جمالیات التجربة العروضیة للقصیدة القصیرة في الشعر العراقي المعاصر؛ الشعراء ما بعد الرواد

الباحث المراسلد. علی عبد رمضان جامعة البصرة

Date Of Publication :2022-11-10
Referral to this Article   |   Statistics   |   Share  |   Download Article

 

القصیدة القصیرةهی شکل شعری جدید من أشکال الصیاغة الشعریة  ولد تحت عباءة قصیدة الشعر الحر (التفعیلة)  التی جاء بها الشعراء الرواد السیاب ونازک والبیاتی وبلند. وقد جاءت وکأنها حرکة متمردة قام بها جیل الستینیات من الشعراء تمردوا فیها على القصیدة الأم (قصیدة التفعیلة) فی کثیر من جوانبها الشکلیة والجوهریة، بعد أن وجدوا الحاجة ماسة إلى شکل شعری یستوعب تجاربهم الشعریة المکثفة ودفقاتهم الشعوریة السریعة التی لا تتطلب قصیدة طویلة لتستوفیها، بل اکتفت ببضعة أسطر تحتوی تجربة الشاعر وتعبر عنها بنجاح، ولیس القصد موقوفا هنا على کم الأسطر أو عددها بقدر ما یکون المحک هو أن (الشکل والمحتوى مندمجان فی عملیة الخلق الفنی. عندما یسیطر الشکل على المحتوى (الفکرة)، أی عندما یمکن حصر المحتوى بدفقة فکریة واحدة ناضجة البدایة والنهایة، کأن ترى فی وحدة بیّنة، عندها یمکن القول أننا أمام القصیدة القصیرة)(1). فالقصیدة على قصرها تمثل بناء متکاملا له خصوصیته التعبیریة والفکریة فهی تعبر عن موقف واحد أو فکرة أو حالة شعوریة واحدة، ومن ثم فإن تجربتها تکون محدودة وملمومة لا تقتضی التوسع والتنویع التعبیری کما هو الحال فی القصیدة الطویلة. ولذلک فإن الفکرة فیها تسیر نامیة من البدایة إلى النهایة فی توتر ذهنی واحد مبتعدة عن التعقید والتشعب. موظفة الترکیز اللغوی وتکثیف الصورة والنمو المتکامل السریع حتى بلوغ النهایة. وهذا الشکل یتطلب وعیا جمالیا ومهارة من الشاعر تراعی مجمل حرکة القصیدة من البدایة إلى النهایة، بدءً من العنوان والاهتمام به مرورا بالمضمون وتکثیفه وتخیر التعبیر المناسب والصورة المستوفیة له بدقة والنمط الإیقاعی الذی یجاری حرکته، إلى النهایة الناجحة التی یتوقف عندها هذا الدفق الشعری والبناء المتنامی حتى نحس عندها أن القصیدة بلغت تکاملها وحققت تأثیرها الجمالی عبر عنصر الضربة، أو المفاجأة الذی هو بدورة یتطلب مهارة مضاعفة من الشاعر وبه تتمیز القصیدة القصیرة وعنده تبلغ کمالها التعبیری وتحرز دهشتها وتأثیرها.

والبنیة اللغویة المکثفة للقصیدة القصیرة تأتی منتظمة زمانیا بنظام الوزن الشعری (البنیة العروضیة) الذی تحدده التفعیلة وترسم مساره على قدر التعبیر فی کل سطر من أسطر القصیدة فتأتی الألفاظ داخلة تحت مظلته متفاعلة فیما بینها على وفق هذا النسق أو ذاک لتعطی مضمونا شعریا نابعا من جو القصیدة ینقل التجربة ویصورها بشکل فاعل ومؤثر. وهنا تتضح أهمیة النسق الإیقاعی (الوزن) فی توجیه بنیة القصیدة ونمو حرکتها، و هذا النسق هو فی ذاته یکتسب خصوصیة نابعة من تجربة القصیدة فهی التی تتخیره وتحدد مساره فی کل دفقة من دفقاتها؛ إذ لا یمکن فصله منها، کما لا یمکن قیاس فاعلیته خارجا عنها. وبذلک کان لکل قصیدة نغمها الخاص بها وتوقیعها الذی تتمیز به عن غیرها بما هی تجربة خاصة نابعة من حالة شعوریة خاصة.

المبحث الأول. الأنساق العروضیة وفاعلیة تشکلاتها فی القصیدة القصیرة:

کثر استعمال شعراء قصیدة التفعلیة للبحور الصافیة دون المرکبة بشکل لافت. وإذا کانت الناقدة نازک الملائکة تعلل هذه الکثرة بأن الشاعر یجد فیها یسرا وحریة أکبر فی التعبیر(2) فهذا لا یعنی أن الشعراء لم یستعملوا البحور (المرکبة). کـ(الطویل)، و(البسیط)، و (السریع). فهم نظموا علیها بعض قصائدهم ولکن بنسبة ضئیلة. وبالإضافة إلى الیسر والحریة التی تحدثت عنهما نازک الملائکة یبدو أن هؤلاء الشعراء فی میلهم للبحور الصافیة وما یوفره توالی النغمة الموحدة فیها (التفعیلة)على امتداد أسطرهم الشعریة من انتظام إیقاعی بارز ومتسق، وجدوا إمکانات إیقاعیة مهمة لهذا التوالی تستوعب جملهم الشعریة ومستویاتها الشعوریة والتعبیریة، وهی إمکانات یقتضیها التعبیر فی کل سطر بحسب قصره أو امتداده فقد تتغیر من سطر إلى آخر وهذا ثراء إیقاعی ینعکس بالإیجاب على بنیة القصیدة وتشکیلها ککل. فتوالی التفعیلة الواحدة یحفظ جوهر الدفق الإیقاعی واتساقه فیما یفتح الباب طیعا لتلوین الإیقاع ومرونته نتیجة التغییرات والانزیاحات العروضیة التی تتاح للشاعر فی تعابیره. وقد تختفی فاعلیة هذه الإمکانات وتقل فرص توظیفها مع البحور المرکبة؛ إذ على الشاعر أن یحافظ مضطرا على توالی تفعیلتین مختلفتین قد لا یحتاجه سطره الشعری أحیانا وأن یوائم بین تغییراتهما لیحافظ أیضا على جوهر نسقهما الإیقاعی. وهذا جهد مضاعف یؤثر بشکل أکید على الدفقة الشعوریة والتعبیریة ومستویاتها فی کل سطر، وهو جهد أظن أن الشاعر فی غنى عنه.

أولا. سیاق المتدارک:

یتصدر المتدارک المرتبة الأولى بین الأوزان الصافیة وحتى المرکبة التی جاءت علیها قصائد الشعراء هنا، والتفعیلة الأصلیة للمتدارک هی (فاعلن) بطیئة نسبیاً تتصف بالهدوء والرتابة؛ إذ توائم حرکتُها الزمانیة الممتدة السردَ والوصفَ، ومما یزید فی استطالتها الإیقاعیة هو خضوعها أحیاناً لعلة زیادة هی (التذییل = فاعلانْ) وأحیاناً یرافق هذه العلة زحاف (الخبن) = (فَعِلانْ) لیمنحها مسحة من التموج فیکسر رتابتها وبطأها. وعلة التذییل هذه تأتی فی أواخر الأسطر لتضیف مدّاً صوتیاً وزمنیاً للتفعیلة بعد توالیها الرتیب یفید منه الشاعر فی تشکیل مستوى إیقاعی ممتد یحکی صورة المعنى الذی یرید التعبیر عنه. یقول: (سامی مهدی) فی قصیدته القصیرة:(لیلة باردة)(3):

موحـــش هـــــــــو هذا الظـــــلامْ          فاعِلـــــــــــــــــــن فَعِلن فاعِلانْ

وممـــــــــضّ هــــــــــو الــــــبردُ          فَعِلُـــــنْ فاعِلــــــــــنْ فاعِـــــــــ

لکننـــــــــــــــی أستَضِـــــــــــیْئْ           لُـــــــنْ فاعِلُــــــــــنْ فاعِـــــلانْ

بِرفــــاقِــــی إذا أُضْحِـــــــــــکُوا،          فَعِلـــنْ فاعِلُنْ فَاعِلُنْ فَعِلنْ فاعِلُنْ

حینَ نــــأویْ إلى مَلْجأٍ باردٍ لننامْ           فاعِلنْ فاعِلُنْ فاعِلُنْ فاعِلُنْ فَعِلانْ

موحِــــــــــــــــشٌ هو هذا الظَّلامْ           فـــــــــــــــــــاعِلُنْ فَعِلُنْ فاعِلانْ

ولنـــــــــــــــــــــــا تحتَ قبّتــــهِ           فـــــــــــــــــــــــعِلن فاعلن فعِلنْ

مــــــا نؤسّـــــسُ من أُلفَةٍ ونِظامْ.           فـــــــــــاعِلنْ فعِلنْ فاعِلنْ فَعِلانْ

إن إیقاع القصیدة کان أکثر میّلا إلى الهدوء والرتابة وهذا ما یتطلبه أسلوب (السرد) الذی نهجه الشاعر فی قصیدته هذه وقد تکررت فیها الوحدة الإیقاعیة الصحیحة (فاعلن) أکثر من التفعیلة المخبونة (فعلن) وهذا ما یجعل قراءتها تتطلب زمناً أطول وهدوءاً أکثر فی رتابة واضحة، وهو ما یتطلبه الجو التعبیری للقصیدة ومن ثم فلابد للإیقاع من أن یتجاوب مع هذا الجو ویتمثله لیشکل صورة صوتیة لهدوء الظلام وبرده وسکونه الممتد. وإذا ما التفتنا إلى عنوان القصیدة فإننا نجد أن حرکة إیقاعها موافقة لدلالة هذا العنوان (لیلة باردة) والحالة الشعوریة التی یوحی بها. وکذلک الجو الذی تصوره القصیدة. ولا نغفل ما لشیوع حروف (المد) فی هذه القصیدة من أثر فی إضفاء صفة التراخی والبطء على القصیدة. وکذلک علة (التذییل) التی لحقت أربع تفعیلات هی فی قوافی السطر الأول، والخامس، والسادس، والثامن.  إذ یتضاعف هذا الهدوء فی بعض النهایات التی تأتی (مذیلة) فیسهم المقطع الطویل المختوم بالساکن فی مد الصوت طویلا هادئا عند تلک الوقفات، کما أن ألفاظ القوافی تفیض بدیمومة معانیها وبدلالة الهدوء والسکینة الموافقة لدلالة هدوء الظلام وسکینته واستطالتهن، فی حین أنَّ (فاعِلُنْ) تفقد الکثیر من رتابتها وانبساطها إذا أصیبت بزحاف(الخبن) فتصبح (فعِلُنْ). وهنا یقوم الزحاف باختزال زمن تفعیلة المتدارک إذ یجنح بها إلى خفة الإیقاع وسرعته. وهی مرونة تخضع لها التفعیلة بحکم طبیعة التعبیر الذی یصور حرکة الفعل ویجسدها لیسهم فی تشکیل الصورة بحرکیة متوالیة. یقول کاظم الحجّاج فی قصیدته: (تعکیر)(4)

ما أَسْهَلَ أنْ یُلقَى حَجَرٌ فِی الْمَاءْ                    فَعْلُنْ فَعِلُنْ فَعْلُنْ فَعِلنْ فَعْلانْ

لِیُشوّهَ وجْـــــــــــــــــــــهَ البَدْرْ!                    فَـــــــــــــــــعِلُنْ فَعِلُنْ فَعْلَاْنْ     

فنجد فی هذه القصیدة سرعة إیقاعیة متولدة من زحاف (الخبن) الذی أصاب التفعیلة (فاعلن). وکذلک قلة حروف (المد) أو انتفاء دورها. کما أن تعاقب التفعیلة الزاحفة أعطى نوعاً من الإیقاع المتماوج والمتعاقب سرعة. وقد جاءت الموسیقى هنا مکملة لصورة (تعکر الماء) التی تسرع فی تشویه وجه البدر. وإن تعاقب الزحاف ضیّق المسافة الزمنیة بین الکلمات وأسرع فی توالیها وعکس الموقف النفسی المتوتر والمنفعل إزاء إفساد جمال الأشیاء وصفائها. وهذه المرونة الإیقاعیة التی یوفرها الزحاف فی ثنایا السطر الشعری یقتضیها التعبیر فتأتی موظفة بصورة جمالیة معبرة، وإضافة إلى الزحاف هنا نجد التشعیث (قطع رأس الوتد المجموع من فاعِلُنْ لتصبح فَعْلُنْ) وهی ترد فی أثناء السطر الشعری لتؤدی دورها الإیقاعی أیضا وکثیرا ما تتعاضد مع هذین التغیرین العروضیین الاستطالاتُ المقطعیة التی تمنحها علل الزیادة فی نهایات أسطر القصیدة  وکذلک حضور بعض المقاطع کأجزاء مفصلیة (مفاصل إیقاعیة) تضبط إیقاع العبارة فی دائرة الوزن نفسه وهو المتدارک إذ تحافظ هذه المقاطع المفصلیة على روح الوزن فلا تُخرج العبارة عن السیاق الوزنی الذی تتشکل القصیدة فیه فیسیر الإیقاع  بمدیات یقتضیها التعبیر الشعری وجوه الشعوری ومثل هذا ما نجده فی قصیدة یوسف الصائغ ( موت کرسی)(5):

کــــــــــــــــــــرســـــــــــــیٌّ           فَـــــــــــــــــــعْلُنْ فــــــــــعْ

خَـــــــــــــــشَـــــــــــبــــ ــــیٌّ           فَـــــــــــــــــعِلُنْ فَــــــــــــعْ

منســــــیٌّ .. عنــد البــــــــابْ           فَـــــــــعْلُنْ فـــــــعْلُنْ فَعْلانْ

مفتـــــــــــــوح الکفیــــــــــنْ            فَــــــــــــــعْلُنْ فَــــــعْلُنْ فَعْلْ

یَتَطَلَّـعُ للعــالمِ بـاسْتِغــــــرابْ            فَعِـــــلُنْ فَعِلُنْ فا فَعِلُنْ فَعْلاْنْ 

مــــــــــرَّتْ سَنَتـــــــــــــــانْ،            فَعْــــــــلُنْ فَعِـــــــــــــــــلانْ

والکُرْسِیُّ الْخَشَبِیُّ لَدَى البـابْ            فَعْلُنْ  فَعْلُنْ فَعِلُنْ  فَعِلُنْ  فَعْلْ

مَشْــــــــــــــــلُولُ الکَفَّیـــــــن            فَــــــــــعْلُنْ   فَـــــعْلُنْ   فَعْلْ 

مکســـــــــــورُ القدمیـــــــــــن           فَــــــــــــــعْلُنْ فَـــــــعْ فَعِلانْ

أوَّلَ أَمْــــــــــــــــــــــــــــــــسِ           فَــــــــــــــــــــــعْ فَــــعِلُنْ فَعْـ 

.....…………………..           …………………………                             

أغْمَضَ عَیْنَیْهِ الکُـــــــــــــرْسِیُّ            لُنْ فَــــــــــعِلُنْ فَعْلُنْ فَعْلُنْ فَـ

وَمــــــــــــــــــــــــــــــــاتْ ....            ــــــــــــــــــــــــــــــــــعِلانْ 

فی هذه القصیدة تتبدى فاعلیة التغییرات العروضیة تلک فی تشکیل البنیة العروضیة للقصیدة وهی بنیة نابعة من مقتضى التعبیر والدلالة فی کل سطر إذ تتشکل بمقاسات الجملة الشعریة ذاتها ولم تکن مفروضة علیها من الخارج سواء أکان السطر لفظة واحدة أم عبارة تتشکل من أکثر من لفظة فعلى سبیل المثال: الدلالة الحرکیة للسطر (یَتَطلَّعُ للعَالَمِ باسْتِغْرَابْ) اقتضت شیوع التفعیلة المزاحفة (فَعِلُنْ) وتواترها وهو ما یناسب دیمومة التطلع  لتنتهی مشعثة بمقطع طویل یوفره التذییل (فَعْلَانْ) لتتفق مع استطالة الاستغراب وسکونه. وهذا یباین ما تقتضیه أسطر أخرى من القصیدة ذاتها دالة على دیمومة حالة الجمود والسکون وانتفاء حرکة المشلول کما فی الأسطر: (منسیٌّ عندَ البابْ / مشلولُ الکفَّینْ / مکسور القدمینْ / ، ..) وهی أسطر شاعت فیها ( فَعْلُنْ) الساکنة لتخلق ایقاعا یحکی صورة المشلول المقعد.

ثانیاً. سیاق الرجز:

ولسیاق الرجز حضوره الکبیر أیضا فی تجارب الشعراء العروضیة وقد أفادوا من تشکیلاته الإیقاعیة المتنوعة فی التعبیر عن تجاربهم. فقد تمیز هذا البحر بکثرة تغییراته العروضیة نتیجة لإصابة تفعیلته (مستفعلن) بالزحافات والعلل. مما أکسبه تنویعاً موسیقیاً واضحاً وحرکیة تستوعب نمو القصیدة ومستوى توترها. کما فی قصیدة حسب الشیخ جعفر: (إلى المنفى) (6):

لَمَحْتُ فی المَحَطَّـةِ الحُطَیْئـــــــةْ        مُتَفْعِلُـــــــنْ مُتَفْعِلُــــنْ مُتَفْعِلْ

کـــالتَّائِهِ الطَّـــــــــــــــــریْــــــــدْ        مُسْتَفْعِلُـــــــــــــنْ  فَعُــــــوْلْ

یُعَبِّئُ الخُرْجَ بما یَخُفُّ منْ حَشَفٍ        مُتَفْعِلُنْ مُسْتَعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ مُتَعِلْ

مُحـــــــــاذِراً مَزاعِمَ (الغَطارِفةْ)         مُتَفْعِلُـــــــنْ مُتَفْعِلُـــنْ مُتَفْعِلُنْ

قُلْــــتُ: إلى أَیْنَ أبِی الفصیــــحْ؟          مُسْتَعِلُـــــــنْ مُسْتَعِلُــنْ فَعُوْلْ

قــال: إِلى حیْثُ ارْتَمى المَرْمَــى          مُسْتَعِلُــــــنْ مُسْتَفْعِلُــنْ مُسْتَفْـ

وأَلقَـــــــــتْ رَحْلَهــــــا السِّکــکْ          ــــــــــــعِلُنْ مُسْتَفْعِلُــــنْ فَعُوْ

أَمْتَــــــــــــــدِحُ التَّمْــــــــــــــرَ،           مُسْتَعِلُــــــــــــتنْ مُسْـتَـــــــــ

وأَهْجُــــــــــــو العَسْجَدَ القَبیْــــــحْ           ــــــــــــعِـلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعولْ

إن هذا النمط الذی تسود فیه تفعیلة الرجز (مستفعلن) قد تنتهی بعض أسطره الشعریة بتفعیلة غریبة عن تفعیلة الرجز کما هی الحال مع (فعو)، و(فعولْ) ولکنها متسقة مع إیقاع السطر ولا تنبو عن النغم المتناوب فی السطر الشعری. وهذا یعنی أن هؤلاء الشعراء لم یلتزموا تماما بنمطیة الوزن الشعری العروضیة بل جعلوا لجو القصیدة وأفقها التعبیری نصیبا کبیرا فی توجیه مسارها الإیقاعی و تحدید شکل نهایات جملهم العروضیة بما یتطلبه التعبیر وتستدعیه الدلالة؛ وهذا لا یقتصر على النهایات فقط بل نشهد صورا أخرى  لحرکیة الإیقاع هذه حاضرة فی أسطر القصیدة، متمثلة بالانزیاحات العروضیة التی تصیب التفعیلات داخل الأسطر لتکسر نمطیتها فتکون متجاوبة مع التعبیر ناهضة فی تشکل الدلالة. ومن الأمثلة على ذلک قصیدة (عبد الرزاق عبد الواحد):

                                (فی مواسم التعب)(7)

الــــــــــــــــــلّـــــــــــــــــهُ            مُـــــــــــــــــــــسْتَــــــــــفْعِـ

لَوْ فَصَّلْتُ جِلْدِی مِثْلَما أَشَاءُ            لُنْ مُسْتْفِعلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفْعِلْ

إذن تـــــــــــــــمــــــــــدَّدْتُ           مِـــــــــــــتَفْعِلُـــــــــــنْ مُسْتـَ

اسْـــــــــــــتَــــــــطَلْــــــتُ ..          فْـــــــــــــــــــعِلُنْ فــــــــــــا 

أرخـــــیـــــــتُ شرایینـــــی           لُـــــــــــنْ مُسْتَعِلُـــــنْ مُسْتفـْ

تــــــــورِقُ ما تَشـــــــتاءُ …          مُسْــــــــتَعِلُنْ مُــــــــــــتَفْعِلْ 

فهنا دخل زحاف الخبن على (مُسْتَفْعِلُنْ) فاصبحت (مُتَفْعِلُنْ) وکذلک زحاف الطیو علة القطعفی نهایتی السطر الثانی والأخیر (أشاءُ) إذ جاءت التفعیلة مقطوعة مخبونة (مخلَّعة)، وکذلک تخلل السطرین الرابع والخامس زیادة (سبب خفیف) کمفصل إیقاعی یضاعف الزمن الإیقاعی للتفعیلة ومن ثم السطر وهو ما تتطلبه دلالة الفعلین (استطلتُ ..، و أرخیت) ومثلهما لفظ ( شرایینی) الذی أضاف مقطعین عروضیین للسطر أیضا لیستوعب الإیقاع صورة تمدد الشرایین واستطالتهما .  وهذا ما أکسب القصیدة طابعها الإیقاعی الخاص بها المعبر عن دلالتها، وهو إیقاع لم تقیده النمطیة العروضیة المعتادة بل القصیدة هی التی طوعت العروض لخدمتها فأنتجته. وقد عد محمد کنونی مثل هذا ناتجا إبداعیا یخضع لمقتضیات فنیة خارجة عن سلطة المقاییس العروضیة(8).إن التعبیر الشعری فی القصیدة قد یختزل التفعیلة بالزحاف أو یمد زمنها بالزیادة لیعطی القصیدة بنیتها الإیقاعیة التی تنأى بها عن الرتابة والجمود. وهی بنیة لیست بعیدة عن الحالة النفسیة والشعوریة التی تصدر عنها القصیدة. فهذا التعاقب الإیقاعی الذی جاء فی الأسطر واکب صورة الحلم أو الأمنیة التی تراود الشاعر وهی تتحقق على شکل دفعات أو مراحل کل مرحلة تفضی الى الأخرى لتتم عنده لذة الراحة والتخلص من التعب. وقد أفاد رواد القصیدة القصیرة من کل ما تفسحه لهم التغییرات العروضیة فی تفعیلات البحور التی نظموا قصائدهم علیها ومنها الرجز واستثمروها بفاعلیة عالیة دون تحفظ بل زادوا علیها بعض أشکال الخروج على المعتاد منها مع الحفاظ على جوهر إیقاع النسق الوزنی الذی تسیر فیه قصائدهم فجاءت موظفة بدقة فی تعبیرهم بحیث تشکل إیقاع السطر والعبارة کما یریده المعنى وکما یقتضیه جوه الانفعالی الذی یدور فیه. وهذا ما نجده فی قصیدة محمود البریکان (ارتسام) (9):

 

فی المـــــــــــــــطْعَمِ الصَّــــــاخِــــــب            مُسْتَفْعِلُــــــــــن مُسْتَفْــــــــــــ

أطلَّ منْ خَلفِ الزُّجاجِ عابرٌ صَــــــغیرْ           متَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُتفْعِلُنْ مُتفْعْ

بِوَجْهِـــــــــــــــــــــــهِ الشَّــــاحِــــــــبْ           مُتَفْعِلُــــــــــــــــــــنْ مُسْتَفْـــــ

أطـــــــــــــــــــلَّ لحْــــــــــــــــظــــتَیْنْ          مُتفْــــــــــــــــــــــــعِلُنْ مُتَفْــعْ

أســـــــــــقــــــــطَ قَطْـــــــــــــــرَتــیْنْ          مُسْتَعِلُـــــــــــــــــــــنْ مُتَفْـــــعْ

من ْ مَطَرٍ على الزُّجاجِ الباردِ القاسیْ          مُسْتَعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْـ

أغمَــدَ نظْرَتیْنِ فی الأطبــــاقِ نَهْمَتَیْنْ          مُسْتَعِلُنْ مُتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفْـعْ

وحــــــــــــــکَّ أنفاً وَسِخـــــــاً قَصِیرْ         مُتَفْعِلُــــــــنْ مُسْتَعِلُــــــنْ مُتَفْـعْ

ببــــــــــاردِ الزّجاجِ لکنْ أعیُنَ النَّاسْ          مُتَفْعِــلُنْ مُتَفْعِلُــنْ مُسْتَفْعِلُنْ تَفْعْ

هـــــــمَّــــــــتْ بـــــــهِ فــــــــغـــــابْ          مُسْتَفْعِلُــــــــــــــــــنْ مُتَفْـــــــعْ

وظــــــــــلَّ رسمُ وجهِهِ الــــهـــــاربْ          مُتَفْعِلُـــــــــنْ مُتَفْعِلُــــــنْ مُسْتَفْـ

علَى زُجـــــــاجِ المطعَمِ الصَّـــاخِـــــبْ          مُتَفْعِلُــــــــــــنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْـ

کـــــــالوَسْمِ فـــــــــی الضَّبــــــــــــابْ          مُسْتَفْعِلُـــــــــنْ مُتَفـــــــــــــــعْ

یوظف الشاعر هنا تفعیلة الرجز (مُستفعلنْ) ومتغیراتها (مُتَفْعِلُنْ المخبونة ومُسْتَعِلُنْ المطویة) مع خاصیة القطع المقطعی التی شهدتها نهایات الأسطر، لیشکل ایقاعا مفعما بالجو الشعوری للعبارات وموحیا بأفقها التعبیری فتجیء (مستفعلن) ذات الوقع الصلب والزخم الصوتی الممیز فی مواضع تقتضیها الدلالة کما فی السطرین الأول والثانی عشر (المطعم الصاخب). وکذلک فی السطر الثانی  ( خلف الزجاج) الذی یجده هذا الصغیر حاجزا منیعا لا یخترق فهو قاس بارد صلب فتناسب معه إیقاع ( مستفعلن) الشدید، ومثله فی الشدة والقسوة أیضا تعبیر ( الزجاج البارد القاسی/ أعیُنِ الناس/ همّتْ به )، وکذلک عبارة ( کالوسم فی الضباب) الدالة على الثبات. أما صور التفعیلة المزاحفة فقد حضرت فی الأسطر بنسبة أکبر من السالمة متراوحة بین (مُتَـفْعِلُنْ ومُسْتَعِلُنْ ) المزاحفتین لخلق نوع من التموج الإیقاعی الداخلی لهذه التفعیلة. وهذا التموج کثیراً ما یتطلبه النمط الحرکی للصورة الشعریة فی القصیدة وهذا ما یمنح الأسطر إیقاعا مرنا وبطیئا یتناسب مع حرکة الطفل الصغیر وأفعاله وبؤس حاله وحزنه کما تؤدیها الصیغ الفعلیة والألفاظ الأخرى فی الأسطر. وهکذا یتشکل ایقاع الأسطر متواترا حتى نهایاتها التی جاءت بمقاطع مجتزأة مبتورة من التفعیلة مشکلة أضربا متنوعة تنهی إیقاع السطر بوقفات تعزز دلالة لفظة الوقفة وأفقها التعبیری وتؤکده حتى نکون أمام صورة جزئیة مهمة فی تشکیل القصیدة لنتحول بعدها فی سطر تال إلى صورة أخرى، وهکذا تنثال الصور الجزئیة المتوالیة سطرا بعد سطر فی مستوى إیقاعی یحتضن المعنى ویوحی بالجو الشعوری المثقل بالحزن المصور لحال هذا الصغیر. إن جمالیة الإیقاع العروضی تبدو فی هذا التوظیف الرائع وإدراک القیم الإیقاعیة للتفعیلة سالمة أو متغیرة بما یتطلبه التعبیر.

ثالثاً. سیاق المتقارب:  

وکان سیاق المتقارب أیضا حاضرا فی کثیر من التجارب العروضیة للشعراء الذین کتبوا القصیدة القصیرة. وتتمیز تفعیلته (فعولن) فی تعاقبها بانسیابیة واضحة وتدفق مستمر وتوال منسجم لتشکل إیقاعا ذا دفعات تجری بمستوى نغمی منبسط ومتحدر سلس تعانق الالفاظ المنتظمة علیه بعضها بعضا فی انسجام صوتی ونمو دلالی وهو أیضا بانسیابیته یعکس الحالة الشعوریة أو الموقف النفسی الذی یحمله التعبیر فی السطر الشعری. ولعل انسیابیة هذا الوزن وتدفقه الرتیب کان وراء نجاحه فی تقدیم فکرة القصیدة تقدیماً نامیاً ومتطوراً على وتیرة إیقاعیة واحدة وان دخل هذه التفعیلة زحاف القبض (فعُولُ)، أو علة القصر (فَعُولْ)، أو علة الحذف (فَعُو) فهذه التحولات لا تغیر من وتیرته الإیقاعیة المنسابة الاّ فی تقلیص زمنها وفق ما تقتضیه العبارة.  یقول سامی مهدی فی قصیدته (السؤال الکبیر) (10):

تطــــولُ ذراعی وتمتَدُّ حتَّى أقاصِی الفضاءِ الأَخِیرْ          فعولُ فعولُــــــــــنْ فعولُنْ فعولُــــنْ فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولْ

ولکنَّهـــــــــــــــــــا تتَخَبَّطُ بینَ المَجَـــــــــــــــرّاتِ،           فَعُـــــــــــــولُنْ فَعُولُ فَعولُ فَعُـــــــــــــــــولُنْ فَعُولُنْ فَـ

تغـــــــــــرق فی حلکةٍ من فراغ وبـــــــــــــــــــردٍ            ـــــــــــــــعولُ فًعولُـــــــــــــنْ فَعُولُــــــنْ فَعُولُنْ فَعُولُنْ

وتــــــــــــرتــــــــــد بـــــــاحثة حولهــا عن مصیر            فَعُولُـــــــــــــــــنْ فعولُ فَعُولُـــــــــــــــــنْ فَعُولُنْ فعولْ

کــــــــــأنی بهــــــــــــــــــــــا تستجیـــــــــــــــــــرْ            فَعُـــــــــــــــولُنْ فَعُــــــــــــــــــولُنْ فعــــــــــــــــــــولْ

کــــــــأنی بهـــــــــــــــا تتلـــــــــــوّى وتصــرخ بی          فَعُولُــــــــــــنْ فعولُ فَعُولُـــــــــــــــــــــــنْ فَعُولُ فَعُـــو

منذُ سبعةِ آلافِ عامٍ وأنتَ تُحدِّقُ فی کوکبٍ یضمحلُّ           لُنْ فَعولُ فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعولُ فَعولُ فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولُنْ

وتنـــــــــــسَــــــــــــــى جوابَ السُّؤالِ الأخیـــــــــرْ           فَـــعـــــولُنْ فَــــــــــعــــــــولُنْ فَـــــــــــــعـــــولُنْ فَعولْ

فوزن المتقارب هنا حاکى بإیقاعه تعبیریة النص، فهو بتدفقه الهادئ المنساب وسلطة تفعیلته التامة السالمة حکى حرکة المعنى فی النص ووافق هدوءها وانسیابها المشتمل على الشعور بتلاشی وجود الإنسان وضیاعه شیئاً فشیئاً فی هذا الکون الفسیح دون أن یعی حقیقة وجوده وهذا ما یتطلب بطئاً إیقاعیاً حکمته طریقة التعبیر عن فکرة القصیدة. ولا نغفل هنا القافیة (المقیدة) التی خدمت الأسطر بأن جاءت اللفظة الأنسب لنهایة الأسطر الدلالیة والإیقاعیة فی لحظة واحدة إذ قدمت هی الأخرى طاقة تعبیریة وإیقاعیة رائعة بتشکیل ( فعولْ) الدالة بامتدادها الصوتی على دیمومة الحدث فهی تتضافر مع اللفظة نفسها ومع دلالتها المعنویة التی أمدّ بها الشاعر نصه. وهی دلالة حیرة الإنسان أمام زواله الدائب وضعفه ونکوصه المستدیم وضیاعه فی هذا الفضاء الهائل فقد تضافر هنا المد المضاعف فی نهایة القافیة مع إیقاع (فعولْ) الممتد فی فضاء مفتوح، (الاخیرْ، المصیرْ، الکبیرْ، تستجیرْ...).

إن رتابة تفعیلة المتقارب وانسیابها الذی اکتسبته من بنیتها المقطعیة الصوتیة ( فَ عُوْ لُنْ = مقطع قصیر ثم مقطعان طویلان : إذ تمثل دفقة قصیرة تتلوها دفقتان کبیرتان متطابقتان) جعلها تشکل بتوالیها نغما خفیضا متحدرا ، ومهما أصابها من تغیرات عروضیة حتى لو قللت زمنها فإن هذه التفعیلة تبقى محافظة على  استطالتها الصوتیة وهدوئها والسبب هو أن هذه التفعیلة تعوض ما یحذف منها بحروف المد  ویبدو أن بنیتها المقطعیة (أقصد التفعیلة) هی التی تستدعی العبارة التی تکثر فیها حروف المد ومن ثم توفر فضاءات صوتیة مناسبة لانسیابیة النغم وتحدره وهی فضاءات تستوعب حرکیة المعنى وتراتبیتها فی العبارة الشعریة، کما فی قصیدة زهور دکسن (سِوایَ)(11):

                               ســـــــــــوایَ  فعُولُنْ 

ســوایَ الّتی أقْحَمَتْنی بِبَرْدِ السُّؤالْ        فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعُولُنْ فَعولْ

سِـوایَ التی أضرَمَتْ شَجَرَ الإنْفِعالْ      فَعُولُنْ  فَعُولُنْ  فَعُولُ فَعُولُنْ فَعُولْ

وَمَـــــــــــــــنْ غَـــرَّبَتْنــــــــــــی ..       فَــــــــــــعُولُــــــــنْ فــــــــــعُولُنْ 

وَمَـــــــــــــــــــنْ بـــــــــادَهَتْــنی ..       فَـــــــــعُــــــــــــولُنْ  فَــــــعُــولُنْ 

بِـــمــــــــــــا سَیَـــــــــــــــــــؤولُ ..       فَــــــــــعُـــــــــولُ فَــــــعُــــــولُنْ 

ومـــــــــــــا کـــــــــــــــــانَ .. آلْ .        فَــــــــعُولُــــــــــــنْ فَـــــــعُــــول

فمن خلال هذه الفضاءات التی یوفرها المد فی العبارة نجد سلطة نغمة المتقارب حاضرة بتعاقبها من مبدأ السطر حتى منتهاه لتحکم سیاق العبارة بإیقاع هادئ رتیب ینتهی بوقفة یمتد عندها الصوت وهو ما یوفره تشکیل فَعولْ المقصورة، وهذا الانسجام الصوتی بین بنیة التفعیلة وبنیة اللفظ هو وجه مهم من وجوه تلاحم الإیقاع العروضی مع اللغة الشعریة فی داخل القصیدة ، ولم یکن الوزن  هنا کما هو فی وضعه العروضی المجرد حلیة باهتة یمکن الاستغناء عنها بل هو أداة فاعلة فی الشعر یجب الاعتراف بها کما یقول کوهین(12). وهذا الأمر ینطبق على کل التشکیلات الوزنیة التی یوظفها الشاعر فی قصائدة فهی لیست مختصة بنمط وزنی دون غیره، إنما الشأن فی قدرة الشاعر على توظیف النمط الوزنی مستفیدا من کل إمکاناته التی توفرها التغییرات العروضیة وحذق استعمالها فی تعبیره حتى یغدو الوزن عنصرا مهما وفاعلا فی النص تتجاوب معه الألفاظ ویتفاعل هو معها من أجل خلق بنیة فنیة متکاملة ومن ثم یشهد مع التجربة الشعریة للقصیدة ولادة واحدة کما الروح والجسد(13).

رابعاً. سیاق الکامل:

ولسیاق الکامل حضور بارز فی التشکیل العروضی للقصیدة الحدیثة فلتفعیلته (مُتَفاعِلُنْ) حرکیة متموجة مرنة لوفرة حرکاتها نسبة إلى الساکن فیها وهذا ما یمنحها درجة من الترنم عالیة عند تعاقبها فی البیت أو السطر الشعری، ولعل هذا ما دعى صاحب المرشد إلى أن یقول عن الکامل: (هو بحر کأنما خلق للتغنی المحض سواء أأرید به جد أم هزل ودندنة تفعیلاته من النوع الجهیر الواضح الذی یهجم على السامع مع المعنى والعواطف والصور حتى لا یمکن فصله عنها بحال من الأحوال)(14). ومع هذه الخاصیة التی تتوافر علیها تفعیلة الکامل فقد وفرت لها التغییرات العروضیة مساحة مهمة من التنوع داخل السطر الشعری أفاد منها الشعراء فی قصائدهم بفعل زحاف الإضمار، وعلة الزیادة (التذییل)  واجتماعها مع الإضمار أحیانا وهو ما یسمیه حسن الغرفی بالإمکانات الزمنیة(15). وقد حضرت هذه الإمکانات بقوة فاعلة فی التشکیل الإیقاعی للقصیدة القصیرة على أیدی الشعراء الذین أدرکوا أهمیتها وحاجة تعبیرهم الشعری إلیها کغیرها من الوحدات ضمن التشکیل الکلی للقصیدة ومنهم سامی مهدی، فهو یقول فی قصیدته (ورقة لیست لکافکا) (16):

دَبَّ القـــــــــــــــــــرادُ إلیهِ          مُسْتَفْعِلُـــــــــــــــــــنْ مُتَفاعِـ

فـــــــــــــــــــاسْتَــــــرخَى           لُــــــــــــــــنْ مُسْتَفْــــــــــــــ

ونــــــــــــــــــــــــــــــــامْ            ـــــــــــــعِــــــــــــــــــــــلانْ 

وَتَـــــکاثَـــرَتْ زُمَرُ القرادِ           مُتَــــــــــــــفاعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ مُـ

فـــمـــــــا أحَـــــــــــــــــسَّ          ـــــــــــــــــــــــــــــتَفاعِلُنْ مُـ

وظــــــلَّ یَحلُـــــــم بالسلامْ.         ـــــــــــــــــــتَفاعِلُنْ مُتَفاعِلان

حتى إذا ما مرَّ یومٌ واستَفاقَ         مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُـ

تَخَــلَّعَتْ أطرافُهُ من جانِبَیهِ          ــتَفاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُـ

وَلَــــمْ یَجِـــــــدْ إلاّ العِظامْ.         ـــــــــــــــــــتَفاعِلُنْ مُسْتَفْعلان

ینبنی السیاق العروضی لهذه القصیدة من وحدة الکامل السالمة (مُتَفاعِلُنْ) وبدیلتها المضمرة (مُسْتَفْعِلُن) مع حضور علة التذییل فی نهایة جملها الشعریة عند تمامها. وقد جاءت الوحدات الإیقاعیة بحالاتها العروضیة وهی تشکل إیقاع القصیدة موظفة کما یحتاجه التعبیر الشعری وتتطلبه الصورة الشعریة وجوها فنجد التفعیلة المضمرة حاضرة فی الجمل الدالة على ما هو حتمی یفجأنا عندما ننتبه إلیه وهو الفناء الذی یدب مهولا کثیفا ونحن فی غفلة منه، إنه زوالنا الذی یحیط بنا ویطبق علینا.

البنیة الصوتیة والدلالیة للعبارات تستدعی ایقاع (مُستفْعِلُن) الرجزیة الصلدة المتضامة (دبیب القراد، بصورته الکثیفة المتراکمة البشعة = رمز الهلاک والفناء الحتمی المطبق) / (حتى إذا ما مرَّ یوم واستفاق = سرعة مرور الزمن والاستفاقة المفاجئة، صورة یناسبها ایقاع مستفْعِلُنْ بضرباته الصلبة المتوالیة) / (تخلع الأطراف، وسرعة تحولها إلى عظام ساکنة باردة) کلها یحاکیها ایقاع صلب متوال یرسم صورتها الساکنة التی تفجأ وعینا وتذهله. وتحضر تفعیلة (مُتَفاعلنْ) بمرونتها وحرکیتها فی الجمل الشعریة التی تؤثث صورا حرکیة من مثل (تعاقب أفواج القراد إلیه / وتکاثرت زمر القراد، فما أحسّ، وظلَّ یحلم بالسلامْ = صورة استطالة الغفلة وتوهم السلام والأمان بهدوء ودعة) ویناسب هذا ایقاع متوال فیه هدوء واستطالة تکفلته (مُتَفاعلِنْ) وتضاعف بصورتها المذالة فی نهایة الجملة لتحکی الامتداد والاستطالة والاسترخاء (مُتَفاعلانْ) فیوحی الإیقاع بهذا الجو ویدخل عنصرا فاعلا فی تشکیل هذه الصور. والشاعر هنا انطلاقا من تشکیل بنیة قصیدته القصیرة هذه والتعبیر عن رؤیته فیها لم یقف عند حدود المواءمة بین التعبیر والدلالة وإیقاعهما بل أخضع إیقاع النسق العروضی فی هذه القصیدة إلى سلطة تشکلها الدلالی التی یقتضیها التعبیر وهو تشکل قائم على تعاقب الصور الجزئیة فی جملها الشعریة الثلاث؛ إذ کل صورة تأتی فی سطر لوحدها فتأخذ مساحتها الإیقاعیة من النسق العروضی دون مراعاة لما تتعرض له التفعیلة من بتر بعض مقاطعها لتکمله فی السطر الذی یلی مستفیدا من خاصیة التدویر التی سنقف عندها لاحقا. و إن تقطّع بعض مقاطع التفعیلة أو أجزاء منها (أوصالها) على مساحة الجملة الإیقاعیة لهو وجه من وجوه الهدم والتخلُّع والزوال الذی تعبر عنه القصیدة بکلیتها. وهنا نجد أن التشکل العروضی للقصیدة یأتی نابعا من بنیتها الدلالیة والتعبیریة تابعا فی حرکیته لها لیکون عنصرا حاضرا فی بُناها الجزئیة والکلیة معا، فهو یولد معها ویستمد روحه منها.

ولإمکانات التنوع الإیقاعی التی یحتازها الکامل فی سیاقه کان الشعراء المحدثون یمیلون إلیه؛ إذ وجدوا فیه دینامیة طیّعة لاستیعاب تجاربهم، وبالرغم من قلة أسطر القصیدة القصیرة واکتناز عباراتها إذ لا تستدعی توسعا یتطلب طول العبارة أو کثرة الأسطر فیها فإن الشعراء عندما ینظمون قصائدهم القصیرة على الکامل لا بد أن یغتنموا خاصیة التنوع الإیقاعی التی یوفرها زحاف الإضمار فی وحدة الکامل لیتناسل إیقاع الرجز فی سیاقه مثلما رأینا فی القصیدة السابقة ومثلما نرى أیضا فی قصیدة الشاعر البصری کاظم الحجاج: (نُضج)(17)

إنِّیْ فَتىً کالبُرتقالةِ شاحِبٌ       مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ

والبُــــــــــرْتقالَةُ لا تَخافْ       مُـــــسْتَفْعِلُنْ   مُــــتَفاعِلانْ

لـــــــــــــــکنَّمـــــــــا ..        مُــــــــــــــسْــــــــــــتَفْعِلُنْ

یصـــــفَرُّ وجهُ البرتقالَةِ         مُـــــــسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُتَـ

کُلَّمـــــا قَرُبَ القِطافْ !         ــــــــــفاعِلُنْ مُتَفـــــاعِلانْ

إن ضرورة حضور التفعیلة الرجزیة (مُستفعلنْ) یستدعیها التعبیر الشعری فی بعض مواضع من العبارة لما توفره من سرعة وشدة أسر وقوة جرس کما فی ( إنّی فتىً / کالبُرْتقالَةِ / لکنَّما / یَصْفَرُّ وجهُ البرتقالة ) وهی عبارات تحمل معنى متوثبا ولها وقع ممیز فی الأذن بسبب بنیتها الصوتیة ذات المقاطع المغلقة ووحدتها الإیقاعیة المتضامة (مُسْتَفْعِلُنْ)؛ لذا فإن أنشادها یکون بنغم متوتر صاعد فی حین یهبط هذا النغم ویتراخى فی نهایة السطر الأول والثانی وعلى امتداد السطر الأخیر فتحضر (مُتَفاعِلانْ) بانبساطها وهدوء تموجها لتناسب هذا النغم المتراخی وحرکة الانکسار والشحوب التی یصیر إلیها المرء بعد نضجه مضاعفة ذلک بالمقطع الطویل فی نهایتها عن طریق علة التذییل .إنه تحول ضدی من القوة إلى الضعف وقد استوعب النسق العروضی هذه التجربة الشعریة فی مستوییها المتضادین.

خامساً. سیاق الرمل:

أما سیاق الرمل فله حضوره أیضا فی التجربة العروضیة للقصیدة القصیرة لما یتمتع به إیقاعه من استرسال وتدفق توفره تفعیلته (فاعِلاتُنْ) ومزاحفتها (فَعِلاتُنْ) فی تعاقبهما داخل السطر الشعری مع إمکانیة التداخل التفعیلی بین الأسطر وهی إمکانیة یستدعیها الطابع الحکائی للقصیدة کما یرى محمد کنونی(18). من ذلک قصیدة سامی مهدی (الأحیاء)(19)

قبـــــــــلَ أنْ نَـــــدفُــــــــنَ مَوتانا          فَــــــاعِــــــــــلاتُنْ فاعلاتن فا

هَــرَبـنـا وَتَعَلَّقنا بأعشاب الحیـــــاة         عِلاتُنْ فَعِلاتُنْ فاعِلاتُنْ فاعِلاتْ

ورَضِـینـــــــا بِبقایا بَقِیَتْ منــــــهم         فَـــــعِـــــلاتُنْ فَعِلاتُنْ فَعِلاتُنْ فا

تُــــــــــسمَّـى: ذِکْـــــــــــرَیـــــاتْ         عِــــــــــــلاتُــــــــــنْ فـــاعِلاتْ

فَــــــالَّذِی أُلحِـدَ فی القبرِ سِوانــــا          فَـــــــــــاعِـلاتُنْ فَعِلاتُنْ فَعِلاتُنْ

والَّـــذی یــــحیــا هُنا الآنَ کِــــلانا         فَـــــاعِلاتُنْ فَــــــاعِلاتُنْ فَعِلاتُنْ

وکَــــفــانا أنَّـــنا لـــمْ نُنکِرِ المَوتى،        فَــــعِلاتُنْ فَــــاعِلاتُنْ فَاعِلاتُنْ فا

ولا غِــــبنــــــــا عـــن الـــتشییعِ،         عِــــــــلاتُنْ فَــــــــاعِلاتُنْ فـــاعـِ

بــــــــــــــــــــل جِــــئــــــــنــــــا          ــــــــــــــــــــــــــــــلاتُنْ فـــــــا

وسُـــــــــــرنــا مـــــعَ مَــنْ ســارَ         عِـــــــــــــــلاتُنْ فَـــــــعِلاتُنْ فَــــ

ونُـــــــــــــــحـــــــــنــــــــــــــــا،         عِـــــــــــــــــــــــــــــــــلاتُـــــــنْ

وتَلَــــــونا ما حَفِظنا من صــــلاةْ.          فَـــــــعِلاتُنْ فَــــــاعِلاتُنْ فَاعِلاتْ

إن الإیقاع المتعاقب لوحدات الرمل وتداخلها بین الأسطر جاء هنا بنغم خفیض متصل یواکب الحکی واسترساله وقد کان لأصوات المد دور کبیر فی إظهار هذا النغم وبروزه کما اکتسبت القصیدة نوعا من البطئ والتدفق المتراخی مع هذا الإیقاع فی کل سطر؛ إذ کل سطر یقدم فقرة من فقرات الحکی التی تختص بتقدیم فکرة محددة تختلف عن غیرها فی الأسطر الأخرى المتوالیة وهنا یکون لکل سطر مداه الإیقاعی المحدد الذی یستوعب فکرته، تارکا للتداخل الإیقاعی (التدویر) بین الأسطر مهمة ربط بعضها ببعض لتتشکل الرؤیا الکلیة للقصیدة دلالة وإیقاعا. والحقیقة لیس کل ما نظم على وزن الرمل یأتی بنغمة خفیضة مسترسلة بل إنَّ جوَّ القصیدة وتشکلها اللغوی والدلالی یستثمر کل ما فی نغمة الوزن من مستویات معبرة لتوظیفها بفاعلیة خدمة للتجربة وتشکیل رؤیاها. وتفعیلة (فاعِلاتُنْ) تتمیز بوضوحها الإیقاعی ووقعها الصوتی الممیز ما یجعلها مؤهلة لأن تشکل إیقاعا متوثبا ونغما صاعدا إذا ما توافرت لها ألفاظ وعبارات ذات أسر تؤدی معانی تسیر فی جو شعوری متوهج وانفعال عال، وهذا مانجده فی قصیدة قصیرة أخرى لسامی مهدی؛ (الجزء الضائع) (20):

أیُّــــــــــــــهـــــــــــــــا الــــــــرَّحـــبُ الکبیرْ         فــــــــــــــــــــــــــــاعِلاتُن فـــــــاعِلاتْ

أیُّها المُلتَفُّ بالضَّوءِ وبالظِّلِّ حَریراً فی حَرِیرْ         فاعِلاتُن فاعِلاتُن فًعِلاتُن فَعِلاتُن فاعِلاتْ

أیُّـــــــــــــــــــــــهـــــــــــــــــــا السِّرُّ الأَخِیرْ          فـــــــــــــــــــــــاعِلاتُن فــــــــــــاعِلاتْ

مــــــــــــــا الّذی یُنقِصُنـــــا نحنُ فلا نکتملُ؟          فـــــــــــــاعِلاتُن فَعِلاتُن فَعِلاتُن فَـــــعِلا

رَغبــــــــــــــــــــــــــــــةٌ جــــــــامِــــــــحَةٌ؟          فــــــــــــــــــــــــاعِلاتُن فَــــــــــــــــعِلا

أَمْ .. خَـــــــــــــــــــــــــــبَـــــــــــــــــــــــلُ؟           تُـــــــــــــــــــــــــــــــن.. فَــــــــــــــعِلا

إنَّ جوَّ الدهشة والتوتر والانفعال والتساؤل هو الذی ینتظم أسطر هذه القصیدة التی تتحدث عن أشیاء ضبابیة ساحرة وغیر مدرکة بالحس وهی أشیاء مهیبة من عالم سماوی تتوق إلیها النفس لو اتحد بها الإنسان لأوصلته إلى درجة الکمال، إنه جزؤه الضائع الذی یبحث عنه ویتشوف إلیه دوما. إن الخطاب الشعری یجری بانفعال متوتر وتنغیم صاعد کان لنغمة الرمل (فاعلاتن) بوقعها الممیز وانزیاحاتها المعبرة أن تستوعبه وتتمثله. هذه أبرز الأنماط العروضیة الصافیة التی انتظمت علیها قصائد الشعراء القصیرة (مادة البحث) ولست بصدد الإحصاء أو الحصر هنا بل بصدد تلمس المستوى الجمالی الذی أنتجه التشکیل العروضی للقصیدة القصیرة.

أما الأوزان المرکبة فقد شکلت حضورا متواضعا جدا لایکاد یذکر مقارنة بالأوزان الصافیة التی وقفت عندها ولم تکن تمثل تجارب عروضیة مهمة وملفتة تستدعی الدرس فی هذا البحث. إن الوحدة الإیقاعیة فی البحور المرکبة لا تتکون من تفعیلة واحدة کما هی الحال فی البحور الصافیة بل من تفعیلتین مختلفتین یجب على الشاعر تکرارهما معاً کأصغر وحدة إیقاعیة فی سطره الشعری، فمثلاً إذا کتب الشعر بالبحر (البسیط) (مستفعلن فاعلن) لیس له أن یکتفی بـ (مستفعلن) وحدها أو (فاعلن) وحدها فاکتفاؤه بمثل ذلک یضعه أمام بحر مختلف تماماً هو (الرجز) فی الحالة الأولى، و (المتدارک) فی الحالة الثانیة. ومن ثم فهو مضطر لأن یستخدمها الوحدتین متوالیتین معاً. وهذا قد یولد حاجزاً یصطدم به التدفق الشعری او الحالة الشعوریة التی یصدر عنها الشاعر والتی قد تتلاءم معها تفعیلة واحدة من البحر المرکب وهذا ما یسیء إلى النص الشعری والى تذوقه على حدٍ سواء (21). کما أن النظم على الوزن المرکب یفرض على الشاعر نمطیة هذا الوزن المسبقة التی تمثلها ضرورة الانصیاع لتوالی التفعیلتین ( الوحدة الإیقاعیة المرکبة للوزن) ومن ثم تکون سلطة الوزن حاضرة سلفا على القصیدة ویکون حظ التجربة الشعریة فی خلق إیقاعها بذاتها وتشکیله بما تقتضیه مستویات التعبیر والانفعال فیها قلیلا وغیر فاعل، بذلک نتبین السبب فی انخفاض نسبة البحور المرکبة وقلتها فی ساحة القصیدة الحدیثة.

المبحث الثانی. تحول النسق العروضی (تداخل البحور):

المعروف حسب القاعدة العروضیة إن القصیدة تنتظم على نسق وزنی واحد هو الذی یرسم خط تشکلها العروضی ولیس للشاعر أن یخلط إیقاعا بآخر غیره فی قصیدة واحدة، غیر أن هذه القاعدة فقدت سلطتها مذ بدأ الشعر الحدیث فی العراق بعد منتصف القرن الماضی یشهد ظواهر موسیقیة وفنیة جدیدة نابعة من روح التجربة الشعریة وحداثتها(22)، وکان من بین تلک الظواهر تداخل وزنین فی قصیدة واحدة وهذا التداخل لم یکن ضربا من الترف أو محاولة فی التجریب، بل کان فی نماذج کثیرة وعلى أیدی شعراء کبار ضرورة تعبیریة یستدعیها نمو القصیدة وتحولات الدلالة فیها وتنوع الانفعال، ومن ثم فهی ظاهرة إیقاعیة تولد من رحم التجربة الشعریة للقصیدة ذاتها تؤدی إلى مغایرة إیقاعیة فی التشکل العروضی للقصیدة. وقد شهدت القصیدة القصیرة هذه الظاهرة بفاعلیة عالیة أسهمت فی ثراء جوها الإیقاعی وإنعاشه، وقد شغل التداخل بین وزنی المتدارک والمتقارب فیها المساحة الأوسع.

ویبدو أن الأصل البنائی المشترک بین وحدتی المتدارک والمتقارب هو الذی یجعل تحول الإیقاع بینهما مستساغا ومقبولا، فکل من (فاعلن، وفعولن) تتشکلان من وتد مجموع وسبب خفیف، یتقدم السبب على الوتد فی الأولى، بینما ینعکس الترتیب فی الثانیة لیتقدم الوتد على السبب، والأمر الثانی الأهم فی هذا التحول هو أن النواتین (السبب والتوتد) فی وزنی المتدارک والمتقارب یمثلان الأُسّ المشترک للإیقاع بینهما وهذا یعنی اشتراک (فاعِلُنْ وفَعُولُنْ) بمدى زمنی واحد تشغله عناصر صوتیة متطابقة (مقطع قصیر/ مقطع طویل/مقطع طویل، مع اختلاف فی الترتیب) ثم إن تحول السیاق من (فاعلن) إلى (فعولن)(23) هو انقلاب فی  تعاقب النواتین (فاعِلُنْ » عِلُن فا) یؤدی إلى تغیر نغمة الإیقاع بسبب تغیر تعاقب النوى المشکلة للوحدة وقد یکون لحضور المفصل الإیقاعی دور کبیر أیضا فی هذا التداخل(24). والحقیقة إن هذا التحول لم یکن اعتباطیا بل التعبیر الشعری ومقتضاه الإیقاعی فی القصیدة هو الذی یوجهه.

وکان للتداخل حضور ملحوظ فی قصائد الشاعر یوسف الصائغ القصیرة من بین شعراء فترة ما بعد الرواد فقد اعتمد هذه التقنیة فی منح قصائده تحولا ایقاعیا مسایرا لتحول الفکرة فیها راسما خط تغیر الموقف الشعوری وقد اعتمد هذه التقنیة فی أکثر قصائده القصار، یقول فی قصیدته (مقدمة أولى .. زمان المحبین)(25):

مــــــــــــــــــــــــــــا تَــــبقَّــــى         فاعِلُـــــــــــــــــــنْ فـــــــــا

هُـــــــــــــــــــــوَ الحُـــــــــبُّ ...         عِـــــــــــــــــــلُــــــنْ فاعِــ

هــــــــذا .. رِهـــــانی الأخِیرْ ...        ـــــــــــــــلُنْ فاعِلُنْ فاعِلانْ

زَهــــرتانِ على القلبِ ذابِلَتانِ ...        فاعِلُنْ فَعِلُنْ فاعِلُنْ فَعِلُنْ فَـــ

وَسبْـــــــــعُ شُــــمــــــــــــــــوعٍ،         ــــــــــــــــــــعِلُنْ فَعِــلُنْ فا

تُنِیـــــــــــــــرُ الضَّـــــمیـــــرْ ...         عِـــــــلُـــــــــــــــنْ فاعِلانْ 

وَأَنـــــــــــــــتُـــــــــــــــــــــــــمْ ..        فَـــــــــــــــــعُــــــــــــــولُنْ

خُــــــــــــذونیْ بِــــــــطیبَةِ قَلبِیْ ..        فَــــــــــعُولُنْ  فَعُولُ فَعُولُنْ

فَـــــــإنَّ المَحَبَّـــةَ ، طَیِّبةُ القلــــبِ         فَـــــــعُولُنْ فَعُولُ فَعُولُ فَـــ

والشِّـــــــــــــــعرُ، مَغْفِــــــــرةٌ ...         ـــــــــــــعُولُنْ فَـــعولُ فَعُو

وَزَمـــــــــــــــــانُ المُــــحِـــبِّیْنَ ..        لُ فَـــــــــــعُولُنْ فَعُولُنْ فَــــ

جِــــــــــــــــــــــــدُّ قَصِیْـــــــرْ ...        ــــــــــــــــعُـــــــــولُ فَعُولْ 

یتشاطر القصیدة سیاقان: المتدارک فی الأسطر الأولى الست وفیها حدیث الشاعر مع نفسه بنغمة تجری على وتیرة واحدة فیها من الثقل والبطء ما یحاکی موقف الحزن والتحسر وکان لشیوع (فاعلن) السالمة فی الأسطر دور فاعل فی وسم إیقاع الأسطر بهذه الرتابة مع تلوین هادئ بسیط أضفته (فَعِلُنْ) المخبونة فی سطرین منها لم یکسر الرتابة التی تلف هذه الأسطر لأن مستوى الانفعال واحد ینتظم الأسطر کلها. ثم یتحول السیاق بتعاقب وحدة (فَعولنْ) إلى المتقارب، وهذا التحول یبدأ مع تحول الخطاب إلى الآخرین وهو خطاب فیه رقة وتودد ومحبة وقرب من المخاطبین وقد بدت نغمة (فَعولُنْ) هی الأصلح لخلق إیقاع فیه روح الرقة والتودد والتوجه باستطالة خفیضة إلیهم تحکی هذا الجو الشعوری الذی خالطه الحزن مع الود والترجی. ومن ثم کان تحول الإیقاع من المتدارک إلى المتقارب هو تقنیة أوجدتها تعبیریة القصیدة واستدعاه تحول الموقف داخل بنیة القصیدة فکریا وشعوریا. وإن هذا التحول الإیقاعی لا یبدأ إلا بعد أن تتم الجملة الشعریة التی قد تستغرق أکثر من سطر لتستکمل دلالتها وتستوفی جوها الشعوری على نسق وزنی واحد، ثم تبدأ جملة شعریة أخرى تؤدی تحولا دلالیا وفکریا آخر ویسوقها جو شعوری مغایر لتتخذ نسقها الوزنی الملائم الذی یستوعبها فیکون هو الأصلح لها، لذا ینحرف الوزن هنا إلى وزن مغایر لا یبتعد کثیرا فی جوهره عن الأول لتبقى القصیدة محافظة على انسیابیتها تسیر فی کون أیقاعی متناسب ومنسجم وهو ما یحدث فی التحول أو التداخل بین المتدارک والمتقارب مثلا. وفی أغلب القصائد التی شهدت تداخل وزنین فی تشکیلها الإیقاعی(26) لم تخرج عن مثل ما ورد فی القصیدة التی وقفنا علیها إذ یتحول السیاق الوزنی بتحول الموقف او تغیر وجهة التعبیر فیکون إیقاع النسق العروضی عنصرا له فاعلیته من بین عناصر تشکیل القصیدة متلونا بأجوائها التعبیریة والشعوریة.

المبحث الثالث

التدویر:

تقوم القصیدة الحدیثة (قصیدة التفعیلة) على السطر الشعری الذی لا یحکمه عدد معین من التفعیلات، بل الدفقة الشعریة هی التی تحدد المدى الإیقاعی الذی یستوعبها فی کل سطر، بحسب ما تؤدیه من فکرة. وباکتمال الفکرة یبلغ السطر نهایته (وقفته) الدلالیة والعروضیة، لیکون السطر جزئیة موسیقیة دلالیة ترتبط بغیرها من الجزئیات الأخرى فی جسد القصیدة وتتفاعل معها(27)، وقد تمتد الفکرة متجاوزة السطر إلى غیره من الأسطر حتى تمامها فتأتی بدفقة شعریة أکبر وجملة شعریة أطول تتجاوز السطر عروضیا ومعنویا إلى سطر آخر أو أسطر أخرى، وقد تشمل القصیدة کلها، وهنا یقع التدویر بین نهایة السطر وما بعده مُتابَعةً للمعنى وتکون بدایات الأسطر تابعة عروضیا لنهایات التی سبقتها فیسیر النسق العروضی مستمراً دون توقف حتى تکتمل الجملة الشعریة فتکتمل معها صورتها الموسیقیة وتبلغ وقفتها. وهنا یخرق التدویر الوقفتین العروضیة والدلالیة معا(28) فی کل سطر یقع فیه. وإذا کان الأمر متعلقا بالدفقة الشعوریة والجملة الشعریة ومداها الموسیقی فإن لهذه الحالة مکانة متمیزة فی القصیدة القصیرة، تجعل للتدویر قیمة مهمة فی بنیتها التعبیریة، ولکن على وفق إمکانات هذه القصیدة وخصائصها من حیث طبیعة الجملة الشعریة وجوها الشعوری وما تقتضیه من مساحة إیقاعیة کافیة. وکما هی الحال فی القصیدة الحدیثة یجیء التدویر فی القصیدة القصیر جزءا من مقطع، أو مقطعا کاملا، أو یتسع لیشمل القصیدة کلها فتکون مدورة.

أولاً. التدویر الجزئی:

وهو امتداد أحد أسطر القصیدة عروضیا إلى سطر یلیه لیلتحم معه عروضیا بتحول جزء من تفعیلته الأخیرة إلى أول السطر الذی یلیه، ویرافق ذلک امتداد معنوی تُستکمل الفکرة من خلاله. من ذلک قصیدة حسب الشیخ جعفر (إلى دیک الجن)(29):

لا أظُنُّــــــــکَ مَنْ یَقتُلُ امرأةً       فـــــــاعِلُنْ فَعِلُنْ فاعِلُن فَعِلُنْ

عائِمـــــــــــــــــاً فی القُنوطْ ..      فـــــــــــــــاعِلُنْ فَـــــــاعِلانْ

ما جَرى هُوَ أنَّکَ أزمَعْتَ قَتْلَ       فاعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فاعِلُنْ فَـــــ

خَیــــــــــــالٍ لها فی الشَّراب       ـــــــــــــــعِلُنْ فاعِلُن فَاعِلانْ

فـــــــــــــــاتّخَذتَ (السَّراب)        فـــــــــــــاعِلُنْ فَــــــــاعِلانْ

قَــــــــــــدَحـــــــاً أو حَنوطْ!         فَــــــــــــعِلُنْ فَـــــــــــاعِلانْ

جاء التدویر فی هذه القصیدة بین سطریها الثالث والرابع؛ إذ إنهما یمثلان جملة تُقرأ بنفس واحد متصل لا سیما أن التدویر وقع بین المضاف والمضاف إلیه ، وقد یسمح إنشاد القصیدة بوقفة یسیرة جدا أوشبه وقفة فی نهایة السطر عند (أزمعتَ قتلَ) بالقدر الذی یُبرِز حرکة الفتح على لفظة (قَـتْـلَ) ویُلفتُ السمع إلى التعبیر( أزمعتَ قتلَ) لتوکید حضوره ودلالته ثم یوصل بالسطر الثالی ممدا الصوت عند (خَیالٍ) لإبرازها أیضا لأن کلاً من (أزمعتَ قتلَ، وخیالٍ لها فی الشراب) یمثلان بؤرتی إشعاع تعبیری فی الجملة الشعریة التی اتسعت للسطرین، وأحسب أن أهمیة اللفظتین التعبیریة هذه هی التی دفعت الشاعر إلى أن یجعلهما فی سطرین یؤدی کل منهما فکرة جزئیة مهمة ثم یوصل بینهما بتقنیة التدویر، وإلا فإنّه بإمکانه أن یجعل التعبیر کله فی سطر واحد أو یجعل لفظة (خیالٍ) مع مضافها (قتل خیال لها) وینتهی الأمر لکن ورودهما فی سطر واحد یجعل وهجهما التعبیری باهتا وهذا بظنی ما تجنبه حسب الشیخ جعفر. وهنا ندرک أن التدویر (وإن جاء جزئیا بین سطرین) کان فاعلا جدا وموظفا بعنایة. والتدویر الجزئی لا یقتصر وقوعه عند سطر واحد فقط من القصیدة بل قد یأتی بین أکثر من سطر منها(30).

ثانیاً. التدویر المقطعی:

هذا التدویر یمتد لیشمل مقطعاً کاملاً یمثل جملة شعریة واحدة تمتد إلى أکثر من سطر فی داخل القصیدة تکتنفها دفقة شعوریة واحدة، وهنا یکون النسق العروضی ممتدا هو الآخر مع الجملة حتى یبلغ وقفته باکتمال المعنى. وبذا تکون القصیدة متکونة من أکثر من مقطع، کل له خصوصیته من حیث التعبیر والشعور، والتصویر، والدلالة. وهذه الخصوصیة لا تقطعه عن غیره من مقاطع القصیدة بل هو وحدة خصبة مؤهلة للنمو والتعاضد مع غیرها من المقاطع فی سبیل اکتمال التجربة الشعریة. ومن الأمثلة على ذلک قصیدة سامی مهدی:(ورقة لیست لکافکا) (31).

 

دَبَّ الــــــقــــــــــــــرادُ إلیهِ                 مُسْتَفْعِلُــــــــــــــــــنْ مُتَفاعِــــ

فـــــــــــــــــاسْــــتَـــــرخَى                  لُــــــــــــــــــــنْ مُسْتَفْـــــــــــ

ونـــــــــــــــــــــــــــــــــامْ.                 ـــــــــــــــــعِـــــــــــــــــــلان

وَتَــــــــکاثَرَتْ زُمَرُ القرادِ،                 مُتَفاعِلُنْ مُتَفاعِلُنْ مُــــــــــــــــ

فــــــــمـــــــا أحَـــــــــــسَّ                   ـــــــــــــــــــــــــــــتَفاعِلُنْ مُـ

وظــــــــلَّ یَحلُم بالســــلامْ.                  ـــــــــــــــــــتَفاعِلُنْ مُتَفاعِلان

حتى إذا ما مرَّ یومٌ واستَفاقَ                 مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُـ

تَخَلَّــعَتْ أطرافُهُ من جانِبَیهِ                  ــتَفاعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُـ

وَلَــــــمْ یَجِدْ إلاّ العِظــــــامْ.                  ـــــــــــــــــــتَفاعِلُنْ مُسْتَفْعلان

 

القصیدة متکونة من ثلاثة مقاطع مدورة وکل مقطع یطغى علیه الطابع السردی وینتابه نفس شعوری واحد خاص به. ویقدم فکرة أو حالة من حالات الهدم والزوال التی یتعرض لها الإنسان وهو یسلک دربه فی الحیاة. إن التدویر فی کل مقطع یربط الأسطر مع بعضها متجاوزا وقفتها لیقدم صورة إیقاعیة وشعوریة نامیة للفکرة التی یعبر عنها المقطع، هذه الصورة تمتد مع امتداد الفکرة عبر الأسطر وإذا شئنا الدقة أکثر فإن کل سطر فی المقطع الواحد یقدم صورة جزئیة مرحلیة لها إیقاعها فی الصورة الکلیة للمقطع، لذلک عمد الشاعر إلى إفراد کل منها فی سطر خاص بها موکلا للتدویر مهمة ربطها إیقاعیا فی نفس شعری واحد، فکان التدویر تقنیة مهمة فی تشکیل القصیدة لها فاعلیتها فی نمو مفاصلها وتشکل فکرتها. وهذه التقنیة کما یبدو تصلح مع القصائد ذات الطابع السردی کما شهدنا فی هذه القصیدة إذ اکتنف مقاطعها طابع سردی واضح فجاءت مدورة. ویکون للتدویر المقطعی تعالق متفاعل مع التقفیة فی القصیدة، کونها موضع الوقفة المهمة التی تختم الجملة الموسیقیة للمقطع وینتهی عندها دفقه الشعوری والدلالی. فغالباً ما تأتی المقاطع المدورة منتهیة بقافیة تتکرر فی داخل القصیدة، کما هو الحال فی القصیدة السابقة. وهذه التقفیة فی نهایة المقاطع المدورة تسهم کثیراً فی تشکیل الفضاء الصوتی للمقاطع کما أن التدویر یسوق التعبیر کله لیحقق کمال دلالته عند لفظ القافیة، ما یجعلها بؤرة صوتیة وتعبیریة لها مکانة بارزة فی جسد القصیدة. من ذلک ما نحده فی قصیدة یوسف الصائغ؛ (أیُّها المُغترب) (32):

((وحید بمقهاکَ))       فـــعولن فعولن فـــــــ

إن القـــــــــصـــــــائدَ           عولن فعولُ فـ

فــــــی جبهـــــة الفاوِ          فعولن فعولن فـ

لیســتْ وحیـــــدَه …          عولـــــن فعولنْ

وبـــــــغـــــــــــــدادُ،           فعولن فـــــــــــ

فـــی ســـاعةِ الـــحبّ           عولن فعولن فـ

لیســـــتْ بعـــــیدَهْ ..           عولــــن فعولن

………….            ......…………….

حســـبُ أن تقتـربْ ..          فــاعلـــن فاعلنْ

أیــــــــــــــــــهــــــــا           فــــاعلـــــــــــــ

الشــــــــــــــــاعــــــرُ          ــــــن فاعلــــــــ

المــــغتــــــــــربْ ...          ــــــــــــن فاعلنْ

القصیدة ذات ثلاثة مقاطع مدورة مقفاة. الأول، والثانی یشترکان فی قافیة هی على التوالی (وحیدهْ، بعیدهْ). أما الثالث فیتوحد مع قافیة السطر الذی قبله (تقترب، ومغترب). وجاءت القافیة هنا لتعلن النهایة الزمنیة للمقطع کما نشرت ظلال إیقاعها على فضائه کله، والتدویر هنا یختزل نهایات الأسطر فی نهایة واحدة ومن ثم تشع القافیة بقوتها الدلالیة وقیمتها الإیقاعیة على کل أسطر المقطع وتُخضِعها إلیها.

ثالثاً. التدویر الکلی:

وهو یختلف عما سبقه؛ لأنه یأخذ بالقصیدة کلها من أول سطر إلى آخره. فتبدو الأسطر فی شکل متوالیة إیقاعیة تنتهی عند آخر سطر. وبهذا تکون القصیدة مدورة کلیاً، ولابد أن تخضع القصیدة کلها إلى دفقة شعوریة واحدة تمتد مع امتداد أسطرها لکی یکون التدویر فیها ناجحاً. فتکون القصیدة کلها جملة شعریة واحدة ینساب إیقاعها العروضی دون تعثر أو تلکؤ حتى موضع الوقفة فی آخر سطر منها. ویبدو أن القصیدة القصیرة لم تشهد هذا النوع من التدویر بشکل ملحوظ واسع، ولعل السبب فی ذلک هو أن التدویر أکثر ما یوائم الدرامیة و السرد وهذان الأمران تکون القصائد الطویلة طبعا أفسح مجالا لهما، ولکن ذلک لم یمنع وروده فی القصیدة القصیرة إذا ما اکتنفها السرد بأکملها کما فی قصیدة سامی مهدی: (رغبة أخرى) (33) :

سَقَــــــــــــطَ الثَّلـــــــــجُ هذا الصّباحَ       فَعِلُنْ فاعِلُنْ فاعِلُنْ فَــــــــــــــــــــ

کـــــثــــــــــیـــــــــــــفـــــــــــــــــــاً،       ــــــــــــــــــــــــــــعِلُنْ فــــــــــــا

فَغطَّــــــــــــــــــــى المدینةَ بالصَّمتِ،       عِلُـــــــــــنْ فاعِلُــــــــنْ فَعِلُنْ فاعِـ

وانبَثَّ فی کلّ منعَطفٍ وطــــــــریقٍ،       ـــــــلُنْ فاعِلُنْ فاعِلُنْ فَعِلُنْ فَعِلُنْ فا

ولکنَّ بی رغبةً فی التَّعنُّتِ والسّخْطِ،       عِلُنْ فاعِلُنْ فَاعِلُنْ فاعِلُنْ فَعِلُنْ فاعِـ

بـــــــــــی رغبـــــــــــة فی الصّیاحْ.       ــــــــــــــــــــــــــلُنْ فاعِلُنْ فَاعِلان

یکتنف هذه القصیدة نفس شعوری واحد متنام وهو امتعاض الشاعر من شدة البرد وصمت المدینة بسب سقوط الثلج کثیفا فی کل منعطف وطریق، لذا جاءت القصیدة فی دفقة واحدة بإیقاع متوال لا وقفة فیه حتى النهایة، یحکی استمراریة البرد وتعاظم صمت المدینة. وفی الوقت نفسه یحکی الإیقاع المدور أیضا تنامی انفعال الشاعر وامتعاضه حتى بلغ درجة الرفض الصریح (الصیاح)، فکان للتدویر فاعلیته فی حرکیة إیقاع الأسطر وتتابعها إلى تمام الفکرة واکتمالها دلالیا وشعوریا فکانت القصیدة جملة شعریة واحدة.

خاتمة:

- إن القصیدة القصیرة فی الشعر العراقی المعاصر شهدت محاولات جادة لعدم الرضوخ لتقلیدیة الأنماط الخلیلیة والتقید بقواعدها الصارمة فقد شکلت بنیتها العروضیة بما یتلاءم وطبیعة التعبیر والجو الانفعالی للقصیدة متخذة من التفعیلة وحرکیتها أداة طیعة لرسم مسار النغم الذی یتطلبه التعبیر ودلالاته.
   -  التجربة العروضیة للقصیدة القصیرة حققت فاعلیتها بکل مستویاتها ومظاهر تشکلها وأثبتت  حضورها التعبیری والدلالی والإیحائی فی وجود القصیدة.
   - وقد أفاد الشعراء من تقنیات التشکل العروضی فأحسنوا توظیفها داخل قصائدهم القصیرة کعناصر تعبیر وإیحاء أسهمت فی تشکل دلالات قصائدهم وتحقیق وجودها الإیقاعی المتفاعل مع التجربة الشعریة، إذ انطلقوا فی ذلک من روح التجربة الشعریة ومقتضیات التعبیر والإیحاء فیها.
   - تجاوز الشعراء نمطیة النسق العروضی المسبقة، مستفیدین من کل الإمکانات العروضیة التی یجدون فیها تجاوبا وتناغما مع متطلبات التعبیر الجمالی الشعری لقصائدهم.
   - وهم فی ذلک کله حرصوا على أن تحافظ قصائدهم مع کل ما شهدت من ظواهر أو تقنیات عروضیة على الجوهر الإیقاعی المتسق مع التعبیر النابع من روح التجربة، فالقصیدة هی التی ترسم خریطتها الإیقاعیة التی لا تتماثل فیها مع غیرها.

الهوامش

1-   الشرع، علی، بنیة القصیدة القصیرة فی شعر أدونیس، مطبعة اتحاد الکتاب العرب، دمشق، 1987، ص51.

2-   ینظر، الملائکة، نازک، قضایا الشعر المعاصر، ط5، دار العلم للملایین، بیروت، 1978، ص ص80 81.

3-   مهدی، سامی، سعادة عولیس، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1987م، ص96.

4-   الحجاج، کاظم، غزالة الصبا، ط2، تموز للطباعة والنشر والتوزیع، دمشق، 2012م، ص50. وتنظر قصیدة محمود البریکان، البرق-1-: متاهة الفراشة، قصائد مختارة، دار الجمل، کولونیا 2003، ص135، وکذلک قصیدة زهور دکسن، قشرة البرتقالة: دیوان لیلة الغابة، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1994م، ص28.

5-   الصائغ، یوسف، قصائد، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1992م، ص382. ونجد مثل هذه الظاهرة عند لمیعة عباس عمارة أیضا فی قصائدها من دیوان: لو .. أنبأنی العراف، ط2، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، 1985م، مثلث برمودة ص101/ خاطرة ص102/ ونا ص104/ سافو ص106.

6-   الشیخ جعفر، حسب، تواطؤاً مع الزرقة، ط1، دار المدى للثقافة والنشر، 2011م، ص197.

7-   عبد الواحد، عبد الرزاق، خیمة على مشارف الأربعین، مطبعة الأدیب، بغداد، 1972م، ص95. وتنظر قصیدة یوسف الصائغ: جمعة الأموات، دیوانه قصائد، ص186.

8-   ینظر: کنونی، محمد، اللغة الشعریة، دراسة فی شعر حمید سعید، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد،1997م، ص 77.

9-   متاهة الفراشة، ص71؛ وینظر له أیضا قصیدة: خطان متوازیان، ص87، وینظر أیضا قصیدة حمید سعید: (غراب علاء بشیر) فی دیوانه: باتجاه أفق أوسع، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1992م، ص 49.

10-          مهدی، سامی، مراثی الألف السابع وقصائد أخرى، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1997م، ص15.

11-          دکسن، زهور، واحتی هالة القمر، دار الحریة للطباعة، بغداد، 1990م، ص157.

12-          ینظر: کوهین، جان، بنیة اللغة الشعریة، ط1، ترجمة: محمد الولی ومحمد العمری، دار توبقال، الدار البیضاء، 1986م، ص51.

13-          ینظر: رمضان، علی عبد، الإیقاع فی قصیدة العمود من خلال الخطاب النقدی العربی،ط1، دار ومکتبة البصائر للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت، 2016م، ص25.  

14-          الطیب، عبد الله، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، ط2، دار الفکر، بیروت، 1970م، ج1، ص246.

15-          الغرفی، د. حسن، حرکیة الإیقاع فی الشعر العربی لمعاصر، إفریقیا الشرق، بیروت، 2001م، ص118.

16-          مهدی، سامی، الزوال، دار الحریة للطباعة، بغداد، 1981م، ص13، وینظر له: الأعمال الشعریة 1965 – 1985، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1986، ص241.

17-غزالة الصِّبا، ص25، وتنظر: قصیدته أیضا، أجزاء المرآة: ص26؛ وتنظر قصیدة حسب الشیخ جعفر (صوت فی الریح) التی یحضر فیها إیقاع الرجز بوضوح: الأعمال الشعریة 1964م-1975م، دار الحریة للطباعة، بغداد، 1985م، ص18. وقصیدة لمیعة عباس عمارة (لا أهلا) دیوانها: أغانی عشتار، ص29؛ وکذلک تنظر قصیدة زهور دکسن (الطوق) دیوانها: لیلة الغابة، ص22. وقصیدتها أیضا( قبل الرحیل وبعده): دیوانها: واحتی هالة القمر، ص ص135 136.

18  - ینظر: اللغة الشعریة دراسة فی شعر حمید سعید، ص43.

19  - مهدی، سامی، حنجرة طریة، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد 1993م، ص21.

20 – مهدی، سامی، برید القارات، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1989م، ص74.

21 - ینظر: العلاق، د. علی جعفر فی حداثة النص الشعری، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1990، ص39 وما بعدها.

22 - ینظر: إطیمش، محسن، تحولات الشجرة؛ دراسة فی موسیقى الشعر الجدید وتحولاتها، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 2006م، ص149وما بعدها.

23 - بیّن الدکتور کمال أبو دیب أن أغلب صور التداخل بین البحرین یقتصر على التحول من فاعلن إلى فعولن. ینظر: أبو دیب، کمال، جدلیة الخفاء والتجلی، ط1، دار العلم للملایین، بیروت، 1979، ص95.

24 – ینظر: الهاشمی، علوی، السکون المتحرک؛ دراسة فی البنیة والأسلوب، ج1، بنیة الإیقاع، منشورات اتحاد کتاب وأدباء الإمارات، الشارقة، 1992م، ص210 وما بعدها.

25 – قصائد، ص264.

26 – ینظر قصائد یوسف الصائغ فی دیوانه قصائد: ص189، وص194، وص265، وص355، وص369، وص375، وص376.

27 – ینظر: إسماعیل، د. عز الدین، الشعر العربی المعاصر قضایاه وظواهره المعنویة والفنیة، ط3، دار العودة، بیروت، 1981م، ص108.

28 - ینظر: حرکیة الإیقاع فی الشعر العربی المعاصر، ص131.

29 – الشیخ جعفر، حسب، رباعیات العزلة الطیبة، ط1، دار نخیل عراقی، بغداد، 2009م، ص100.

30 - ینظر قصیدة السؤال الأخیر لیوسف الصائغ فی دیوانه قصائد ص359، وقصیدة کاظم الحجاج؛ ورق الأربعین: دیوان غزالة الصبا ص13.

31 -  الأعمال الشعریة 1965م-1985م، ص241.

32 – قصائد، ص354.

34- مهدی، سامی، الأسئلة، دار الرشید للنشر، بغداد، 1979م، ص41؛ وتنظر: قصیدته إیقاع الأسرة، دیوان الزوال، ص37، وقصیدة کاظم الحجاج؛ مراهقة فی دیوانه غزالة الصبا، ص15.

• أبو دیب، د. کمال، جدلیة الخفاء والتجلی؛ دراسة بنیویة فی الشعر، ط1، دار العلم للملایین، بیروت، 1979م. 
• إسماعیل، د. عز الدین، الشعر العربی المعاصر قضایاه وظواهره الفنیة والمعنویة، ط3، دار العودة، بیروت، 1981م.
• إطیمش، د. محسن، تحولات الشجرة؛ دراسة فی موسیقى الشعر الجدید وتحولاتها، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد 2006م. 
• البریکان، محمود، متاهة الفراشة، قصائد مختارة 1947 – 1998م، اختیار وتقدیم: باسم المرعبی، منشورات الجمل، کولونیا، ألمانیا، 2003.
• الحجاج، کاظم، غزالة الصبا، ط2، تموز للطباعة والنشر والتوزیع، دمشق، 2012م.
• دکسن، زهور، لیلة الغابة، دارالشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1994م.
• دکسن، زهور، واحتی هالة القمر، دار الحریة للطباعة، بغداد، 1990م.
• رمضان، د. علی عبد، الإیقاع فی قصیدة العمود من خلال الخطاب النقدی العربی، ط1، دار ومکتبة البصائر للطباعة والنشر والتوزیع، بیروت، 2016م.
• سعید، حمید، باتجاه أفق أوسع، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1992م.
• الشرع، علی، بنیة القصیدة القصیرة فی شعر أدونیس، مطبعة اتحاد الکتاب العرب، دمشق، 1987م. 
• الشیخ جعفر، حسب، الأعمال الشعریة للفترة: 1964م– 1975م، دار الحریة للطباعة، بغداد، 1985م.
• الشیخ جعفر، حسب، تواطؤاً مع الزرقة، ط1، دار المدى للثقافة والنشر، 2011م.
• الشیخ جعفر، حسب، رباعیات العزلة الطیبة، ط1، دار نخیل عراقی، بغداد، 2009م.
• الصائغ، یوسف، قصائد، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1992م.
• الطیب، عبد الله، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، ط2، دار الفکر، بیروت، 1970م. 
• عبد الواحد، عبد الرزاق، خیمة على مشارف الأربعین، مطبعة الأدیب، بغداد، 1972م.
• العلاق، د. علی جعفر، فی حداثة النص الشعری، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1990.
• عمارة، لمعیة عباس، أغانی عشتار، المؤسسة التجاریة للطباعة والنشر، بیروت، 1969م.
• عمارة، لمعیة عباس، لو .. أنبأنی العرَّاف، ط2، المؤسسة العربیة للدراسات والنشر، بیروت، 1985م. 
• الغرفی،  د. حسن، حرکیة الإیقاع فی الشعر العربی المعاصر، إفریقیا الشرق، بیروت، 2001م.
• کنونی، محمد، اللغة الشعریة؛ دراسة فی شعر حمید سعید، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1997م.
• کوهین، جان، بنیة اللغة الشعریة، ترجمة: محمد الولی، ومحمد العمری، ط1، دار توبقال للنشر، الدار البیضاء، 1986م.
• الملائکة، نازک، قضایا الشعر المعاصر، ط5، دار العلم للملایین، بیروت، 1978م. 
• مهدی، سامی، دیوان الأسئلة، دار الرشید للنشر، بغداد، 1979م.
• مهدی، سامی، الأعمال الشعریة 1965 – 1985م، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1986م.
• مهدی، سامی، دیوان الزوال، دار الحریة للطباعة، بغداد، 1981م.
• مهدی، سامی، برید القارات، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد 1989م.
• مهدی، سامی، حنجرة طریة، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1993م.
• مهدی، سامی، سعادة عولیس، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1987م.
• مهدی، سامی، مراثی الألف السابع وقصائد أخرى، دار الشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1997م.
• الهاشمی، علوی، السکون المتحرک؛ دراسة فی البنیة والأسلوب، ط1، ج1، بنیة الإیقاع، منشورات اتحاد کتاب وأدباء الإمارات، 1992م.