قسم مراجعات بحثیة للکُتب والدراسات: بحث لمحات أدبية ولغوية في كتاب (أسطورة الأدب الرفيع)
الباحث المراسل | د. إدريس جاهل إدريس | كلية التربية المفتوحة |
أ.د. هاشم جعفر حسین | جامعة بابل |
Date Of Publication :2022-11-13
علی الوردی واحد من جهابذة علم الاجتماع وأفذاذه، یحاول هذا البحثُ سبر غور ما أنتجه فی میدانی الأدب واللغة، مُستهدِیاً بما أودعه فی کتابه القیم (أسطورة الأدب الرفیع)، وبما أسّسه فیه من ربط محکم بین علم الاجتماع والعلوم الإنسانیة الأُخَر ذات الصلة، ولاسیما علما الأدب واللغة.
لقد درس علی الوردی الأدب واللغة فی ضوء مقولته: "إنّ علم الاجتماع لا یُشارِکُ المختصِّین فی بحوثهم المنهجیة، إنّما یأخذُ ما یصلون إلیه من نتائجَ فیضعها فی بوتقته الخاصة، لیصهرَها ویستخرجَ منها النظریات، التی قد تساعد الإنسان على فهم ما یحیطُ به من ظواهر اجتماعیة معقدة"(1). وقد طبّق هذه المقولة فی کتابه، واستنتجَ من حقلی الأدب واللغة نظریاتٍ تساعدنا فی فهم جدید لمظاهر أدبیة ولغویة، ظنّ أکثرُنا أنّها قوالبُ ثابتة، وأسسٌ منیعةٌ؛ لکنّ الوردی أعملَ فیها عقلَه، وأجالَ فیها فکرَه، فأحالَ کثیراً منها إلى أسطورة.
والباحثانِ لا یتفقان معه على طول الخط، ولا یرکنان إلى کلِّ ما طرحَ، غیر أنّهما یُصرِّحا مُطمئنَینِ: أنّ أطروحاته -بمجملها- لا شکّ فی أنّها ترتقی إلى مستوى من التلقی الفکری العالی والتواصل الثقافی بین أجیال متعاقبة، فالوردی حین ینقد ثوابت أفکار الماضین، ویَنبُشُ فی مقتنیاتهم الفکریة، ویعیبُ على المحدثین نظرةَ التقدیس لما قیل عند الأوائل، مستشهداً بما قرأ من تجارب الأمم المتقدمة، وما هضمه وأعاد إنتاجه من أفکارهم ومذاهبهم، إنّما یفتح بذلک نافذةً للتواصل الثقافی، بین الأمة التی نشأ بین ظهرانیها والمثقف العالمی فی أصقاع الأرض المختلفة. ویُصرِّحا أیضاً: "أنّه لولا طغیان شهرة الوردی فی میدان علم الاجتماع، وذیاع صیتِه فی مجال تخصّصه الدقیق، لکان لأطروحاتِه الأدبیة واللغویة صیتاً وشأناً کبیرین؛ لکنّ الوردیَّ عالمَ الاجتماع غطّى على الوردیِّ الناقدِ الأدبی والمفکِّر اللغوی".
أمّا کتابُه (أسطورة الأدب الرفیع) فهو عبارة عن سِجال صحافی بینه وبین الدکتور عبد الرزاق محی الدین، وبعضٍ آخر ممن أورد أسماءَهم فی کتابه. وموضوعُ الکتاب یتناول إشکالیات أدبیة ولغویة تناولها بنبرة نقدیة حادّة، وقد اشتدّ الجدل بین الخصمین، إلا أنّ ما یشیع فی النفس راحةً مستفیضةً، ذلک الذوقُ الرفیعُ لکلیهما، فهما بحقٍّ أستاذانِ للأدب الجلیل والذوق وطرائق الحوار، قبل أن یکونا عالمینِ جلیلینِ فی اختصاصیهما.
إنّ المتأمّل لجهد الوردی فی هذا الکتاب، یرى أن فکره ینتظم فی الانتصار للمعنى بوصفه حالة واقعیة ذات قیمة وفعل فی حیاة الناس، وفی الجانب الآخر من الکتاب نرى مقت الوردی للقواعد اللغویة والأنظمة الأدبیة التی ذاع صیتها عند الدارسین قدیما وحدیثاً، وکأنّها مسلّماتٌ لا تقبلُ النقض. وهو –بعدُ– محاکمةٌ عقلیةٌ شدیدةُ الوطأةِ لأغلب ما أسّسه الأدباء واللغویون من فرضیاتٍ وأحکامٍ، أحکموا بها نظریتهم الأدبیة وقواعدهم اللغویة.
والکتابُ على شکل مقالاتٍ، بدأت بمقالات النقد التی صوّبها الدکتور عبدالرزاق إلى أفکار الوردی فی کتابه، ومجموعها خمس مقالات، ثم تبدأ مقالاتُ علی الوردی فی الردِّ على ما سبق، وتفنید ما جاء فیه، وطرح ما یرید أن یصل إلى القارئ، ومجموعُ هذه المقالات اثنتان وثلاثون مقالةً. ویمکن إجمالُ ما تناولته هذه وتلک فی مبحثین، هما:
المبحث الأول: إشکالیة الأدب.
المبحث الثانی: إشکالیة اللغة.
المبحث الأول: إشکالیة الأدب فی فکر علی الوردی
یمکن للباحثینِ أن یُجملا عنوان هذا المبحث بالآتی:
أولاً؛ صلة عالم الاجتماع بالبحث الأدبی:
أوّلُ ما یطالعنا من أفکار الوردی فی کتابه، أنّه یلحظ حالةً من انفصام العلاقة بین العلوم الإنسانیة المتنوعة، وأنّ هذا المُدرَک قد استقرّ فی أذهان الدارسین، انطلاقاً من أنّ لکلِّ اختصاصٍ أهلَه المشتغلین به. ومع اعتراف الوردی بأنّ هذه حقیقة لا یمکن إنکارها، إلا أنّه یفصل بین دقائق کل علمٍ والنتائج العامة التی یمکن أن یستنتجها باحثٌ ما، فیوظفها فی مجال آخر ذی صلة، فی محاولة للسیر الحثیث نحو تکامل الفکر الإنسانی ورقی المجتمع، فالعلاقة بین مجالی الأدب وعلم الاجتماع مثلاً غیر منقطعة الصلة، یقول الوردی فی ذلک: "إنّ عالم الاجتماع یجب علیه أن یترک ذوی الاختصاصات الأُخَر وشأنهم فی اتِّباع منهجهم الخاصِّ بهم، ولکنه یأتی أخیراً فیأخذ النتیجة التی توصلوا إلیها، ویستعین بها فی دراسة المجتمع البشری بوجه عام"(2).
ثانیاً؛ وظیفة الأدب:
لقد تأمل الوردی کثیراً فی ماهیّة الشعر العربی وآلیات إنتاجه عند الشعراء وغرضهم من ذلک ووظیفة الأدیب والناقد، وخلص إلى نتائج کثیرة فی هذا المجال، منها إدراکه أن إشکالیة الأدب العربی تتمثّل فی أنّ الشعر بماهیته التی استقرّت فی أذهاننا وبآلیات إنتاجه، هو عامل تحجیم للتطور العقلی والثقافی والاجتماعی، لا عامل تنویر ونهضة وتقدّم، فالشعر فی نظر الوردی -مع أنّه قیمة فنیّة- هو مع ذلک ظاهرة اجتماعیة لها مساس مباشر بما ینشأ بین الناس من تواصل أو تنازع. والوردی بذلک لا ینفی جمالیات التعبیر، لکنه یسعى لتطویر تلک الجمالیات، إلى الحدِّ الذی یمکن معه أن تسهم هذه فی تطویر العقل وتنویره، بما لها من أثر فی الواقع الاجتماعی والثقافی، وهو أثر واسع وعمیق له نتائجه الملموسة الواضحة، التی ترفع من شأن إنسانیة الإنسان، حین یعیش بصدق ویتمتع بالکرامة ویستمتع بها. فالشعر عند الوردی فنٌّ قبل کل شیء آخر، غیر أنّ هذا الفن فی المنظور الاجتماعی والثقافی حاجة نفسیة، فضلاً عن کونه حاجة جمالیة ومعرفیة وأدبیة واجتماعیة(3).
لقد أکد الوردی فی هذا المجال أهمیة نقل النص الأدبی من دائرة النظرة التقلیدیة لماهیته ومنفعته وتشکیلاته الآیدیولوجیة السابقة، ووضعه بمواجهة فکریة مع الممارسات الذهنیة واللغویة ضمن السیاق الثقافی الذی یحوی هذا النص، وغرض الوردی من ذلک أن یفتح أمام أدباء عصره وکتابه ومثقفیه المتزمتین آفاقاً جدیدة لإعادة قراءة النص الشعری فی سیاقه الثقافی والاجتماعی بل السیاسی أیضاً.
ثالثاً؛ الأدب بین الاحتفاء بالماضی والخطاب الفکری والاجتماعی الآنی:
بناءً على هذه الإشکالیة التی طرحها الوردی، شنّ هجوماً عنیفاً على عنایة الشعراء والأدباء والنقاد العرب بالجانب الشکلی للشعر وتجمید النزعة الجمالیة فیه، منصرفین عن کشف ما یمکن أن یؤدیه الشعر من بناء فکری وثقافی واجتماعی، کما تفعل العلوم والمعارف الأُخَر. فالوردی یرى أنّ هذه النظرة لفعل الشعر العربی فی مجتمع تلقّیه هی نظرة سلبیة تحول بین الشاعر وأیّ تقدم محتمل، فالشعر بهذه الطریقة یشتغل فی المنطقة غیر المنتجة ثقافیاً من مناطق الفعل الإنسانی.
لقد رسم الوردی صورة هذه الإشکالیة وما ینتج عنها فی کلمات إهداء کتابه، فوجّه خطابه إلى الأدباء الذین یلبسون عباءة الماضی متغافلین عن التطور وحرکة التقدم وفی ذلک یقول: "أُهدی کتابی هذا إلى أولئک الأدباء الذین یخاطبون بأدبهم العصور الذهبیة الماضیة، عسى أن یُحفّزهم الکتابُ على أن یهتموا قلیلاً بأهل هذا العصر الذی یعیشون فیه، ویخاطبوهم بما یفهمون، فلقد ذهب عهد الذهب، واستعاض الناس عنه بالحدید"(4).
فهؤلاء الکُتّاب –ومنهم الدکتور عبدالرزاق الذی تجری المساجلات بینه وبین الدکتور الوردی– یعیشون فی عصر غیر عصرهم، فهم ما زالوا یُمجِّدون عصر الذهب الذی أعمى ببریقه العیون، وکفّها عن رؤیة الخلل فی نتاج ما سُمِّی بالعصر الذهبی للشعر أو عصر الشعر أو عصر المعلقات، التی علقت فی أذهان الناس لشرفها وقداسة محتواها، وکفّها عن رؤیة ما یجب أن تراه من تطور وتقدم وانفتاح على عوالم المعرفة المنتجة فی مجالات العلوم المختلفة.
فهؤلاء لا یستطیعون التأثیر فی أبناء عصرهم؛ لأنّهم یعیشون الماضی، منزوین فی صوامعهم لا یشعرون بما یجری حولهم، ولا یلتفون إلى ما یجب علیهم فعله، فهم فی مقامهم السامی وبرجهم العاجی یترفعون عن أن یتواصلوا مع طبقات المجتمع الأدنى، التی تحتاج إلى التحاور والتواصل معها بلغة واضحة معبرة عن آلامهم ومشاکلهم. فالأدب عموماً والشعر خصوصاً انبثاق من أعماق النفس، ولو أنه قام على أساس التفاضل الشکلی لنصِّ الخطاب لصار علماء البیان والبلاغة من أعاظم الأدباء والشعراء؛ لذا یدعو الوردی أولئک إلى فتح بصیرتهم، فعصرهم هذا عصر الحدید، فی إشارة منه إلى التفوق التکنلوجی والتقنی العلمی المنتج الذی هو عنوان الحضارة الحدیثة، وعلیهم أن یعیشوا همومه، وأن یستفزوا ذواتهم لکی یُحوّلوا عنایتهم نحو أهل هذا العصر الذی یعیشون فیه؛ لیکون خطابهم فی إطار المعرفة الحدیثة التی یعیشها أهل زمانهم ویتنفسون هواءها(5). فلا بُدّ لهؤلاء أن یدرکوا بأنّ الحضارة الحدیثة هی حضارة بصرٍ ولمسٍ وتجربةٍ، لا تعترف بالبهرجة المجردة والجمالیات المزوقة، بل هی تُعنى بالأدب من زاویة علاقته بالمجتمع، وأنّه وسیلة من وسائل النمو الثقافی والحضاری والسیاسی وغیر ذلک من جوانب المعرفة.
رابعاً؛ أثر الأدب والشعر فی الوعی الجمعی:
بناءً على المعطى الذی سبق، کشف الوردی عن جانبٍ مهمٍّ من جوانب دراسة الشعر العربی، أهملته الدراساتُ التقلیدیة کلیّاً، ذلک الجانب یتعلَّق فیما رآه الوردی فی صیاغة وعی المجتمع، وتنظیم رؤیته العقلیة، وبناء خطابه الثقافی، فإنْ دُرس من هذا المنظار، سیتضحُ فضاء آخر مختلف، یضع الشعر فی موضع الاتهام والمساءلة؛ لإسهامه فی استغفال الوعی الجمعی والعقل والثقافة؛ إذ رأى الوردی أنّ الشعر ساعد على تدعیم الحکومة السلطانیة، حیث کان السلطانُ ینهبُ أموال الأمة کما یشاء وینفقها کما یشتهی؛ ولکنّه یأخذ قسطاً ممّا نهبَ فیعطیه للشعراء، وهؤلاء لا یترددون عند ذاکَ عن جعل السلطان أمیرَ المؤمنین، وظلَّ الله فی العالمین(6)، فالشاعر على هذا متّهم أیضاً بالسرقة، وبجریمة کبرى أخرى هی استغفال الشعب، فهو یُزیّن صورة الحاکم فی أعینهم ویُجمّل قبائحه، بل قد یصل به الأمر إلى توثینه وتصنیمه. ویستشهد الوردی على تلک الجریمة التی ارتکبها الشعر العربی وشعراؤه، بأنّ القرآن الکریم قد وجّهَ سهامَ النقد للشعر والشعراء الذین مجّدوا الاستغلال، ومدحوا العبودیة، وتغنوا بقهر الفقراء، ورفعوا شأن الظالمین، حتى وصل الأمر إلى تحریم الشعر الذی لا یقدم نتاجاً نافعاً یسهم فی بناء الإنسان الجدید الذی یتفق وقیم القرآن الحضاریة. یقول الوردی فی ذلک: "إنِّی فی الواقع لا أُحبُّ أنْ أُزهِّدَ الناسَ بالشعر أو أصرفهم عن دراسته، فالشعرُ حقلٌ مهمٌّ من حقول المعرفة، ولا غنى للباحث فی المجتمع العربی وتاریخه عن دراسة الشعر، ولکنّ الذی أُریدُ من الناس أن یدرسوه دراسةَ حیادٍ وإنصافٍ لا دراسةَ حبٍّ وتعصُّبٍ. إذا کان للشعر منافعُ فله مضارٌّ أیضاً، وربّما کان ضرره بالأمة العربیة أکثرَ من نفعِه لها"(7).
ومن مظاهر هذا الضررِ السیء للشعر العربی، وأثره فی آلیة تفکیر الأفراد، وامتداد هذا الأثر من عصر الجاهلیة إلى الإسلام وما تلاه من عصور إلى وقتنا الحاضر، ما عقده الوردی من موازنة بین الشاعر والمؤمن المتوکِّل على الدعاء دون العمل، فالشاعرُ بوصفه طالبَ مالٍ وجاه وسلطة، یکدُّ ذهنه، ویبذل طاقته،؛ لیصلَ بفنِّه المزخرَف إلى أعلى بهرجةٍ جزلةٍ، فیرضى عنه الممدوح، ویمنحه أکبر قدر ممکن من العطاء المادی، فحال هذا الشاعر یقارب حال المؤمن، الذی یختار السبیل نفسه، معتقداً أنّ الدعاء یکفی للحصول على الجنة ونعیمها، وأنّه کلمّا ألحَّ فی الدعاء اللفظی زادت قیمة العطاء.
وهنا یتضح عمقُ المفهوم عند الوردی فی نقد اتّکاء الشاعر واتّکاء المؤمن على السبیل المُیسَّرَة للوصول إلى غایة کبرى. والوردی یُقدِّم حلاً واقعیاً کان یجب أن یحتذیه هذان المثالان للوصول إلى غایتیهما، وهو ما أشار إلیه القرآن الکریم، یقول الوردی: "فالمسألة تجاریة إذن، والمؤمن یُقدِّم نفسه وماله بین یدی الله على سبیل المقایضة، والله سیردّ ما قدّمه ویضیف علیه أرباحا مضاعفة. والظاهرُ أنّ المسلمین فی عصورهم المتأخرة لم یفهموا کُنهَ هذه التجارة الربانیّة، فقد صاروا کالشعراء یؤثرون الاستجداء من ربِّهم، بدلاً من المتاجرة معه؛ ولهذا أخذوا یطمعون بالحصول على الجنة من طریق الدعاء والعبادة، لا من طریق العمل والإنفاق. إنّهم یحسبون ربَّهم کالسلطان الذی یتزلَّف إلیه الشعراء بقصائدهم الرنّانة، ونسوا أنّ الله أجلَّ من أن یطریه مدحٌ، أو یستمیله النفاقُ"(8).
وممّا تقدم یتضح أنّنا بحاجة إلى دراسة جدیدة للشعر، غیر الدراسة التقلیدیة التی هیمنت أفکارها على عقولنا، فرکّزت فینا أنّ الشعر العربی یقف فی مصاف المقدسات، فقد عُلِّقتْ قصائد جاهلیات سبعة أو عشرة على أستار الکعبة لنفاستها، وعلینا أن نسیر على ما سار علیه الأولون، فنقارب الشعر على أنّه عنوان المجد العربی والکرامة والأصالة والتراث.
إنّ هذه العنوانات أیضاً لیست معصومة من النقد، فلطالما قرأنا عن أبطال فی تاریخنا، لکن حین عرضوا على الدراسات الناقدة الموضوعیة ثبت أنهّم لیسوا مثالاً یُحتذى به ولا هم أهل للتبجیل والتقدیر، وعلیه یجب أن نخضع الشعر العربی لمناهج الدراسة الموضوعیة بوصفه نتاجَ أفرادٍ یُعاد قراءة نتاجهم من جدید.
خامساً؛ الأدب والنقد وثقافة المجتمع:
فی نظر الوردی، أنّ مهمة الأدیب أن یُنتج أدباً یتطلع إلیه المتلقون ویعجبون به ویتعلمون منه؛ على أن یُحقِّق ذلک فائدة تعمل على تثقیف المجتمع وزیادة وعیه، فمهمة الأدیب مهمة ثقافیة رائدة، یقول الوردی: "الأدیبُ فی نظری رائد فکرة، قبل أن یکون صانع ألفاظ"(9). فمهمة الأدیب لیست مهمة جمالیة محضة، بل هی مهمة ذات مساس بحیاة الناس وسبل عیشهم ومستقبلهم، ولا ینافی هذا أن تکون أیضاً وسیلة لشهرة الأدیب وضماناً لمنفعته الشخصیة المادیة لیحیى حیاة کریمة، یقول الوردی: "من أبغضِ الأمورِ على الإنسان أن یکونَ جائعاً مشهوراً"(10)، فالشهرة مع الجوع لیست أمراً عادلاً، وعلى المجتمع أن یکون منصفاً، فیُعطی کل ذی حقٍّ وتمیُّزٍ بقدر تمیُّزه.
أمّا مهمةُ الناقد عند الوردی، فهی مهمة کبرى، لا ینهض بها من لا یعرفون من الأدب إلا رسمَه، ولا من النقد إلا خیالاتٍ واهمةٍ، لا تستند إلى أسس علمیة رصینة، فالنقد وسیلة لتنمیة الأدب، بشرط أن یتحرَّر الناقد من العاطفة، إذ علیه أولاً أن یکون فنّاناً وعالماً معاً، ثم یکون صاحب إحساس مرهف؛ لذا تکون مهمة الناقد عسیرة. فثمرة النقد تقاس بمدى موضوعیته وأحکامه المنصفة، وبمثل ذلک ترتفع قیمة الأدب معه ویسمو منتجه. وللوردی آراء نقدیة تفصیلیة ذکرها فی کتابه لا یتسع المجال لذکرها هنا، بل أردنا الإشارة إلى اطلاع هذا العالم الواسع فی هذا الباب وهضمه لمنتجه وتحلیله لواقعه وتشخیصه لخلله وعلاج ذلک(11).
المبحث الثانی: إشکالیة اللغة فی فکر علی الوردی
یمکن للباحثین أن یُجملا عنوان هذا المبحث بالآتی:
أولاً؛ صلة عالم الاجتماع بالبحث اللُّغوی:
لا یختلف اثنان فی أنّ اللغة مُنتَج اجتماعی ومُعطًى حضاری وثقافی، وعلیه یحقُّ لعالم الاجتماع –علی الوردی- أن یبدی رأیه فی ما أنتجَ علماءُ اللغة من نظریة لغویة ونحویة، لا من جانب التدخل فی التفاصیل الدقیقة، بل أن ینطلق عالم الاجتماع من النتائج التی وصلوا إلیه لیضعها فی مختبر اختصاصه،
فیرى أثرها فی إنتاج بنى فکریة اجتماعیة، یحاکمها على وفق ما یراه من أسس علمیة ناهضة عنده.
ثانیاً؛ إشکالیة النظام اللغوی:
إنّ الإشکالیة العامة التی یطرحها الوردی فی هذا المجال، أنّ علماء النحو -بما أشادوه من صرح لغویٍّ متین، عجز المثقفون على اختلاف مشاربهم وأزمانهم عن أن یخترقوه- قد أضرّوا بثقافة هذه الأمة أکثر مما نفعها، فنظریته تقوم على أنّ اللغات التی تغلب على أهلها الأمیّة والبداوة -کحال الأمة العربیة- تکون مثقلة بأعباء النحو وقیوده، بعکس لغات الأمم الحضاریة التی تخلصت من مشکلة هذه القیود(12).
إنّ إحکام قواعد اللغة وتعقید ضوابطها هو مظهر من مظاهر البداوة عند الوردی، ومثلما یحاول أیُّ مجتمع أن ینمو ویتطور بعیداً عن روح البداوة، علینا نحن أن نفهمَ إشکالیة تعقید اللغة ونحلَّ رمزها ونفکَّ قیودها؛ لتتجهَ صوبَ الحضارة بأنفاس ثقافیة جدیدة وأنساق کلامیة میسرة معبرة عن واقعنا الحالی.
ثالثاً؛ الطبقیة اللغویة فی نظر علی الوردی:
بناء على الإشکالیة –التی سبقت- راح الوردی یُدلّل -من وجهة نظر عالم الاجتماع- على أنّ نظرة المتزمِّتین إلى اللغة لا تنطلق من فهم عمیق لأغراض اللغة، فهم قد قدّسوا النظریات اللغویة التی قیلت قدیماً؛ بناء على مقاییس خاطئة لا تمتُّ بصلة إلى الوقائع التاریخیة التی سببت وضع علماء النحو أصول نظریتهم، ثم تشدّدهم على مَن خالف قواعد هذه النظریة، فالمتعارف علیه أنّ أحکام النَّحو قد شُیِّدت على السماع والقیاس، وأنّ السماع إنّما اعتمد على لغة البادیة ولغة قریش، والوردی یرى هنا أنّ هذا العمل من وجهة نظر عالم الاجتماع هو مظهر من مظاهر التمایز الطبقی، فأهل مکّة إنّما عنوا بلغتهم وإرسال أولادهم إلى البادیة؛ لأنّهم قوم مترفون مترفعون على مَن سواهم من طبقات المجتمع الفقیرة، التی لم یکن بمقدورها أن تتقن فصاحة اللغة، وتضبط أحکام الإعراب، على وفق ما یتفاخر به أرباب السیادة فی قریش، الذین اتخذوا من اللغة وفصاحة اللسان وسیلة من وسائل السطوة والغلبة على غیرهم(13).
وممّا تقدم یتبین أنّ سیطرة فکرة الإعراب وخلودها، إنّما تُفسَّر عند الوردی بدافعٍ طبقی أنتجته ثقافةُ المجتمع الذی ساد آنذاک، فلما جاء الإسلام حارب تلک الفکرة، فلم یجد فی فصاحة اللسان سبیلاً إلى التمایز بین بنی البشر، حتى لم نعد نقرأ فی عصر النبوة والخلافة الإسلامیة قبل خلافة بنی أمیة أنّ الأغنیاء أرسلوا أولادهم إلى البادیة لیتعلموا الفصاحة. فلما آلَ الأمر إلى بنی أمیة، رجعت قریش إلى دیدنها القدیم للتفاخر باللغة وإرسالهم أولادهم إلى بادیة الشام هذه المرة، لیتعلموا فصاحة اللسان(14).
وفی العصر العباسی اتجه التمایز الطبقی فی اللغة وجهة جدیدة، إذ بدأ الخلفاء العباسیون یستدعون النحویین واللغویین إلى قصورهم؛ لیؤدبوا أولادهم، وفی هذه المرحلة التی کانت قصور الخلفاء والأمراء مقصد النحویین، کُتبت الأصول والفروع التطبیقیة لعلم النحو، وعلى هذا مثّلت اللغة بقوانینها المحکَمة رغبةَ قریش والسلاطین من بعدهم وسطوتهم على الطبقة السفلى من المجتمع وعلى الخلیط البشری غیر المتجانس الوافد من الأمم الأخرى الذی کان یعیش فی البصرة وغیرها، فغدت اللغة فی زمن العباسیین أداة ارستقراطیة(15).
هذا ملخص ما قاله علی الوردی فی المقالة الحادیة والعشرین فی کتابه، وقد ردّ علیه الدکتور نجاح هادی کبة بالأدلة الآتیة(16):
1- إنّ تبدل طرائق تعلم اللغة باختلاف الأنظمة السیاسیة لیس مؤشراً على نوع من أنواع التمایز الطبقی، بدلیل أنّ اللغة العربیة قد حافظت على أمنها وفصاحتها إلى یومنا هذا، مع اختلاف سطوة الأنظمة السیاسیة واختلاف طرق تعلمها.
2- إنّ العصر الإسلامی وعصر الخلافة الراشدة لم یقلل من أهمیة اللغة، بل الملاحظ فیه أنّهم عنوا بسلامة اللغة أیّما عنایة، وحافظوا على سلامة مبناها، ومعناها؛ لأنّ ذلک مرتبط بسلامة الدین.
3- إنّ القرآن الکریم وحَّد هذه اللغة وحافظ علیها بضوابطها المتعدِّدة، حتى وصلت إلینا سلیمة معافاة.
4- إنّ اللغة العربیة لو کانت طبقیة، لما استوعبت الفکر الحضاری للعرب والمسلمین على اختلاف أوطانهم ومشاربهم وطبقاتهم الاجتماعیة.
5- إنّ دراسة العلاقة بین اللغة والتمایز الطبقی عند العرب موضوع سیاسی اجتماعی، لا یمتُّ بصلة إلى دراسة بنیة اللغة العربیة وتطورها عبر العصور.
والظاهر أنّ الدکتور الوردی قد بالغ فی نظریة التمایز الطبقی وأثرها فی نشوء قواعد العربیة الفصحى عبر العصور، فالعربیة الفصحى إنّما نشأت لدواعٍ حضاریة محضة ووقائع أدبیة مکنت لقریش سیادتها اللغویة على جزیرة العرب، ولا علاقة لذلک بما أراد الوردی أن یُبرهن علیه.
رابعاً؛ الإعجاز القرآنی فی نظر علی الوردی:
الإشکالیة اللغویة الأخرى التی یشیر إلیها الوردی، هی أنّ إعجاز القرآن الکریم لیس له علاقة بالجانب اللغوی بأدواته المعروفة: الألفاظ والمعانی والأسلوب، وإنّما إعجازه یکمن فی کونه ثورة اجتماعیة کبرى، فالقرآن الکریم – فی رأی الوردی – غیر معنیّ بتعلیم الناس فن الکلام، وأنّ عنایته لا تختصُّ بالجوانب الفنیة واللفظیة أداتین لهما شأن فی إعجازه(17).
وهنا لا بُدّ من وقفة مع رأی الدکتور الوردی؛ لیتضح أنْ لا مانع من أن یکون إعجاز القرآن الکریم قد تمثل بکونه ثورة اجتماعیة کبرى فضلاً عن کونه ثورة فی المجال الفنی والأدبی واللغوی، وأنّه ثورة أیضاً فی مجالات معرفیة وإنسانیة وعلمیة متنوعة.
خامساً؛ اللغة العربیة لغة عاطفیة عند علی الوردی:
إن اللغة العربیة –فی نظر الوردی– لغة قوم یُعنَون بالشعر، فهی بذلک لغة ألفاظ رنّانة أکثر من کونها لغة معانٍ دقیقة، ولیس أدلّ على ذلک من أنّ النظریة النحویة التی أوجبت على الناطقین بالعربیة أن یلتزموا بها إنّما وُضعت قواعدها على الشواهد الشعریة التی جمعها الرواة من البدو، وهی فی أغلبها شواهد کاذبة من صنع النحویین، والأنکى من ذلک أنّ النحویین أجازوا وضع القواعد على الشعر الذی یخالف قواعدهم المفروضة، وقد سوّغوا ذلک بما سمّوه بـالضرورة الشعریة، یقول الوردی: "إن النحاة أفسدوا النحو؛ باعتمادهم على الشواهد الشعریة فی تحریر قواعدهم، فالشعر لا یصلحُ أن یکون أساساً للنحو على أیِّ حالٍ، إنّه مقیّد بقیود الوزن والقافیة، وکثیرا ما تأتی الکلمات والجمل فیه على غیر نسقها الطبیعی المألوف فی لغة الأفکار المنظمة"(18).
ثم یعقب أیضاً بأنّ النحویین أخطؤوا فی مقولتهم: "یجوز للشاعر ما لا یجوز لغیره؛ لأنها تمنح الشاعر امتیازاً على حساب القواعد المقررة، ممّا یُدلّل على عدم ثبات قواعدهم وهشاشتها(19).
ثم إنّهم صاغوا القواعد على أساس القیاس المنطقی الذی وضعه أرسطو وغیره، فأصبحت اللغة بثقل القیاس عبئاً ثقیلاً یقف حائلاً بین الناطقین ولغتهم، وبسبب القیاس الذی یهمل الشواهد الکاذبة ظهرت مدرسة الکوفة التی ناصبت مدرسة البصرة العداء، ومن هنا شاع تقعرُ النحویین وترهلُ اللغة، فنتج عن ذلک تعقید المسائل النحویة وعزوف کثیر من الدارسین عن تعلم اللغة العربیة، یقول الوردی: "یمکن تشبیه النحو العربی بالعقدة النفسیة، إنّه وسواس ما بعده وسواس، فالخطیبُ لا یستطیع أن ینطلق فی کلامه، مخافةَ أن یُخطِئ فی النحو، والمستمعون لا یکترثون بما یأتی به من المعانی، إنما هم یرکزون عنایتهم فی تتبُّع حرکات الإعراب من کلامه، وهم لا بُدَّ أن یعثروا فیها على لحن، فیهزون رؤوسهم آسفین، کأنّ الکلام لا یحتوی إلا على الفتح والضم والکسر والسکون"(20).
ولا یُسلِّم الباحثان بما قاله الوردی على إطلاقه، فوسمُ العربیة بأنها لغة عاطفیة کونها تُعنى بالشعر، أمرٌ لا یمکن الرکون إلیه؛ لأن هذه سمة أیة لغة أخرى، فاللغة أداة للتعبیر عن الواقع اللغوی لمتکلِّمیها، وصورة حیّة لإنتاجهم اللغوی، بما فیه من جوانب عقلیة وفلسفیة وإنسانیة عاطفیة.
وبما أنّ الشعر واحد من أبرز اهتمامات العرب، حتى وصفوا بأنّهم أمة شاعرة، لم یکن غریباً أن یعتمد النحویون على الشعر لتوثیق مادتهم اللغویة وإقرار قواعدهم النحویة، ولا یمکن القبول بقول الوردی: إنّ هذا الشعر کاذبٌ برُمَّتِه، ولربّما هو تسامح منه، فقد أتعب النحویون أنفسهم فی نقد هذه الشواهد، واعتمدوا ما صحّت نسبته عند وضع القواعد، وعزلوا ما لم تثبت صحّته عن واقع الاستشهاد اللغوی والنحوی.
سادساً؛ اللغة العربیة عند الوردی لغة ألفاظ لا معانٍ:
من مظاهر ترهل اللغة العربیة ومیوعتها وتقعرها عند الوردی، أنّها لغة تکثر فیها أنواع الجموع والمصادر والمترادفات والمشترک اللفظی وغیر ذلک؛ ممّا یجعلها تباهی باللفظ على حساب المعنى، فهی غیر دقیقة من هذا الجانب، فـالعین مثلا لها معانٍ کثیرة فی اللغة، مثل: عین الماء، والعین الباصرة، والجاسوس، وصاحب الجاه وغیر ذلک، والسیف ذکرت له کتب العربیة ألف اسم دالة على مسمّى واحد(21).
ویبدو أنّ الدکتور الوردی نسی أنّ ذلک شائع أیضاً فی اللغات الأُخر، مع أنّ أحداً لم یصفها بالترهل والتقعّر والمیوعة، ثم إنّه قد نسی أو تغافل عن أنّ کثرة المترادفات والمشترک اللفظی والجموع والمصادر هی وسیلة من وسائل نمو اللغة، وأنّها تمنح المُتکلِّم مرونة فی صیاغة الجملة العربیة بحسب ما یقتضیه الکلام، فاللفظ ینزل منزلاً یقتضیه معنى الکلام، وهو أمر تقتضیه نوامیس اللغات الأُخر أیضاً.
سابعاً؛ نظریة التواصل اللغوی عند الوردی:
استحقت عنایة الوردی بنظریة التواصل اللغوی الثناء والتقدیر، فهذا العالم یُعدُّ من أوائل مفکرینا المعنیین بالنتاج اللغوی تماشیاً ونظریة التواصل الاجتماعی والثقافی مع متکلمی اللغة بمستویاتهم کافة، فبدل أن یبقى مجال اللغة محصوراً بالشعر والخطب الدینیة، علیه أن یشمل لغة الخطاب الیومی، وإلا حدثت قطیعة لغویة بین الأدیب أو اللغوی وبین مخاطبیه؛ ممّا یقودهم إلى عدم التواصل معه ومع مُنتَجه(22).
ومن هنا جاءت دعوة الوردی إلى تیسیر الکتابة؛ ممّا یجعلها شکلاً من أشکال التواصل الثقافی فی الوجود الیومی، لا متحفاً للأفکار القدیمة المخزونة فی موروثنا الثقافی فحسب، فالکتابة مرتبطة إلى حدٍّ کبیر بأنماط التفکیر، ولا یمکن أن تحدث ثورة فی التفکیر ما لم یسبق ذلک ثورة فی أسلوب الکتابة وأشکالها التقلیدیة، یقول الوردی: "کنتُ قد دعوتُ فی مقالاتی السابقة إلى تیسیر لغة الکتابة، وإلى تجریدها من الزخرفة والحذلقة، اللتین اتَّصف بهما الأدبُ العربیُّ القدیم، فنحن الآن نکتبُ للجمهور لا للطبقة الخاصة، والحیاةُ الجدیدة تقتضی أن نغیّر من أسلوب لغتنا، کما غیّرنا من أسلوب مساکننا وملابسنا وغیرها"(23).
إنّ الوردی فی نصِّه هذا یشخص لنا بصراحة –کعادته– المشهد اللغوی والثقافی الذی عاشت فیه اللغة ومتکلمیها، فنصُّه وثیقة تاریخیة تشهد لنا بأنّ تلک المرحلة شهدت قطیعة لغویة بین أصحاب نظریة الفن للفن والمحرومین من الطبقات غیر المثقفة، الذین انقطع اتصالهم اللغوی بغیرهم من المترفین وهمشوا وشعروا بظلمهم السیاسی والثقافی، فالوردی یُشخّص، وفقاً لنظریة الازدواج عنده، اللغة العربیة فی ثقافتنا بأنْ هیمن علیها ما یعرف بازدواجیة اللغة، إذ إنّ اللغة محکومة بالمعیاریة اللغویة، التی تسبق وجود متکلم اللغة فی المرحلة التاریخیة اللاحقة؛ أی: "إنّها أشبه بالنظریة المثالیة عند أفلاطون. وقد شکّلت المعیاریة اللغویة رؤیة کلاسیکیة للثقافة وللإنسان، فبقیت بعیدة عن واقع الاستعمال اللغوی المتجدد فی الحیاة الیومیة، فحدثت القطیعة بین اللغة وعملیات التواصل الثقافی. أمّا البدیلُ الذی یقدِّمه الوردی لهذه الإشکالیة، فیجب أن یبدأ عمله من الإیمان بأنّ اللغة لا تُولد فی بطون الکتب، ولا فی قصائد الشعراء، ولا فی تقنیات البلاغة والبیان؛ لذا دعا الوردی إلى تغییر سیاسات تدریس اللغة وکتابتها ونشرها؛ لأنّ ذلک یُجسِّر الفجوة بین المثقفین المتعالین وطبقة المحرومین المعدمین، الذین تدعو الحاجة إلى التحاور والتواصل معهم بلغة واضحة میسرة معبرة عن آلامهم ومشاکلهم، وعند ذاک تتحول اللغة إلى ممارسة ثقافیة وممارسة لغویة، تولد مادتها من جدید فی الأزقة والأماکن السفلیة المنسیة فی قاع المجتمع، مثلما تُؤخذ من لسان علیة القوم وأرباب اللسان فی الأمة؛ لتتشکل بذلک لغة ألسنة العامة وأنظمة الکلام الیومی التی تعلمنا التحدث بأبجدیات اللغة المنطوقة لا المکتوبة(24).
نتائج البحث:
- یُعدُّ هذا البحث محاولة لتقلیب أوراق کتاب مهم للمبدع الراحل علی الوردی عالم الاجتماع المرموق، الذی فرضت علیه موسوعیته بحکم مجال اختصاصه فی علم الاجتماع أن یتصل بالعلوم الإنسانیة المختلفة، وأن یرى فیها رأیه.
- کتاب (أسطورة الأدب الرفیع) یتناول إشکالیات أدبیة ولغویة، حاولنا أن ندرسها ونخرجها من نصوصها المکتوبة بأسلوب علی الوردی الأدبی الجمیل الذی یمتزج بلغة الحیاة الیومیة، ثم نعرض لها بالقبول أو الردِّ.
- قُسِّمت المادة المجموعة إلى مبحثین، تناول أحدهما: إشکالیة الأدب، وتناول الآخر: إشکالیة اللغة، مع التنبیه هنا على أنّ مثل هذه الأوراق لا یمکن أن تحیط بالصرح الفکری لهذا العالم الجلیل وما قدمه من نتاجٍ مبدعٍ، ما زالت صورته تحاکی الأجیال على مرِّ العصور.
الهوامش:
(1) الوردی، علی، أسطورة الأدب الرفیع، ط2، لندن، توزیع دار الکنوز الأدبیة، بیروت، 1415هـ- 1994م، ص50 ص51.
(2) السابق، ص50.
(3) السابق، ص80 ص81.
(4) السابق، ص5.
(5) السابق، الصفحات: ص246 ص248.
(6) السابق، ص81.
(7) السابق، ص280.
(8) السابق، ص11.
(9) السابق، ص250.
(10) السابق، ص253.
(11) السابق، الصفحات: ص256 ص262.
(12) السابق، ص161.
(13) السابق، ص195 ص196.
(14) السابق، ص198.
(15) السابق، ص202.
(16) کبة، نجاح هادی، 2013م، هل اللغة العربیة لغة طبقیة تاریخیاً کما رأى د. علی الوردی(on-line)، صحیفة التآخی، دار التآخی للطباعة والنشر، بغداد، والرابط فی أدناه:
http://www.altaakhipress.com/viewart.php?art=32257
(17) أسطورة الأدب الرفیع، الصفحات: ص135 ص139.
(18) السابق، ص180.
(19) السابق، ص173 ص176.
(20) السابق، ص129.
(21) السابق، ص145.
(22) السابق، الصفحات: ص60 ص62.
(23) السابق، ص265.
(24) السابق، ص255.
المصادر والمراجع:
أولاً؛ الکتب:
- الوردی، علی، أسطورة الأدب الرفیع، ط2، لندن، توزیع دار الکنوز الأدبیة، بیروت، 1415هـ-1994م.
ثانیاً؛ المواقع الإلکترونیة:
- کبة، نجاح هادی، 2013م، هل اللغة العربیة لغة طبقیة تاریخیاً کما رأى د. علی الوردی(on-line)، صحیفة التآخی، دار التآخی للطباعة والنشر، بغداد، والرابط فی أدناه:
http://www.altaakhipress.com/viewart.php?art=32257