذا المنهج بعده، فكتب تاريخ الأدب التي أفردت مباحث خاصة لدراسة أغراضٍ أدبيّة محدّدة؛ إنّما كانت تتناولها ضمن نطاق التحقيب السياسي، وعلى الرغم من أنّ الرافعيّ قد اتّخذ نظريّة التطوّر منطلقًا لمنهجه في التقسيم حسب الأغراض؛ فإنّه لم يُخلص لهذا المنهج، فهناك خروج ظاهرٌ عن المنهج في مباحث كثيرة من كتابه.
إنّ الحركة كما تُصوّرها نظريّة التطوّر تبدأ تصاعديّةً حتى تصل إلى قمة الازدهار؛ لتنحدر عبر الزّمن في حركة تنازليّة تقود إلى الانحطاط والمصير المحتوم، إلّا أنّ حركة التطوّر التصاعديّ مفقودة في عمل الرافعيّ، إذ إنّ الأغراض الأدبيّة في تصوّره تسير في حركة تنازلّيّة، تبدأ من قمة الجودة، ثم تسير عبر الزمن سيرًا تنازليًّا؛ حتى تصل إلى الانحطاط، لأنه ينطلق من مسلّمة أنّ آداب اللغة العربيّة "بلغت بالقرآن الكريم مبلغ الإعجاز على الدهر، ولم تكد تطوي عصرها الأول حتى كان أول سطر كَتب لها في صفحة العصر الثاني شهادةَ الخلود، وما بعد أسباب الخلود من كمال" (الرافعي، 1974م، ج1،ص18)
إنّ الجوانب التنظيريّة لتطبيق نظريّة التطوّر تتطلّب من المؤرّخ أن يكون على صلة عميقة شاملة بالنصوص، وأن يكون متمرّسًا في دراستها وتحليلها ونقدها، ويرى شكري فيصل أنّ هذه الطريقة "تغني تاريخ الأدب، ومؤرّخه: تغني تاريخ الأدب لأنّها لن تجعل منه خبطًا في مجهول، وسيرًا على غير هدى... وتغني مؤرّخ الأدب لأنّها تدفعه للتمرّس بالنصوص، وترهف ذوقه، وتشحذ ذهنه، وتتيح له في عمله الأدبيّ هذه المتعة البارعة الرائعة في تجلية الآثار الأدبيّة، والاستمتاع بها وتذوّقها"(فيصل، 1982، ص 77) إلّا أنّ هذا الجانب النظريّ لم يجد له مكانًا في التطبيق العمليّ عند الرافعيّ، لهذا يرى حسين الواد أنّ " عمل الرافعيّ لا يمثّل منهج التقسيم إلى الأغراض تمثيلًا حسنًا" (الواد، 1993، ص170) وتبقى محاولته هي الأولى، ولا شكّ في أنّ للمحاولة الأولى ضريبتها خاصةً أنّها محاولة فرديّة لم يتّسع لها عمر الرجل، فقد نُشر الجزء الثالث من كتابه بعد وفاته ورتّب أبوابه محمد سعيد العريان، (الرافعي، 1974م، ج1،ص5) ولم يأتِ بعد الرافعي من يسلك منهجه ولربما أدرك المؤرخون أنّ هذا المسلك يتطلب عملًا جماعيًّا وهذا شبه مفقودٍ ـ إنْ لم يكن كذلك ـ في وطننا العربيّ.
يصرف الرافعي عنايته إلى تتبّع التحوّلات التي مرّ بها الغرض الشعريّ، ويكتفي بسرد أسماء الشعراء الذين قالوا في ذلك الغرض، دون الالتفات إلى التفاوت الكميّ والنوعيّ بين نصوصهم، فيسرد أسماء مجموعة من الشعراء لا يجمع بينهم سوى أنّهم تناولوا في شيء من نصوصهم ذلك الغرض الذي يؤرّخ له، وغالبّا ما تكون تلك الأسماء مرتّبةً على وفق التسلسل الزمنيّ.
إنّ تعدد الأغراض الشعريّة عند الشاعر الواحد؛ جعل الرافعي مضطرًّا إلى تكرار اسم الشاعر في كلّ الأغراض التي أبدع فيها، فيتناول إنتاجه مجزّءًا، وهذه التجزئة تحول دون النظرة الشاملة، فلا تعطي صورة كليّة دقيقة عن الإنتاج الكلّيّ للشاعر، وتحول كذلك دون دراسة قصيدة الشاعر دراسة كاملة، إذ يضطر إلى تجزئة القصيدة على عدد الأغراض التي طرقها الشاعر في تلك القصيدة، وهذا يعني زيادة في التفتيت، والتجزئة.
حاول الرافعي في تطبيقه لنظريّة التطوّر تتبّع التحوّلات التي مرّ بها الغرض الشعريّ زمانيّاّ، إلّا أنّه لم يتتبّع التحوّلات التي مرّ بها الغرض مكانيًّا، فعلى الرغم من أنّ نظريّة التطوّر تمكّن نظريًا من الجمع بين العاملين: الزمانيّ والمكانيّ، وربّما أدرك الرافعيّ ذلك لاحقًا فخصّص الباب السابع من كتابه للأدب الأندلسيّ، إلّا أنّ هذا يعدّ خروجًا على المنهج؛ إذ الأصل أنْ يتتبّع مسيرة كلّ غرضٍ زمانيًّا ومكانيًّا، دون الحاجة إلى فصل أدب إقليمٍ بعينه عن أدب باقي الأقاليم.
إنّ السير على وفق نظرية التطوّر دفع بالرافعي إلى التكلّف في إيجاد جذورٍ جاهليّة لكلّ الأغراض حتى الأغراض التي ظهرت متأخرة ولم يعرفها المتقدّمون، إذ حاول جهده إثبات جذورٍ جاهليّة للشعر القصصيّ، إلّا أنّ محاولة الرافعي تبدو ضربًا من المجازفة؛ إذ لم يكن غرضًا قائمًا بذاته في ذلك العصر، ويبدو أنّ الرافعيّ قد أبطل لاحقًا ما حاول إثباته بداية إذ يقول: "إنّ الشعر القصصيّ ـ بالمعنى المصطلح عليه ـ لم يكن في طبيعة العرب، ولا هو من مقتضيات اجتماعهم، فهم لم ينظموه في جاهليّتهم قطعًا، ولم ينظمه مَن بعدهم لوقوفهم عند حدّ التقليد" (الرافعي، 1974م، ج1،ص147) و حاول الرافعيّ أن يثبت جذورًا جاهليّةً للشعر الحكميّ الذي يعنى بشؤون الدين، إلّا أنّ النتيجة التي وصل إليّها لم تختلف عن النتيجة السابقة إذ يقول: "لم نعثر بعد جهد التفتيش وطول التنقيب إلّا على اثنين من الشعراء اشتهرا بهذا النوع الدينيّ من الشعر وهما عدي بن زيد العبّاديّ، وأميّة بن أبي الصلت (الرافعي، 1974م، ج3،ص127)
ويبدو أنّ الرافعي حين كتب (تاريخ آداب العرب) أغفل الشطر الثاني من تلك الآداب، فالتقسيم حسب الأغراض إنْ أمكن في تأريخ الشعر؛ فلا يمكن في تأريخ النثر، ولا أدلّ على ذلك من أنّ الرافعيّ نفسه قصر هذا النمط التقسيميّ على الباب الخامس من الجزء الثالث من كتابه حين تناول "تاريخ الشعر العربيّ ومذاهبه" (الرافعي، 1974م، ج3،ص15ـ 180) وأرّخ لما هو خارج مصطلح (الأدب) بمفهومه الخاص، على الرغم من إنكاره على سابقيه تبعيّتهم للمستشرقين في توسعة مفهوم الأدب؛ فإنّه أرّخ للنحو والفلسفة، وسرد أسماء النحاة والفلاسفة والأطباء والفلكيين حين تناول الأدب الأندلسيّ.
المصادر والمراجع:
1) الحصري، ساطع، دراسات عن مقدمة ابن خلدون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1961.
2) الخضيري، زينب، فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، دار الثقافة، القاهرة، 1989.
3) ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، ج1، تحقيق: عبدالله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، ط1، 2004.
4) داروين، تشارلس، أصل الأنواع، ترجمة: مجدي محمود المليجي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 2004.
5) الرافعي، مصطفى صادق، تاريخ آداب العرب، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1974م.
6) زيدان، جرجي، تاريخ آداب اللغة العربية، مراجعة: شوقي ضيف، دار الهلال، دون تاريخ، ج1، ج2، ج3.
7) الشاذلي، عبد السلام، الأسس النظريّة في مناهج البحث الأدبي العربي الحديث، دار الحداثة، بيروت، ط1، 1989.
8) ضيف، شوقي، البحث الأدبي، طبيعته ـ مناهجه ـ أصوله ـ مصادره، دار المعارف، القاهرة، ط7.
9) ضيف، شوقي، تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، دار المعارف، القاهرة، ط8.
10) ابن عبدربه، أحمد بن محمد الأندلسي، العقد الفريد، تحقيق: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1983م.
11) العدل، حسن توفيق، تاريخ آداب اللغة العربية، تحقيق: د. وليد خالص، دار أسامة، الأردن، 2001.
12) فيصل، شكري، مناهج الدراسة الأدبية في الأدب العربي، بالعرض والنقد والاقتراح، دار العلم للملايين، بيروت، ط5، مارس 1982.
13) موازان، كليمان، ما التاريخ الأدب، ترجمة وتقديم: حسن الطالب، دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان، ط1، 2010.
14) الواد، حسين، في تأريخ الأدب، مفاهيم ومناهج، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط3 ، 1993.
15) ويليك، رينيه ، مفاهيم نقديّة، ترجمة: محمد عصفور، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، رقم السلسلة 110، فبراير، 1987.
16) ويليك، رينيه ووآرن، آوستن ، نظرية الأدب، تعريب عادل سلامة، دار المريخ، الرياض، 1991
([1]) يرى ساطع الحصري أنّه تم مسح كلمة (القردة) وحوّلت إلى (القدرة) في كثير من الطبعات العربيّة ولكنّها بقيت في النسخ الأجنبيّة، وترى زينب الخضيري أنّ معنى العبارة لا يستقيم إلّا إذا كانت الكلمة هي (القردة) وليست (القدرة). انظر زينب الخضيري، فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، دار الثقافة، القاهرة، 1989، ص93ـ94
([2]) ذكر "بروكلمان" أن كتاب الرافعي صدر عام (1311 ـ 1893) والطبعة الثانية عام (1329 ـ 1911) والصحيح الذي تجمع عليه المراجع وجاء في تصدير الكتاب هو ما أثبتناه.
[3] رثت الخنساء أخويها معاوية وصخرًا فالأول مات مباشرة في ساحة القتال، والآخر مات بسبب إصابة في إحدى المعارك، كما رثت قريش قتلاها يوم بدر، وكلّ هذا يخالف ما ذهب إليه الرافعيّ.