أدبیة السِّیَر (الرسائل) العُمانیة

الباحث المراسلخمیس بن راشد بن سیف المنذری

Date Of Publication :2022-11-13
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

 

للغة وظیفتان رئیسیتان: وظیفة التواصل وهی أم الوظائف، ووظیفة الإبداع وهی فنِّیَّة خاصة، إذ تتعدى وظیفة اللغة کونها وسیلة للتفاهم ونقل الأفکار، إلى کونها أیضًا وسیلة للإبداع، ویستعملها المبدع استعمالاً خاصًا یجعلها ذات معالم وسمات تمیِّزها عن لغة التفاهم العادیة بفضل خصائصها الفنِّیَّة، فبواسطتها یکسو المبدع أفکاره ألوانًا زاهیة، ویحیی جوامد الکلم، ویظهر قدرته الذاتیة الخاصة على صیاغة الکلام الذی من خلاله یدهش القارئ ویؤثر فیه بما یحمله من إحساسات جمالیة وانفعالات عاطفیة، ویُخلِّد العمل الفنِّیَّ. وتُعَدُّ الرسائل من أقدم وسائل التواصل بین المتخاطبین وأهمها، ولقد سعى کتَّابها إلى التأنق فیها عبر العصور، سواء أکان ذلک من خلال بنائها الفنِّیّ، أم لغتها الإبداعیة، أم حسن استعمال المخزون الثقافی، إذ أُطْلِقَ على هذا النوع من المخاطبات أدب الرسائل. ویعامل الدارسون من قدماء ومحدثین تلک الرسائل معاملة النصوص الأدبیة، وقد شاع فی تعریف الأدب أنه: ذلک الفنُّ الکلامیُّ الجمیل الذی یُعَبِّر عن العقل ویصوِّر الشعور، وکلام العرب على صنفین: منظوم ومنثور. یقول ابن خلدون: "اعلم أن لسان العرب وکلامهم على فنَّین: فی الشعر المنظوم، وهو الکلام الموزون المقفى. وفی النثر، وهو الکلام غیر الموزون"( ). والرسائل فی عمومها تنتمی إلى النثر الفنِّیّ، وقد ربط بعض القدماء تعریف الرسائل بمفهوم الشعر. فالرسالة عند أبی هلال العسکری ".. کلام لا یلحقه وزن ولا تقفیة"( ). ویقول ابن طباطبا العلوی: "الشعر رسائل معقودة، والرسائل شعر محلول"( ). وهذه التعریفات تنسب إلى عموم الرسائل عند التسلیم بأدبیتها، أو یراد بها الرسائل الأدبیة، أما عند الدراسة التفصیلیة للبحث فی مدى أدبیة الرسائل فلیست جمیع الرسائل داخلة ضمن مجال الأدبیة، وهذا مرجعه الوظیفة التواصلیة المطلوب من الرسالة تأدیتها، فقد یدوّن الکاتب رسالته بلغة غیر أدبیة إذا کانت وظیفتها تأدیة غرض آنیٍّ ومعالجة قضیة قائمة، وهذا یدخلها ضمن أجناس الخطاب وقد تکون نصًا حضاریًا إذا کانت الرسالة تعبِّر عن مقومات حضاریة، والنص الحضاری کالنص الأدبی لا تدرک مقوماته إلّا من خلال اللغة. إن الوظیفة التواصلیة للسِّیَر (الرسائل) التی تمثل مدوَّنة البحث وعددها أربعة وثلاثون هی إیصال مضامین تعالج قضایا من حیاة المجتمع الیومیة، وصنَّفناها على أساس سیاسیٍّ، واجتماعیٍّ، وعسکریٍّ، غیر نادَّةٍ أحیانًا عن مجال الأدبیة؛ ذلک أن کثیرًا من کتَّاب الرسائل أدخلوا فی نصوصهم مکوِّنات ذات مدلولات أدبیة بدءًا من تفاعل الکاتب مع المضمون، وما یظهره من مشاعر وأحاسیس عند مناقشته القضیة المطروحة؛ أی غرض الرسالة، ومحاولته إخراج الأفکار والمعانی بصورة مبتکرة مشوقة، وصیاغتها بأسلوب ضمن مبانٍ وتراکیب معینة یجعلها على درجة عالیة من الجمال والتأثیر والجودة. وبهذا لم تکن هذه النصوص وقفًا على المرسَل إلیه، وهو القارئ الضمنی، بل موجَّهة أیضًا إلى الجمهور الذی یمثل القارئ الحقیقیَّ لها؛ لأن کتَّابها أرادوا لها الخلود لیُستفاد منها فی عصرهم والعصور اللاحقة؛ ولهذا سعوا أن تکون لغة نصوصهم لغة فنِّیَّة مُثْلى لافتة للنظر، تقوی المعانی وتحقق الغرض. وتلک أدبیة یمکن الوصول إلیها من خلال دراسة قضیة الأدبیة والمرحلیة التاریخیة، وقضیة الأدبیة فی صلتها بالقیمتین التأثیریة والجمالیة. الأدبیة والمرحلیة التاریخیة: أقدم الرسائل فی مدوَّنتنا تنسب إلى أواخر القرن الثانی وأوائل القرن الثالث الهجریین، بعث بها الشیخ منیر بن النیِّر الجعلانیّ( ) إلى الإمام غسان بن عبد الله الیحمدیّ( )، وهی رسالة عسکریة( ) غرضها الحث على الجهاد وإعداد الأمة للنفیر، وآخر الرسائل إقرار حکم المحکمة( ) الصادر بتأمیم أموال بنی نبهان کتبت عام 887هـ. هذه المرحلة التاریخیة الممتدة سبعة قرون وما شهدته من أحداث وتغیِّرات فی واقع المجتمع العُمانیّ أثرت على المجال الترسُّلی بشکل عام، وعلى الأسالیب الفنِّیَّة والقدرة التأثیریة والصورة الجمالیة على وجه الخصوص. فمن حیث غزارة الإنتاج استحوذ القرن الأول من هذه الفترة (ق3هـ) على نصف عدد رسائل المدوّنة، وحوالی 68% من عدد صفحاتها، واتسمت رسائل هذه الفترة بالمقدمات الطوال المؤسسة للعلوم الشرعیة وسِیَر السَّلف. وأما من الناحیة الفنِّیَّة فإن تأثیر الثقافة العربیة فی بناء الرسائل وتقسیماتها واضح فی ترسُّل طبقة الکتَّاب القدماء فی شکلها العام، إذ منهم حملة العلم من البصرة إلى عُمان فی القرن الثانی الهجری وتلامیذهم، لکن العمانیین طوَّروا أسالیب الترسل لدیهم، واستطاعوا أن یکوَّنوا مدرسة خاصة بهم تتناسب مع تلید موروثهم وروح استقلالهم؛ فابتعدوا عن التمجید الشخصی المتبع فی المکاتبات الدیوانیة، وتحرَّروا من القوالب الجاهزة التی کانت سائدة فی المراسلات إبّان الدولة الأمویة والعباسیة، فأصبحت نصوصهم توازن بین مقتضیات المقام الذی یمنح الإنشاء تنوعًا خاصًا فیثریه، والمحافظة على الأسس العامة للبناء الفنی بما یتلاءم مع قدر المخاطب وغرض الرسالة. ولقد تنبه کتَّاب الرسائل إلى أهمیة الناحیة الجمالیة فی مجال الترسل، ولهذا سعوا ألَّا تقتصر الوظیفة التواصلیة لرسائلهم على الإفهام أو الإخبار فحسب، بل یطلب منها أن تؤثر فی قارئها من خلال سبکها النثریِّ الفنِّیِّ ذی الصبغة السردیة، وهذه الخاصَّة فی النثر العربی أشار إلیها نقاد الأدب القدماء، یقول ابن طباطبا: "من الأشعار أشعارٌ محکمةٌ متقنةٌ أنیقةُ الألفاظ حکیمةُ المعانی، عجیبةُ التألیف إذا نُقِضت وجُعلت نثرًا لم تبطل جودةُ معانیها، ولم تفقد جزالةَ ألفاظها"( ). ولذلک أعطوا شکل رسائلهم ومضمونها اهتمامًا کبیرًا، فطوّروا الخصائص البنیویة العامة فی نصوصهم، واستفادوا من التراث الدینی والثقافی والتاریخی، وأدخلوا أسالیب البدیع حسب مقتضیات الحال دون تکلف أو مبالغة، واتَّبعوا فی سردهم للأحداث أسلوب المحاکاة للوقائع والأقوال، فخرجت بعض مقاطع نصوصهم فی صورة قصصیة تثیر فی المتلقی إحساسًا جمالیًا، وتولد لدیه انفعالات تلامس العاطفة. إن رسائل المدوّنة لیست على نسق واحد فی الأسلوب، ولا متحدة فی خصائص الخطاب الذی قامت علیه، ولا على قدر متساوی فی مجال الأدبیة، وإن کانت الأغراض التی تعالجها متشابهة، والمجتمع من حیث التکوین الجنسی والدینی لم یتغیَّر، إلّا أن هناک عوامل معیَّنة بحاجة لدراستها وتحدید معالمها. ولأسباب منهجیّة عملیّة قسَّمنا المرحلة التاریخیة لمدوّنتنا إلى فترتین: الفترة الأولى فترة البناء الحضاریِّ للمجتمع العُمانیِّ التی امتدت منذُ اختیار الإمام الوارث بن کعب عام 179هـ، وحتى عزل الإمام الصلت بن مالک أو اعتزاله سنة 272هـ، إذ شهدت عُمان خلال تلک الفترة استقرارًا سیاسیًا وأمنیًا، ونموًا اقتصادیًا وتجاریًا، وتطورًا علمیًا وفکریًا وتلاحمًا اجتماعیًا ملحوظًا. الفترة الثانیة ما بعد سقوط الإمامة الأولى عام 272هـ وحتى القرن التاسع الهجری، وهی فترة الاختلاف السیاسیِّ والفکریِّ، والصراع العسکریِّ الداخلیِّ والخارجیِّ، وغیاب القیادة الدینیة والسیاسیة الفاعلة أو تغیبها. والعوامل، هی: أولًا: فئة الکتَّاب: تمیَّز کتَّاب رسائل الفترة الأولى بالتأهیل العلمی، إذ تلقَّوه من مصادره المباشرة فی البصرة کما أشرنا، أو ممن تتلمذ علیهم، وشهدت عُمان فی القرن الثالث الهجری حرکة علمیة وفکریة متطوّرة، وکثر التألیف، وبرز عدد من العلماء. یقول الشیخ السالمی: "ثم امتلأت عُمان بالعلماء الفضلاء أهل الثقة والورع والإخلاص وصدق النیة حتى ضرب بذلک المثل، فشبهوا العلم بطائر باض فی المدینة وفرخ فی البصرة وطار إلى عُمان"( ). وإلى جانب التأهیل العلمی تمیَّز کتَّاب الفترة الأولى بثقافة واسعة، وإنتاج فکریٍّ غزیر. هذا التکوین الدینی والثقافیِّ والفکریِّ کان له الأثر فی تمیُّز الأسالیب الفنِّیَّة لرسائل تلک الفترة، ومجال الأدبیة الذی أحاط بکثیر من النصوص، إضافة إلى تفعیل ملامح من حقول الحضارة العُمانیة. ففی رسالة بعث بها الشیخ هاشم بن غیلان( ) ومجموعة من العلماء إلى الإمام عبد الملک بن حمید العلوی( ) ینصحونه فیها بمراجعة موقفه من منصب الإمامة مع کبر سنه. وقبل عرض الموضوع أرادوا أن یبیِّنوا أهمیة التناصح بین العلماء ورجال السلطة وأن النصیحة من الدین، فجاء النص: ".. وذلک أنا وإیاک على دین وجبت فیه الحقوق علینا وعلیک بحقوق مؤداة، والحق علینا لک محض النصیحة فی کل أمر وإن خالف فیه الهوى، والحق علیک قبول ذلک وإن استمر مذاقه [مرُّ المذاق] وثقل حمله"( ). تحلیل النص: وجود هذا النص قبل عرض غرض الرسالة حقق للکاتب مقصد الإقناع واستمالة المخاطَب، وهذا من أنجع الأسالیب الفنِّیَّة فی بناء خطة الرسالة. بدأ الکاتب ببیان أهمیة المناصحة وربطها بالدین لاستنهاض العاطفة الدینیة، ـ وهنا لا بد للمتلقی من استحضار حدیث الرسول  "الدین النصیحة..."( ) ـ، وحوّل النصیحة إلى حقوق متبادلة ومتساویة وهذا مظهر حضاری، واستعمل ضمیر المتکلم الجمع لتبقى الرسالة جماعیة، وضمیر المفرد للمخاطَب لتخص الإمام نفسه. وعند تفصیل النصح ذکر أن الناصح یجب أن یکون صادقًا وإن خالف ذلک هواه؛ وهذا دلیل على الإحساس بالمسؤولیة العلمیة والفکریة والاجتماعیة. وأما المنصوح فالحق علیه قبول ذلک، وحوّل الکاتب هذا القبول من شعور معنوی إلى محسوس مادی له طعم ووزن على سبیل الاستعارة المکنیَّة "وأن استمر مذاقه وثقل حمله"، فکست النص جمالًا وزادته قوة وکان لذلک وَقْعٌ فی نفس المتلقی. وأما کتَّاب رسائل الفترة الثانیة فکان لهم أیضًا نصیبٌ من التأهیل العلمیِّ والفکریِّ والثقافیِّ، لکنهم بمستوى أقل من الأوائل، ویمکن وصفهم أنهم متعلمون مقلِّدون، فجاءت رسائلهم مقلدة من الناحیة الفنِّیَّة، خالیة من منهج الاستنطاق الحضاری کما هو عند الأوائل، وأقل إبداعًا فی مجال الأدبیة وإن کانت هناک محاولات فی بعص النصوص. وهذا مثال مشابه من حیث الغرض کتبه أحد العلماء البارزین فی عصره، القاضی محمد بن عیسى السری( ) إلى الإمام راشد بن علی( ) عام 472هـ ینصحه بتحسین أداء الحکومة، والکفّ عن أخطاء ارتکبت ومحاسبة المسؤولین عنها، ودعوة الإمام إلى التوبة. یقول: ".. وأن تتوبوا إلى الله تعالى من جمیع ذنوبکم وتتقوه عزّ وجل فی سرکم وجهرکم مع العمل بطاعته وأداء جمیع فرائضه واجتناب جمیع محارمه والاقتداء بالسلف الصالح من المسلمین مع الورع الصادق والوقوف عن کل شبهة وأن لا تعملوا عملًا إلا بحجة، والأمر بالمعروف والنهی عن المنکر والانتهاء عنه، والموالاة فی الله والمعاداة فیه، ومشورة المسلمین العلماء، أهل العلم والورع فیما یعرض علیکم من الأمور"( ). تحلیل النص: إن الدارس للمدوّنة لا یلقى معاناة فی المقارنة بین النصِّین، فالأخیر صِیغ فی صورة اتهام مباشر خارج عن اللباقة المعهودة بین العلماء والأئمة، وهذا مرجعه ضعف العلاقات الشخصیة بین علیة القوم فی الدولة، کذلک لم یراعَ الأسلوب الفنِّیُّ وقواعد الترسل فی خصائص الخطاب السیاسی، فالرسالة لا تسیر على خطة بناء معیَّنة، والنَّص المقتطع لم نستطع تحدیده، هل واقع ضمن صدر الرسالة؟ وهل وضع لخدمة المتن أم هو المتن نفسه؟ علمًا أن غرض الرسالة هو طلب الإمام أن یعلن توبة صریحة عما ارتکب من أخطاء فی حق المجتمع حسب قواعد فقه الإباضیة. أما لغة الخطاب فقد استعمل الکاتب وظیفة التوصیل اللغة ولم یتعدَّ ذلک، فجاء النص للإخبار فی صورة مواعظ مع الاتهام المبطَّن للمتلقی، قال: "والنهی عن المنکر والانتهاء عنه"، وهذا أبعد النص عن مجال الأدبیة. ثانیًا: السلطة الدینیة والسیاسیة: اعتمد العُمانیون نظام الإمامة الإسلامیة کما أصَّلها فقه الإباضیة فی إدارة شؤونهم بعد استقلالهم عن الدولة المرکزیة الأمویة ثم العباسیة، ومنح هذا النظام العلماء دورًا کبیرًا فی تشریعات الحکم والإشراف علیه، فالإمام یتم اختیاره من بین العلماء وتحت إشرافهم من خلال مؤسسة أهل الحل والعقد، التی تمثل السلطة التشریعیة العلیا، والمرجع الدینیَّ والحقوقیَّ والسیاسیَّ للدولة، والنبض الروحیَّ والأخلاقیَّ للمجتمع. واستمر مفهوم تطبیق مبدأ الشورى والتعاقد فی إدارة البلاد حتى عزل الإمام الصلت بن مالک أو اعتزاله عام 272هـ. ینتمی کتَّاب رسائل الفترة الأولى إلى مؤسسة العلماء؛ وبهذا فهم یتمتعون بسلطة دینیة وسیاسیة، ومسؤولیات اجتماعیة معترف لهم بها، فانطبع ذلک فی ترسِّلهم، فازدوجت وظیفة رسائلهم؛ فإلى جانب وظیفة توصیل الغرض للمتلقی، حرص کتَّابها على جعلها نصوصًا حضاریةً تمیل إلى نزعة الخلود، لتبقى مثالًا یحتذى، ویستلهم منها الحلول لمعالجة المواقف المشابهة فی العصور اللاحقة، فعمدوا إلى سلطتهم الذاتیة، ومقوماتهم الشخصیة، ومکانتهم الاجتماعیة، وأبدعوا فی استعمال لغتهم الفنِّیَّة، فتحوّلت نصوصهم إلى فضاء محسوس ذات قیمة حضاریة وفنِّیَّة وجمالیة، تشد المتلقی إلى إعمال الفکر، وتفعیل المثاقفة، واستنهاض المدارک للوصل إلى مدلولاتها العمیقة خارج الغرض الأساسی. ومن النصوص التی استعمل کاتبها سلطته الدینیة والسیاسیة ومسؤولیاته الاجتماعیة فی أسلوب حضاریَّ، رسالة بعث بها الشیخ موسى بن علی( ) إلى الإمام عبد الملک بن حمید یطلب منه عزل أحد الولاة بعد تعیینه، یقول النص: "واعلم رحمک الله أن کتابی هذا عام لجمیع ذلک، ومما دعانی إلى الکتابة إلیک ولایة رجل أتانا أحببنا إلقاءه إلیک من کراهیة من کره ولایته، فکرهنا ما کره المسلمون المجتمع من ذلک، ورأیت الکتابة فیه إلیک للقول الذی قیل، والسلامة لک فی أن لا تولیه، فإنی لا أرى ولایته على ما بلغنا، وفی المسلمین خیر کثیر وسعة وغنى یغنیک الله بمن هو أفضل وآمن لک فی العاقبة عما ترتاب به، وقال المسلمون العلماء لا خیر فی الریبة". تحلیل النص: بدأ الکاتب نصَّه بالدعاء، وهو تعبیر عن تقالید المخاطبة وآداب التعامل الاجتماعیَّ بین المتخاطبین، ومدعاة للملاطفة فی صناعة الخطاب. بعدها أسس الکاتب رأیه على نظرة المجتمع للحدث، "فکرهنا ما کره المسلمون من ذلک". إن القضیة لیست شخصیة وإنما هی صدى لواقع اجتماعیٍّ فی التعامل مع ولاة الأمر، ومسؤولیة الکاتب الاجتماعیة تحتم علیه أن یُصْلِحَ ما یدعو إلى الفساد والإفساد، وهذا مظهر حضاری لا یضطلع به إلّا المصلحون. أما مسؤولیته الدینیة فَیُعَبِّر عنها بأهمیة المحافظة على نظام الإمامة المتمثل فی شخص الإمام أن یبقى سلیمًا متماسکًا: "والسلامة لک فی أن لا تولیه"، وکذلک مسؤولیته السیاسیة فهو جزء من اتخاذ القرار: "فإنی لا أرى ولایته". بعد ذلک یُعَبِّر الکاتب عن مجتمعه الذی یُخبر قدراته فی مدِّ الدولة بالمسؤولین الأکفاء: "وفی المسلمین خیر کثیر وسعة وغنى یغنیک الله بمن هو أفضل وآمن لک فی العاقبة عما ترتاب به". إن إخضاع النص لأدوات تحلیل الخطاب، أسهم فی إظهار أدبیته من خلال تصنیفه نصًا حضاریًّا یحمل ظواهر وتجلیات لا یمکن إدراکها إلا باللغة عبر الأسالیب والمبانی والتراکیب التی صاغها کاتب النص. ظلت حرفة کتابة الرسائل بید العلماء فی الفترة الثانیة، بید أنه قد تقلَّص سلطانُهم، إذ لم تعد هناک سلطة دینیة تحکم المجتمع، وتفرقت السلطة السیاسیة بین القبائل والمتحزبین، وأصبح العلماء إما تابعین أو منزویین إلَّا القلیل منهم، ولم تعد لهم سلطة على المجتمع، وانحصرت وظیفة جل الرسائل فی توصیل الغرض للمتلقی، وحل التقلید مکان الإبداع، وانزوت اللغة الفنِّیِّة، فضاقت الأدبیة بعد ما رَحُبَت بالمترسلین الأسلاف. وهذا مثال لرسالة بین عالمین من کبار علماء النصف الثانی من القرن الخامس الهجری، أحدهم کان له مطلبٌ دنیویٌ فی مناصب الدولة فَحُرِمَ منها فاتخذ موقفًا ما؛ والآخر یدافع عن موقف الدولة وعدل الإمام، علمًا أنه فی تلک الفترة کان یحکم عُمان أکثر من إمام وأمیر( ). النص: "وأما ما ذکرت أنه لم یصلح لک فی هذه الدولة حال ولا ید ولا احتیال، ولا صار لک فیها حظوة، ولا یقضى لک فیها وطر ولا شهوة، فلعمری لقد شملک أنت وسواک عدلها، وأعم کافة أهل عُمان فضلها، صغیرهم وکبیرهم غنیّهم وفقیرهم، مع تحسن صنع هذا الإمام وأفعاله وطیب نیّته وإقباله. فارتفع بذلک جمیع الفساد وآمن القری فیها والباد، مع أن هذه الدولة -بحمد الله- ما تَقَدَمَ لک فیها مساعدة، ولا معونة فی أمرها ولا معاضدة، ولا کنت ممن حرص علیها ولا بذل نفسه فیها، فهلّا جعلت ذلک کفافًا ولزمت ما یعنیک تورعًا وعفافًا، فلا نرضى أن یکون غیرک یصلى حرها ویکابد أذیّتها وشرها، منغصة فی دنیاه عیشته، متخوّف أن تفوته آخرته، وأنت سالم فی ریاض إنعامها، معتزل عن حرِّها وکُلامها( )"( ). تحلیل النص: لقد فقد العلماء سلطتهم الذاتیة الدینیة والسیاسیة والاجتماعیة فأصبحوا یبحثون عنها إما بالتودِّد والتقرب إلى السلطة الحاکمة أو طلبها منهم علانیة، وتحول جهد العلماء من الإسهام فی البناء الحضاریَّ وإصلاح المجتمع، إلى مناکفات بینهم أفقدتهم ثقة المجتمع وغلَّبت علیهم السلطة القبلیة، وشکَّلوا عاملًا محرکًا فی زیادة الفرقة وتأجیج الصراعات ببن القبائل والفئات المتحزبة إلاَّ قلیلًا منهم. هذا النص أنموذج على کثیر من رسائل تلک الفترة، إذ فقد السِّمة الحضاریة المعهودة فی الرسائل المتبادلة بین العلماء، وهذا قلل من بروز مقوماته الأدبیة رغم محاولة الکاتب صیاغته بلغة فنِّیَّة، وإدخاله محسَّنات بدیعیة، لکنها جاءت شبه مُتَکَلَّفَة، فجاء النص فی مجمله غیر قادر على أن یثیر لدى القارئ أحساسیس الجمال، وخالیًا من بذرات الخلود. ثالثًا: البیئة المحیطة: شهدت عُمان تحوُّلات تاریخیة مختلفة منذ اعتناق أهلها العقیدة الإسلامیة، ففی البدء انضوت تحت قیادة الدولة الإسلامیة فی عهد النبوة والخلافة الراشدة، ثم سعت إلى الاستقلال فدخلت فی صراع سیاسی وعسکری مع الدولة الأمویة، ثم الدولة العباسیة حتى تم لها ذلک فی أواخر القرن الثانی الهجری. فی أثناء فترة الاستقلال التی استمرت قرنًا من الزمان تحقق للمجتمع العُمانی القبلی الحد الأدنى من الوحدة والتوافق، وأقیم نظام الحکم على مبدأی الشورى والانتخاب، وانضوت البلاد تحت قیادة مرکزیة واحدة تقبل الرأی والرأی الآخر، واستتب الأمن مع وجود قوة عسکریة قادرة على حمایة الاستقلال، فنعمت البلاد بالرخاء الاقتصادی والتجاری، وانتشر التعلیم، وعمت الثقافة الدینیة والعامة بین فئات المجتمع. یصف ولکنسون جزئیة من النظام القائم أیام الإمام الصلت بن مالک، فیقول: "وشهدت إمامته؛ أی الصلت، تطورًا هائلًا فی قوانین الشریعة، ویبدو أن حکمه کان قریبًا جدًا من المُثُل الإباضیة"( ). على ضوء هذه المعطیات الحضاریة صاغ کتّاب رسائل تلک الفترة نصوصهم لتتوافق مع الانفتاح الذی شهده المجتمع، فجاءت مضموناتها لبنات فی البناء الحضاریِّ، وصیغت بلغة فنِّیَّة خاصة متجاوزة وظیفة التواصل، فیها من الإبداع ما یحقق إثارة المتلقی، ومن قوة الألفاظ ما یفی بالإقناع والبقاء. وهذا مثال من توجیهات الإمام الصلت بن مالک إلى الحملة العسکریة التی سیَّرها لاستعادة جزیرة سقطرى عام 253هـ، وتُعَدُّ أکبر حملة بحریة أخرجتها عُمان فی ذلک العصر، قال: "فافهموا عن الله، واقبلوا ما جاء من الله، ولا تُرَخِّصوا لأنفسکم فی شیء من طاعته الواجبة دخلًا( ) ولا کسلًا، ولا تُبَیِّتوا شیئًا من معاصیه عبلًا( ) ولا خبلًا( )، ولا ترکنوا إلى من حادَّه تعصُّبًا ولا میلًا، فأخاف عند ذلک أن یخذلکم"( ). وفی ختام نصه ضمَّنه الآیة الکریمة:  إِن یَنصُرْکُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَکُمْ وَإِن یَخْذُلْکُمْ فَمَن ذَا الَّذِی یَنصُرُکُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْیَتَوَکِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( ). تحلیل النص: النص جاء فی مقدمة الرسالة وأراده الکاتب أن یکون نصًا وعظیًّا لتحریک المشاعر، أو ما یعرف فی العصر الحدیث: "بناء الروح المعنویة لدى المقاتل وتقویتها"( ). ویُعَدُّ الوعظ عملًا من الأعمال التواصلیة الأدبیة، وغرضًا انتقل من فن الخطابة إلى مجال الترسل. لقد استغل الکاتب الوازع الدینیَّ فی صدر رسالته وهو من أقوى المحفِّزات للبذل والتضحیة، وحوَّل النص إلى خطاب تعلیمیٍّ تربویٍّ فی قالب أدبیٍّ یخاطب النفس ویرشدها إلى الفضائل فی تدرج یثیر العاطفة والانفعال، بدأه بأهمیة المعرفة عن الله وقبول ما جاء منه سبحانه، بعدها توجیهات ثلاثة صاغها فی أسلوب نهی: لا ترخِّصوا لأنفسکم فی العبادات الواجبة، ولا تبیِّتوا ـ العمل لیلًا ـ فی أنفسکم المعاصی الباطنة، ولا ترکنوا إلى من حادَّ الله وحارب شرعة، وربط الکاتب إتیان هذه الآثام بخوفه علیهم من الخذلان، وضمَّنها الآیة القرآنیة الدالة على أن من ینصره الله لا یمکن أن یُهْزَم، ومن یخذله سبحانه فلا ناصر له. وهذا النص موجَّه إلى أفراد الحملة وسوادهم من عامة الشعب، وهذا دلیل على المستوى العلمیِّ والثقافیِّ والانسجام الحضاریِّ الذی یسود المجتمع. فی الفترة المتأخرة فقدت عُمان وحدتها ومزقتها الحروب والصراعات وعمَّت الفوضى فی ربوع البلاد، وتغیَّر المفهوم الحضاریُّ؛ فلم یعد هناک انسجام بین فئات المجتمع، وغُیِّبَ التعاون والانتماء وهما أساسا البناء الحضاری والدَّوام، إلَّا فی فترات متقطعة. وضمن هذه البیئة المحیطة یمکننا أن نُصَنِّف رسائل تلک الفترة أنها لا تعدو أن تکون إخباریة، اتسمت لغتها بالاستبعاد والإنکار، وابتعدت النصوص عن مقومات النَّص الأدبیِّ أو الحضاریِّ ومحدَّداته، وغدت الجهود فردیة وأهدافها قصیرة آنیة. وهذا مثال على نص یحمل إعلانًا سیاسیًا بتنصیب إمام من الطائفة الرستاقیة (ق6هـ) والخطاب موجَّه إلى الطائفة النزوانیة وأتباعها، قال: "أما بعد یا أهل عُمان هذا کتاب قدمناه إلیکم، وجعلناه حجة لکم وعلیکم، لیزداد المسلمون یقینًا إلى یقینهم، ویتحققوا ما هم متعبدون به من الاعتقاد فی دینهم، ویعلم أولو الشک والارتیاب عدل ما دخلنا فیه، ویعرفوا ضلالة مَنْ صدَّهم عما دعوناهم إلیه، لیهلک من هلک عن بیِّنة ویحی من حیَّ عن بیِّنة ویحق القول على الکافرین". تحلیل النص: إن أصل الخلاف الذی افترق علیه أهل عُمان سیاسی، عزل الإمام الصلت بن مالک أو اعتزاله سنة 272هـ، بعدها یتطوّر إلى خلاف سیاسیٍّ فکریٍّ، ثم زُجَّ بالعقائد عندما اشتدَّ الخلاف بین المدرستین الرستاقیة والنزوانیة. إن سیاق النص یصوِّر حالة البیئة المحیطة بکتَّاب تلک الفترة، ومدى تحوُّل لغة الخطاب من الأسلوب الفنِّیِّ إلى لغة متسمة بالانفعالات النفسیة، والاستماتة فی إثبات رأی المخاطِب وبیان خطأ المخاطَب بالتشکیک فی العقیدة مرة، والاتهام بالضلال مرة أخرى، وأخیرًا التکفیر. لقد أُرید للنص أن یکون ضمن الأسلحة التی یشهرها هذا الطرف فی وجه الطرف الآخر، فجاء ضمن مقاییس تلک البیئة، فاختفت منه الظواهر الحضاریة، واستُعْمِلَتْ ألفاظ فی سیاق حجاجیٍّ أقرب إلى التقریع، ووضعت خطة بنائه فی صبغة خطابیة لها صلة بالمحاورات الشفهیة کما فی صدر النص "أما بعد یا أهل عُمان ..". لقد کان لهذه المؤثرات دور فی إبعاد النص عن مجال الأدبیة، وهو العنصر الذی سعى إلیه جل کتَّاب الرسائل؛ لیکون لرسائلهم مکانٌ ضمن الأجناس الأدبیة. الأدبیة فی صلتها بالقیمتین التأثیریة والجمالیة: یسعى کتَّاب الرسائل أن تکون نصوصهم ذات قیمة فنِّیَّة وسیاقیة یلتحم بهما النص مع الوظیفیة التوصیلیة؛ ولتحقیق ذلک لجأوا إلى خصائص اللغة وأسالیبها لتجوید کتاباتهم، "والکتابة الجیدة تحتاج إلى أدوات جمَّة وآلات کثیرة"( ). ولقد فعَّل کتَّاب مدوَّنتنا خصائص اللغة وأدواتها لجعل نصوصهم ذات قِیَم تعبیریة وشعوریة وجمالیة بقصد تأکید صلتها بالأجناس الأدبیة إضافة إلى وظیفتها التوصیلیة. وفی أثناء دراستنا قمنا بتحلیل أبرز الأدوات التی استعملها کتَّاب الرسائل فی هذا المجال. جزالة الألفاظ وسهولتها: اهتم العرب باللفظ فی لغتم قدر اهتمامهم بالمعنى، إذ أصلحوا ألفاظهم وحسَّنوها ورققوا حواشیها وصقلوا أطرافها لخدمة المعانی. یقول ابن رشیق: "اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه کارتباط الروح بالجسم، یضعف بضعفه ویقوى بقوته"( ). وجزالة الألفاظ وسهولتها مدعاة للتأثیر فی المتلقی وتحریک الأحاسیس الجمالیة لدیه، وتحویل الأثر إلى عملٍ فنِّیٍّ یتصف بالبقاء؛ ولهذا یجب الابتعاد عن الوحشی من اللفظ الثقیل على السمع. یقول ابن الأثیر: "للفظ عیبان: أحدهما أنه غریب الاستعمال، والآخر أنه ثقیل على السمع کریه على الذوق". ویفصِّل ذلک فی مکان آخر فیقول: "لست أعنی بالجزل من الألفاظ أن یکون وحشیًا متوعرًا علیه عنجهیة البداوة، بل أعنی بالجزل أن یکون متینًا على عذوبته فی الفم ولذاذته فی السمع، وکذلک لست أعنی بالرقیق أن یکون رکیکًا سفسفًا، وإنما هو اللطیف الرقیق الحاشیة الناعم الملمس"( ). ولقد سعى جل کتَّاب مدوَّنتنا إلى اختیار أجزل الألفاظ وأسهلها، والابتعاد عن الوحشی منها وغریبها؛ ولهذا جاءت ألفاظ رسائلهم وتراکیبها مناسبة لثقافتهم العامة المتصفة بالحضور الدینی، وطبیعة مجتمعهم الساعی إلى التحرر من کل القیود. وقد حاول بعضهم استغلال فنِّیَّتها ووقعها الموسیقیِّ لإبراز القیمة التأثیریة للنص، وتأنق الخصائص الجمالیة فیه، وسنعرض نماذج معینة من نصوص المدوّنة. ففی مقدمة رسالة الشیخ هاشم بن غیلان ومجموعة من العلماء إلى الإمام عبد الملک بن حمید ینصحونه فیها بمراجعة موقفه من بقائه فی المنصب مع کبر سنه، اختار الکاتب ألفاظًا سهلة وجزلة لیبیِّن أهمیة منصب ولیّ الأمر عند الله، فقال: "ونوصیک بتقوى الله، والقیام لله بسبیل ما جعلک سبیله، من الأمر الذی قد أحکم فیه وصیته، وأوضح فیه معرفته، وأخذ فیه من أهله المیثاق الغلیظ والعهد الوثیق، ولأهله عنده جزاء فی العقبى بالوفاء بذلک على ما کلفک فی ذلک، وبالنقص على قدر ذلک، وکفى بالله مجازیًا وإلى الله تصیر الأمور"( ). لقد ربط الکاتب توصیته بتقوى الله بأداء واجب الإمامة، واختار لفظ سبیل للتعبیر عنها لأنها غیر ثابتة الشخوص، بل هی مسار قد یؤدی إلى الفوز فی حال الإخلاص، ویمکن أن یؤدی إلى التهلکة فی حال عدم القیام بواجباتها. کذلک وصف عقد الإمامة أنه: "میثاق غلیظ وعهد وثیق"، وهذا وصف بلیغ بمعانٍ سامیة فی ألفاظٍ جزلة معبرة عن أهمیة المسؤولیة الملقاة على ولیِّ الأمر، وأحسن الکاتب عندما ربط ذلک العهد بحسن الأداء، وأن الله سبحانه یجزی فی الآخرة من أوفى بحقها، ویعاقب من قصَّر فی أدائها، وهذا مؤشر على براعة الکاتب وتمکُّنه مِن أدوات الکتابة لاستمالة المخاطَب والتأثیر علیه فی صدر الرسالة لخدمة غرضها. وعندما أراد الإمام راشد بن سعید أن یلخص مهمة وَالِیه الذی عیَّنه على صحار، اختار لخاتمة رسالة التعیین ألفاظًا ذات متانة لحمل معان متقابلة عمیقة؛ مزاجها رجاء وخوف حیث الرِّضا من حسن إداءٍ والمساءلة من تفریط، وتحقق للکاتب الغرض المقصود من الکلام، قال: ".. فإن فعلت ما رسمته لک فذلک رجائی فیک وحاجتی إلیک، وإن خالفته بعمل الباطل والجور ورکونًا إلى الفعل المحرَّم المحجور فإنی برئ من فعلک وأنت مأخوذ بما یجب فیه فی نفسک ومالک فاتق الله فی قولک وأعمالک"( ). لقد برع الکاتب فی اختیار الألفاظ، وکذلک فی حسن استعمال کل لفظ فی موضعه، إذ استعمل لفظ: رسم، "فإن فعلت ما رسمته لک"، ولم یستعمل ما کتبته لک، أو وجَّهتک فیه، رغم أن التواصل بینهما أثر کتابی یحمل توجیهات سیاسیة من الإمام إلى الوالی. إن اختیار رسم فی هذا السیاق مجازی یتعدى الکتابة إلى تخطیط ورسم هندسی ودقة فی التنفیذ. ومن جانب آخر فإن الرسم أبقى وإن زال الأثر. یقول ابن منظور: "الرَّسْمُ: الأثرُ، وقیل: بَقِیَّةُ الأثر، وقیل: هو ما لیس له شخص من الآثار"( ). وفی موضع آخر أشار الکاتب إلى فعل المخاطَب ولیس إلى شخصه، قال: "فإنی برئ من فعلک" ولم یقل إنی برئ منک؛ لأن العامل المشترک بینهما هو النتائج المترتبة على أفعال الوالی ولیس شخصه، کذلک اختار الکاتب اسم المفعول مأخوذ، ولم یقل تؤخذ أو أخذت حیث تغییب الزمن لیبدو دون توقیت لیستحق الجزاء فور المخالفة، وهذا من حسن اختیار الألفاظ، أضفت على النص متانة فی المعنى وقیمة جمالیة فی النظم. ومن أمثلة اختیار الألفاظ الجزلة الدالة على المعانی المقصودة نصٌّ أورده الشیخ موسى بن علی بن عزرة فی صدر رسالته إلى الإمام عبد الملک بن حمید، یناقشه فیها اختیار ولاة الأمر على مستوى الأقالیم، قال: "واعلم رحمک الله أنک بمکان لا یَحِلُّ فیه خذلانک، ولا کتمانک فی معونة على صواب ولا نصیحة فی خطأ، وقد نکره من خطئک کما نسر به من صوابک، ونصیحتک علینا حق، وغیبتک علینا حرام، ولا ینبغی لنا ترکک ولا قطع النصیحة عنک". لقد اختار الکاتب فی بدء حدیثه لفظ مکان للإشارة إلى منصب الإمامة، وهو لفظ مستعمل فی التواصل الیومی، لکن نظمه فی هذا السیاق أوجد معنًى عمیقًا للمنصب، وأضفى علیه تعظیمًا أکثر مما لو استعمل لفظ الإمام أو الإمامة؛ وذلک لرمزیَّته ومکانته الدینیة والسیاسیة والاجتماعیة، لدرجة أنه لا یجوز التخلی عمن کان فیه وخذلانه. کذلک استعمل لفظ معونة لمساعدة الإمام على الأمور الصالحة وقدمها على النصیحة فی حال وقوع الأخطاء، بینما فی الأمور الوجدانیة قدم کره ما یقع من الإمام من أخطاء على السرور من أعماله الصائبة وهی الأعم. لقد جاءت ألفاظ النص سهلة منسجمة مع غرضها، صیغت فی نَظْم متناسق یترک فی النفس أثرًا جمالیًا، ویؤثر فی المتلقی بحسن القبول والإقناع. تمثِّل صلة النثر بالشعر فی الرسائل شکلًا من أشکال التداخل بینها وسائر الأجناس الأدبیة، وهذا مثالٌ لما استعمله الملک محمد بن مالک( ) (ق6هـ) فی رسالته العسکریة إلى موسى بن أبی المعالی الذی نُصِّب إمامًا فی زمانه، إذ صدَّر رسالته ببیتین من الشعر تلخِّص مجمل الرسالة، وقد صیغت بألفاظ جزلة المظهر وعمیقة المعنى: (البسیط)( ). مَهْلًا بَنی عَمِّنا مَهْلًا مَوالینا لا تَبْعَثوا بَیْنَنا ما کان مَدْفونا لا تَطْمَعوا أَنْ تُهینونا ونُکْرِمُکُمْ وَأَنْ نَکُفَّ الْأَذى عَنْکُمْ وتُؤْذونا اشتدَّ الصِّراع بین الملک والإمام على السُّلطة وتحوَّل من صراعٍ سیاسیٍّ إلى صدامٍ عسکریٍّ، وهذه الرسالة أولها دعوة للمصالحة بین الفرقاء وآخرها تهدید بالقوة العسکریة لحسم الموقف، تمامًا کما أشار الشاعر فی البیتین، فکان اختیارهما تحقیقًا لمقصد الکاتب. اختار الشاعر لفظ مهلًا فی بدء الحدیث وکررها مرتین فی الشطر الأول من البیت، وهو لفظ سهل لکنه جزل یؤدی المعنى المُراد، إذ یعنی السَّکِینة والتُّؤَدة والرِّفْق والتباطُؤ، وهذا ما أراده الکاتب من خصمه، إذ عدم التعجل فی إعلان القطیعة. وبدأ الشطر الثانی بلفظ تبعثوا مع وجود أداة النفی؛ وهو یشیر إلى أن الخلافات بین الفریقین قد ماتت ودفنت ولا یجوز إحیاؤها، وهذا المقصد الرئیس للکاتب فی رسالته حققها له الشاعر فی بیت واحد وبألفاظ جزلة لکنها عمیقة المعانی. البیت الثانی هو ردّ الکاتب على المخاطَب فی حال عدم قبول المصالحة وتوحید البلاد؛ ویعنی الحرب. بدأ بلفظ تطمعوا مع وجود النفی، وهو لفظ مستعمل یدل على الأخذ بأکثر مما یستحق، وفیه تقریع للمخاطَب واتهامه أنه استولى على السلطة وهی لیست من حقه، وفی الشطر الثانی استعمل لفظ الأذى وقد یحمل على المجاز المرسَل علاقته اعتبار ما سیکون، إذ الاکتفاء بالنتیجة الحتمیة للحرب، وقد یکون معنویًا ومادیًا یشمل القتال. لقد برع الکاتب فی تصدیر رسالته بهذین البیتین؛ لما ترکاه من تأثیر فی المتلقی، وقدرة على تحریک الانفعالات العاطفیة بألفاظهما السهلة الجزلة وقیمتهما الجمالیة، والکاتب استعمل الشعر فی عشرة مواضع من رسالته. ورغم أن طابع الجزالة والوضوح فی الألفاظ والمفردات قد شمل معظم رسائل المدوَّنة، فإن بعض نصوص الفترة المتأخرة اتسمت بصعوبة الألفاظ وغریبها، ومن أمثلة ذلک نص من رسالة( ) سیاسیة ینتقد فیه الإمام محمد بن أبی غسان( ) (ق6هـ) خصومه غیر مبایعین له بالإمامة وتجییشهم عوام الناس للحرب، قال: "رجعوا بمن تبعهم من الطغام( ) مستکثرین بأوباش( ) وعوام، قد أجبروهم على اتباعهم وأوعدوهم العقوبة على تخلفهم عنهم وامتناعهم، لیس منهم متسمى بصلاح یتنمسون( ) به العامة وأهل الطلاح، حتى إذا وصلوا البلاد وقد نالوا بزعمهم المراد، وأقبلوا على المستورین وأهل العفاف وسائر الرعیة والضعاف، یستذلونهم بالمصادرات جبرًا، ویتشنقصون( ) علیهم بالکسرات جبرًا لهم وقسرًا؛ لینفقوا زعموا على العساکر، ویقفوا على ما علیه من المناکر"( ). ولعل طبیعة الموضوع کونه یتعلق بالصراع على السلطة، وکذلک البیئة المحیطة الملیئة بالصراعات السیاسیة والعسکریة والفکریة هی المؤثر الرئیس فی نفسیة الکاتب لجعل النص أول الأسلحة فی مهاجمة الخصم، فبناه بنفس طریقة بناء الخطابة الردعیة؛ بقصد استغلال قوة القول سلطة توازی قوة الفعل، فاختار له بعض الألفاظ المتصفة بالخشونة الثقیلة على السمع، ونظمها فی سبکٍ فیه من الغلظة حوَّلت النص من دعوة لمبایعة الإمام؛ إلى وثیقة تهدید ووعید تحشر الخصم فی زاویة من التهم، طالت عِلْیَةَ القوم وأتباعهم الذین وصفهم بالطغام والأوباش من الناس، وهی فئة غیر قابلة للحوار من وجهة نظر الکاتب. الإیجاز والإطناب: یختار المبدع للتعبیر عما فی نفسه طریقًا من ثلاث؛ فهو تارة (یوجز)، "وحدُّ الإیجاز هو دلالة اللفظ على المعنى من غیر أن یزید علیه"( )، أی جمع المعانی المتکاثرة تحت اللفظ القلیل مع الإبانة والإفصاح. وتارة (یُسهب) أو ما یعرف بـالإطناب، "وحدُّه زیادة اللفظ على المعنى لفائدة"( )، أی لغرض بلاغی، والإطناب غیر التّطویل، إذ التَّطویل زیادة اللفظ عن المعنى لغیر فائدة. وتارة یأتی بالعبارة (بین بین) أو ما یعرف بالمساواة، وهو أن تکون الألفاظ بقدر المعانی( ). وکتَّاب مدوّنتنا لم یکونوا على مستوى واحد فی الإیجاز والإطناب، إذ تختلف النصوص باختلاف الکتَّاب أنفسهم، وکذلک موضوع الرسالة وغرضها، والبیئة التی کتبت فیها، ولکن الذی یجمعهم أن طریقة الإیجاز والإطناب فی نصوصهم لم تکن غایة فی حدِّ ذاتها؛ وإنما ترد لمقتضى الحال فی خدمة المعانی، فَرُبَّ لفظٍ قلیل یدل على معنى کثیر، ورُبَّ لفظٍ کثیر یدل على معنى قلیل بقصد توضیح الفکرة المطروحة وتأکیدها. ومن النصوص التی ظهرت فیها سمة الإیجاز فی موضع والإطناب فی آخر، رسالة الشیخ منیر بن النیِّر الجعلانیّ إلى الإمام غسَّان بن عبد الله (192 ـ 207هـ) یحثه على تفعیل فریضة الجهاد لحمایة استقلال البلاد، ویقترح علیه إنشاء قوة بحریة لهذا الغرض، ولتأمین التجارة البحریة التی تربط عُمان بأعالی البحار والخلیج من القراصنة. فقد أطنب الکاتب فی مقدمته( ) وجعلها فی ست عشرة صفحة من أصل عشرین، تحدث فیها عن مفهوم الجهاد فی الإسلام وأهمیَّته فی الذود عن الدین والأرض والعرض وحمایة مصالح المسلمین، وعن فهم السَّلف للجهاد وکیف أنهم کانوا یتسابقون فیه حسب مشروعیته، وکان یستشهد بالوقائع فی مراحل مختلفة، وما تطلبه کل مرحلة حسب الزمان والمکان وحال المجتمع، وکل ذلک بقصد التوطئة لبسط مفهوم الجهاد؛ لأن العُمانیین کانوا حینها فی مرحلة التألیف للعلوم الشرعیة وتقعیدها، وفی الوقت نفسه لاستمالة المخاطَب والتأثیر علیه لقبول المقترح. وعند عرضه لغرض الرسالة أوجز الکاتب الموضوع وجعله فی بضعة أسطر؛ وهذا لمقتضى الحال، إذ أن مسؤولیة الشیخ تقدیم المقترح ولا یحتاج إلى بسط، أما دراسته وتخطیطه وتنفیذه فمن مسؤولیة الإمام وحکومته، وهذا ما تم بالفعل، إذ أنشأ الإمام غسان قوة بحریة سیطرت على المنطقة البحریة من الهند إلى البصرة، وأخذت تتوسع حتى بلغت ذروتها أیام الإمام الصلت حین وجَّه حملة بحریة عام 253هـ قوامها أکثر من مائة سفینة لاسترجاع جزیرة سقطرى. ومن مواضع الإیجاز فی الرسالة عند تحذیره الإمام من البطانة الفاسدة، قال: "وإیاک أن تکثر بمن یشین ولا یزین، ویفسد ولا یصلح فإنهم لن یغنوا عنک من الله شیئًا وأن الظالمین بعضهم أولیاء بعض والله ولی المتقین"( ). إن استعمال الکاتب للإطناب فی موضع والإیجاز فی آخر لا یرمی إلى تحقیق غایات بلاغیة فحسب، بل یهدف إلى بسط المعانی وتوضیحها فی حال الإطناب، وفی استغلال التکافؤ الثقافی بینه وبین المخاطَب فی حال الإیجاز. إن دراستنا للإیجاز والإطناب قیاسًا على مجمل الرسالة فی طرح أغراضها ولیس للألفاظ فی داخل النص الواحد، فالکاتب قد یطنب فی النص القصیر، مثل: وإیاک أن تکثر بمن یشین ولا یزین، ویفسد ولا یصلح"، إذ أن لا یزین ولا یصلح تکرار الجمل المترادفة، وهذا یعدُّ من الإطناب. ومن مواضع الإیجاز والإطناب فی الرسالة نفسها، عهد الإمام الصلت بن مالک (ق3هـ) إلى والِیهِ حین عیَّنه على الرستاق، وقد اشتمل على توجیهات دینیة وسیاسیة واجتماعیة وقضائیة وأخلاقیة صاغها الکاتب جمیعها فی إیجاز مقصود، وهذا یُبیِّن المثاقفة المتبادلة بین ولاة الأمر، وثقة الإمام فی قدرة الوالی على إدارة هذه الأمور؛ ولذلک قدمها فی صورة موجزة. ومن أمثلة ذلک توجیهاته فی أمور القضاء الذی یُعَدُّ من أهم إدارات المجتمع، قال: "ولا تحکم بین الناس فی القصاص، ولا فی الأرش( ) ولا فی الأموال ولا فی نکاح ولا فی طلاق ولا فی عتاق، حتى ترجع ذلک إلیَّ، وکلما اشتبه علیک شیء من الحکم فیما بین الناس، فقف ولا تقدم علیه حتى تشاورنی، فأنظر فیه أنا ومن معی من أهل الرأی". وینطبق أیضًا على هذا النص ما قلناه فی الفقرة السابقة، إذ کان بوسع الکاتب أن یقول: "ولا تحکم بین الناس فی جراحات ولا أموال ولا نکاح ولا طلاق ولا عتاق". وعند الحدیث عن الأمور الاقتصادیة التی شملت الزکاة والأمور التجاریة والمالیة، استعمل الکاتب أسلوب الإطناب بقصد بسط الموضوع وفصَّله فی أربع صفحات من أصل عشر، وهذا دلیل على أهمیَّته، إذ وجَّه الإمام إلى کیفیة أخذ الزکاة من الأنعام والثمار وإدارتها وصرفها، وکذلک المعاملات التجاریة والمالیة، وأخذ الجزیة من أهل الذمّة بحقها. إن إطناب الکاتب فی هذا الموضوع وبسطه دلیل على أن عُمان کانت تعیش مرحلة اقتصادیة متقدمة، وأن المدن الرئیسة کانت تعمل مراکز مالیة وتجاریة بالغة الأهمیة. ففی توجیهاته حول التعامل المالی مع المواطنین من أهل الکتاب، قال: "واعلم أن أهل الذِّمَّةِ( ) تؤخذ منهم الجزیة عند انسلاخ الشهر، ویؤخذ من الدَّهاقین( ) والمَلوک( ) من کل واحد أربعة دراهم کل شهر، ویؤخذ من سائرتهم وأهل السعة من کل واحد درهمان کل شهر، ولیس على الصبیان والشیخ الفانی ولا على الفقراء ولا على الزمناء( ) ولا على النساء ولا على العبید، ولا على الإماء شیء". تؤثر البیئة المحیطة على الکاتب فیما إذا کان الموضوع یحتاج إلى بسط أو إیجاز، ففی البیان السیاسی الذی أصدره الإمام راشد بن سعید الیحمدی ومجموعة من العلماء عام 443هـ، ودعا فیه إلى ترک الخلاف والتوقف عن مسألة الولایة والبراءة فی قضیة خلع الإمام الصلت بن مالک عام 272هـ، إذ وجَّه الإمام خطابه إلى العلماء وأهل الرأی وقادة المجتمع، فاستغل التکافؤ الثقافیَّ الدینیَّ والسیاسیَّ فیما بینهم، فاکتفى باستعمال أسلوب الإشارة والتلمیح وصِیَغ العموم (من) و (ما)، فجاء الخطاب موجزًا فی بضعة أسطر وهو یعالج قضیة شغلت المجتمع العُمانیَّ وفرَّقته قرونًا طویلة، فقال بعد أن تحدث عن الاتجاهات التی سارت علیها المدرسة الرستاقیة التی ینتمی إلیها: "واجتمع رأیهم؛ أی العلماء،على الدینونة بالسؤال فیما یجب علیهم السؤال فیه عند أهل الحق الذین یرون السؤال واجبًا، واجتمع رأیهم على أن من دان بالشک فهو هالک، وکذلک اتفقوا على أن من علم من محدثٍ حدثًا وجهل الحکم فی حدثه أن علیه السؤال فیه، وإن علم الحدث والحکم کان علیه البراءة منه إذا کان حدثه ذلک مما یجب به البراءة من فاعله". تتطلب رسائل الردود أن یُبْسَطَ فی الموضوع أحیانًا، وذلک بقصد مناقشة القضایا المطروحة، ثم التعلیق علیها، ولهذا تتسم بالإطناب، وهی سمة تتیح للکاتب أن یظهر مهاراته الفنِّیَّة وثروته الفکریة والثقافیة فیکثر من عرض الموضوع. ومن أمثلة ذلک فی مدوَّنتنا رسالة الإمام محمد بن أبی غسان (ق6هـ) ردًا على من اعترض على حربه على أهل حیِّ العقر بنزوى. رسالة النقد وجِّهت إلى الإمام وحکومته من الشیخ أحمد بن محمد بن صالح القری على أعمالٍ ارتکبت فی أثناء القتال، ربطها الکاتب بنصوص من فقه الإباضیة تشیر إلى أنه لا یجوز حدوثها بین المسلمین فی حروبهم، فجاء الرد مطوَّلًا فی 40 صفحة، فیه من ضروب التأکید قصدًا للمبالغة، واستشهد الکاتب بآیات قرآنیة فی ثلاثة وعشرین موضعًا، إضافة إلى أحادیث نبویة، وتضمین أمثال وحکم وأقوال من آثار السلف. یقول فی رده على المحتوى العام لرسالة النقد’: "أما بعد فإنا قد وقفنا على کلامٍ قد ألف، ومقال قد لفق وزخرف، موسومًا بالنصیحة فی إعریض الأعراض( )، مرقومًا بعنوان البِّر دالًا على الاعتراض، فلحظنا بعین النصح ألفاظه ومعانیه، وکررنا تصفحه وتأمل ما فیه، فألفیناه خارجًا عن مقصد النصائح، ووجدناه مخالفًا للآثار الصحائح، متناقضًا فی ازدواج معانیه، متنافیًا فی وضع مبانیه. یدل على أنه صدر عن جهل بدقائق الأحکام وقلة علم بسیرة الحکَّام، واندفع عن عجلة فکر جاف، وخرج من قلبٍ کدر وضمیر غیر صاف"( ). لقد أراد الکاتب أن یبیِّن أن غایة رسالة النقد خارجة عن النصح المألوف فی مثل هذه المواقف، وقد ساق لذلک معانی مکررة بألفاظ مختلفة. وکان الشیخ القری اعترض على هذه الحرب وأوجز فی وصفها قائلًا: "وقد اتصلت بنا عنکم أخبار موحشة مستعظمة وأحداث منکرة محرمة مما تجری بنزوى على أیدیکم من الحرب المتواصلة والمحن النازلة والخُطوب( ) الهائلة". لقد جمع الکاتب کل مکدِّرات الحرب فی هذه الألفاظ القلیة، فأخبارها المنتشرة توحش النفوس وعظیمة فی وقعها؛ لأنها تقع بین أبناء المجتمع المسلم الواحد وفی عقر داره، وذکر أحداثها أنها تنکرها العقول السلیمة، وهی محرمة شرعًا، ووصفها أنها متواصلة؛ أصاب دمارها العباد والبلاد، وأنها عظیمة الأمر والشأن. اتسم رد الإمام على هذه المعانی بالإطناب، وبسط الکاتب رده فی صفحتین، استقصى فیها شرح تلک الأحداث، وساق الکثیر من البراهین والحجج لدرجة المبالغة لتبرئة الإمام ومعاونیه من بدء شن الحرب وأحداثها اللاحقة. یقول فی أحد ردوده: "وأما قوله، وقد اتصلت بنا عنکم أخبار موحشة مستفظعة( ) وأحداث منکرة محرمة، فلا نعلم حقیقة من أراد بهذا المقال، ومن قصد بهذه التخطئة وهذا الضلال. ولیس لنا أن نحکم بالغیب، ولا یحل لنا ولوج الشبهة والریب، لکنّا نقول على الشرط أنه إن کان أرادنا بذلک وقصدنا وعنانا بمقاله هذا واعتمدنا، أنه قد عجَّل علینا بالتخطئة بغیر بیان، وسارع إلى تکفیرنا بلا صحة ولا برهان، وکان الواجب علیه والأولى به، والألیق بدینه ومذهبه، أن یتثبَّت لنفسه قبل القطع بلا قیاس، ویتبیَّن أمره قبل البناء بلا أساس". ولقد أتاح هذا الأسلوب للکاتب اتساع المجال لبسط المعانی، وشمل الإطناب معظم الجمل فی النص، ولم یکتفِ بما أورده من حجج وبراهین؛ بل استشهد بأقوال أحد السَّلف لخدمة السیاق وتوسعة المعانی، فقال: "وقال الشیخ أبو محمد( ): من أقدم على معایب الرجال قبل أن یعرف معاذیرها، وتَقَحَّمَ الموارد قبل أن یعد مصادرها، ندم حیث لا تنفعه الندامة، وهرب حیث لا تُرجى السلامة، وحصل فی ضیق المسالک، ودخول المهالک، وتورط فی المشکلات، وتهوَر فی المهلکات، ووقع فی الشبهات". وعند رده على النقد الموجَّه للإمام وحروبه المتواصلة أطنب الکاتب فی بسط المعانی للتوکید، وربط ذلک بالواجب الدینی بقصد التأثیر فی المتلقی، قال: "وأما قوله عن الحروب المتواصلة، فلیس فی تواصل الحروب دلیل على تحریمها إذا کانت جائزة فی الأصل. وما فی تواترها شاهد على راکبها بالهلاک إذا أسست على العدل، بل ذلک هو الواجب فی الدین والمعنى الذی یرجى به الظفر بالمفسدین حتى یفیئوا إلى أمر الله أو یَهْلَکوا أو یظفر بهم المسلمون فیملکوا. فإنَّ من کان له دین حارب علیه وشمر، ومن تصدى للقیام بأمر الله جاهد علیه وصبر". ویستشهد الکاتب بأبیات للإمام الحضرمی( ). (الطویل): ( ) ومَا یُنْزِلُ النَّخَواتِ إلّا فظَاظَةٌ وغِلْظَةُ لَیْثٍ مثلُ جُلمودِ صَخْرَةِ ولا یقهرُ الطُّغیانَ بعدَ طِماحِهِ سِوى وَقْعَاتٍ وَقْعَةٍ بعدَ وَقْعَةِ بِیْومٍ وأیامٍ وشَهْرٍ وَأشْهُرٍ وحَوْلٍ وَأحْوالٍ وجَیْشٍ وَغَزْوَةِ تنسب هذه الرسالة فی کتابتها إلى الشیخ أحمد بن عبد الله الکندی صاحب کتاب المصنف، وهو تلمیذ الشیخ القری صاحب رسالة نقد حرب حیّ العقر؛ ولهذا أرادها الکاتب أن تعلو من مجرد رسالة رد وظیفتها توصیل الأفکار، إلى نصٍ إبداعیٍّ یؤثر فی متلقیه بخصائص صیاغته ونمطه الفنِّیِّ، وبما ضمَّنه من اقتباسات واختیارات من المصادر الدینیة والتاریخیة والفکریة والثقافیة والأدبیة، واستطاع تحویل الإطناب من مجرد أسلوب من أسالیب الکتابة إلى مجال رحب لبسط المعانی وتأکید الحجج، وأضفى على النص خاصة جمالیة لما تضمَّنه من تعالق مع مصادر ونصوص أخرى. السجع: للسجع دورٌ مهمٌّ فی إعطاء النص جرسًا موسیقیًا جمیلًا، یأنس بقیثارته المتلقی انسجامًا متداعیًا محفوفًا برغائب الاستمرار، وتلک سمة زخرفیة لفظیة "حدَّه: تواطؤ الفواصل فی الکلام المنثور على حرف واحد"( ). وهو محمود إلّا من تَکلُّف، وأفضله ما تساوت فقره، ولا یحسن إلّا إذا کان رصین الترکیب، خالیًا من التکرار فی غیر فائدة. وقد استعمل کتَّاب مدوَّنتنا السجع فی نصوصهم لکنهم لم یسرفوا فیه، ولم یکن استعمالهم له بقصد تحبیر کتاباتهم وتنمیقها؛ بل جاء فطریًا وعفویَّ الخاطر موافقًا لمقتضى الحال بعیدًا عن التَّصنُّع والتَّکلُّف، فکان مسلکًا موَطَّأً لمرغوب الکاتب من جهة، مراعیًّا فیه لفت خاطر المتلقی من جهة أخرى. وهذه نماذج من نصوص المدوَّنة. یستعمل السجع فی صدور الرسائل لشد انتباه المخاطَب، إذ یُکَثَّف التعبیر بجمل مسجَّعة لبیان أهمیة الموضوع، وتوضیح مقصد المرسِل وغرضه. ومن أمثلة ذلک رسالة الشیخ هاشم بن غیلان وأهل إزکی إلى الإمام عبد الملک بن حمید (207 ـ 226هـ) ینصحونه بصفته إمام المسلمین أن یعدَّ الأمة للجهاد قبل اتخاذ قرار الحرب، فأراد الکاتب فی المقدمة أن یُبَیِّنَ أهمیة المنصب وقرارته، فصاغ ذلک فی جمل مسجوعة، فقال: "نوصیک بتقوى الله وطاعته، والقیام لله بسبیل ما جعلک لسبیله من دینه، المطوَّقة حقوقه التی أوجبها بمیثاق وتؤکد، وأحْسِنَ رعایة ذلک بالجهد، واعمل فیه بالتشمیر والجد، فإنها نعمةٌ من الله أصبغها علیک، وهدیَّةٌ کریمةٌ صرفها إلیک"( ). بعد ذلک صاغ الکاتب رسالته بالنثر المرسَل، إذ أدَّى السجع وظیفته فی صدر الرسالة ولم تعد حاجة للتصنیع اللفظی؛ لأن الکاتب استغل التکافؤ الثقافی بینه وبین المخاطَب فی عرض الموضوع والخاتمة. ومن أمثلة ذلک أیضًا رسالة الشیخ موسى بن علی بن عزرة إلى الإمام عبد الملک بن حمید ینصحه فیها باختیار ولاة الأمر، صدَّرها بمقدمة طویلة صاغها بجمل مسجوعة بدأها بالحث على القیام بأمر الإمامة، فقال: "أوصیک ونفسی بتقوى الله وطاعته، والاجتهاد لله فی إقامة ما ابتلاک بإقامته، وحفظ ما استحفظک من أمانته". وعندما أراد أن یوضح له هذه المعانی، قال: "ولستَ على شیء حتى تقیم کل شیء مقامه، وتبلغ من کل أمر تمامه، وتأخذ منه بالمعرفة والیقین، وتکون منه على الحق المبین، الذی لا ترى فیه شکاً، ولا تخاف على نفسک هلکاً...". ولما أراد أن یذکِّر بسیرة السلف تحدث عنهم من منظور الناس إلیهم، ولم یشأ ذکر أعمالهم، فقال: "لهم فی النّاس أمانة، وللقلوب بهم طمأنینة، ولا تحسن القلوب تهمتهم، ولا تنکر معرفتهم، ولا تتحرج لهم الصدور، ولا تُسْتَنْکَر منهم الأمور". وفی تخلِّصه من المقدمة صاغ أسلوبه فی جمل دعائیة مسجوعة، فقال: "أما بعد: فعافاک الله أیها الإمام من کل بلاء، ووقاک کل سوء فی الآخرة والأولى، وفعل لنا مثل ذلک إنه فعَّالٌ لما یشاء"( ). ثم استغنى الکاتب عن السجع فی کل الرسالة. لقد وظَّف الکاتب الجمل السجعیة فی مقدمته لإنتاج الدلالة ولخدمة خطة الرسالة، فتحوَّل السجع فی مجمله إلى شکل من أشکال المعانی، وجمع فیه بین ملاءمة قدر المخاطَب وطبیعة غرض الرسالة بقصد استمالة المتلقی وحمله لتقبل مضامین الرسالة. وقد حاول الکاتب أن تکون أجزاء الجمل متعادلة، وتکون الفواصل على حرف واحد، وألّا تزید جمل الفاصلة الواحدة عن ثلاث، وهذا ما أشاد به العسکری: "فإن أمکن أن یکون کل فاصلتین على حرف واحد أو ثلاث أو أربع لا یتجاوز ذلک" ( ). کذلک لم تکن الجمل على قدر واحد من حیث الطول، بل یحکمها السیاق، فأبعدها ذلک عن التکلف، وتحقَّق تغیُّر التنغیم الموسیقی والإیقاع الصوتی للنص. ومن أسالیب استعمال السجع فی مدونتنا توظیفه لربط صدر الرسالة بخاتمتها، ففی عهد الإمام راشد بن سعید الخروصی (ق5هـ) إلى وَالِیه على صحار، استعمل السجع فی صدر الرسالة وخاتمتها دون متنها، وهذا یدل على أن مقاصد الکاتب وغرض الرسالة ودلالات المعانی هی التی تفرض أسلوب الکتابة ولیس التَّصنُّع، إذ صاغ الکاتب فی صدر الرسالة الإطار العام لعمل الوالی فی جمل قصیرة مسجوعة، فقال: "واذکر حق الله علیک، واشکر نعمته لدیک، ولا تذهب بک حمیة، ولا تمنعک تقیة، أن تساوی فی الحق بین وضیع الناس وشریفهم، وقویهم وضعیفهم، وبغیضهم وحبیبهم، وقریبهم وبعیدهم". وفی ختام الرسالة ربط تنفیذ هذا العمل بالتعاون بین مؤسسات الدولة فی المنطقة، فقال: "وحجرتُ علیک وعلیهم؛ أی العاملین بالمؤسسات، خذلان بعضکم لبعض فیما یجب علیکم من المعاضدة، والمعاونة والمساعدة، وفیما یعود بطاعة ربِّ العالمین، وبإعزاز دولة المسلمین، وکسر شوکة المعتدین". إن استعمال الکاتب للجمل المسجوعة فی مقدمة الرسالة وخاتمتها حافظ على سلامة النص وجعل له جرسًا موسیقیًا یترک أثره فی المتلقی، وإذا ربطنا التوجیه الأول فی صدر الرسالة بالمطلب الأخیر فی خاتمتها فإنها تمثل خلاصة غرض الکاتب، وما بینهما تفاصیل تساعد الوالی فی التنفیذ، وهنا تظهر قیمة السجع وبلاغته عندما یوظَّف لخدمة المعانی وغرض الرسالة. کذلک اختیار الکاتب للجمل القصیرة فی المقدمة خاصة وتنوّع فواصلها ساعد على تولید الجانب الإیقاعی. یستعمل السجع فی رسائل التهدید ردیفًا لموروث الخطابة الردعیة. ومن أمثلة ذلک فی مدوَّنتنا رسالة الإمام محمد بن مالک بن شاذان (ق6هـ) إلى منافسه على الإمامة سعید بن راشد بن علی، إذ استعمل الکاتب السجع فی مجمل الرسالة، یقول فی المقدمة: "إلى الخائض بجهله غمرات مغواه، المهلک فی مهلکة رداه، المتمادی فی غیِّه وهواه، البائع سلامة دینه بفصیحة دنیاه". إلى أن قال فی بدایة متنها: " أما بعد فما هذا التعامی عن الحق وهو واضح، وما هذا التمادی فی الباطل وهو فاضح، وإلى متى التحسن بالکذب وهو قبیح، وحتام تلبیس الحق بالباطل وهو صریح، وما الذی جرأکم على استعمال الکذب والبهتان، وأی شیء حملکم على الانهماک فی الإثم والطغیان، فأنساکم ذکر الله وصیَّرکم حزب الشیطان"( ). ویستمر الکاتب بین النثر المرسَل والعودة إلى السجع. إن استعمال الکاتب للجمل المسجوعة فی هذا النص لا یرمی إلى إمتاع القارئ، بل یرمی إلى تقویة التهدید بالجرس الذی تحدثه المحسَّنات البدیعیة، سواء کان فی داخل الجملة أم فی فواصلها، واختیار الجمل الطویلة وافق السیاق، فظهرت محسنات غیر السجع فی داخل الجملة نفسها، مثل الطِّباق بین الحق والباطل. لقد برع الکاتب فی اختیاره أسلوب السجع لإیصال غرضه، إذ أجبر القارئ على التنقل بین الحقول اللغویة الزَّاجرة، مع وجود أسلوب التدرج فی النقد والغلظة فی الاتهام. الرسائل العسکریة أکثر استعمالًا للبدیع، والسجع خاصَّة، فرسالة الإمام محمد بن أبی غسان (ق6هـ) ردًا على من اعترض علیه على محاربته أهل العقر بنزوى، کان السجع أحد مقومات بنائها الفَنِّیِّ. والرسالة تنسب إلى العلامة أحمد بن عبد الله الکندی فی کتابتها، إذ استطاع الکاتب ببراعته الفنِّیَّة تحویل الإیقاعات الموسیقیة التی تحدثها الجمل المسجعة التی عادة تطرب النفس؛ إلى إیقاعات تأثیریة ترهب النفس وتثبِّت الحجج، واعتمد هذا الأسلوب عنصرًا أساسا فی جمیع مراحل الرسالة، وکان یُنوِّع فی طول الجمل وقصرها والفاصلة المستعملة حسب أهمیَّة الحدث. ففی رده على شکل رسالة النقد، قال: "أما بعد فإنا قد وقفنا على کلامٍ قد ألف، ومقال قد لفق( ) وزخرف، موسوم بالنصیحة فی إعریض الأعراض، مرقوم بعنوان البِّر دالٍّ على الاعتراض". إذن رسالة النقد تُعَدُّ أکاذیب مزخرفة، وتخوض فی أعراض المخاطَبین، ورغم أن عنوانها البِّر لکن غرضها الاعتراض فقط. إن هذا التعبیر ما کان سینتقص کثیرًا من رسالة النقد لو لم یصیغه الکاتب فی هذه الجمل المسجوعة ذات الدلالة الواضحة التی تجعل المتلقی یعید القراءة لتحدید ملامح المقام. وعند الحدیث عن مشروعیة قتال أهل حیِّ العقر، قال: "وأما قوله، قطع الثمار، فما قطعنا ثمرًا ولا کثرًا، ولا قطعنا زرعًا ولا شجرًا، ولا نعلم أحدًا فعل ذلک ممن خرَّجناه للقتال، وبعثناه لحرب هؤلاء الرجال. إلى أن قال: "ولما أن کانت الحجة قد قامت على هؤلاء القوم وظهرت فیهم، وبلغتهم الدعوة وشهرت إلیهم، کان حربهم جائزًا کل حین، ما لم یرجعوا عن بغیهم المبین، وجائز قتلهم مقبلین ومدبرین". إن هذا السجع القائم على التَّنوع فی الفواصل وأطوال الجمل، والبعید عن التکلف حقق للکاتب مقاصده، فمن ناحیة حافظ على أسلوب الکتابة الفنِّیَّة لرسالته، وهی من أهم مقومات التَّرَسُّل، ومن ناحیة أخرى ساعد على إحداث الجرس الصوتیَّ الذی یجعل المتلقی أکثر قربًا من الرسالة، وأکثر تأثرًا بغرضها وما تهدف إلیه، سواء کان القارئ الحقیقیّ أم الضمنیّ. وعند نفیه اتهامهم بتحریق البیوت، قال: "وأما قوله، تحریق المنازل بالنار، فذلک شیء ما فعلناه، ولا أمرنا بفعله ولا رضیناه، والفاعل لذلک أحق بذمه، وأولى بضمانه وإثمه"( ). وحول توضیح قضیة التَّبییت، أی مباغتة العدو لیلًا دون إنذار، وکذلک الاغتیالات، قال: "وأما قوله، إتلاف الأنفس من عبید وأحرار، فمن بغى على السلمین وحاربهم، وامتنع عن طاعتهم وناصبهم، جاز لهم جهاده وقتاله، وإذا قامت علیه الحجة فردَّها حلَّ لهم بیاته واغتیاله، وهذا شیء فعله الأئمة والأفضلون، اقتداء بما سنَّه الأنبیاء الأولون"( ). إن اتباع هذا الأسلوب من قبل الکاتب ساعد على إثراء الإمکانیات التواصلیة بین النص ومتلقیه، وحوله من نصٍّ مکتوبٍ إلى نصٍّ ینطق حیویة وجمالًا بغض النظر عن القضایا التی یناقشها. الجناس: یُسهم الجناس فی تشکیل الإیقاع والانسجام الصوتی الذی ینبع من التوافق الموسیقی بین الکلمات، "وحقیقته أن یکون اللفظ واحدًا والمعنى مختلفًا"( ). ویُقْبَلُ الجناس فی الکلام إذا کانت الصَّنعة فیه توافق الطَّبع، ویکون المعنى هو الذی طلبه واستدعاه، وهو نوعان: جناس تام إذا اتفق فیه اللّفظان فی نوع الحروف، وشکلها، وعددها، وترتیبها، وجناس ناقص إذا اختلف فیه اللفظان فی واحد من هذه الأمور. والجناس لا یخلو من التَّکلُّف؛ فلذلک کان کتَّاب مدوَّنتنا مقلین فیه ولم نقف على جناس تام فی نصوصهم إلَّا نادرًا. قال عنه عبد القاهر الجرجانی: "أما التجنیس فإنک لا تستحسن تجانس اللفظتین إلا إذا کان موقع معنییهما من العقل موقعاً حمیداً، ولم یکن مرمى الجامع بینهما مرمى بعیداً..." وبعد أن ساق أمثلة، قال: ".. فقد تبین لک أن ما یعطی التجنیس من الفضیلة أمر لم یتم إلا بنصرة المعنى، إذ لو کان باللفظ وحده لما کان فیه مستحسن، ولما وجد فیه إلا معیب مستهجن؛ ولذلک ذُمّ الاستکثار منه والولوع به"( ). وتتفاوت مقادیر صور الجناس فی رسائل مدوّنتنا، ومن أمثلة ذلک ما جاء فی رسالة هاشم بن غیلانی وأهل إزکی إلى الإمام عبد الملک بن حمید (ق3هـ) ینصحونه بإقامة الجهاد بعد أن یتم الإصلاح، قال: "وأحسن رعایة ذلک بالجهد، واعمل فیه بالتشمیر والجد (..) ولکل من ذلک أهل معروفون، وناس موْصوفون"( ). لقد جانس الکاتب جناساً ناقصاً بین لفظی: الجهد والجد. فالجهد قصد به بذل الطاقة لإنجاز العمل، والجد بمعنى العزیمة على الإنجاز. وکذلک جانس جناساً ناقصاً بین لفظی: معروفون وموْصوفون. فمعروفون قصد بها العلماء المشهورین فی مجتمعهم؛ فهم أعلام الأمة ورموزها، وموصوفین بعلمهم وصلاحهم وزهدهم وقد أخذوا على عاتقهم إصلاح المجتمع. ورغم أن التجانس جاء فی أماکن متفرقة وهو جناسٌ ناقصٌ، إلّا أن کل متجانس وصاحبه قد ائتلفا لفظًا وتقاربا معنًى، فکوَّنا انسجامًا وتآلفًا صوتیًا على الکلمات، وأثریا المعانی، وأشاعا فی النص جرسًا موسیقیًا یثیر العواطف ویستمیل المتلقی. وفی رسالة الإمام محمد بن أبی غسان (ق6هـ) جانس الکاتب فی نصه الذی ینتقد فیه الخصم، فقال: "وحصل فی ضیق المَسَالِک ودخول المَهالِک، وتورط فی المُشْکِلَات وتهور فی المُهْلِکَات ووقع فی الشُّبُهَات". فجانس جناسًا ناقصًا بین لفظی: المسالک والمهالک. فالمسالک مأخوذة من السُّلُوک وهو مصدر سَلَکَ طریقًا وسَلَکَ المکان دخل فیه، فاستعاره الکاتب لیُعَبِّر به عن الطرق الضیقة ویقصد بها السبل المعنویة التی اتبعها، والمهالک استعارة أیضًا من المفازة؛ أی الصَّحراء، ویقصد موضع الهلاک نفسه. وجانس جناسًا ناقصًا بین: المشکلات والمهلکات والشبهات. فالمشکلات یقصد بها الأمور الملتبسة لا وضوح فیها وصعب حلها، والمهلکات کل شیء تصیر عاقبته إلى الهلاک، والشبهات یقصد بها الفتن تُشَبِّهُ مقبلة وتُبَیِّنُ مدبرة. إن أسالیب البدیع لیس دائمًا تدخل على النفس الطرب، بل استعمالها هو الذی یحدد تأثیرها، فأحیانًا تدخل على النفس الرهب، فما استعمله الکاتب من جناسٍ فی هذا النص یترک المتلقی فی حیرة من أمره، وربما یؤثر علیه فی إعادة حساباته من موقفه. ورسالة( ) الشیخ محمد بن أحمد بن صالح (ق6هـ) التی نظَّر فیها مسؤولیات الإمامة والولایة، فقد صاغها فی مجملها بأسلوب مسجع، وجانس فی بعض فقراتها. ففی حدیثه إلى المجتمع العُمانیّ بأن یسمو عن الصفات المذمومة، قال: "فإیاکم صفة الرعاع، أن تکون عند الإجماع (..) صانکم الله من هذه الصِّفة القبیحة، ونجاکم وإیانا من الخزی یوم الفضیحة"( ). فقد جانس الکاتب جناسًا ناقصًا بین لفظی: الرعاع والإجماع. فالرعاع قصد منه سُقَّاط الناس وسَفِلَتُهم وغَوْغاءهم، والإجماع قصد منه إحْکام النِّیة والعزیمة على الشیء، أجْمَعْت الرأی وأزْمَعْتُه وعزَمْت علیه. وجانس جناسًا ناقصًا بین لفظی: القبیحة والفضیحة. القُبْحُ ضد الحُسْنِ، والفعل قَبُحَ، وقصد به أن یحفظکم الله من الصفات الإنسانیة غیر الحسنة. والفضیحة قصد بها یوم القیامة، وهو استعارة، وأصل الفَضِیحة اسم لکل أمر سَیِّءٍ یَشْهَرُ صاحبَه بما یسوءُ. إن اشتراک أسلوب الجناس مع السجع مع وجود بعض الاستعارات أضفى على النص قیمًا جمالیة تلفت انتباه المتلقی وتثیر فیه الشعور بالتعالق مع النص والتأثر به. الطباق: الطّباق من المحسّنات المعنویة، وتسمى المطابقة، "وهو الجمع بین الشیء وضده" ( )، وقد یکون الشیئان المجموع بینهما اسمین أو فعلین أو حرفین، والمطابقة تَحْسَنُ ما لم تَکْثُر، والطباق نوعان: طباق إیجاب، إذا کانت الکلمتان مختلفتین لفظًا ومعنًى. وطباق سلب إذا تحقَّق التَّضاد بوجود اللفظ ومنفیه من الکلام. وقد استعمل کتّاب مدونتنا الطّباق فی میدان عنایتهم بالمعنى، واهتمامهم بالجمل التی تعبّر عنه، ولکنّهم کانوا میالین إلى الاعتدال فی توظیفه مثل باقی المحسّنات البدیعیة، إذ لم یکثروا منه إلا بالقدر الذی یخدم الأسلوب وهو ما جاء لمامًا لا باعتقاب مصنوع، وأکثر ما نجده فی مطالع الرسائل. ومن أمثلة ذلک ما جاء فی معرض توجیه الإمام الصلت بن مالک حملة عسکریة لاستعادة سقطرى عام 256هـ، فقال فی صدر الرسالة وهو یمجِّد الله سبحانه وتعالى: "وأعز وأذل، وهدى وأضل، وآثر وأقل"( ). وقد اختار الکاتب معانٍ تعنی مفرداتها نتائج المعارک العسکریة، فالعزَّة فی الحرب هی النصر، وضدَّه الذُّل وهو الهزیمة. والهدى من أرشده الله للجهاد فی سبیله للدفاع عن الدین أو الأرض أو العرض، وضدُّه الضلال، من وقف فی وجه الدعوة أو حارب المسلمین على أرضهم أو انتهک عرضهم. وآثر، قدَّم وفضَّل، وآثره علیه فضَّله، وضدَّه القِلَّة خلاف الکثرة، وقلله وأقله جعله قلیلًا، وهذا اللفظ یستعمل فی نفی أصل الشیء. وجاءت المطابقة فی هذا النص عفویة لمقتضى الحال، فزادت المعانی وضوحًا وقوة، وأضفت على النص شدوًا طروبًا به المتلقی فتبقی المعانی متألقة فی ذهنه وجسرًا إلى غرض الرسالة الوارد فی متنها. وطابق الشیخ محمد بن الحواری (ق3هـ) فی صدر رسالته( ) إلى أهل حضرموت وهو یوصیهم بالاعتدال فی معاملة الرعیة، فقال: "ولا یخرجنکم الغضب من الحق، ولا یدخلنکم الرضا فی الباطل". فقد طابق الکاتب بین ثلاثة معانٍ وضدها فی جملة واحدة: الخروج والدخول، والغضب والرضا، والحق والباطل، فی سبکٍ متساوقٍ ومعانیَ الطَرْح اللاحق لاستقبال غرض الرسالة الذی یدور حول نظام الحکم وإدارة المجتمعات، وأعطى النص تنغیمًا لافتًا. یقول ابن الأثیر: "إذا کان الابتداء لائقًا بالمعنى الوارد بعده تَوَفَّرت الدواعی على استماعه"( ). واستعمل الطباق القاضی محمد بن عیسى السّری( ) فی رسالته إلى الإمام راشد بن علی الخروصی (ق5هـ) التی دعاه فیها إلى التوبة، إذ کان طباقه واضحاً فی مجمل الرسالة، ومنه: "فإنی راغب فی مقاربتکم وموافقتکم وکاره لمباعدتکم ومفارقتکم، غیر أنه لا یصح اجتماع إلا على طاعة الله وطاعة رسوله فإنه جعل فی طاعته المحبة والاجتماع والألفة، وجعل فی معصیته العداوة والبغضاء والفرقة"( ). إذ طابق الکاتب فی الشطر الأول من الجملة فی ثلاثة معانٍ وضدها: الرغبة والکره، والمقاربة والمباعدة، والموافقة والمفارقة. وقد حدَّدت هذه المعانی غرض الرسالة، فالرسالة فی أصلها ردٌّ على رسالة طَلَبٍ من الإمام ومعاونیه إلى الشیخ للانضمام إلیهم، قال: "أما بعد، فإذا طلبتم منی الاجتماع والألفة .."( ). فالشیخ لا یمانع من العودة إلى الحکومة فقد کان قاضیًا فیها، لکنه یضع عودته ضمن شروط. فی الشطر الثانی من الجملة طابق الکاتب بین ثلاثة معانٍ وضدها أیضًا: الطاعة والمعصیة، والمحبة والعداوة، والألفة والفرقة. ولقد وظَّف الکاتب هذه الألفاظ فی المطابقة لسبک المعانی لتحدید موقفه من الإمام وحکومته، فهی لیست صنعة فی الکلام، بل أظهرت الخلاف بینهما والذی على أساسه افترقا، إذ اتهم الشیخ فی متن الرسالة الإمام وحکومته بارتکاب أعمال فی حق المجتمع عدَّها خارجة عن الشرع؛ أی طاعة الله، وداخلة ضمن المحرَّمات؛ أی المعاصی. فجاء هذا النظم مطابقًا لمقتضى الحال، وتمهیدًا لموقف الشیخ من الإمام وحکومته، إذ أعقبه مطالبتهم بقبول النّصیحة من قبل العلماء، والتوبة العلنیة من تلک الأحداث، فقال: "وإن تقبلوا نصائح المسلمین العلماء، ولا تردّوا الحق على من جاءکم به بعیدًا کان أو قریبًا، بغیضًا کان أو حبیبًا، وأن تتوبوا إلى الله من جمیع ذنوبکم وتتقوه عزّ وجل فی سرکم وجهرکم"( ). ولقد وظَّف الکاتب الطباق فی هذا النص لبیان أهم المعانی فی السیاق، فهو یطالب المخاطَبین بقبول النُّصح من العلماء، لکن لیس علماء السُّلطة فقط؛ بل هم وغیرهم "بعیدًا کان أو قریبًا" والبعد والقرب هنا لیس مکانًا بل مکانة استعاره الکاتب لیعبِّر به عن المجالات التی تدار بها الحکومة واختلاف الآراء حولها. وکذلک طابق فی موضوع توبة الإمام واشترطها أن تکون علانیة "سرکم وجهرکم"، فطابق سریة التوبة وهذا بین العبد وربه، وبعلانیتها لیطَّلع الجمهور على ذلک. خاتمة: سعى کتَّاب السِّیَر (الرسائل) أن تکوِّن رسائلهم لونًا من ألوان النثر الفنِّیِّ الجمیل، ورغم أن وظیفتها الأساسیة هی وظیفة توصیلیة، وهم ینتمون إلى فئة الأئمة والعلماء القیادیین فی مجتمعاتهم؛ لکنهم حرصوا أن تتوشح رسائلهم بقیم جمالیة، کی لا یقتصر دورها على الإفهام أو الإخبار فحسب؛ وإنما یطلب منها أن تؤثر فی قارئها؛ لذلک کانوا یسخِّرون مهاراتهم الفنِّیَّة وثرواتهم اللغویة والفکریة والثقافیة فی اختیار الألفاظ وحسن سبکها، وترکیب الجمل وصیاغة المعانی والموازنة بینها بقصد توفیر الإمتاع الفنِّیِّ فی نفس القارئ. ولم تکن رسائل المدوَّنة بنفس القدر من الإبداع الفنِّیَّ والتواصل الأدبی؛ ولهذا قسَّمنا المرحلة التاریخیة إلى فترتین، وتوصلنا فی دراستنا إلى أن رسائل الفترة الأولى أکثر إبداعًا، وأقرب انتماءً للأجناس الأدبیة، فکانت تمثل نصوصًا حضاریة فی أشکال أدبیة.

 

 ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، مقدمة ابن خلدون، د.ط، شرح وتقدیم محمد الإسکندرانی، دار الکتاب العربی، بیروت، 2014م.

ـ ابن رزیق، حمید بن محمد، الفتح المبین فی سیرة السادة آلبو سعیدیین، ط2، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 1983م.

ـ ابن رشیق، الحسن القیروانی (ت463هـ)، العمدة فی صناعة الشعر ونقده، ط1، عنى بتصحیحه أحد کبار العلماء (لم یذکر اسمه)، مطبعة أمین هندیة، القاهرة، 1925م.

ـ ابن طباطبا، محمد بن أحمد، عیار الشعر، تحقیق: عباس عبد الستار، ط1، دار الکتب العلمیة، بیروت، 1982م.

ـ البطاشی، سیف بن حمود، إتحاف الأعیان فی تاریخ بعض علماء عُمان، ط2، مکتب المستشار الخاص لجلالة السلطان، مسقط، 2004م.

ـ الجرجانی، عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقیق: محمّد الفاضلی، المکتبة العصریة، بیروت، 2005م.

ـ الزبیدی، محمد مرتضى الحسینی، تاج العروس من جواهر القاموس، مجموعة من المحققین، دار الهدایة، بدون معلومات إضافیة.

ـ السالمی، عبد الله بن حمید، تحفة الأعیان بسیرة أهل عُمان، ط2، مکتبة الإمام نور الدین السالمی، مسقط، 1350هـ.

ـ السعدی، فهد بن علی، معجم الفقهاء والمتکلمین الإباضیة، ط1، مکتبة الجیل الواعد، مسقط، 2007م.

ـ السیابی، سالم بن حمود بن شامس، عُمان عبر التاریخ، ط5، وزارة التراث والثقافة، مسقط، الجزأین: 3 و4، 2014م.

ـ السِّیر والجوابات لعلماء وأئمة عُمان، تحقیق: سیدة إسماعیل کاشف، ط2، وزارة التراث والثقافة، مسقط، ج1، 1989م.

ـ السِّیر والجوابات لعلماء وأئمة عُمان، تحقیق: سیدة إسماعیل کاشف، ط1، وزارة التراث والثقافة، مسقط، ج2، 1986م.

ـ العسکری، الحسن بن عبد الله (أبو هلال)، کتاب الصناعتین، تحقیق: مفید قمیحة، ط2، دار الکتب العلمیة، بیروت، 1984م.

ـ الکندی، أحمد بن عبد الله بن موسى (ق 6هـ)، کتاب الاهتداء، تحقیق: سیدة إسماعیل کاشف، د.ط، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 1985م.

ـ المبرد، محمّد بن یزید، الکامل فی اللغة والأدب، د.ط، تعلیق: محمّد أبو الفضل إبراهیم، المکتبة العصریة، القاهرة، ج4، 2008م.

ـ جون سی. ولکنسون، الإمامة فی عُمان، ترجمة: الفاتح حاج التوم، وطه أحمد طه، ط3، الأرشیف الوطنی، دولة الإمارات العربیة المتحدة، أبو ظبی، 2010م.

ـ صالح، محمد ناصر، والشیبانی، سلطان بن مبارک، معجم أعلام الإباضیة، ط1، دار الغرب الإسلامی، بیروت، 2006م.

ـ فضل، حسن عباس، البلاغة فنونها وأفنانها، ط5، دار الفرقان، عمَّان، 1998م.

ـ کارل فون کلاوز فیتز، عن الحرب، ترجمة: سلیم شاکر الإمامی، ط1، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، 1997م.