جدل الشکل والتجارب الدینیة في النص الشعري المرکب الحدیث
الباحث المراسل | أ.د. فليح مضحي السامرائي | جامعة نزوى |
فی ضوء معطیات مقدمة البحث الموسوم (جدل الشکل والتجارب الدینیة فی النص الشعری المرکب الحدیث)، سیشتغل على مجموعة مداخل نقدیة مهمة تعالج جملة من قضایا الشعر التی أتت على مفاصل کثیرة فی علاقة الشعر بمحیطه الثقافی والفکری والحیاتی، وهی بلا شک مداخل تسلط الضوء على تمثلات النص الشعری وحضوره الفاعل فی أفق العالم، وکان فی مقدمة هذه القضایا ما یتعلق بالجدل الذی یخوض فی إشکالیة الشکل والتجربة الصوفیة؛ إذ وسم مبحثها الأول بـ (جدل الشکل والتجربة الصوفیة ) وهو موضوع حساس جداً، إذ نعالج به الظاهرة الصوفیة وجدلیتها مع الشکل، التی التفت إلیها النقاد، وکانت تشغل الشعراء على حد سواء، ولا تکاد تخلوا قصائد الکثیر منهم من شیوعها، الأمر الآخر الذی اشتغل علیه البحث هو الظاهرة النصیة وارتباطها بإشکالیة الجدل الحاصل مع الشکل، فوسمنا المبحث الثانی منها بــ (جدل الشکل والتجربة النصیة)، الذی یعمل على إظهار قیمة الشکل وعلاقته بالتجربة الشعریة النصیة فی سیاق حضور الذات، التی تجیب على أسئلة الشعریة فی ضوء العلاقة الوثیقة بین التشکیل والتجربة النصیة، الأمر الثالث الذی تعالجه الدراسة قضیة الوجود وإشکالیاتها وجدها وتداخلها مع الشکل؛ ولهذا وسمت المبحث الأخیر الثالث بـ (جدل الشکل والتجربة الوجودیة)، وفی ضوء هذه المعطیات الثلاثة، سأعمل على بیان أفعال التأثیر والأداء على مستوى فعل التلقی.
وسیسلک الباحث المنهج الاستقرائی فی تتبع المصطلحات المعبرة عن الشکل والتجربة الصوفیة والنصیة والوجودیة عند الشعراء الثلاثة، وکذلک یمکن الاستعانة بالمنهج التحلیلی فی دراسة الشکل ودلالات التجارب الثلاثة، لغویاً وخیالیاً وفنیاً وشکلیاً وسیمیائیاً. ویمکن أن نخرج بنتائج مهمة، أبرزها: أن اللغة والدین لهما قابلیة للنمو والتطور والتجدید، وکذلک یمکن التوصل إلى أن الأفکار الدینیة القدیمة قائمة وظاهرة أیضا فی الشعر الحدیث، ویتبع ذلک الآراء نفسها فی المسألة، غیر أن التعبیر والمصطلح یختلف.
المبحث الأول: جدل الشکل والتجربة الصوفیة
إن الخلود هو الهم النضالی الأزلی، الذی یسکن أرواح العشاق والمتصوفة والشعراء، وهو البحث المستفز عن استقرار الذات الهائمة المضطربة فی وحل إشکالیة الحیاة المعقدة. وقد کان المناخ المحور الرئیس الذی عاشته قصیدة (المعجزة) للشاعر عبد الوهاب البیاتی، إذ إن الحیاة هنا محکومة بالموت وهذا بحد ذاته کاف بأن یقضی العاشق -المتصوف- الشاعر سنین عمره الطویل باحثاً عن إکسیر الحیاة فی مختبرات الروح وتجلیات العوالم الطبیعیة، لا یتوقف عند نقطة معینة ولا تقنعه حالة معینة.
فالموت إذن مستقر الروح وموطن السکون والعجز عن حرکیة التواصل ودینامیة الفعل، فهو انهیار للعواطف وتساقط لدفق الشعور الراقی نحو استمراریة إشعار الروح وانبعاث إشراقتها وتلاشی التراث الإعجازی العجائبی من موازنات وإفراز الحضارات، وهو الحالة التی تسکن فیها الروح وتنهی الحرکة.
تبدأ قصیدة ((المعجزة))([1]) للشاعر عبد الوهاب البیاتی بدایة شعریة کلیة تسخر الکون کله لانطلاقتها، استناداً إلى طبیعة العتبة العنوانیة المطلقة التی تقود فیها دلالة (المعجزة) حراکاً شعریاً فلسفیاً عمیقاً ومفتوحاً، إذ یقول البیاتی([2]):
سبح العاشق یا سیدتی فی دمــــــــــه
وانــــــــــهــــــــــــــــــــــار ســـــــور
الــــــــــــــــصین بعد المعجـــــــــــزة
واسترد المیت الحی حصان العربــــة
واستقرت روحه الهائمة المضطربـة
فی الغصون المزهرة عشه اللقلـــق
ونــــــواه الــــــــثـــــمــــــــــــــــرة
تبدأ القصیدة بالانهیار الکبیر الذی یقذفنا به الشاعر من طریق تفجر الموقف الشعری فی صورته الکونیة المطلقة، بشکل تحولی سریع (سبح العاشق.. فی دمه) ثم (انهار سور الصین)، وتبدأ بعدها التفصیلات الدقیقة التی تحدد موجودیة الأشیاء ومواقفها من الانقلاب الذی خض القیم، وهدد مصیر المثل العلیا، (استرد- المیت الحی- حصان العربة)؛ لیحقق نوعا من التعادلیة التی تحفظ للکون المهدد بالسقوط توازناً ما.
ثم تنتحر الطبیعة فی رحم هذا الهوس، ناکرة قدرتها على التحدی ومؤمنة بأقدار ذاتها، فهی لا تعرف إلا الامتثال، غیر قادرة على التمرد أو التفکیر بانتهاک حدود اللاممکن، وحبها هنا روتینی غیر قابل للتغیر أو التعارض مع قانونها الأزلی، وعبر سادیة الفصول وأنانیتها یدخل البحث مرحلة الولوج إلى عوالم غریبة لا یعرف کنهها أو ما مخبوء فیها من مفاجآت قد تجهض البحث وتنهک إمکانیته([3]).
إذ یقول البیاتی([4]):
فإذا ما عرّت الریح قمیص الشجـــــــرة
وهوت أوراقها ذابلة فی المـــــــقبــــرة
مدّ من فصل إلى فصل یــــــد الشحـــاذ
لـــــلــــــــــــــــــنــــــــــــــــــــــــــــــور
وقــــــــــــطــــــــــرات المـــــــــــــــطر
کامنا کالنار فی الأشیاء مأسورا طلیق
بـــــــــــاحثــــــــــــا کالنهر عن مجراه
فـــــــــــــــی أرض الخرافـــــــــــــات
وغـــــــــــــابــــــــــــات الحــــــــــریق
فعلى أثر السقوط المتوالی لأثر الحیاة الرئیسة، تتعاقب الموجودات فی سفرها نحو العدم، فمنها ما یسقط فی موقف العری والانسلاخ (عرت الریح قمیص الشجرة)، ومنها ما یسقط فی دائرة الموت المستمر (هوت أوراقها ذابلة فی المقبرة)؛ لتصبح الضرورة القصوى فی البحث عن أبسط أشکال الحیاة هی التی تحفظ حدا أدنى من الاستمراریة بواسطة استدعاء القیم الأولیة التی تکون الحیاة (مد من فصل إلى فصل ید الشحاذ للنور وقطرات المطر)، التی تحتاج إلى کشف جدلی عمیق من أجل تولیدها وبعثها من جدید (کامنا کالنار فی الأشیاء)، ویبقى هذا البحث المضنی محکوما بالوهم وبالموت (باحثا - کالنهر عن مجراه - فی أرض الخرافات وغابات الحریق)، إذ تنتهی عنده کل الأشیاء وتتوقف.
فأرض السحر والخرافة والأوهام جدباء لا تسعف الرؤیة التی تبحث عن حقائق، ولا تمنح بذور الأعجاز أبسط أنواع القدرات القابلة للنمو والتحرک الحر فی جسد الفضاء الخارجی؛ لأنها سجینة السکون والعجز. ویستمر السفر المضنی المنهک، ویسقط العاشق فی وحشة البحث المنفرد، ویتواصل الإیمان المطلق بالوصول، وإصرار الطبیعة على تحدی نفسها واستمرارها فی تطبیق نظریة التغییر الإجباری، فلا الطبیعة قادرة على تغیر هذا الناموس المستقر، ولا العاشق بقادر على التخلی عن بحثه، کما عبر عنه البیاتی بقوله([5]):
کلمــــــا دقّ على أبواب قصر الساحرة
فــــــــــــــــــی اللیالی المــــــــــــاطرة
غــــــــــــــــــابت الأبواب والقصـــــر؟
وخـــــــــــلانــی وحــــــــــــیـــــــــــــــد
فی مقاهی مـــدن العـــــــــــــــالـــــــــم
أستجـــــــــــــــدی بطاقـــــات البــــرید
فلماذا طال رغم الملتقى هـــــذا السفر؟
ولمـــــــــــــــــــــــــاذا جفّ فــــی اللیل
علـــــــــــــى نافذة المقهى المطــــــر؟
وعلى الأشجار فی الشارع والقلــــــب
وأســــــــــــــــــوار السجـــــــــــون؟
ویأخذ البحث مدى أوسع، عندما تدخل فی حلقاته الرئیسة قوى خفیة تستعمل طاقاتها الکامنة من أجل الوصول (کلما دق على أبواب قصر الساحرة)، إلا أنها لا تجدی نفعا (غابت الأبواب والقصر) سوى أنها تستدل من ساحة القصر کل القوى البشریة المساعدة على طبیعة الفعل الإنسانی، التی یمکن أن تضیف شکلاً إیجابیاً لعملیة البحث (وخلانی وحید)؛ مما یؤدی إلى إحداث هزات عنیفة فی مستوى الإیمان الکلی الذی تحرکه مولدات خفیة لا شعوریة، إذ یبدو التساؤل هنا منطقیاً بعض الشیء (فلماذا طال - رغم الملتقى - هذا السفر)؛ أی أن هناک إیماناً مطلقاً بتحقیق (الملتقى) على الرغم من هذا المخاض العسیر الذی یفضی فی النهایة إلیه، إن هذا الشعور المتقاطع هو الدافع الدینامیکی لتجاوز حالة السقوط والانتهاء على نحو یقدّم التجربة بوصفها حالة شعریة بالغة العمق، والصیرورة تکون مؤهلة لبلوغ أعلى مراحل التشکیل الشعری، اعتماداً على زخم اللغة والصورة والإیقاع.
وتغرق الکلمات فی صمت رهیب قاس وتفقد معظم دلالاتها إن لم تکن کلها، ویتحول البحث إلى محاولة یائسة لإمساک الخیط الرفیع فی بریق السماء؛ أملاً فی الإنقاذ وأخذ جرعة جدیدة من الإمکانیة القادرة على المواصلة وانتشال العاشق فی حالة الغرق الأکید فی نهر الرحلة النهائیة إلى الداخل، وهی تغوص فی أتون تجربة تستدعی التاریخ والأسطورة والذاکرة والحلم؛ لتؤلف من مشترکاتها صورة لفضاء القصیدة([6]):
وأنـــــــا أغرق فی نهر الجنون
عنــــــــــــدمــــا عدنــــــــــــــا،
وعــــــــــاد العاشقــــــــــــــون
یذرفـــــــــون الدمع فی صمت،
ویبنـــــــــــــــــون الجســــــور
ولمـــــــــــــــــاذا خذلتنــــــــا..
یــــــــــــــا إلهی الکلمـــــــات
عندما معجزة القدیس لم تنفع
ولم ینفع عویل الساحـــــرات
تدخل عملیة البحث مرحلة جدیدة من مراحل الخطورة والتعقید؛ عندما یتداخل الشعور باللاشعور والمدرک بالمحسوس والثابت بالمتحول (وأنا أغرق فی نهر الجنون)، فتتسع دائرته لتصبح قضیة مصیریة یتوقف على نتیجتها موقف الوجود (عندما عاد وعاد العاشقون)، ویأخذ البحث شکلین من أشکال النضال فمرة یتوقف على حدود الاستجابة السلبیة (یذرفون الدمع فی صمت) ومرة أخرى یتحرک بإیجابیة متفاعلة (ویبنون جسور)؛ لکن القضیة تبقى أعقد من أن تحل (ولماذا خذلتنا یا الهی الکلمات) حتى باستعمال القوى الغیبیة المتفجرة عندما معجزة القدیس لم تنفع واستدعاء القوى المضافة من العوالم الخفیة (ولم ینفع عویل الساحرات)، فی توظیف شعری عمیق للأسطورة والحکایة الشعبیة.
ویستمر البحث عن ربیع الحیاة بین تموز الراحل وتموز المنتظر، إذ لا یترک تموز الراحل وراءه سوى الخراب، ویدخل الخراب ویدخل الإنسان على إثره فی سبات قسری تخفت فیه الحرکة بانتظار تموز القادم الذی یحمل معه الربیع الجدید القدیم، إذ تتجلّى أسطورة الخصب فی تشکیل الصورة الشعریة الکثیفة واللغة الخصبة([7]):
بعــــــــــد أن سرنا وسار فی جثة تموز
إلـــــــــــــــــــــى البحر البعیـــــــــــــــد
عــــــــــــــــاد یطفو من جدیــــــــــــــد
حاملا تاجا من اللیلک والعشب وأزهار
جبــــــــــــال المستحـــــیــــــــــــــــــــل
وعلى تابوته النهـــــری طارت بجعـــة
کــــــــــــــادت وهمـــــت بالرحیـــــــــل
وعلى الشطان أضواء قنـــــادیل الربیع
وعــــــــــــــویــــــــــــــــــل الکهنـــــة
تحــــــــــــــت أقواس رماد الأزمنــــــة
وهــــــــــــــــم یبکـــــون تمـوز القتیل
حــــــــــــــــــــــاملین القمر المیـــــــت
فی موکـــــــــــــب عشتار الجلیـــــــل
ویبقى واقع الموت وحلم الحیاة همَّ قطبی الصراع الإنسانی الذی یکون الإنسان فیه شاهداً ومنقاداً فی موکب الموت (سرنا وسار النهر فی جثة تموز إلى البحر البعید)، وفرحاً مندهشاً فی موکب الحیاة (عاد یطفو من جدید)؛ لکنه لا یلبث أن یحاصر، ویصبح حلم الربیع والحیاة مهددا على الدوام بالموت الموسمی (حاملا تاجاً من اللیلک والعشب وأزهار جبال المستحیل)، ویصبح الموت هو القاعدة، بینما الحیاة هی الاستثناء، إذ یسیطر الموت على کل المرافق التی یمکن أن تتنفس منها الحیاة (تابوته النهری - أضواء قنادیل - عویل الکهنة - أقواس رماد الأزمنة – یبکون (تموز) القتیل حاملین القمر المیت).
إن البکاء على رحیل تموز هنا هو البکاء على الحیاة والخلود والمجد الأصیل، فرحیله مثقل بالعذابات التی تؤرخ البشریة، ونقص مضاجع البشر؛ إنها اللعنة التی تفسد على الإنسان التلذذ بمباهج الحیاة واحتفالیتها، فجنة العشاق مکتوب لها أن تتلاشى مع رحیل تموز، فلا شیء غیر الرحیل ولا حیلة غیر البکاء، وهنا تتقمص الذات الشاعرة روح الأسطورة؛ لتتحول من تجربة خارجیة إلى تجربة داخلیة مشبعة بالرؤیا([8]):
آه مــــــــــــــن لیل المحبین الطویــــل
وقطــــــــــــــــارات الجلیــــــــــــــــــد
وعــــــــــــــذابـــــــــــــــات الرحیــــل
بــــــــــــــــــــــاطــــــــــــــــــــــــــــل،
لا شیء تحت الشمس یا حبی الجدید
لکن الذی یمنح الإنسان قوة أکبر من أن تجهض هو الصبر الذی یحول کل فشل وقهر إنسانی إلى مولد جدید، یبعث فی الإنسان طاقات جدیدة لمواصلة البحث واستمراریته، رغم کل محاولات الانتهاء والسحق والتحطیم الذی تتعرض له النفس البشریة (آه من لیل المحبین الطویل - وقطارات الجلید - وعذابات الرحیل)([9])، إلى الحد الذی یفقد الإنسان شیئا من المستوى العنید الذی یمتلکه فی نضاله (باطل، لا شیء تحت الشمس یا حبی الجدید)، وتقوم الإنسانیة الباحثة على استمرار حرکة الروح الحیة فی إنسانیتها باستدعاء تموز القادم وتعجیل حرکته؛ لتشترط علیه عدم الرحیل کی ینتزع منها ثوب الخوف الکاتم على أنفاسها، أملاً أن یضرب أوتاده فی أعماق الأرض، ویرفض دورة الرحیل الاعتیادیة، إنها دعوة لتمرد تموز وتأجیج عنفوانه فی إعادة إنتاج شعریة للأسطورة، تتسلم فیها الذات الشاعرة مقالید الحراک الشعری الذی یتوغل فی الزمان والمکان والرؤیة والفعل([10]):
آه عرینی من العری ومن ثوب الثقیل
فــــــــانـــــــا نــــائمـــــــــة وحدی...
هنـــــــــــا تــــحــــت سمـــــــــــاوات
مــــــــجـــــــــــاذیب النخـیــــــــــــــل
لــــــــن یقبل شفتی إنس ولا جـــــن،
ولا طـــــــــــیــــــــف حبـیــــــــــــب
بــــــاعنـــــــــــی النخاس للسلطــان،
والـــــــــــســـــــــــــلــطــــــــــــــــان
للـــــــــعـــــــــبد الـــــــطــــــــــــــرید
فـأنــا عبدة عبد (الأسود – الأبیض)
فــــی مستنقع الشرق الکریـــــــــــه
هنا یصبح الوصول إلى الذات الباحثة المجردة هو الهدف (عرینی من العری)؛ لأنها افتقدت الدفء البشری الوجودی والمتخیل (نائمة وحدی هنا - لم یقبل شفتی أنس ولا جن ولا طیف حبیب)، فسقطت القضیة هنا فی وحدة مدمرة، تحولت فیها إلى بضاعة (باعنی النخاس والسلطان للعبد الطرید)، فتدور سببیة وسط الثالوث الذی یشکل ضداً بشریاً هائلاً، یحاول دائماً إلغاء الوجود الحقیقی لیثبت الوجود الموهوم بدلالة (النخاس - السلطان العبد الطرید)، فی استعادة حکائیة ودرامیة للتجربة الشعریة.
وهکذا یتراکم السقوط الحضاری؛ کی یدخل البحث مرحلة صعبة من مراحل التحدی، تحدی رسمیة القوانین التی استهلکت مبادئ المجتمع وجعلت إنسانه یعیش فی مساحة الفراغ القاتل بین تموز الذاهب وتموز الآتی، وهذا یشکل مصدراً قویاً ضد تیار البحث عن الخلود؛ لأنه لا یحتوی إلا على أشیائه التی أرهقها الصدأ، ووضعها خارج احتمالات الولادة والإبداع، إذ تبقى الذات الشاعرة فی حالة توقد واستثارة وتحدٍّ([11]):
آه عرینـــــی وعـــــــــریــهــــا
وســـــــرنــــا خطــــــــــــــوات
فلــــــــمـــــــاذا خــــذلتــنــــــا،
یــــــــــــــــــــــــا إلــــــــهــی،
الــــــــــــکـــــــــــــلمــــــــات
عندما معجزة القدیس لم تنفع
ولم تنقذ هوانا الصلــــــــوات
وستکون أی محاولة لإیجاد ملامح أو خصائص ممیزة ما هی إلا ضرب من ضروب المستحیل (آه عرینی وعریها)، ویستقر البحث مرة أخرى فی مستودع الفشل الذی لا تستجیب لإنقاذه حتى القوى الإلهیة (ولم تنقذ هوانا الصلوات)، فی إشارة إلى أن الحلّ هو على الأرض بقوة الذات الشعریة لا بقوة الاتکاء على الخارج مهما کان.
ویحقق البحث الدائب عن فکرة الخلود المطلقة لذة فریدة تولد من إشکالیة الصراع القائم بین مأساویة الفراق وفرح اللقاء، إذ یقول ([12]):
وهی فی المذبح بعد العاصفة
تتمرى فی عیونی خائفـــــــة
لم نقل شیئـــــــــــــــــــــــا ..
وسار النهر للبحر البعیـــــد
وافترقنا والتقینــــــــــــــا ..
وابتدأنا من جدیــــــــــــــد
إن البدایة هنا (وابتدأنا من جدید) هو انتهاک للحدود المستحیل وإفراز جدید للبحث المبدع الذی یخلق العناصر القیمیة والثوریة للخلود، إذ إن القضیة الأزمة حتى فی انحصارها بین الحدود الضیقة للموت (وهی فی المذبح بعد العاصفة) تتفجر منها منابع الحیاة (تتمرى فی عیونی خائفة)؛ لیتحقق به ذلک وجه من وجوه التوحد (لم نقل شیئاً) المهدد بالانفصال (وافترقنا)، والمحکوم بالوحدة الإنسانیة الدائمة (والتقینا)؛ لیصبح الخلود بالبحث والإبداع القوى الکبرى التی تستحق الموت الذی یلاحق البشریة ویهددها بالفناء الذی کان ولا یزال من أعقد مشکلات الوجود التی تعسرت إزاءها الحلول، فهی مشکلة الإنسان الأزلیة سواء على مستوى الأسطورة أم الحکایة أم الدراما، ماضیاً وحاضراً ومستقبلاً.
إن سیمفونیة الخلود (المعجزة) التی عزفها البیاتی بهذه الشاعریة وهذا العمق، واحدة من القصائد العربیة التی تحمل زحماً شعریاً وثقلا فکریاً وفلسفیا ممتازا، التی تمثل دورة النضج الشعری عند البیاتی، فهی حامل أصیل وحیوی للتجربة الإنسانیة منذ أقدم العصور، وقد تقمصتها الذات الشاعرة فی هذه القصیدة، وغذتها بطاقة معرفة ثریة تشتبک فیها القوة الأسطوریة مع القوة الصوفیة مع القوة الشعریة الذاتیة، على النحو الذی یکون بوسعها بلوغ مرتبة العلامة السیمیائیة المشبعة فی عتبة العنوان (المعجزة)، بکل ما تنطوی علیه من خزین دلالی هائل لا یمکن حصره بقیم دلالیة محددة.
المبحث الثانی: جدل الشکل والتجربة النصیة
للشکل علاقة وثیقة بالتجربة النصیة التی هی انعکاس للتجربة الشعریة، فالتجربة النصیة هی خلاصة التجربة الشعریة التی تبحث عن شکل مهیمن یلائمها فی شکل تختاره، ویستجیب لأفقها وفضائها بوصفها تجربة ذات عمق إنسانی تظهر ظهوراً جمالیاً فی قصیدة ذات شکل محدد من أشکال التعبیر الشعری المعروفة.
یمکننا النظر فی قصیدة "الدخان"([13]) للشاعر حسب الشیخ جعفر بوصفها قصیدة تقودها التجربة الشعریة إلى تجربة نصیة، وتقودها التجربة النصیة إلى شکل شعری ملائم لها ومستجیب لأفقها الشعری، وتخضع هذه القصیدة أساساً لحرکة الفعل وما یحمله من موروث معنوی مختزن مضافاً إلیه الأبعاد التأثیریة الجدیدة التی یتمخض عنها السیاق العام للقصیدة، فقد استطاعت الذات الشاعرة أن یستنفد کل الکوامن الإبداعیة فی الفعل، ویفجرها إلى الدرجة التی جعلته یتحرک على مساحة القصیدة بکل إمکانیاته وعطائه([14]).
ولم تکتف الذات الشاعرة بهذا، بل أسبغت علیه دلالات إبداعیة جدیدة جعلته یخترق دائرة تأثیره المحدودة ویتحرک خارجها؛ مما زاد من ألفة القصیدة ودسامتها، ولعل زمن کتابة القصیدة ومکانه، بما شکلاه من بعد عن مکانیة حدثها وتجربتها کان له الأثر الکبیر فی هذا التأجج والتماوج الذی تعیشه أفعالها، ولم یکن المکان بما یحتله فی الذهن من قابلیة على الحرکة أقل خطورة فی منح الصورة تواصلاً حرکیا متوافقا مع حرکة الأفعال، وطریقتها فی نسج الشکل الشعری المتوافق لطبیعة حراکها داخل أفق المکان.
أما من حیث الزمن، فقد بنیت القصیدة على على أکثر من مستوى، الأول الزمن الحاضر المستمد من لحظة إشعاع زمنیة قائمة مشحونة بحرارة الفعل واستمراریته ودفقه ومطاوعته لخط الحدث، فیرتفع تأثیریاً بارتفاعه وینخفض بانخفاضه، کما یرى محمد صابر عبید "وقد قسم على أربعة أقسام یفصل بینها المونولوج الداخلی المکرر الذی یجسد فی القصیدة المستوى الثانی المحلق فی أجواء الماضی، عبر السفر الداخلی من خلال خیوط الدخان الضبابیة الباعثة على التأمل والاستغراق فی عالم الماضی بلوعة وتحسر وحرقه"([15]).
وعلى الرغم مما عرف عن البحر السریع من سرعة متدفقة فی إیقاعه، إذ إن القالب الموسیقی للبحر الشعری بدلالاته المعنویة ذات الصلة؛ یؤدی دوراً کبیراً فی صیاغة شخصیة البحر الموسیقیة، ومنحه أبعادا تتناسب ومستوى الضغط النفسی والشعری، الذی تمارسه التجربة على القصیدة، وبهذا فقد شکلت العناصر الثلاثة للمونولوج الداخلی انعطافاً فی حرکة وزمن القصیدة، وکان المونولوج معبراً عن حیویة القصیدة وتجربتها فی النص والشکل بطریقة تتلاءم مع خصوصیة التعبیر الشعری المترکز فی بؤرة الموضوع، ویتضح هذا فی الآبیات الآتیة للشاعر جعفر قائلا([16]):
دخن ودخن، لیس غیر الدخان
وأسال بقایا الکأس فی کل حان
کف مضى الماضی وفات الأوان
إذ یأتی دائماً فی أعقاب اکتمال الصورة التی تجیء دائما بصریة مرئیة، فعلى حین ینطلق المونولوج الأول بعد بدایة بطیئة یتحقق فیها استقرار نمطی للحرکة وثبات لرتبتها على هذا النحو الذی یمثل علاقة الذات الشاعرة بالمکان([17]):
یمتصــــــــنــــــی الحـــــــــائط
رطوبة أقرا فیها وجهی القانط
لا تلبث أن تتحول هذه الحساسیة متسارعة من وجهها الآخر، ویکون التحول باستعمال ضمیر المخاطب "أنت"؛ لیتحقق الفصل فی مادة الحدث، وتتغیر سرعته على أساسها بأسلوب تصویری داخل فضاء الشکل الشعری([18]):
وأنت فی المــســــــرح،
فی الـــــمـــرقــــــــص،
فـــــــــــــی الشـــــارع
فی الباص فی المترو،
یلـــــــــــفّ الفــــراء
أکتافــــــــــک العاریة
فتأتی الحرکة متلونة ومستجیبة استجابة مطلقة للمکان، فهی موضوعیة هادئة منظمة ((فی المسرح))، وموضوعیة صاخبة یتداخل فیها المنطق باللامنطق ((فی المرقص))، ومنوعة غیر متجانسة السرعة والاتجاه ((فی الشارع))، ومنظمة متجانسة الاتجاه ((فی الباص))، ومتجانسة السرعة هائلة التعجیل ((فی المترو))، وهذا إن دلّ على شیء إنما یدل على وعی نمو الزمن، من طریق وحدة المکان التی تستنفد قابلیته المفردة على منح الموروث الدلالی الدفین فیها، وعلى الرغم من هذا النمو الحرکی فی الصورة، إلا أنها تنتهی نهایة مستقرة ثابتة، تقود إلى استقرار الشکل الحاوی للتجربة([19]):
رائحة الثلج الصغیر الناعم الأول
فــــــــی شعــــــــــرک المهمل ..
وکان هذا التحول الزمنی تحولاً خارجیاً صاحبه ثبات داخلی فی عناصر الصورة الرئیسة التی تمثل بؤرة الحراک الشعری المکانی والشکلی، ومما یلفت النظر أن الصفات المستعملة هنا ((الصغیر – الناعم – الأول)) تتجه نحو تضییق دلالة الموصوف وتحدیده، وهذا یتناسب مع سرعة المقطع السابق، إذ إن السرعة کلما زادت ضاقت المسافة، وهناک تناظر منتظم بین سرعة الزمن فی المکان، وبین تعاقب الصفات.
وفی حین تکون الحرکة فی القسم الأول منفردة أحادیة، تأتی فی القسم الثانی متحدة مزدوجة على هذا الشکل([20]):
یشــــــــحـــــــــــب فی المقهى نشیج الکمان
تــــــــــذوب فــــــــــــی أصابعی الجائعـــــــة
أکتـــــــــــافـــــــــک العـــــــــاریـــــــــــــــة..
نرقــــــــص تـــحــــــــــت الـــــــــثلـــــــــــج،
فــــــــــــــــــــــــــی الــــــــــــشـــــــــــارع ..
نرکــــــــــــض تحت الثلج فی الشـــــــــــارع
یضــــحـــــــــــک مـــــــــــــــنــــــــــــــــــــا،
مــــــــــــــــــثـــــــــلــــــــــــــــــــــنــــــــــــا،
عـــــــــــــــــــــــــــاشـــقــــــــــــــــــــــــــــان
نبحث عن تفاحة أو کسرة فی زحمة المائـدة
نبــــــحــــــــــث عـــن لفافـــــــــــــــة واحدة
عـــــــــن أی شیء نرتمــــــــــــی ضاحکین.
ینــــــــــــزلــــــــــــــق الـــــــــــــحریــــــــر،
یخبــــــــــــــــو فی العیـــــــــــــــــــون القمر
تفــــــتــــل الریح على السطح یضیء السحر
شباکنا المبتل شیء مثل طعم الثلج والبرتقال
طــــــــــــعــــــــم اللیالی الطــــــــــــــــــــوال
فـــی الشفة السفلى أو الشعر إذا ما انهمر ..
غطـــــــــى هضابا أو ذرى عالیـــــــــــــة ..
مهـــــجــــــــورة عــــــــــــالیـــــــــــــــــة ..
ویأتی اتحاد الحرکة بعد خلق حرکة جزئیة داخل الثبات العام للصورة ((یشحب فی المقهى نشیج الکمان))، وتأخذ الحرکة مدى فعلیاًیتناسب وطبیعة الاتحاد، فتجیء أولا موضوعیةلکنها متألقة ((ذوب فی أصابعی الجائعة .. أکتافک الرائعة))، ومتسقة عبثیة حرة ((نرقص تحت الثلج، فی الشارع))، ومتسقة حرة متواصلة ((نرکض تحت الثلج فی الشارع))، وتستمر الحرکات المتحدة تترى ((یضحک منا، نبحث، نرتمی، ضاحکین))، وکلها حرکات انسیابیة ممتلئة تهدف إلى صیاغة عالم خاص، یلغی الکثیر من مقررات وطقوس العالم الخارجی المعتمد على منطقة الأشیاء وعقلنتها؛ لتتمخض هذه الحرکات المتداخلة، النابعة من مصدر شعوری وعاطفی مشترک، إلى أربع حرکات متقابلة تکوّن معادلة حرکیة تکون منتظمة وتؤسس لشکل شعری یستجیب لطبیعة هذه المعادلة الشعریة فی واقعها النصی([21]):
ینزلــــق الحـریــــــــــر
تنفتل الریح یخبو القمر
یضـــــیء السحــــــــر
فالحرکة الأولى ((ینزلق الحریر)) هادئة مموسقة ترتبط فی الذهن بطقس ذی احتفالیة خاصة، وعلى الرغم من أن الحرکة تنازلیة غیر أنها انعکاس إیجابی، فی نتائجها فی حین یقابلها ((یخبو القمر)) حرکة تنازلیة ذات طابع مأساوی مثقل بالحزن، تأتی ((تنفتل الریح)) حرکة متصاعدة ذات فعل إیجابی، وکأن هناک توازنا حرکیاً متقاطعاً بین ((ینزلق الحریر – یضیء السحر)) وبین ((تنفتل الریح – یخبو القمر))، ثم یبعث الشاعر فی بعض صوره حرکة مفاجئة استثنائیة ((أو الشعر إذا ما انهمر)) .. ((غطى هضاباً أو ذرى عالیة)) فصوت الشعر وحرکته وامتداده شبهه بالمیاه التی تنهمر بکثافة وتواصل سریع ومنظم، بحرکة دینامیة وفعل متجاوز یحقق فی الصورة تعاطف الذات الشاعرة معه والإعجاب الکبیر به عبر منحه هذه الصفة التصاعدیة، التی یحول بها الجسد الإنسانی بکل روعته وأنوثته المتدفقة المشتهاة إلى طبیعة کاملة ((غطى هضاباً أو ذرى عالیة))؛ لتکتمل صورة الفعل ویفقد الحاضر جزءاً من مرونته، فیسمح لصوت الماضی بأن یصدح مرة أخرى بنشیج مضمخ بالحزن الشفاف المتهدج، وهو ما یسهم فی تشکیل بناء شعری یتفاعل فیه فضاء الذات الشاعرة فی تعبیرها عن التجربة طبیعة الشکل الشعری الملائم لها، لاسیما حین یتم تکرار اللازمة الشعریة الضاغطة على الشکل العام للقصیدة بطریقة عالیة الهیمنة([22]):
دخـــــــــــــــــن ودخـــــــــــــــــن،
لیـــــــــس غیر الــــدخــــــــــــان
وأسال بقایا الکأس فی کل خــان
کیف مضى الماضی وفات الأوان
وتبقى الحرکة فی القسم الثالث من القصیدة متحدة مزدوجة، تنمو فیها الحیوات الشعریة على صعید اللغة والصورة والإیقاع([23]):
وفـــــــــــــی کتــــــــاب واحد فی السریــــــــــــــر
تــــــــــــقــــــــــــرأ أو نسمــــــــــــع لحنا صغیرا
ونـــــــــشــــــــــــرب النـــــــــبـــــــــیـــــــــــــذ ..
فی المسرح نمضی هذه الأمسیة النــــــاعمــــــة؟
أو مرقص تلتهب السیقان فی أضوائه الغامضة ؟
أم أننــــــــــــــا نحتفــــــــــــــل، اللیلة فی الغرفة
مـــــــــــــــــائـــــــــــــدة صـــــغــــــــــــــــرى ..
وتــــــــــــــــــانغــــــــــــــو حنــــــــــــــــــون ..
وبـــــــــــــــــــاقـــــــــــة حمراء ملتفــــــــــــــة
أجـــــــــــــــــــــمــــــــــــــل مـــــــــــــــــــن ذا..
أیّ شــــــــــــــــــــــیء یــــــــــــکـــــــــــــــون
وانفلـــــــــــتـــــــــــــت أقدامک الحافیــــــــــــة
تــــغــــزل ثــــــــوب الــــرقصــــــــــــة العاریة
تبدو الحرکة موضعیة مستقرة من حیث الشکل العام والخیارات المتعددة، التی تتلون بتلون الاختیار وتتشکل حرکتها انطلاقاً من طبیعته، وهی تتحول مرة إلى حرکة محسوبة مقررة ((فی المسرح نمضی هذه الأمسیة الناعمة؟ ثم إلى حرکة عنیفة باعثة على الاشتهاء والتأجج))، أو ((مرقص تلتهب السیقان فی أضوائه الغائمة؟))، أو حرکة تتناسب تماما مع موضوعیة واستقرار حرکة الشکل العام القائم ((أم إننا نحتفل اللیلة، فی الغرفة))، الذی ینتصر فی النهایة لتنبعث فی أجوائه حرکة جدیدة، تختصر کل أشکال الحرکات السابقة المفترضة، لا بل تلغیها لأنها تکاد تجمعها وتختزلها ((مائدة صغرى + تانغو حنون + باقة حمراء ملتفة))، لیکون هذا القرار نقطة انطلاق لحرکة جدیدة یسهم فیها فعلان یتمتع الأول (( انفلتت- أقدامک الحافیة)) بإیقاع راقص ذی تعجیل قویم فی دوره فی تشکیل الصورة، ویتمتع الثانی ((تغزل – ثوب الرقصة العاریة)) بتألق الحرکة وانضباطها.
تأتی الصورة هنا مبنیة بناء حرکیا محکما، إذ إن الإیقاع الذی توقعه أقدامک الحافیة فی حیز المکان یمنحها دفقا حرکیا أکبر الفعل ((انفلتت))، الذی یقوم ببناء الصورة من الأساسیة العتبة تغزل؛ أی أن الحرکة هنا هندسیة بنائیة منظمة، فالفعل ((تغزل)) ذو صفة تأثیریة غایة فی الدقة والانضباط، یباشر فی استکمال العناصر الأساسیة للوحة؛ فتبلغ بذلک أقصر مراحل عنفوانها وألقها؛ لیتسرب شیء من حرارتها إلى المنولوج الداخلی([24]) الذی أعقبها، فیأتی أکثر مرونة وقابلیة على التنغیم من ذی قبل بتکرار اللازمة([25]):
دخّــــــــــــــــــــنْ ودخّـــــــــــــنْ،
لیـــــــــس غیر الدخــــــــــــــان
واسأل بقایا الکأس فی کل حــان
کیف مضى الماضی وفات الأوان
وبهذا یقوم المونولوج بامتصاص کامل الفعالیة الحرکیة للفعل الشعری؛ لتنتهی القصیدة بحرکة غایة فی البطء والتعقید والاستلاب؛ وکأنها أکملت دورتها وابتدأت من جدید، وکأن تجربة الذات الشاعرة قد امتزجت بالتجربة النصیة فی إطار شکلی محدد([26]):
یمتصنــــی الإسـفـــــــلــــــــت
طیــــــــــرا أضـــــاع الصوت،
تمتصنــــــــی الـــــبــــــــارات
وجــــــــــــــه نبـــــی مـــــات
ویمثل هذا بالنسبة للقصیدة النهایات الضائعة المتلاشیة، التی یلتهم فیها سعة الجو وانفتاحه ببقایا الخیوط الدقیقة للدخان المتصاعد من واقع القصیدة ومکانیتها، فهو کلما تصاعد أکثر، ضاع أکثر حتى یصل إلى مرحلة معینة هی أعلى قمة یمکن الوصول إلیها والتلاشی فیها، غیر أن الشاعر لا یعطی لهذه الحالة صفة العمومیة المحض، إذ إن خیوط الدخان المتلاشیة ستبقى تشکل شیئاً ما فی جسد الکون من طریق المعادلة المطروحة ((طیرا أضاع الصوت - وجه نبی مات)) فالطیر - النبی یؤلف أرضیة تلغی عنصر العدم، فحین یضیع الزمن فی الصورة الأولى ((طیرا أضاع الصوت)) یبقى المکان، وحین یضیع المکان فی الصورة الثانیة ((وجه نبی مات)) یبقى الزمن.
إن استعمال الفعل ((یمتصنی)) بفعل ارتباطه الوثیق بالدخان، أحدث کثافة کبیرة فی خاتمة القصیدة، صورت الحیاة بأنها فی أجمل صورها وأحوالها، لا تکون سوى دخان یتصاعد عالیا ثم یتلاشى([27])، وفی هذه الحالة تکون نهایة مؤلمة، ولعل التناغم الصوتی الموجود بین ((ص – س – ص – ص)) فی هذا المقطع، فیما یحدثه من أصوات أقرب إلى الصفیر تضیف شیئاً جدیداً إلى البناء المأساوی للصورة.
ولم یکن استعمال ((البحر السریع)) فی القصیدة محض مصادفة موسیقیة عابرة، بل کان هناک تزاوج کبیر بین الحرکات الشعریة، التی تمخضت عن تجربة القصیدة وبین الإیقاعات المتنوعة لهذا البحر، وکان الخروج عن النظام السیمتری لتفعیلات البحر ((مستفعلن- مستفعلن- فاعلن)) له ما یبرره فنیاً.
ولم یکتف الشاعر باستعمال جمیع الزحافات المسموح بها حسب، بل تجاوزها إلى ما یخدم معنى الجملة الشعریة ومستوى انسیاب الحرکة فیها، فمن الأبیات ما یبدأ بتفعیلة واحدة ((مستفعلن)) وأخرى ((فاعلن))، ومنها ما یأخذ تفعیلتین ((مستفعلن)) وینتهی بـ ((فاعلن)) أو ثلاث تفعیلات ((مستفعلن))، وأخرى ((فاعلن))، مع أن ((مستفعلن)) تأتی ((مستفعلن)) وأحیانا ((متفعلن)) کما أن (( فاعلن)) تأتی ((فعلن)) و(( فعلن)) وطول البیت وقصره، إنما یتناسب مع طبیعة الدفقة الشعوریة المرتبطة ارتباطا وثیقا بالمعنى، من حیث طبیعة الدلالة وقوة الزمن الفاعل فیه.
وعلى الرغم من أن هذا لا یعد خروجاً تفصیلیاً على البحر أو تطویراً له، غیر أنه مع ذلک یشکل خطوة إیجابیة فی سبیل تطویر الإیقاعات الموسیقیة داخل البحر وتنویع تنغیماتها، وعلى الرغم من أن البحر السریع یمتاز بسرعة إیقاعه، إلا أن إیقاعه فی القصیدة کان خاضعاً لسیطرة المعنى وظلاله، فکلما طال البیت الشعری اتسع إیقاعه وتسارع وکلما قصر باتت الحرکة فیه أقل سرعة ودفقاً ومرونة.
وکان تعدد القوافی وتنوعها یتناسب مع تعدد الحرکات وتنوعها، فمرة تأتی ساکنة یفرض علیها حرف الطاء المستعلی ثقلاً وسکونیة کبیرة حائط - قانط، ومرة تأتی هادئة ممسوقة ((الأول – المهمل)) وفی المونولوج الداخلی تأتی بنهایات مفتوحة ممدودة ((الخان – حان – الأوان))، وتتوزع على مساحة القصیدة توزعاً کاملاً، فمنها ما ینتهی ضعیفاً متهالکاً ثقیلاً ((الإسفلت – الصوت – البارات – مات))، ومنها ما ینتهی متوازناً فی هدوئه وامتداده الموسیقی ((حنون- یکون- السریر- صغیر))، ومنها ما ینتهی على شکل ومضة موسیقیة موقعة توقیعاً بطیئاً نوعاً ما ((الجائعة – الرائعة – المائدة – واحدة – عالیة – عاریة – الناعمة – الحافیة – العاریة –الغائمة))، ومنها ما یکون بتوقیعه الموسیقی أسرع حرکة ((القمر – السحر)) بحیث یشکل تنوّع الحرکات تنوعاً إیقاعیاً أضفى على القصیدة دینامیة أکبر.
المبحث الثالث: جدل الشکل والتجربة الوجودیة
التجربة الوجودیة فی الشعر الحدیث تجربة أصیلة منذ أن أسهمت الوجودیة فی تغییر وجهة نظر الإنسان نحو الکثیر من المفاهیم، وفی مقدمتها الحریة، وهو ما عزز قیمة التوجّه نحو الفنون کلها، وقد حمل الشعر على نحو مخصوص التجربة الوجودیة بأشکالها المختلفة؛ کی تجیب على سؤال الحریة من طریق الشکل الشعری المعبر عن طبیعة التجربة، فی سیاق تعبیری سیمیائی یعطی الشعر قیمة تأثیره على هذا المستوى.
للشاعر محمود درویش قدرة کبیرة على منح اللغة الشعریة استعداداً فائقاً للانشطار والتحریض والتحدی، فهو یستقطبک فجأة ویلقی بک دون قرار فی مطحنته الشعریة، ویسد علیک منافذ الاتصال الخارجی، لیمنحک هواء جدیداً یعوضک عن أوکسجین الطبیعة عبر شکل شعری لافت ومغرٍ وحقیقی، وقصیدة (أحمد الزعتر)([28]) بتنامیها الدرامی تحقق جزءاً کبیراً من خاصیة درویش هذه، فتعطیک نفسها مرة وتمنعها مرة أخرى بهدف التأثیر فی عامک الداخلی لتقودک بعد ذلک إلى منابعها السریة، وهی عبر تجلیات أحمد الزعتر تفرز صراعاً أزلیاً قائماً عبر العصور بین الولادة والعدم، وقد استطاع الشاعر أن ینتقل بقیة أحمد الزعتر من الخاص إلى العام ولم یجعلها قضیة الإنسانیة جمعاء.
یقف أحمد الزعتر عبر تجلیاته المستمرة المنوعة فی مفترقات طرق عدیدة تأخذ هی الأخرى أشکالاً مختلفة باختلاف الحالة من حیث حیویتها ودرجة خصوصیتها، لکن الهمّ الأول یبقى محاولة اکتشاف الولادة الحقیقیة التی ترسم صورة المستقبل بکل دقة ووضوح، کما صورتها القصیدة على نحو تمثیلی عالٍ([29]):
کـــــــــــان اکتشاف الذات فی العربـات
أو فـــــــــــی المشهـــــد البحــــــــری
فــــــــــــــــی لیل الزنارین الشقیقــــة
فــــــــــــی العلاقــــــــات السریعــــــة
والســــــؤال عــــن الحقیقــــــــــــــــة
فی کل شیء کان أحمد یلتقی بنقیضـه
عشــــــــریــــــــــن عاما کان یســــأل
عشــــــریـــــن عاما کان یرحـــــــــــل
عشرین عاما لم تلده أمه إلا دقائق فی
إنـــــــــــــــــــــاء الــــمـــــــــــــــــــوز
وانـــــــــــســـــــــــــحـــــــــــبـــــــــت
یرید هویة فیصاب بـــــــــالبرکــــــان
فیأتی تلمس الخطوط الأولى لذلک (کان اکتشاف الذات) فی مجموعة من المظاهر التی تجسد إلى حد کبیر أرضیة المحیط النفسی والموضوعی، الذی یتحرک من طریقه البطل المستلب، فاکتشافه للنقطة المرکزیة التی تهیئ له فرصة تحدید الطریق یأتی عبر سلسلة من النماذج النقیضة التی یحاول أن یستل منها خیوط الولادة، وهی تحتل حیزاً کبیراً من مساحة الفعل السیاسی والاجتماعی له (العربات + المشهد البحری + لیل الزنارین الشقیقة + العلاقات السریعة + السؤال عن الحقیقة)، إذ تمثل مفردات تلخص العالم المشکل الذی یتحرک البطل فی إطاره (الرتابة والضیاع + الشعور بالأمل البعید الذی یوفر إحساسا عمیقا بقرب تلاشیه + القهر والاضطهاد + انعدام القیم عبر سیطرة العرف الآلی + البحث الدائم عن الذات)، إذ تتمظهر المقولة الوجودیة فی سیاقها الفکری والثقافی.
وعلى الرغم من اتساع رقعة الزمن (عشرین عاما کان یسأل) إلا أن الولادة کانت نیة سریعة (لم تلده أمه إلا دقائق … فی إناء الموز)، الذی یجسد هنا رمزاً للحیاة اللحظویة التی لا تلبث أن تتعفن وتنعدم وتبقى الازمة قائمة فی البحث عن ولادة حقیقیة غیر مزیفة، تکون من أولى شروطها الدیمومة والاستقرار (یرید هویة)، إلا أن العدم الذی یحمل قدرة فریدة على الاستجابة السریعة لقتل الحیاة یلغی الأمل ویسحقه (فیصاب بالبرکان)، وتأخذ عملیة الصراع بین الولادة والعدم مدى أوسع، ولاسیما حین یحضر دال (الهویة) بما ینطوی علیه من حساسیة کبیرة تتعلق بمنطق الحریة وعلاقته بالوجود([30]):
ومـــــــن المحیط إلى الخلیــــــــــج،
مــــــن الخلیج إلـــــــــى المحیـــــط
کـــــــــانوا یعدون الرمـــــــــــــــاح
وأحمد العربی یصعد کی یرى حیفـا
ویـــــــــــقــــــــــــــــفـــــــــــــــــــز
أحـــــــــــمــــــــــد الآن الرهینـــــة
ترکـــــــــــت شوارعهــــــا المدینـة
وأتـــــــــــــــــــت إلیـــــــــــــــــــــه
لتــــــــــــــقـــــــتـــــــــلــــــــــــــــه
ویتوفر الوقت الکافی لإعداد المستلزمات الرئیسة التی یمکن بواسطتها إجهاض هذا الحلم المستمر بالولادة (کانوا یعدون الرماح)، بینما یستمر البطل فی الجانب الآخر من مساحة الفعل والتحرک بمحاولاته التی لا تعرف الیأس من أجل الوصول (یصعد کی یرى حیفا .. ویقفز)، إلا أن هذه المحاولة التی کان یعتقد أنها مجدیة، ما هی فی الحقیقة إلا حملاً کاذباً؛ لأن قوى العدم تسللت إلى الداخل ومنعت التلاقح والإخصاب فسقطت المحاولة (أحمد الآن الرهینة)، وسقوطه هذا بعث جدید فی المظاهر الثانویة للعدم، حیاة جدیدة لتعمل على الإسهام فی توسیع قاعدة التخریب المبدئی وتدویلها (ترکت شوارعها المدینة.. وأتت إلیه لتقتله)، إذن لیس هناک من سبیل لها غیر القتل الذی یتناسب وخصوصیات تکوینها العرفی والنفسی، إلا أن کل المحاولات العدمیة إزاء إصرار أحمد وتحدیه لا یکتب لها النجاح؛ لأن أحمد الزعتر الرمز الشعری الفاعل هو الذی یبنی الشکل الشعری المستجیب للتجربة الوجودیة التی یحملها فی حلم هویته، مهما طال زمن اغتصابها([31]):
أنا أحمد العربی – فلیأت الحصــــــار
جسدی هو الأسوار – فلیأت الحصار
وأنا حدود النار – فلیأت الحصــــــار
وأنـــــــــــــــا أحــــــــاصـــــــــــــرکم
أحــــــــــــــــــــاصــــــــــــــــرکـــــــم
وصــــــــــــدری بـــــــــاب کل الناس
لأن ثمة قوة متجددة هائلة تسکن وتعمل على شحنه باستمرار بطاقات لا حدود لها، تساعده فی إیقاظ روح البحث والنضال وتوفر له مرتکزات جدیدة للتحدی (أنا أحمد العربی – فلیأت الحصار)، ویضاف إلى القوة هنا عنصر جدید هو الوعی (جسدی هو الأسوار – أنا حدود النار) وتکون النتیجة إزاء هذا الموقف طبیعیة (أنا أحاصرکم)؛ لتغییر موازین القوى هنا، وتنسحب إلى جانبه عبر توکید الموقف وتعزیزه (أحاصرکم)؛ لیحول القضیة بعد ذلک إلى عمومیتها المطلوبة، التی تمثل بحد ذاتها هدفا أکبر (وصدری باب کل الناس فلیأت الحصار) لیسجل هنا حضورا مؤثراً وقویاً بوعی وإدراک متصاعدین، ویتحول هذا الحضور إلى إصرار على استکمال الدائرة الحلمیة وهی تعمل فی ظلّ هیمنة الحال الشعریة الطالعة من رحم التجربة، والذاهبة إلى تشکیل فضائها الشعری؛ انطلاقاً من طبیعة التجربة وعنفها وسخونتها، بحیث یستجیب الشکل الشعری بقوة لضخامة التجربة وخصبها، کما فی قول الشاعر([32]):
صاعداً نحو التئام الحــــــــلـــــــــــم
تتخذ التفاصیل الردیئة شکل کمثرى
وتنفصـــــل البلاد عن المکـــــــاتب
والخیـــــــول عن الحقــــــــــــــائب
فقد تعرضت الدائرة هنا لشروخ کثیرة ((صاعداً نحو التئام الجرح))، والحلم هنا یمثل الوجه الآخر للولادة، إذ تدخل فی مختبر الحلم أولا ثم تبدأ بعد ذلک بالإشراق منه، ثم الولادة التی تکتسب بهذه الطریقة شرعیة البقاء؛ لکن مظاهر العدم تبقى متحرکة فیها عبر أشکال متعددة ومتنوعة (تتخذ التفاصیل الردیئة شکل کمثرى)، ویفشل هذا الشکل المزیف فی التعبیر عن حالة مخالفة لحقیقة الوجود.
ولهذا السبب تبدأ الأشیاء تأخذ أشکالها الطبیعیة المألوفة وتنفصل التشابکات والتداخلات من أجل وضوح القیم وصفاء المبادئ، التی من شأنها أن تولد باستمرار (تنفصل البلاد عن المکاتب والخیول عن الحقائب) فتأخذ (البلاد + الخیول) قطبا موجبا فیما تتمرکز (المکاتب + الحقائب) حول القطب السالب.
ویسیطر هاجس الولادة فی زحمة من الناقضات والتنافرات؛ لیخلق فی المناخ الذهنی الثائر وضعا نفسیا جدیدا، یعید إنتاج الرؤیة الشعریة فی سیاق شکل نموذجی یحمل هذه الرؤیة ویقدّمها ثروة لغویة وصوریة بین یدی التجربة:
وصـــــــــاعـــــــــداً نحو التئام الحلـــم
تنکمش المقاعد تحت أشجاری وظلک
یختفی المتسلقــــــــــون على جراحک
کـــــــالذباب الـموســــــــــــمــــــــــی
ویختفــی المتفرجون على جراحــــک
فــــــــــــــاذکرینی قبل أن أنسى یدی!
یتناسب هذا وحالة الحلم القائمة التی تبعث على التجدد والحرکة، ویتمثل فی أحداث تخلخل فی بنیة السیاق المطروح (تنکمش المقاعد + یختفی + المتسلقون + یختفی المتفرجون)، وبهذا تتحول مظاهر الولادة هنا إلى إدانة واضحة لأشکال العدم التی تمثل ثلاثة من الاتجاهات المضادة للولادة الجدیدة (المقاعد – المتسلقون – المتفرجون)؛ لهذا یستدعی الشاعر قضیته کیما یستطیع الاستمرار فی منح هذه الحالة بعدا زمنیا أکبر لیستوطن فی الذهن بشکل یقتل فیه المشاعر العدمیة، التی یخشى الشاعر من سیطرتها وإجهاضها لحلم الولادة (فاذکرینی قبل أن أنسى یدی)، وتأخذ الولادة شکل التفجیر البرکانی الذی لا یلبث أن یلتئم لیکون کتله قویة متماسکة تتحد فیها الخصائص وتنضج فیها القوى الکامنة؛ لتبلغ أعلى مراحل الفعل والتأثیر فی تمثیل عالٍ لحرکیة الشکل الشعری المتناسب مع حیویة التجربة([33]):
واصعـــــــــــد من جفاف الخبـــز
والـــــــــمـــــــــــاء المصــــــادر
من حصان ضاع فی درب المطار
ومـــن هواء البحر اصــعـــــــــد
من شظایا أدمنت جــســــــــــدی
واصعــــد من عیون القادمیــــن
إلى غروب الســـــــــهـــــــــــل
اصعد من صنــادیق الخضــــــار
وقــــوة الأشیــــــــاء اصعــــــد
انتمی لسمائی الأولى وللفقــراء
فـــــــــی کـــــــــــل الأزقـــــــــة
یـــــــــــــنــــــــــــشــــــــــــدون
صـــــــــــامــــــــــــــــــــــــدون
صــــــــــامــــــــــــــــــــــــدون
صـــــــــــــــــامــــــــــــــــــدون
تکون الولادة هنا قصدیة تفرضها طبیعة المداخلة الإنسانیة التی ترتبط بها وتحدد أرضیتها وتوحی بمغزاها ودلالاتها وتقاطع نتائجها، فعبر صیغ الحرمان الإجباری والاضطهاد المستدیم وحالة التیه والضیاع التی ترسم صورة مجسمة للانغلاق والتحدد، ومن طریق استنشاق ذرات الحیاة البحریة لحظویة مسروقة من مناخ الاستعباد وشکل جدید من أشکال الموت الألیف، الذی یستل الحیاة بطریقة تبدو أقرب إلى المداعبة والصفاء وبدائیة الأمل الذی یشرق فی الوجوه ویومیة الأشیاء، التی لا تثیر إلا النوازع الأکثر عادیة وسذاجة ومولدات الحرکة والتفاعل والخلق (جفاف الخبز + الماء + المصادر+ حصان ضاع فی درب المطار + هواء البحر + شظایا أدمنت جسدی + عیون القادمین إلى غروب السهل + صنادیق الخضار + قوة الأشیاء)، یتحقق الانتماء الکلی للأرض المتوطنة فی الذهن والإحساس والإدراک والتصور (انتمی لسمائی الأولى)، وللرصید الأزلی الذی لا ینضب، الذی لا تتحقق المعجزات إلا منه (وللفقراء فی کل الأزقة)، بهذه البانوراما الشعریة الواسعة التی تجعل من الشکل الشعری الحاوی للتجربة شکلا ًملحمیاً یتناسب وطبیعة الموضوع الشعری، الذی هو موضوع مصیر وهویة ودفاع عن وجود الکلمة والرؤیة والصورة والذاکرة والحلم.
إن أسلوب الرفض الکلی عنده یعنی انتصاراً للولادة ضد العدم، فعلى الرغم من قسوة التجربة وعنفها وضراوتها، إلا أن الأمل الذی یحرّک التجربة النابع من طاقة الرفض الهائلة، تتقدم فی الصورة والتشکیل والرؤیة بوصفها مخلّصاً ومنقذاً ومحققاً للهدف، کقوله([34]):
یا أیها الجسد المضرج بالسفـــــوح
وبــــــــــــــالشمـــــــــــوس المقبلة
وتـــــــــقــــــــــــــــــــــــــــــول: لا
یا أیها الجسد الذی یتزوج الأمواج
فـــــــــــــــــــوق الــــمقصلـــــــــة
وتـــــــــــــــقـــــــــــــــــــــــول: لا
وتـــــــــــــــــــــــــقـــــــــــــول: لا
وتـــــــــــــــــقـــــــــــــــــــــول: لا
فهو یستدعی الأمل الذی تنتشر على خارطته الولادة الکلیة المنتظرة یا أیها الجسد المضرج بالسفوح وبالشموس المقبلة، ویسجل فی الوقت نفسه أول خطوة من خطوات الرفض (وتقول: لا) لیمنح نفسه قابلیة کبیرة على مضاجعة الحرکة والفعل (یا أیها الجسد الذی یتزوج الأمواج) فی أقصى مراحل افتقاد الحرکة وإجهاض تطلعاتها (فوق المقصلة)؛ لیأتی الرفض مرة أخرى مؤکدا سریعا متعاقبا عبر تراکم القوى المستمدة من خطورة ودقة الموقف العام للصراع (وتقول: لا.. وتقول: لا.. وتقول: لا)؛ کی تأخذ المناجاة هنا صورة النبوءة التی تحقق عبر إدراک کلی لإرهاصات الولادة التاریخیة القادمة.
إن الشاعر لا یطرح (أحمد الزعتر) نموذجا استثنائیا متفردا یتحرک وفق قدرات غیبیة یوتوبیة، بل ینتزعه من الواقع انتزاعا عینیا یمثل المجموع، أو أن یکون الکل ممثلاً بهذا الجزء المنتزع من عمق مأساة شعب ونضال أمة، إذ یتضح ذلک فی([35]):
یــــــــــــــــــا أحـــــــــــــــمــــــــــد الیومــی
یا اسم الباحثین عن الندى وبساطة الأسماء
یـــــــــــــــــــــــا اســـــــــــم البرتقالــــــــة
یـــــــــــــــــــــــا أحمـــــد العــــــــــــــادی!
یـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أحمـــــــــــــــــد
کیــــــــــف محـــــــوت هذا الفارق اللفظی
بیــــــــــــن الصخـــــــــــر والتفــــــــــاح
بیــــــــــــن البندقیــــــــــــــــــــة والغزالة
لذلک تراه بسیطاً عادیاً مألوفاً یترکب بناؤه من عناصر الحریة والرهافة المأنوسة (یا اسم الباحثین عن الندى)، ومن البراءة والإیجابیة الدائمة (بساطة الأشیاء)، ومن انعکاسات رمز الأرض الحیة المعطاء (یا اسم البرتقالة)، ومن مفردات هذا التکون بتکاملها واتحاد قابلیتها تتبلور طاقاته الفذة لتتحول عادیته ویومیته إلى تفرد واستثناء، یتجاوز من طریقها الحدود القصوى للتجاوز والخلق، ویصل إلى الحد الذی یستطیع منه إیجاد أواصر ترابط بین الولادة والعدم، عبر إلغاء دلالاتها المعروفة وإرساء دعائم قیم جدیدة تتحرکان منها؛ لیمنح قضیته بعدا أعمق وحرکة أدق (کیف محوت هذا الفرق اللفظی بین الصخر والتفاح)، ویمزج کذلک بین الموت المنتظر القائم وأقصى حدود الحیاة (بین البندقیة والغزالة)، وبهذا استطاع الشاعر أن یصل بأحمد الزعتر إلى مستوى القضیة أو یجعله الوجه الآخر لها، فی صیاغة شعریة تستجیب لمنطق التجربة على نحو أصیل ومثمر.
وتأتی الدعوة للإثبات فی تکریس حالة الولادة وترسیخ تقالیدها منسجمة مع مراحل البناء الدرامی لشخصیة أحمد الزعتر، فالنص الشعری هو نص درامی ملحمی سردی فی آن واحد، یفید من کل طاقات الشعر لیصل بالتجربة الشعریة إلى أقصى حالة ممکنة تعبر عن المصیر والهویة والحلم العربی المشترک([36]):
یــــــــــــــــــا أحمـــــــــــد العربــــــــی..
قــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاوم!
لا وقــــــــــــت للمنفــــــــــى وأغنیتی..
سنـــــــذهب فــــــی الحصــــــــــــــــار
حتى رصیـــــــــــف الخـــبز والأمـواج
تلک مساحتی ومساحة الوطن الملازم
مــــــــــــــوت أمــــــــــــام الحلـــــــــم
أو حــــــلـــــــــــــم یموت على الشعار
فهی تجیء فی مرحلة متقدمة من مراحل تبلورها وتوافقها القومی (یا أحمد العربی.. قاوم!)؛ لیعزز هذا الموقف نفی الموت العدمی الذی یقتل الفعل والإبداع لا وقت للمنفى؛ لأنه یتناسب وحراجة الموقف الإنسانی الذی سقط فی دائرته، الذی یفرض علیه نوعاً من التفجیر، الذی یهشم حدود الدائرة ویکتشف خارجها ینابیع الحیاة المنتشرة (سنذهب فی الحصار حتى رصیف الخبز والأمواج)؛ لأن حالة توحد الذات بالموضوع وقد تحققت تلک مساحتی ومساحة الوطن الملازم). وإزاءها ستکون مسألة التخلی أو الهروب مستحیلة، إذ یوضع أمام خیارین لا ثالث لهما، فإما الدفاع المستمیت عن المستقبل عبر الذوبان والامتزاج التام فی القضیة والانتشار الکامل على مساحة الحلم (موت أمام الحلم)، أو تترک الذات نهبا لتهشم الحلم وانکساره أو (حلم یموت على الشعار)([37]).
ویتصرف الصراع أخیراً فی قنوات منتظمة منه الوصول إلى ذات القضیة المجردة من کل الزوائد والاستطالات التی تمحورت حولها، وتشبثت بها، وأعطتها شکلاً آخر غیر شکلها الحقیقی المعروف([38]):
یــــــــــــا أیهـــــــــــــا المتفرجون!
تنـــــــــاثـــــروا فی الـــصمــــــــت
وابتعدوا قلیلا عنه کی یتلو وصیته
علــــــــــى المـــــــــــوتى إذا ماتوا
وکـــــــــــی یرمـــــــــــــی ملامحه
علـــــــــى الأحیـــــــــاء إن عاشوا
لذلک یخاطب الشاعر الأجساد الغریبة بهذه السخریة والمرارة (یا أیها المتفرجون)([39])، یستدعیهم للانفلات من أمام البریق؛ لکی تأخذ الولادة أبعادها الواسعة وأشکالها الملونة (تناثروا فی الصمت)، ویحقق الانفصال وضوحاً کاملاً یمنع تداخل الخنادق (وابتعدوا قلیلاً عنه)؛ لیمنح العدم شکلاً آخر من أشکال الولادة الدائمة (کی یتلو وصیته... على الموتى إذا ماتوا)، ویمنح الحیاة فی الوقت ذاته قوة إضافیة تمنع عنها مصادر الموت وتسد علیها منافذ التحرک والتسرب عبر المسامات العدمیة نحو إجهاض حلم الولادة، فیحسم الصراع لصالح الولادة التی تنتشر خیوطها على مساحة تأریخ ومستقبل العقل والفعل العربی، عبر هذا المناخ البکائی الألیم على الذی یسیطر على عالم القصیدة، ویمنحها ملمساً شوکیاً محفزاً لا یدعونا للبکاء بل یقلقنا وینسف فی دواخلنا کل الأشیاء.
إن قصیدة (أحمد الزعتر) قصیدة خالدة لیس على صعید موضوعها الشعری والحیوی المرتبط بالمصیر والهویة والأمة فحسب، بل على صعید التجربة الشعریة التی شکلت فضاءً شعریاً عالی المستوى، کان فیه الشکل الشعری مناسباً للقضیة الشعریة، وتألقت الذات الشاعرة وهی تعبر عن تجربتها الشخصیة النابعة من شخصیة المجموع، فلم تکن الذات الشاعرة هنا ذاتاً فردیة، بل هی ذات جمعیة تاریخیة وثقافیة وذاکراتیة وحلمیة؛ سعت لتحوّل الموضوع الشعری إلى مناخ ملائم لتجلیات کبرى یتألق فیها الفضاء الشعری العام، وهو یستجیب بقوة وفن وجمال لحقیقة التجربة وثرائها وخصوبتها.
الهوامش والإحالات
([1]) البیاتی، عبد الوهاب، دیوان عبد الوهاب البیاتی، الأعمال الشعریة الکاملة، المجلد الثانی، طبعة منقحة ومزیدة، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، 1995، ص200 - 202.
([2]) السابق نفسه، ص200.
([3]) ینظر: حداثة القصیدة فی شعر البیاتی، إلیاس مستاری، رسالة دکتوراة، تحت إشراف الأستاذ الدکتور بشیر تاوریریت، جامعة الحاج لخضر، باتنة، الجزائر، 2014، ص116.
([4]) البیاتی، عبد الوهاب، دیوان عبد الوهاب البیاتی، ص200.
(4) السابق نفسه، ص200.
([6]) السابق نفسه، ص200 ص201.
([7]) السابق نفسه، 201.
([8]) السابق نفسه، 201.
([9]) ینظر: قراءات فی الأدب والنقد، دراسة، الدکتور شجاع مسلم العانی، منشورات اتحاد الکتاب العرب، دمشق، 1999، ص23.
([10]) البیاتی، عبد الوهاب، دیوان عبد الوهاب البیاتی، ص.
([11]) السابق نفسه، ص202.
([12]) السابق نفسه، ص202.
([13]) جعفر، حسب الشیخ، الأعمال الشعریة، دار الحریة، 1985، ص216، وینظر: حسب الشیخ جعفر، (الطائر الخشبی) منشورات وزارة الإعلام -الجمهوریة العراقیة، 1972، سلسلـــة دیوان الشعر الحدیث، 18 قصیدة مرثیة کتبت فی مقهى، ص10 وما بعدها.
([14]) جعفر، حسب الشیخ، الأعمال الشعریة، دار الحریة، 1985، ص216.
([15]) محمد صابر عبیدک (مرونة الحرکة الشعریة فی قصیدة الدخان) جریدة الثورة، بغداد 20/5/1985.
([16]) جعفر، حسب الشیخ، الأعمال الشعریة، دار الحریة، 1985، ص216.
(13) جعفر، حسب الشیخ، الأعمال الشعریة، قصیدة الدخان، ص216.
(14) ینظر: حسب الشیخ جعفر، رثاء الروح، حاتم الصکر، مجلة الفیصل، العددان 497-498، جمادی الآخرة – رجب 1439هـ، مارس-ابریل 2018م، ص66 ومابعدها.
([19]) جعفر، حسب الشیخ، الأعمال الشعریة، قصیدة الدخان، ص217.
([20]) نفسه، ص217.
([21]) نفسه، 217.
([22]) نفسه، 217.
([23])نفسه، 218.
([24]) ینظر: أیون أیدل، القصة الیکولوجیة، تر: محمود السحرة، المکتبة الأهلیة، بیروت، 1959، ص121 ص122.
([25]) جعفر، حسب الشیخ، الأعمال الشعریة، دار الحریة، 1985، ص217.
([26]) نفسه، ص217.
([27]) ینظر: محمد صابر عبید: (مرونة الحرکة الشعریة فی قصیدة الدخان) جریدة الثورة، بغداد 15/6/1986.
([28]) درویش، محمود، دیوان محمود درویش، دار الحریة للطباعة والنشر، بغداد، ط2، 2000، ص304 - 312، وینظر: قصیدة أحمد الزعتر للشاعر محمود درویش: دراسة تداولیة، هادی سدخ زغیر، مجلة الأستاذ للعلوم الإنسانیة والاجتماعیة، جامعة بغداد - کلیة التربیة ابن رشد، العدد 221، 2017، ص13 - 60.
([29]) درویش، محمود، دیوان محمود درویش، ص304.
([30]) نفسه، ص305، وینظر: مقولات الحریة وحرکیة الإبداع، الدکتور محمد السرغینی، کتاب الحریة والإبداع، واقع وطموح، تحریر عز الدین المناصرة وآخرون، جامعة فیلادلفیا، مطابع الخط، عمان، الأردن، 2002، ص46، وینظر: المصدر نفسه دراسة الدکتور محمد الباردی، ص312.
([31]) نفسه، ص306.
([32]) نفسه، ص307.
([33]) نفسه، ص309.
([34]) نفسه، ص311.
([35]) جعفر، حسب الشیخ، الأعمال الشعریة، دار الحریة، 1985، ص219، وینظر: الرموز التاریخیة والدینیة والأسطوریة فی شعر محمود درویش، د. محمد فؤاد السلطان، مجلة جامعة الأقصى (سلسلة العلوم الإنسانیة) المجلد الرابع عشر، العدد الأول، ینایر 2010، ص1-36.
([36]) درویش، محمود، دیوان محمود درویش، ص312.
([37]) ینظر: الدّلالاتُ الرّمزیّة لموتیف الدّمّ فی قصیدة (أحمد الزّعتر) لمحمود درویش، عاطف خلف العیایدة، اللغة العربیة صاحبة الجلالة، صحیفة دولیة تهتم باللغة العربیة فی جمیع القارّات تصدر برعایة المجلس الدولی للغة العربیة، على الشبکة العنکلوتیة. https://www.arabiclanguageic.org/view_page.php?id=8338
([38]) درویش، محمود، دیوان محمود درویش، ص312.
([39]) ینظر: موسوعة أعلام الشعر العربی، محمود درویش، أعداد ودراسة هانی الخیر، دار ومؤسسة رسلان، دمشق، 2010، ص28 ص29.
المصادر والمراجع
1- الإعلام، منشورات وزارة، حسب الشیخ جعفر، الطائر الخشبی، منشورات وزارة الإعلام - الجمهوریة العراقیة، سلسلـــة دیوان الشعر الحدیث، 1972.
2- أیدل، أیون، القصة الیکولوجیة، ترجمة: محمود السحرة، المکتبة الأهلیة، بیروت، 1959.
3- البیاتی، عبد الوهاب، دیوان عبد الوهاب البیاتی، الأعمال الشعریة الکاملة، المجلد الثانی، طبعة منقحة ومزیدة، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، 1995.
4- جعفر، حسب الشیخ، الأعمال الشعریة، دار الحریة للطباعة، بغداد، 1985.
5- الخیر، هانی، موسوعة أعلام الشعر العربی، محمود درویش، دار ومؤسسة رسلان، دمشق، 2010.
6- درویش، محمود، دیوان محمود درویش، دار الحریة للطباعة والنشر، بغداد، ط2، 2000.
7- زغیر، هادی سدخ، قصیدة أحمد الزعتر للشاعر محمود درویش: دراسة تداولیة، مجلة الأستاذ للعلوم الإنسانیة والاجتماعیة، جامعة بغداد - کلیة التربیة ابن رشد، العدد 221، 2017.
8- السرغینی، الدکتور محمد، مقولات الحریة وحرکیة الإبداع، کتاب الحریة والإبداع، واقع وطموح، تحریر عز الدین المناصرة وآخرین، جامعة فیلادلفیا، مطابع الخط، عمّان، الأردن، 2002.
9- السلطان، الدکتور محمد فؤاد، الرموز التاریخیة والدینیة والأسطوریة فی شعر محمود درویش، مجلة جامعة الأقصى (سلسلة العلوم الإنسانیة) المجلد الرابع عشر، العدد الأول، ینایر، 2010.
10- الصکر، حاتم، حسب الشیخ جعفر، رثاء الروح، مجلة الفیصل، العددان 497-498، جمادی الآخرة – رجب 1439هـ، مارس-ابریل 2018.
11- مستاری، إلیاس، حداثة القصیدة فی شعر البیاتی، رسالة دکتوراة، تحت إشراف الأستاذ الدکتور بشیر تاوریریت، جامعة الحاج لخضر، باتنة، الجزائر، 2014.
12- العانی، الدکتور شجاع مسلم، قراءات فی الأدب والنقد، دراسة، منشورات اتحاد الکتاب العرب، دمشق، 1999.
13- عبید، محمد صابر، مرونة الحرکة الشعریة فی قصیدة الدخان، جریدة الثورة، بغداد 20/5/1985.
14- العیایدة، عاطف خلف، الدّلالاتُ الرّمزیّة لموتیف الدّمّ فی قصیدة (أحمد الزّعتر) لمحمود درویش، اللغة العربیة صاحبة الجلالة، صحیفة دولیة تهتم باللغة العربیة فی جمیع القارّات تصدر عن رعایة المجلس الدولی للغة العربیة، على الشبکة العنکبوتیة.