دور المهالبة في المشرق الإسلامي خلال العصر الأموي 41-132هـجری/661-750 میلادي: المهلب بن أبي صفرة نموذجاً
الباحث المراسل | أ.د. فاروق عمر فوزی عمر فوزی | باحث عراقي مقيم في الأردن |
موضوع البحث یتعلق بآل المهلب بن أبی صفرة فی المشرق الإسلامی، ودورهم فی العصر الأموی بالدرجة الأولى، والعصر العباسی أیضا. فقد ظهرت شخصیات کثیرة من المهالبة، رغم أنهم تعرضوا لتلک الحادثة المأساویة فی زمن یزید الثانی الخلیفة الأموی -یزید بن عبدالملک- الذی استأصلهم فی البصرة وفی مناطق أخرى. ورغم هروب قسم إلى بلاد السند بعد مقتل یزید المهلبی، إلا أن الجیش الأموی لحقهم إلى هناک وقتل الکثیر منهم، فکان هذا جزاء المهالبة لدورهم الکبیر والمتمیز والمبدع.
عندما نتتبع مکونات الدولة الأمویة والعراق مسرحا للأحداث المهمة آنذاک، فإننی أعد -بکل اطمئنان- آل المهلب صانعی التاریخ فی العصر الأموی؛ فلولا هؤلاء المهالبة لقضی على الدولة الأمویة وهی فی مهدها. إذ إنه وکما هو معلوم لکل من لدیه إلمام -ولو بشکل بسیط- بالتاریخ أن الدولة الأمویة قد تعرضت بعد الفترة السفیانیة ومقتل أو وفاة معاویة الثانی إلى فتنة کبیرة، أکلت الأخضر والیابس خلال عامی 64 و 65 للهجرة؛ إذ لم یبق شیء فی بلاد الشام، وما أشبه اللیلة بالبارحة! ولک أن تصور المشهد السیاسی المتوتر فی العراق وقتذاک؛ فقد انقسم العرب إلى أقسام عدة، منهم من هو موالٍ للمروانیین، العائلة الثانیة لبنی أمیة، وقسم آخر موالٍ لعبد الله بن الزبیر فی الحجاز. کما أن الولایات الإسلامیة انقسمت على نفسها بین موالٍ للمروانیین، وبین موالٍ لعبد الله بن الزبیر، الذی کان من نصیبه الحجاز والعراق، ذلکما الإقلیمان المعارضان بشده للأمویین.
ولکن المفارقة الکبیرة فی هذه القضیة أن بلاد الشام انقسمت کذلک على نفسها؛ فنجد أن شیوخ القبائل الیمانیة، وشیوخ القبائل القیسیة، وشیوخ القبائل الربعیة قد انقسموا بین مؤید لمروان بن الحکم ومعارض له، ومعروفٌ أن مروان بن الحکم هذا مؤسس الأسرة المروانیة، وقد اصطلح المؤرخون على تلقیبه بأبی الأسرة المروانیة. إذن، لم یبقَ أحد من بلاد الشام، أو بالأحرى من أجناد بلاد الشام؛ لأنها کانت مقسمة إلى أجناد لا إلى ولایات. وهذا التقسیم کان معروفاً من العهد البیزنطی القدیم. وقد ظلت بلاد الشام کذلک، إلا أن هذه الأجناد کانت موالیةً للمروانیین ولمروان بن الحکم، واتسع النطاق لیشمل جند فلسطین. وفی الوقت نفسه نجد أن جمیع الأجناد الأخرى فی بلاد الشام قد والت عبد الله بن الزبیر فی الحجاز؛ بالرغم من أنه لم یکن کفؤاً فی هذه المهمة، ولم یستطع فی الحقیقة کسب حروبه؛ مما جعل المفارقة بینه وبین المهلب بن أبی صفرة کبیرة. کما أنه کان بخیلا لدرجة أنه لم یعط أنصاره وأتباعه الکثیر حسبما تذکر المصادر؛ ولذلک فقد الکثیر منهم؛ بل أن کبار القادة العسکریین الأمویین فی الجیش الأموی طالبوه بالمجیء إلى بلاد الشام لتنصیبه خلیفة، لکنه تردد فی ذلک! وبذلک خسر المعرکة فی العراق کما هو معروف، وخسر فی عقر داره فی الحجاز، وقُتل فی نهایة الأمر. وکذلک قُتل أخوه مصعب بن الزبیر فی معرکة قویة فی العراق قادها الخلیفة عبد الملک بن مروان نفسه.
هذه هی صورة العالم الإسلامی فی تلک الفترة، صورة تجسد واقعاً لا تحسد علیه الدولة الإسلامیة التی تعانی فرقة کبیرة جداً، ونزاعاً بین الأقالیم الأخرى، وصراعات على السلطة. ولکن، مما یمکن ذکره فی هذا السیاق أن مروان بن الحکم استطاع أن یخرج من هذه المعمعة ویعلن نفسه خلیفة على بلاد الشام، ثم استمرت العائلة الأمویة فی الحکم.
وأما بالنسبة للمهالبة، على رأسهم المهلب بن أبی صفرة، فقد أبدعوا، وکانوا بالفعل رجال المهمات الصعبة، ولولا وجودهم لما بقیت الدولة الأمویة. وهذه حقیقة یجب ذکرها عند الحدیث عن الأدوار المهمة التی قام بها المهلب وأولاده منذ زمن معاویة بن أبی سفیان إلى وقت وفاته فی زمن عبد الملک بن مروان، تحدیداً فی سنة 82 هجریة. ففی المجال العسکری، تتمثل الأدوار المهمة فی العدید من الفتوحات الحاسمة التی انطلقت من البصرة، التی قام بها المهلب ومن معه من أزد عُمان المقیمین فی البصرة، ومعهم المقاتلة الآخرون من النواحی الأخرى؛ إذ قادهم إلى المشرق الإسلامی بدافع الفتوحات وتوسیع رقعة الدولة الإسلامیة.
إن مزیداً من التأمل فی موضوع انطلاق الفتوحات بقیادة المهلب بن أبی صفرة من البصرة یعطینا جرعةً کافیة ً من الاطمئنان عن الدور الحضاری للبصرة وقتذاک؛ إذ مهمتها کانت بمثابة قاعدة إداریة وعسکریة منذ عصر الخلیفة عمر بن الخطاب والعصر الأموی. وقد أنیط لهذه القاعدة العسکریة مهمة فتح خراسان وأقالیم المشرق. وکانت المهام العملیة موزعة بین البصرة قاعدة عسکریة متقدمة، والکوفة قاعدة عسکریة متقدمة. ثم بنیت مدینة واسط، الواقعة بین البصرة والکوفة، فی وقت لاحق، وتحدیداً فی زمن الحجاج بن یوسف الثقفی؛ ولذلک سمیت واسط. وفی الحقیقة أن الأمویین کانوا لا یریدون أن یخلطوا مقاتلة بلاد الشام بالمقاتلین الآخرین؛ بسبب خوفهم علیهم من إفسادهم فی تغلغل النزعات السیاسیة والدینیة بین مقاتلة الشام؛ فتم استحداث قاعدة عسکریة للجنود القادمین من بلاد الشام فی مدینة واسط فی زمن الخلیفة عبد الملک بن مروان.
لقد بدأ المهلب عملیاته العسکریة فی زمن الحجاج بن یوسف الثقفی والی العراق؛ إذ تمیز فی بدایة شبابه بالاشتراک مع أبیه فی العملیات العسکریة فی المشرق. وبعد وفاة أبیه، رغم أنه کان من أصغر أبناء أبی صفرة، بدأ نجمه یظهر إلى المعالی. ولا ریب أن هذه البدایة المهمة مکّنت المهلب من التزود بالدروس المفیدة فی مسیرته القیادیة، وشکّلت شخصیته السیاسیة والإداریة والعسکریة.
ومن أبرز السمات التی تمیّز الخط السیاسی الذی سار علیه المهلب أنه لم یکن یتدخل فی الفتن التی تظهر بین القبائل؛ بل کان دائما یجعل نفسه وأولاده وجماعته من الأزد فی معزل عن کل ما یمکن أن یؤثر سلباً فی حیاته واستقرار جماعته. وفی الحقیقة، إن المتابع للنهج السیاسی للمهلب یستطیع بکل سهولة الوقوف على حرصه البالغ فی تجنب تلک الفتن، رغم الأحداث الجسیمة التی عصفت بالدولة الإسلامیة آنذاک. ففی أثناء الحرب الأهلیة التی تسمى فی المصطلح الإسلامی بـ (الفتنة)، التی وقعت فی بلاد الشام، نجد عدم ورود ذکر للمهلب فی أدبیات الفتنة؛ لأنه، کما أسلفنا، قد عزل نفسه عن الخوض فیها، وانزوى إلى البصرة حیث جماعته الأزد، وذلک بخلاف ما مضت علیه أغلب القبائل العربیة إن لم یکن کلها. فإذا ما أجلنا النظر فی قبائل بلاد الشام والحجاز والعراق، نجد أنها انقسمت إلى فئتین رئیستین: فئة مع عبد الله بن الزبیر، وأخرى مع الأمویین، والمهلب بن صفره مبتعداً عن التحزب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، متجنبا الفتنة التی لا تبقی ولا تذر.
وهناک ملمح لا ینبغی لمن یرصد الفتوحات الإسلامیة التی تمیزت بها هذه المرحلة الدقیقة من مراحل التاریخ الإسلامی إغفاله، وهی أن أغلب الفتوحات قد أسندت إلى المهلب فی سبیل توسع الدولة جهة المشرق تحدیداً. فیا ترى کیف کان المهلب یتعامل مع المهمات العسکریة التی تسند إلیه؟ لقد کان المهلب یقوم بما یوکل إلیه من مهام عسکریة وأوامر تتعلق بالفتوحات الإسلامیة بکل تفان وإخلاص. والجدیر بالملاحظة، أن المهلب بعد أن ینهی تلک المهام یعود إلى قاعدته (البصرة) دون أن یتصرف بأکثر مما هو مطلوب منه، ودائماً یعود إلیها ظافراً دون أدنى خسائر. وظل کذلک فی جمیع مهماته وفتوحاته؛ حتى تشکلت صورته فی أذهان البصریین عموماً والأزد خصوصاً بأنه القائد الفذ الذی یحقق أهدافه بأعلى مستویات النصر وأدنى مستویات الخسائر فی الأفراد والممتلکات؛ الأمر الذی جعل أهل البصرة یستنجدون به لتخلیصهم من الخوارج الأزارقة بعد ذلک؛ لدرجة أنهم - وعلى إثر ذلک - سمّوا البصرة، بکل فخر، ببصرة المهلب.
إن شخصیة فذّة من القیادات العسکریة المحترفة کالمهلب بن أبی صفرة، لم تکن لتغیب عن دائرة الاهتمام الرسمی للدولة الأمویة؛ فکان الولاة والقادة الأمویون یولون المهلب جزءاً مهماً من اهتماماتهم، ویسندون إلیه المهام الجسیمة التی تحتاج إلى أداء احترافی إن صح التعبیر. وظلت نظرة الخلفاء والولاة الأمویین للمهلب نظرة إعجاب بالقدرات القیادیة والإداریة التی یمتلکها فی الشؤون السیاسیة، وفی إدارة الدولة، وکذلک فی شؤون السلم والحرب على حد سواء. واستمرت تلک النظرة إلى عهد عبد الملک بن مروان الذی ینصفه الکثیر من المؤرخین، فیعدونه أفضل خلفاء بنی أمیة إدراکاً وإدارةً لشؤون الحکم؛ بما تمیّز به من معرفة بالرجال واختیار الأکفأ منهم، والاعتماد علیهم، وجعل الرجل المناسب فی المکان المناسب له. فحینما انتهى عبد الملک بن مروان من مصعب بن الزبیر وأخذ منه العراق، اعتمد على والیه الحجاج بن یوسف الثقفی، وعلى المهلب بن أبی صفرة، بل وأوصى الحجاج بأن یعتمد على المهلب مستشارا عسکریا وسیاسیا، وذلک لم یرضِ الحجاج؛ لأنه کان مغامراً وصاحب طبیعة مغرورة. ولذلک، فإن الکثیر من الروایات تحدثت عن هذه العلاقة بین المهلب بن أبی صفرة والحجاج، وأظهرت جوانب الشد والجذب بینهما، فی عدم استقرار العلاقة بینهما. ولکن المهلب کان متزناً فی مواقفه، کما أنه کان دائما یتجنب الفتنة، مع التزامه التام بتنفیذ ما تملیه علیه الإدارة الشرعیة للدولة الأمویة من مسؤولیات إداریة وقیادیة.
وکان عبد الملک بن مروان یدرک تلک الخصائص الفذّة فی شخصیة المهلب؛ بل إنه من دقة معرفته به کان یدرک متى یتحین المهلب الفرص للتدخل فی فض الانشقاقات وإخماد الثورات التی تحصل بین الفترة والأخرى کثورة الأزارقة، على سبیل المثال. ومعروف عن الأزارقة التطرف وغایة العنف، وانشقاقهم عن الإسلام الحنیف؛ فلا وجود عندهم للتسامح والاعتدال والتعایش مع الآخر، ولا یفهمون الإسلام کما تفهمه الفرق الإسلامیة الأخرى؛ فلیس لهم إلا القتل والنهب والمغامرة والفتنة وشق عصا المسلمین. فهؤلاء هم الأزارقة، وهذه صفاتهم بقیادة زعیمهم نافع بن الأزرق؛ لمن لا یعرفهم. وقد استمر الأزارقة فی هذا النهج یکفرون المسلمین، ولا یرضون بالتعایش معهم؛ بل ویجیزون قتلهم، ویقولون بعدم التزاوج معهم، وعدم توریثهم. ثم أنهم انقسموا إلى عدة فرق بین أزارقة ونجدات وصفریة؛ مما سبّب ضعفهم، وکل واحد من زعامات هذه الفرق قد اقتسم أقالیم مختلفة من جسد الدولة الإسلامیة. فمثلاً أخذ الأزارقة أقالیم من المشرق الإسلامی، مثل الأحواز وإقلیم فارس وخراسان وجرجان وسیطروا علیها. وأخذ النجدات الیمامة والبحرین. وبالمناسبة؛ فإن أغلب الساحل الغربی للخلیج کان یسمى ولایة البحرین، ولم یکتفوا بذلک؛ بل بدأوا یتوغلون نحو عُمان فی هذه الفترة التاریخیة. وأما الصفریة فقد کان مجال نشاطهم فی الجزیرة الفراتیة شمال العراق والموصل وأذربیجان.
وأمام هذه الحرکات الخارجیة الانفصالیة والثورات المتتالیة، کانت مهمة المهلب بن أبی صفرة صعبة؛ فعلیه أن یجتث الأزارقة ویستأصلهم قبل أن یتوفى فی زمن الخلیفة عبد الملک بن مروان. غیر أن هناک معضلةً أخرى تتمثل فی وجود الحجاج الذی ما فتئ یحسد المهلب، ویکیل له الاتهامات لدى الخلیفة عبد الملک بن مروان. لم یکن عبد الملک یأبه لما یقوله الحجاج عن المهلب، بل استمر یؤکد على بقاء المهلب بن أبی صفرة فی المهمات العسکریة الصعبة، والمهمات السیاسیة العویصة، بالإضافة إلى مهام إداریة أخرى أنجزها بکل کفاءة. فکفاءة المهلب هی التی حملت الخلفاء الأمویین على مکافأته بعد کل معرکة ینتصر فیها –کلها قد انتصر فیها- ولم تسجل علیه أی هزیمة. فقد کافأ الخلفاء الأمویون المهلب بتولیته على البصرة وخرسان فی وقت واحد، ولا ریب أن لکلٍ من هاتین الولایتین أهمیة خاصة فی الدولة الأمویة وما بعدها. ولم یکن تکریم المهلب من خلفاء بنی أمیة یُرضی الحجاج بطبیعة الحال؛ فضلاً عن مشارکته فی النفوذ والسلطة.
ولقد ازدادت درجة حساسیة الحجاج من المهلب بعد أن تمکن المهلب من القضاء على المختار بن أبی عبید الثقفی فی الکوفة. ومما کان یؤجج نار الحقد فی قلب الحجاج على المهلب، أن الجمیع، من أمراء وعامة، کان معجباً بالمهلب، وکانوا یرون أنه مغامرٌ وسیاسیٌ من الدرجة الأولى؛ فضلاً عن کونه من أشراف القبائل العربیة، کما أن أفراد أسرته کلهم کانوا قادة مثل یزید بن المهلب والمغیرة بن المهلب. وهناک روایات تقول إن المهلب قبل وفاته کان یرید أن یستخلف علیه ابنه المغیرة، ولکن المغیرة توفی قبله بأشهر، وحزن علیه حزناً شدیداً. ویأتی وراءه یزید المهلبی، والکل یعرف ما حدث لیزید المهلبی وأسرته مع الخلیفة یزید بن عبد الملک، الذی کان یتصرف طفلا لیس له فی أمور الإدارة والسیاسیة أی درایة، وهو أول وآخر منصب له فی زمن الدولة الأمویة.
وعموماً، لم تنته أدوار أسرة المهالبة أو آل المهلب السیاسیة والإصلاحیة والاجتماعیة والإداریة والعسکریة بوفاة المهلب بن أبی صفرة؛ إنما ظل إشعاعهم مضیئاً داخل العراق وخارجها، مرورا ببلاد ما وراء النهر شرقاً، وشمالی إفریقیا غرباً، وصولا لأرض الجزیرة العربیة وعُمان.