توظیف اللهجات في تعلیم العربیة الفصحى؛ لهجة ظفار أنموذجًا
الباحث المراسل | د. سعیــد بخــیــت مبــــارک | جامعة ظفار |
یتناول هذا البحث کیفیة توظیف اللهجات فی تعلیم العربیة الفصحى. وقد لحظ الدارسون والباحثون قدیما وحدیثا أن تعلم قواعد اللغة العربیة الفصحى أصبح أمرًا عسیرًا(1). ولا بد أن نسعف المتعلمین بطریقةٍ تمکنهم الاستفادة من هذه اللهجة المکتسبة؛ لتأکید بعض المسائل اللغویة التی یدرّسونها فی کتب المناهج المعدة لتعلیم اللغة العربیة الفصحى مؤکدین مبدأً مهمًّا لتحقیق ذلک وهو مبدأ (الاستبدال) وبعد الملاحظة اللغویة لبنیة الجمل التی تستخدم فی اللهجات وأنظمتها الصوتیة والصرفیة والترکیبیة لیخرج المتعلم ببعض الملحوظات التی تجعله قادرًا على عقد مقارنات لغویة بین نظام هذه الجمل العامیة ونظام الجملة العربیة الفصحى.
لقد اعتمدتُ لهجة سکان محافظة (ظفار) جنوب سلطنة عمان القریبة من الحدود الیمنیة حیث أعیش؛ لتمکنی من جمع المادة اللهجیة ولقربی من هذه اللهجة الحیة فی منطقتی، وبهذه الطریقة یمکن عمل الشیء نفسه مع بقیة اللهجات فی الوطن العربی. وتطمح هذه الدراسة استثمار جمیع الملحوظات التی تجمع من المدونة اللهجیة التی تتشابه مع سمات اللغة العربیة الفصحى، ثم بناء المعجم الاستبدالی الخاص باللهجة قید الدراسة. وهذا المعجم سیکون بمثابة الکشَّاف الذی یستعین به المتعلم فی التفریق بین الاستعمال اللهجی والاستعمال اللغوی وبما لا یفسد علیه ما جمعه من معرفةٍ ومهاراتٍ فی استعمال اللهجة، إلى جانب مساعدته على استثماره فی تحقیق الأداء الأفضل على مستوى اللغة الفصیحة. ویتضمن البحث مقدمة وثلاثة مباحث؛ الأول تحدثت فیه عن علاقة اللهجات العامیة بالعربیة الفصحى. وتناولت فی المبحث الثانی محاذیر الاستفادة من اللهجة العامیة. وخصصت المبحث الثالث لتوظیف اللهجات فی تعلیم الفصحى العامیة وشمل الجانب التطبیقی والعملی. ثم خاتمة بأهم نتائج البحث وتوصیاته.
علاقة اللهجات بالفصحى
أشارت کثیرٌ من الدراسات إلى التشابه الکبیر بین اللهجات العامیة المعاصرة واللغة العربیة الفصحى. وکیف أنَّ هذه اللهجات تعود إلى لغاتٍ فصیحةٍ سُمعت عنْ بعض القبائل العربیة فی شبه جزیرة العرب فی زمنٍ مبکرٍ جدًّا. ویمکن الاستعانة بما جاء فی کتاب سیبویه فی باب الهمزة، وکیف یعتریها التخفیف والحذف فتصبح الکلمة مشابهةً تمامًا لما هی علیه الیوم فی اللهجات المعاصرة. یقول سیبویه: "اعلمْ أن الهمزة تکون فیها ثلاثة أشیاء: التحقیق، والتخفیف، والبدل"(2)، وقد ظهرت کلها فی لهجة أهل ظفار وتظهر أیضًا لدى غیرهم. ففی التحقیق نقول، مثلا: تعال یا أسعد، وفی التخفیف بحذفها نقول: تعال یا حْمَدْ. و(حْمد) هذه لیست هی العلم (حَمَدْ) المعروف فی بعض البلدان العربیة بل هو العلم (أحْمد) اعتاد أهل ظفار نطقه بهمزة محذوفة حتى إنَّهم لیبدؤون بالساکن فی سبیل تخفیف الهمزة بالحذف، نقول: حْمَدْ زارنا أمس. ومثلها کثیرٌ فی الکنیة نقول: یا بو فلان، بحذف الهمزة من الاسم (أبو)، یقول سیبویه:
"واعلم أن کل همزةٍ متحرکةٍ کان قبلها حرفٌ ساکنٌ فأردت أن تخفف حذفتها وألقیت حرکتها على الساکن الذی قبلها. وذلک قولک: منَ بُوکَ، ومنُ مُّکَ وکمِ بِلُکَ إذا أردت أن تخفف الهمزة فی الأب والأمّ والإبل"(3). وأنَّ التخفیف لغة الحجاز والتحقیق عند تمیم وقد بحث أحمد علم الدین الجندی هذه المسألة بحثًا مفصلا فی کتابه اللهجات العربیة فی التراث عندما تکلم عن أهل التخفیف وأهل التحقیق أی تخفیف الهمز وتحقیقه(4). وإنَّ تحدید الأداء اللغوی القدیم بحجازی وتمیمی وردِّه إلى هذا التقسیم الجغرافی لیس بالأمر الهیّن وقد لا یطمئنّ إلیه المنهج العلمی اللغوی الصارم(5).
وهناک تشابهٌ بین لهجة أهل ظفار واللغة العربیة الفصحى فیما یسمیه اللغویون الإمالة وهی صغرى وکبرى یقول ابن الجزریّ: "وَالإمَالَةُ أَنْ تَنْحُوَ بِالْفَتْحَةِ نَحْوَ الْکَسْرَةِ وَبالألفِ نَحْوَ الْیَاءِ (کَثِیرًا وَهُوَ الْمَحْضُ. وَیُقَالُ لَهُ: الإضْجَاعُ، وَیُقَالُ لَهُ: الْبَطْحُ، وَرُبَّمَا قِیلَ لَهُ الْکَسْرُ أَیْضًا) وَقَلِیلاً وَهُوَبَیْنَ اللَّفْظَیْنِ، وَیُقَالُ لَهُ أَیْضًا: التَّقْلِیلُ وَالتَّلْطِیفُ وَبَیْنَ بَیْنَ؛ فَهِیَ بِهَذَا الاعْتِبَارِ تَنْقَسِمُ أَیْضًا إِلَى قِسْمَیْنِ إِمَالَةٌ شَدِیدَةٌ، وَإِمَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ وَکِلاهُمَا جَائِزٌ فِی الْقِرَاءَةِ جَارٍ فِی لُغَةِ
الْعَرَبِ"(6). والإمالة قرأ بها أکثر قراء القراءات القرآنیة وتوسّع الأداء بها و کما یقول ابن الجزری: سنَّةٌ فی کلام العرب. ویقول إبراهیم أنیس: "أجمع علماء العربیة على نسبة الفتح لأهل الحجاز، وعلى أن قبائل نجدٍ قد عرف عنهم الإمالة فی کلامهم. ویظهر أن القبائل العربیة قبل الإسلام وبعده قد انقسمت إلى شعبتین: الشعبة الأولى تؤثر الفتح، أو بعبارةٍ أخرى لا تستقیم ألسنتها بغیره، والشعبة الأخرى شاعت فیها الإمالة"(7). وقد وجدتُ هذه الصفة فی لهجة أهل ظفار وهم یوظفون فی کلامهم الیومی الإمالة الکبرى کقولهم فی کلمة دکّان: دُکِّین، وفی رَجّال: رِجِّیل، وهم لا یقصدون مبالغةً ولا صفةً بل یقصدون کلمة (رجل)، وفی دجاج: دْجِیجْ، وهم کما نرى فی هذه الکلمة یبدؤون أیضا بالساکن، ولا شک أنهم فی هذه الإمالات قد تأثروا بسنّة العرب القدیمة فی إمالة الفتح إلى ما یشبه الکسرة والألف إلى ما یشبه الیاء غیر أن أهل ظفار فی لهجتهم قد بالغوا فی الإمالة حتى أصبحت الألف یاءً خالصةً کما فی الأمثلة التی أوردنا، وهو تطورٌ نقبله إذ اللغة ما تزال تتقلب وتتسع عبر الحقب والأجیال.
وهذا التفرع فی اللهجات المعاصرة إنّما یذکّر بتفرع الفصحى وتشعّبها قدیما على ألسنة العرب الصحاح فی جزیرة العرب، فکانت لکل قبیلةٍ أو قبائل عدّةِ مجتمعةٍ لسان یجمعها ویمیزها عن غیرها من القبائل التی تقطن بقاعا أخرى وتتحدث بلغة تختلف عن الأولى فی أمورٍ باتت جلیةً بفضل علماء القراءات القرآنیة واللغة العربیة. وعلیه فإن اللغة العربیة فی شبه الجزیرة العربیة لم تکن على شکل واحد تتفق علیه کل القبائل العربیة، فقد کان لکل قبیلة طریقتها الخاصة بها فی النطق قد لا تختلف کثیرا عن القبائل الأخرى. وقد أحصى علماء اللغة وأئمة القراءات القرآنیة مظاهر الاختلاف بین القبائل العربیة صوتیا وصرفیا ونحویا ودلالیا فی کثیر من مؤلفات القدماء، فکانت منها المدّ والقصر، والفتح والإمالة، وتسهیل الهمز وتحقیقه، والإدغام والإظهار، وإعمال (ما) المشبهة بلیس وإهمالها وغیر ذلک(8).
وهو من الأقوال الوجیهة لتفسیر حدیث نزول القرآن الکریم على سبعة أحرف قول السیوطی بأنَّ الأحرف السبعة إشارة إلى سبع لغات لقبائل عربیة تقطن مواضع مختلفة من جزیرة العرب(9). لقد کان رسول الله ﷺ "یقر الأعراب الذین دخلوا فی دین الله على قراءتهم وفق لهجاتهم التی اعتادوا علیها تیسیرا لهم، وهم من قبائل شتى فی شبه الجزیرة العربیة اختلفت ألسنتهم بحکم اتساع مرابعهم واختلاف بیئاتهم"(10).
وهناک لغات فصیحة سمعت عن العرب بدویهم وحضریهم، ولغة فصحى هی اللغة المشترکة، أو کما یسمیها البعض باللغة الأدبیة أو الرسمیة التی یستعملونها فی مواقف رسمیة واجتماعات قومیة فی مثل أسواق العرب ولقاءات الحجیج فی مکة وغیرها من المناسبات الرسمیة التی تجمع الناس فیتخلصون من سلوکیاتهم اللغویة اللهجیة ویخضعون لقانون تلک اللغة الفصحى الرسمیة المشترکة. ومثال ذلک؛ فإن من العرب من یقول: بیر فی بئر، وکاس فی کأس، وقد أورد هذا سیبویه فی کتابه(11). ومنهم من یقول: عالصخرة یرید: على الصخرة. وکل هذا منطوق به فی عامیات العرب الیوم فی الوطن العربی سواء فی الخلیج أم فی مصر والشام والعراق وغیرها من الأمصار، فهل یمکن أن تُسلب من هذه الکلمات فصاحتها، وقد ذکرها أرباب اللغة وتکلمت بها العرب؟ وهل یمکن أن تُثبت الیوم فی مدارسنا وفی قاعات الدرس فنقول هی لغات عربیة سمعت عن العرب؟ فهل یمکن القول بأنَّ هذه اللغات فصیحة أبقت علیها العامیات الیوم فی البلاد العربیة، ونحن نرفضها فی موقف التعلیم لا فی موقف العلم والدراسة التاریخیة للغة.
إنَّ هذا التشابه بین هذه اللهجة وغیرها من اللهجات المعاصرة والفصحى القدیمة یمکن استثماره فی مجال تعلیم العربیة الفصحى، خاصةً لتلک الفئة التی اکتسبت هذه اللهجات فی مختلف الأمصار فی وطننا العربی الکبیر، وأصبحت ألسنتهم معتادةً على استعمالها، ولکن توظیف هذه اللهجات المعاصرة والاستفادة منها تکتنفه محاذیر ومعوقات یجب الحذر منها حتى تبقى الفصحى سلیمةً من أیة شائبةٍ دارجةٍ قد تلتصق بها؛ لذا لن یقوم بعملیات توظیف العامیات فی تجوید الأداء اللغوی الفصیح وتطویره فی مجال تعلیم وتعلم العربیة الفصحى إلا أولئک المتخصصون العارفون بدقائق وتفاصیل اللغة الفصحى الموقنون بإخلاص بغلبتها وسموها فوق کل تلک اللهجات العامیة الدارجة، إضافةً إلى قدراتهم الفنیة والتربویة واللغویة على تحقیق هذه المهمة.
محاذیر توظیف اللهجات فی تعلیم اللغة العربیة الفصحى
إن توظیف اللهجات فی تعلیم اللغة الفصحى یتطلب من المشتغلین فیه التمکن العمیق من اللغة العربیة الفصحى أولا، ثم توطین أنفسهم على الإیمان بعلو شأن الفصحى وسموها وغلبتها على هذه اللهجات، وأنها هی التی تتقدم، وتتخلف تلک، وما الأخیرة إلا فرعٌ هزیلٌ خرج من عباءة الأولى المهیبة. وأشدد على هذا الشرط وألتزم به کی لا نستغرق جهدًا ووقتًا فی الرد على تلک الأصوات التی تنادی منذ زمنٍ، وما زالت تعلو بین الفینة والأخرى بأهمیة اللهجات فی الحیاة عامةً الاجتماعیة والثقافیة والعلمیة، وأنها ینبغی أن تأخذ دورها الطبیعی الذی باتت تفرضه على المواطنین العرب فی شتى الأمصار العربیة، وأن تؤدی دورها جنبًا إلى جنبٍ مع العربیة الفصحى، بل إن ثمة من نادى صراحةً بتغلیبها على الفصحى، وهنا یکمن خطر التعامل مع هذه اللهجات، فبدل أن تصبح أداة للبناء والتعمیر فی مجتمعاتنا قد تصبح على خلاف ذلک معولاً للهدم والتخریب؛ ذلک أن هذه الأصوات تحاول أحیانًا النیل من مکانة اللغة العربیة الفصحى مشیرین إلى عدم قدرتها على مواکبة هذا العصر ودفع الحراک الثقافی والفکری والعلمی إلى الأمام، وأن العرب "أمةٌ حدیثةٌ نسبیًّا إذا قیست بما جاورها من الأمم"(12). ولا أرید تمجید الفصحى على حساب العلم والمنهجیة الحقة فی معالجة اللغات، لکننی أنحاز إلى لغتی وعروبتی کما یفعل أولئک فی الغرب والشرق عندما نزورهم فی بلدانهم وکیف أنهم یتعصبون للغاتهم فی المحافل الرسمیة، وحتى فی المواقف الحیاتیة الیومیة، وإن کانوا فی أعمالهم البحثیة والعلمیة یساوون بین اللغات ولا یفضلون لغةً على أخرى، إلا أنهم عملیَّا یقعون فی التعصب والمیل الشدید إلى الاعتناء بلغتهم وعرقهم؛ لذا یجب ألا نصغّر شأن لغتنا لغة القرآن والحضارة العربیة والإسلامیة فی عیون أبنائها، بل لابد فی المقام الأول أن نخلق ألفةً بینها وبین هذا الجیل؛ حتى لا نناقض أنفسنا حین نُصرُّ - شعوبًا وقیاداتٍ - على أن تکون اللغة العربیة الفصحى هی اللغة الرسمیة المعتمدة فی المجالات الإداریة والسیاسیة والاقتصادیة والقانونیة والإعلامیة والتعلیمیة والبحثیة فی بلداننا، ثم نحن نهمل بعد ذلک حقها علینا، بل ونصفها بالتخلف والرجعیة.
لقد أصبح الالتفات إلى أهمیة الفصحى أمرًا مهمًّا فی بناء شخصیة المواطن العربی فکرًا وثقافةً وعلمًا وسلوکًا، بدءًا بالطفل العربی الذی یستقی کلّ ذلک من مواد تعلیمیة وُضعت محتویاتها باللغة العربیة الفصحى، فلا مجال لتجاوزها وتقدیم الحقائق والمعلومات والمفاهیم والخبرات بلغةٍ مغایرة عما هو فی الکتب والمناهج الدراسیة، وإنَّ الفصحى هی الأساس فی التلقی. وأقترح عددا من المراحل التطبیقیة فی توظیف اللهجة بتعلیم الفصحى:
کتابة الأمثلة العامیة فی قاعة الدرس وما یقابلها من أمثلة فصیحة.
فتح باب المناقشة حولها باللغة العربیة الفصحى فقط دون العامیة.
الترکیز على المثال العامی لاستخلاص التشابه بینه وبین المثال الفصیح.
ولا یتأتى ذلک إلا لمن یمتلکون ناصیة اللغة الفصحى للفصل بیسر وسهولة بین تداخلات اللهجة مع الفصحى فی مستویات اللغة الصوتیة والصرفیة والترکیبیة.
ومهارة التحدث غایةٌ فی الأهمیة، فعندما یکون جهةَ الإرسال فی الموقف التعلیمی (المعلمُ) فلا یعقل أن یتحدث المعلم بلهجة دارجة ثم یطالب المتلقین من الطلبة أن یُسمعوه حوارا بالفصحى، وأرى أنَّ التحدث یجب أن یکون فی معظم الأحایین هو المهارة الأولى.
ولا یمکن لمعلم اللغة لعربیة أنْ یسمع الطلاب نصًّا بالفصحى لیدرّب أسماعهم فی هذا الموقف القصیر، ثم ینصرف فی بقیة اللقاءات عنْ استخدام الفصحى مؤملاً بعد ذلک أن یکون الطلاب قد تدربوا جیدا على هذه المهارة، إنما مهارة الاستماع دیدنٌ وسلوکٌ لغویٌّ یومیٌّ اعتیادیٌّ، ومتزامنٌ مع مهارة التحدث لا یمکن بحال فصله عنها، وما على المعلم إلا أن یقارن بین مساحة التحدث بالفصحى ومساحة التحدث باللهجة فی الموقف التعلیمی وتأثیر ذلک على اکتساب لغة العلم والمعرفة عند المتعلم تحدثا واستماعا، ولأن مساحة الفصحى ضیقة جدا؛ لذا یصعب على المتعلم قراءة المکتوب بالفصحى، کما یصعب علیه الإجابة عن الأسئلة کتابیا بالفصحى طبعا؛ فیسوء تحصیله وتضمحل ثقافته ویضیق فکره، ویکون مخرجا ضعیفا فقیرا علمیا ومهاریا وحتى وجدانیا تجاه هذه اللغة. إنَّ المتعلم یحتاج إلى أن یستمع ثم یحاکی ذلک المسموع ثم یربطه بالرموز قراءةً وکتابةً، أما المعلم فإنَّ المطلوب منه أن یتحدث أولا – باللغة نفسها طبعا- ثم یبدأ فی ملاحظة الاستماع لدى المتعلمین ومدى قدرتهم على المحاکاة، ثم تأتی بعد ذلک ملاحظة القراءة والکتابة. وسنعتمد على مهارة التحدث بتوظیف اللهجات فی تعلم اللغة العربیة الفصحى وتعلیمها. وقد أظهرت البحوث والاستطلاعات العلمیة المتعددة الأهمیة القصوى التی تحتلها مهارة التحدث بین مهارات اللغة، کیف لا؟ وهی غایة تعلم أیة لغة. إن التحدث عموما مهارة ارتبطت ارتباطا وثیقا بمهارة الاستماع وهذا لا یعنی تقدیم الاستماع على التحدث فی جمیع الظروف، وقد أشرت سلفا إلى أنه یصح هذا فی حالة التعلم، أما فی حال التعلیم فإنه لا بد من تقدیم التحدث على الاستماع وهو ما یحتاج إلیه المعلمون. ویعدُّ التحدث أهم أهداف تعلیم اللغات فهو قناة مهمة من قنوات التواصل مع الآخر وحتى إنْ کان الآخر عبارة عنْ رموز کتابیة فإنَّ التحدث یعین المتلقی على التعرف على الکتابة هذا بحسب الدراسات التی تقول بأنَّ القراءة والکتابة مهارتان قائمتان على التحدث والاستماع(13). یجد متعلم اللغة لحظة جلوسه على کرسی التعلم صعوبة فی بدایة الأمر فی التوفیق بین الرموز المکتوبة والأصوات التی یستخدمها فی اللغة المتعلمة ولن یمر وقت طویل حتى یتجاوز هذه المشکلة لینطلق بعد ذلک فی ممارسة القراءة والتعلم سریعا، هذا یحدث فی تعلم لغة غیر اللغة العربیة، أما متعلم اللغة العربیة فعند خروجه من مشکلة التوفیق بین الصوت والرمز فإنه یقع فی مشکلة أخرى أشد تعقیدا وإرهاقا لذهنه وهو العمل على التوفیق بین نظام لغة البیت والشارع (اللهجة) ونظام لغة العلم والمعرفة بالمدرسة (الفصحى)، ومن هنا جاءت الحاجة ملحَّة إلى التحدث بالفصحى والتدریس بها معربةً حتى نُکسب المتعلمین اللغة العربیة الفصحى عبر مساحة کافیة من الدربة والمران والممارسة. وأرى أن أهمیة استخدام مهارة التحدث بالفصحى فی تعلیم اللغة العربیة تکمن بأنَّ الفصحى هی لغة التعلیم والعلم والمعرفة، أی هی لغة الکتاب المدرسی، فکان ینبغی أنْ تکون هی لغة الاستماع والتحدث کما أنّها لغة القراءة والکتابة، والواقع خلاف ذلک.
توظیف اللهجات فی تعلیم الفصحى
إن هذا التوظیف لن یکون طردیًّا بل عکسیًّا، ولن ندعو المتعلم إلى أن یقلد الوجه اللهجی بل علیه أن یعقد مقارنةً بینه وبین الوجه الفصیح لینظر فی الفروق الأدائیة بینهما فیعتمد الفصیح ویتدرب علیه ویجتنب العامی ویُلغیَه، ففی قول أهل ظفار مثلا: أنا باروح السوق، یستطیع المعلم الوقوف على مثل هذه الترکیب اللهجی لیخرج منه قواعد فی الأداء هی الفروق التی بین هذه العبارة وعبارة الفصحى المقابلة وهی: أنا سوف أذهب إلى السوق. فعلى صعید الأدوات النحویة یستبدل المتعلم الأداة اللهجیة (با) بالأداة الفصیحة (سوف) وکلاهما تفیدان الاستقبال، وأما على صعید الترکیب فإنه – أی المتعلم – ینبغی أن یتنبه إلى أن الأفعال اللازمة – وأذهب الفصیح وأروح اللهجی منها – تفتقر إلى حرف جرٍّ بعدها، وقد أغفلته اللهجة. ویحتاج هذا المنهج علاوة على أداتی الملاحظة والمقارنة إلى أداتین أخریین الأولى علمیة وهی (المدونة) والثانیة تعلیمیة إجرائیة وهی (الاستبدال) وفیما یأتی توضیح لکلیهما:
المدوّنة:
وهی النصوص التی یجمعها الباحث من نماذج تمثل اللهجة التی یقوم على دراستها لیستفید منها فی المقابلة بین نظامها ونظام الفصحى، سعیا وراء تفعیل الأداة الأخرى.
الاستبدال:
وهی (الاستبدال) التی بها یقابل المتعلم العامی بالفصیح لیثبت الفصیح منهما فی الاستعمال.وجمع مادة هذه المدونة یعتمد فی المقام الأول على اللغة المحکیة، وهی حیّةٌ فی أوساط المتحدثین بها فی مجتمع اللهجة، کما أنّها أصبحت الیوم مکتوبة بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعی وبعض المواقع الإلکترونیة التی تقدّم موضوعاتها بهذه اللهجات الدارجة. ومن هنا نلحظ أنَّ المدونة اللغویة للهجات تُبنى بمصادرها المحکیّة أو المکتوبة، فی حین أنَّ المدونة اللغویة للفصحى لا تُبنى إلا بمصادرها المکتوبة، وهذا یجعل اللهجة أقرب من الفصحى إلى منهجیة التقییم العلمی لفحص النظام اللغوی وتنوع أدوات هذا الفحص، أقول هذا من ناحیة تطبیق أدوات الفحص المنهجی فقط. ولا یعنی هذا أن اللهجة تتفوق على الفصحى فی طبیعة النظام اللغوی والأداء التواصلی؛ لذلک فإن الدراسات الوصفیة اعتنت بدراسة اللغات المنطوقة على حساب تلک المکتوبة، مؤکدةً دور اللغة الوظیفی الفاعل فی المجتمع؛ إذ تتضمن هذه الرؤیة "إلحاحًا على الوظیفة الاجتماعیة (أی التواصلیة) للغة"(14). وقد سعت الدراسات الوصفیة التی اهتمت باللهجات (اللغة المنطوقة) إلى جعل اللسانیات علمًا مستقلاً، یقول عبده الراجحی وهو یتحدث عن "تحویل الدرس اللغوی إلى الاتجاه العلمی، ذلک أن اعتبار اللغة شیئًا عاماًّ شأنه شأن الوقائع الاجتماعیة الأخرى هو الی ییسر السبیل إلى تطبیق قوانین العلم فی دراسة الظواهر"(15). وهذا یؤکد ما ذهبتُ إلیه من أن اللهجات تستقیم لأدوات المنهج العلمی اللغوی أکثر من الفصحى بسبب حیویة الأولى فی استعمالات المتحدثین الحیاتیة، ومواتیة الثانیة فی حیاة الناس الیومیة. وإنَّ قیام المدونة وتمامها یُعدُّ مرحلةً أولى من العمل تتبعها المرحلة الثانیة وهی تصنیف هذه المدونة إلى ثلاثة مستویات فی النظام اللغوی هی: الصوتیّ والصرفیّ والترکیبیّ؛ إذ یُمکن من خلال التصنیف فصل تراکیب کثیرةٍ فی المدونة وتنزیلها فی مجموعاتٍ أربعٍ تمثل تلکم المستویات اللغویة، لتوضیح المهارات اللغویة الأساسیة للغة وهی التحدث والاستماع والقراءة والکتابة. ولقد ثبت بالاستقراء أن اللهجات تشتمل على هذه المستویات الأربعة کما تشتمل علیها الفصحى(16) مع وجود فوارق بینهما فی السمات الفونولوجیة والمعجمیة، وهذا یؤکد ما أثبته علماء اللغة من أن اللهجات هی فرعٌ من الفصحى وامتدادٌ منها وتطورٌ طبیعیٌّ لها(17)، بدلیل أنَّ هذه اللهجة تتشعب هی الأخرى وتصبح مستقلةً فتنقسم بدورها إلى لهجات "فکما أنَّ اللغة تتشعب إلى لهجات قد تستقل وتشیع وتثبت أقدامها حتى تصیر لغةً"(18)، ثم تأتی بعد ذلک المرحلة الثالثة والأخیرة وهی تحلیل تراکیب المدونة والوقوف على وجوه الشبه والاختلاف بینها وبین الفصحى لاستثمار ذلک فی تطبیق (الاستبدال)، وهذا التحلیل هو أشبه بقراءة النتائج فی البحوث النظریة إلا أنه تحلیلٌ یوظف بعدُ لإجراءات تعلیمیة وتعلمیة مهمة فی قاعات الدرس.
التطبیق العملی
أولاً. المستوى الصوتی:
إنَّ أبرز قضیّةٍ صوتیّةٍ مشترکةٍ بین الفصحى ولهجة أهل ظفار هی الهمز؛ تحقیقُه وتسهیلُه وحذفُه. والهمزة حرفٌ معلولٌ یصیبه التغییر فتتبدل صورته، وقد ارتبطت صوره بقبائل عربیةٍ قدیمةٍ فی شبه الجزیرة العربیة، فهناک أهل التحقیق وهم تمیم وما جاورها من القبائل البدویة وهناک أهل التسهیل وهم قبائل الحجاز فی الجانب الغربی من شبه الجزیرة العربیة. ویمکن عرض أمثلةٍ من اللهجة الظفاریة للوقوف على الفروق بینها وبین الفصحى فیما یخص صوت الهمزة، وعلى المعلم أن یستغل هذا التقابل فی تدریب المتعلمین على استبدال الفصیح بالعامی، وبدوام الدربة والمران فی مثل هذه التقابلات اللغویة فی مستویاتها الأربعة یتقن المتعلم الفصحى مستفیدًا من هذه القوالب الترکیبیة المستمدة من المدونة. ومن أمثلتها ما یأتی:
1) نْزَلْ معی:
فی هذه الجملة العامیة من کلام أهل ظفار والتی تعنی بالفصحى (اِنْزِلْ معی) نلحظ کیف أن اللهجة تستثقل الهمزة کثیرًا لدرجة أنها تحذفها حتى من مواضع عدم الاستثقال فی الکلام الفصیح، فالعرب تستثقل الهمزة لبعد مخرجها وثقلها فی الکلام، یقول سیبویه: "واعلم أنَّ الهمزة إنّما فعل بها هذا من لم یخففها؛ لأنَّها بعد مخرجها، ولأنّها نبرةٌ فی الصدر تخرج باجتهادٍ، وهی أبعد الحروف مخرجًا، فثقل علیهم ذلک؛ لأنه کالتهوّع"(19) لکنها لیست تستثقل فی کل موضعٍ، بل فی مواضع معینة، وقد فصل سیبویه الکلام فیها إلا أنّه فی هذه اللهجة الدارجة یستثقل المتحدث الهمزة فی مواضع کثیرة لم تکن الهمزة تستثقل فیها فی لغة العرب الفصحى کما فی الفعل (انزل) فی المثال.
لقد استثقل ابن اللهجة ومستعملها الهمزة من الفعل فحذفها ولم یردُّه قبح الابتداء بالساکن عن حذفها مما یشیر إلى حرص المتحدث الشدید على استبعاد صوت الهمزة لتخف الکلمة، وبدأ بالساکن وهو النون فی (نْزَلْ) بل إنه غیر تحریک الوسط فی الفعل الفصیح من الکسرة إلى الفتحة إیغالًا فی طلب التخفیف، وکان الأصل (اِنْزِلْ) لأن مضارعه (یَنْزِلُ)، فینبغی عند إذن من المتعلم المتأثر باللهجة – هذه اللهجة تحدیدا – أن یستبدل (اِنْزِلْ) الفصیحة بکلمة (نْزَلْ) العامیة، وأن یقیس على هذا ما لا یحصى من الأفعال المماثلة من مثل : (اُکْتُب/کْتُبْ – اُخْرُجْ/خْرُجْ – اِلْعَبْ/لْعَبْ – أَعْطِ/عْطِی)، وهذه ظاهرةٌ صوتیةٌ ملحوظةٌ فی لهجة أهل ظفار ینبغی الاستفادة من فی تجوید مهارات الفصحى لدى المتعلمین تحدثًا وقراءةً وکتابةً.
2) هِیْ عَارْفَاتُهْ / هِیْ حَصَّلاتُهْ:
والأول یعنی بالفصحى (هیَ عَارِفَةٌ لهُ) فاسم الفاعل (عارف) فی هذه الجملة العامیة أُسند إلى ضمیر الغیبة مباشرةً من دون واسطة حرف الجر (اللام) وهذا لا یستقیم فی الترکیب الفصیح؛ إذ یتعدى الفعل (عرف) إلى الاسم الظاهر مباشرةً وإلى الضمیر أیضًا نحو: عرفت الرجل، وعرفته، لکنّ والوصف منهلا یتعدى إلى الضمیر إلا بواسطة، نقول: أنا عارفٌ خبره، ولا نقول: أنا عارفه، وهذا یشبه کثیرًا –مع فارق الأمثلة– ما ذکره سیبویه فی الکتاب من أنَّ الفعل المطاوع لا یدخل على الضمیر مباشرةً؛ إذ لم یُسمع عن العرب، یقول: "وهذا موضعٌ قد یُستعمل فیه (انفعلتُ) ولیس مما طاوع (فعلتُ) نحو: کسرته فانکسر، طلقته فانطلق"(20)، والشاهد الصوتی هنا هو زیادة الألف قبل تاء التأنیث، ومثله (شَایْفَاتُهُ أی تراه الآن – فَاهْمَاتُهْ أی تفهمه)، أمَّا الثانی فهو إضافة الفعل أیضًا إلى ضمیر الغیبة مع زیادة الألف کذلک قبل تاء التأنیث، نقول فی اللهجة (فَاطْمَه حَصَّلاتُهْ– رَماتُهْ أی رمَتْهُ –ودَّاتُهْ أی أوصلتْهُ)، فقد یتأثر المتعلم إذا ما مارس هذه اللهجة بطریقة النطق هذه وقد تؤثر کذلک على قراءته وکتابته، فما على المعلمین إلا أن یستقرئوا مثل هذه التراکیب العامیة التی قد یجمعونها من أفواه المتعلمین أنفسهم، أو من مدونات لغویة متخصصة بمثل هذه النصوص اللهجیة المعدة لأغراضٍ تعلیمیة، ثم یقوموا بتدریب المتعلمین على تحقیق المقابلة بین المستویین الفصیح والعامی واستبدال الأول بالثانی.
ثانیًا : المستوى الصرفی:
لا شک أنَّ بنیة الکلمة فی اللهجة الدارجة قد اختلفت کثیرًا عنها فی الفصحى، وأن عدد الکلمات التی تأثرت بهذا التغییر فی اللهجة کثرةٌ جدًّا، وسأعرض لبعض هذه التغییرات المهمة التی یُعول علیها فی تطبیق مبدأ الاستبدال بعد توفیر المادة اللهجیة إما من أفواه المتعلمین، أو من مدونات متخصصة فی نصوص من اللهجات المعاصرة للاستفادة منها فی تعلیم الفصحى، ویا حبذا أن تکون الثانیة.
1) قُولْ –بِیعْ– اسْتْفیدْ:
هذه اللهجة تعید الأفعال إلى أصولها، ولکن فی صورة الأمر، فقد ظهرت الواو فی فعل القول وهی الأصل الذی انقلبت عنه الألف، وفی فعل البیع ظهرت الیاء، وفی الفعل (استفید) أثبت الیاء رغم التقاء الساکنین طلبا لخفة الکلمة على اللسان، والأصل (استَفِدْ)، فلا یصح من المتعلم أن یُظهر هذه الحروف متأثرًا باللهجة، وبالدربة والمران المستمرین یستطیع أن یتجاوز تأثیر اللهجة فیقول بسهولةٍ ویسرٍ: قُلْ یا فلان – وبِعْ لی هذا بکذا – استفدْ من وقتک.
2) مَرِّیتْ بِفْلانْ:
یشتبه على ابن اللهجة فی هذا المثال الفعل المضعف فی آخره مع الفعل المعتل بالألف، فیثبت الیاء فی کلیهما، والصحیح إثباتها مع المعتل فقط، أما المضعف فیُفکُّ التضعیف فیه لا غیر، نقول: مررْتُ بِفُلانٍ، وهدیْتُ فلانًا، وهما من (مرَّ) و (هدى)، فاشتبه على ابن اللهجة الإسناد فی الفعلین فقال: (هْدِیتْ فلان) من (هدى) وهی صحیحة إذ الأصل فیها الیاء، وقال : (مَرِّیتْ بِفْلانْ) من (مررْتُ) ولا تصح بالیاء لأنها لیست من أصولها.
3) یْبَاتْ:
وهی الفعل (بات-یبیتُ) لکن اللهجة الظفاریة مالت إلى فتح الباء حتى تولدت الألف عوضا عن الیاء للمناسبة وهی أخفّ على اللسان، ولیست هذه بِدَعًا من التغییر الصرفی فقد وقفنا فی لغة (طیء) على أنهم یقولون : مات یمات(21)، والعرب تقول على الشائع: مات یموت، فمالت طیء إلى الفتح لخفته.
4) بْقَتْ / رْضَتْ / شْقَتْ:
یتضح فی هذا المثال کیف أنَّ اللهجة تحذف الیاء الأصلیة من الفعل والتی کان لا بدّ أنْ تظهر فی حال الإسناد إلى تاء التأنیث بعد الانقلاب، لکن اللهجة استثقلت هذه الیاء فحُذفت، وهی لغة (طیء)، والأشهر: بقیتْ ورضیتْ وشقیتْ، بل إنهم فی غیر الإسناد یجرونه بالألف مثل: بَقَى ورَضَى وشَقَى، ذکرها ابن منظور(22).
5) مِنِ الْبیتْ:
والشاهدُ فیها إتباع النون حرکة المیم المکسورة قبلها، والعرب تحرّک هذه النون بالفتح للتخلص من التقاء الساکنین، تقول: مِنَ الْبیتِ، ولیس بالأصل إذ الأصل أن یُتخلص من التقاء الساکنین بکسر الأول نحو: عنِ الناس، بلِ الحقّ، إلا أنهم استثقلوا الکسرتین فی (مِن) فحرکوا الساکن الأول (النون) بالفتحة، فاللهجة جاءت على الأصل فی التخلص من التقاء الساکنین کما نرى، یقول ابن جنی: "أهل نجران یقولون: ﭧ ﭨ ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭚ ﭼ التوبة: (١). یجرون المیم والنون، حکاها سیبویه، وهی أول القیاس، تکسرها لالتقاء الساکنین، غیر أنه کثر استعمال (مِن) مع لام المعرفة فهربوا من توالی کسرتین إلى الفتح"(23).
ثالثًا. المستوى النحوی:
یمکن أن نلحظ على مستوى الترکیب بعض المقابلات الترکیبیة التی تختلف فیها اللهجة الظفاریة عن الفصحى، وهی تضعنا على تراکیب لا تصح فی نظام الفصحى، وینبغی على المعلمین التنبیه علیها، وتحدید البدیل الفصیح وتدریب المتعلمین علیه.
1) تْسَابْقُوا الأولاد:
ولها أصلٌ فی الاستعمال الفصیح عند العرب، وقد وردت فی کتاب الله العزیز ﭧ ﭨ ﭽ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭼ الأنبیاء: (٣)، وقال عزّ وجلّ: ﭽ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭥ ﭼ المائدة: (٧١)، وتکلم بها ﷺ، فقال: }ما اغبرَّتا قدما عبدٍ فی سبیل الله{(24)، وقال ﷺ: }یتعاقبون فیکم ملائکةٌ باللیل، وملائکةٌ بالنهار{(25). وقد ذکرها سیبویه والنحاة من بعده ولم یعتن بها البصریون وعدّوا الضمیر فی الفعل علامة تثنیةٍ أو جمعٍ لا أکثر(26). ویجب أنْ یدرب المعلم طلابه على الأقیس من الکلام ولیس على القلیل، وربما النادر منه، فالأقیس ألا یتصل الفعل فی التثنیة والجمع بالضمیر وأن یُفرد فی مثل هذه الحالة، لاسیما أن هذا شائع فی الاستعمال العامی، فالأولى أن نتجنبه فی الفصحى.
2) سافرْتْ مسقط لیش؟:
وهنا تأخر اسم الاستفهام فی الاستعمال اللهجی وکان الأصل أن تکون له الصدارة فی الفصحى ولا یجوز فیها تأخیره یقول عباس حسن فی النحو الوافی: "ومما له الصدارة أسماء الاستفهام، نحو: أین العصفور؟ فکلمة (أین) اسم استفهام، مبنی على الفتح فی محل رفع خبر مقدم، و(العصفور) مبتدأ مؤخر"(27) ، فینبغی على المعلم أن ینبه على هذه التراکیب الاستفهامیة وما فیها من خطأ شائع، وأن یطبق دائما مع المتعلمین مبدأ الاستبدال، الذی من شأنه أن یجعلهم یألفون تراکیب اللغة الفصحى ویتجنبون ما سواها منْ تراکیب اللهجات الدارجة.
خـــاتمــة:
لقد کان الغرض من هذا البحث استثمار ما فی اللهجة الدارجة من أخطاءٍ صوتیةٍ وصرفیةٍ ونحویةٍ بغیة ملاحظتها ومقابلتها بالفصیح وتبین الفصیح من العامی واستبدال الأول بالثانی والتدرب المستمر على ذلک، وإنَّ المتعلم قادرٌ على تفعیل هذه الملاحظات والمقابلات اللغویة فی مستویات اللغة کافة فی لتطبیق مبدأ (الاستبدال) وصولاً إلى أنْ یألف المتعلم هذه الأنساق اللغویة.
لکی لا یتعرض المتعلمون إلى القواعد النحویة الجافة والمعقدة لفهم هذه التراکیب الفصیحة وما یقابلها من اللهجی، فعلى المعلم أن یردد تلک القوالب الفصیحة التی بمنزلة العامیّ المألوف لدیه، ولا بأس بعرض بعض القواعد المبسطة جدًّا فیما نضطر فیه إلى ذلک من المواضع، ویمکن فی الختام تقدیم التوصیات الآتیة:
1- العمل على إنجاز مدونات تضم نماذج من نصوص اللهجات الحیة المعاصرة لأغراض تعلیم العربیة الفصحى بالملاحظة والمقابلة والاستبدال.
2- تأکید الوعی بأن اللهجات المعاصرة ولیدة التطور الذی أصاب الفصحى وأن لها أصولاً فیها وذلک لدعم الدراسات والبحوث فی هذا الجانب.
3- العنایة بالتدریب العملی والشفهی على تراکیب اللغة العربیة الفصحى وبعد ذلک العنایة بفلسفة النحو العربی.
4- مناقشة مسائل اللغة فی مستویاتها جمیعًا باستعمال اللغة العربیة الفصحى مع المعلمین تحلیلاً ونقاشًا.
5- عدم تغلیب اللهجات على الفصحى وتسخیر الأولى لخدمة الثانیة وتسریب الوعی بهذا بین أوساط المتعلمین والمعلمین.
الهوامش
(1) انظر: حسن، عباس، النحو الوافی، ط15، دار المعارف، ج1، ص ص4 5، وانظر أیضا: أحمد عبد الستار الجواری، نحو التیسیر؛ دراسة ونقد منهجی، مطبعة المجمع العلمی العراقی، 1984م، ص5، وانظر: دباس، صادق فوزی، جهود علماء العربیة فی تیسیر النحو وتجدیده، مجلة القادسیة فی الآداب والعلوم التربویة، مج7، العددان 1-2، 2008م، ص 86.
(2) سیبویه، عمرو بن عثمان بن قنبر، الکتاب، تحقیق: عبد السلام محمد هارون، مکتبة الخانجی، القاهرة، ط3، 1988م، ج3، ص541.
(3) السابق، ج3، ص545.
(4) انظر: الجندی، أحمد علم الدین، اللهجات العربیة فی التراث، الدار العربیة للکتاب، القاهرة، 1983م، ج2، ص ص321 345.
(5) لقد توجه الدکتور إبراهیم السامرائی بنقدٍ لمقولة الدکتور الجندی فیما یخص نسبة أداء العرب للهمز فی لغتهم إلى حجازی وتمیمی مستنکرًا علیه أن یکون أطلس الحجاز اللغوی وتمیم کذلک واضحا بالصورة التی تعین على تحدید علمی منهجی للقبائل العربیة التی تهمز والأخرى التی تسهل؛ ذلک أن القبائل تختلط فی الجانبین بما سماه بالجیوب من قبائل التحقیق تدخل فی مناطق قبائل التسهیل. انظر: السامرائی، إبراهیم، العربیة تاریخ وتطور، مکتبة المعارف، ط1، بیروت، 1993م، ص ص ص292، 291، 287.
(6) ابن الجزری، شمس الدین محمد، النشر فی القراءات العشر، تحقیق: علی محمد الضباع، المطبعة التجاریة الکبرى،ج2، ص30.
(7) أنیس، إبراهیم، فی اللهجات العربیة، دار الفکر العربی، الإسکندریة، 1999م، ص53.
(8) انظر: السیوطی، جلال الدین عبد الرحمن أبو بکر، الإتقان فی علوم القرآن، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة، ج1، ص164، والراجحی، عبده، اللهجات العربیة فی القراءات القرآنیة، دار المسیرة، الأردن، 2008م، ص103.
(9) الإتقان فی علوم القرآن، ج1، ص164، وانظر: الدانی، أبو عمرو، الأحرف السبعة للقرآن، تحقیق: عبد المهیمن طحان، مکتبة المنارة، مکة المکرمة، 1408هـ، ص27.
(10) مبارک، سعید بخیت، ظواهر لغویة من القراءات القرآنیة؛ الإثبات والحذف، مکتبة الغبیراء، مسقط، 2012م.
(11) الکتاب، ج3، ص544.
(12) عوض، لویس، مقدمة فی فقه اللغة العربیة، رؤیة للنشر والتوزیع، القاهرة، 2005م، ص31.
(13) مدکور، علی أحمد، تدریس فنون اللغة العربیة، دار الفکر العربی، القاهرة، 2006م، ص125.
(14) إیفیتش، میلکا، اتجاهات البحث اللسانی، ترجمة: عبد العزیز مصلوح ووفاء کامل فاید، المجلس الأعلى للثقافة، 2000م، ص193.
(15) الراجحی، عبده، النحو العربی والدرس الحدیث؛ بحثٌ فی المنهج، دار النهضة العربیة، بیروت، 1979م، ص26.
(16) محمد، مجدی إبراهیم، اللهجات العربیة، دار الوفاء لدنیا الطباعة والنشر، الإسکندریة، 2011م، ص20.
(17) انظر: الدجنی، فتحی، لغات العرب وأثرها فی التوجیه النحوی، مکتبة الفلاح، الکویت، 1981م، 26، وانظر: السامرائی، أحمد، اللهجات العربیة والثراء اللغوی، دار دجلة، عمّان، 2014م، ص21.
(18) لغات العرب وأثرها فی التوجیه النحوی، ص25.
(19) الکتاب ج3، ص548.
(20) السابق، ج4، ص76.
(21) انظر: السامرائی، أحمد، المجالات اللغویة للهجة طی فی لسان العرب، دار دجلة، عمّان، 2014م، ص82.
(22) ابن منظور، جمال الدین محمد، لسان العرب، ط4، دار صادر، بیروت، 2005م، (بفی)، ج2، ص130.
(23) ابن جنی، عثمان أبو الفتح، المحتسب فی تبیین وجوه شواذ القراءات والإیضاح عنها، وزارة الأوقاف المجلس الأعلى للشئون الإسلامیة، 1999م، ج1، ص283.
(24) صحیح البخاری البخاری، محمد بن إسماعیل الجعفی، صحیح البخاری، تحقیق: مصطفى دیب البغا، دار ابن کثیر، 1993م، کتاب العیدین، رقم الحدیث: 974.
(25) صحیح البخاری، کتاب التوحید رقم الحدیث: 7486، وانظر: النووی، یحیى بن شرف أبو زکریا، شرح النووی على مسلم، إعداد: مجموعة من المحققین وبإشراف: علی عبد الحمید أبو الخیر، دار الخیر، 1996م، کتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم الحدیث: 632.
(26) ابن عقیل، عبد الله بن عبد الرحمن العقیلی الهمدانی المصری، شرح ابن عقیل على ألفیة ابن مالک، تحقیق: محمد محیی الدین عبد الحمید، دار التراث، القاهرة، 1980 م، ج2، ص79.
(27) النحو الوافی، ج1، ص502.
أولا. الکتب:
- ابن الجزری، شمس الدین محمد، النشر فی القراءات العشر، تحقیق: علی محمد الضباع، المطبعة التجاریة الکبرى، د.ت.
- ابن جنی، عثمان أبو الفتح، المحتسب فی تبیین وجوه شواذ القراءات والإیضاح عنها، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامیة، القاهرة، 1999م.
- ابن عقیل، عبد الله بن عبد الرحمن العقیلی الهمدانی المصری، شرح ابن عقیل على ألفیة ابن مالک، تحقیق: محمد محیی الدین عبد الحمید، دار التراث، القاهرة، 1980م.
- ابن منظور، جمال الدین محمد، لسان العرب، ط4، دار صادر، بیروت، 2005م.
- أنیس، إبراهیم، فی اللهجات العربیة، دار الفکر العربی، الإسکندریة، 1999م.
- إیفیتش، میلکا، اتجاهات البحث اللسانی، ترجمة: عبد العزیز مصلوح ووفاء کامل فاید، المجلس الأعلى للثقافة، 2000م.
- البخاری، محمد بن إسماعیل الجعفی، صحیح البخاری، تحقیق: مصطفى دیب البغا، دار ابن کثیر، 1993م.
- الجندی، أحمد علم الدین، اللهجات العربیة فی التراث، الدار العربیة للکتاب، القاهرة، 1983م.
- حسن، عباس، النحو الوافی، ط3، دار المعارف، القاهرة، د. ت.
- الدانی، أبو عمرو، الأحرف السبعة للقرآن، تحقیق: عبد المهیمن طحان، مکتبة المنارة، مکة المکرمة، 1408هـ.
- الدجنی، فتحی، لغات العرب وأثرها فی التوجیه النحوی، مکتبة الفلاح، الکویت، 1981م.
- الراجحی، عبده، اللهجات العربیة فی القراءات القرآنیة، دار المسیرة، الأردن، 2008م.
- الراجحی، عبده، النحو العربی والدرس الحدیث؛ بحثٌ فی المنهج، دار النهضة العربیة، بیروت، 1979م.
- السامرائی، إبراهیم، العربیة تاریخ وتطور، مکتبة المعارف، ط1، بیروت، 1993م.
- السامرائی، أحمد، اللهجات العربیة والثراء اللغوی، دار دجلة، عمّان، 2014م.
- السامرائی، أحمد، المجالات اللغویة للهجة طی فی لسان العرب، دار دجلة، عمّان، 2014م
- سیبویه، عمرو بن عثمان بن قنبر، الکتاب، تحقیق: عبد السلام محمد هارون، مکتبة الخانجی، القاهرة، ط3، 1988م.
- السیوطی، جلال الدین عبد الرحمن أبو بکر، الإتقان فی علوم القرآن، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم، الهیئة المصریة العامة للکتاب، القاهرة.
- مبارک، سعید بخیت، ظواهر لغویة من القراءات القرآنیة؛ الإثبات والحذف، مکتبة الغبیراء، مسقط، 2012م.
- محمد، مجدی إبراهیم، اللهجات العربیة، دار الوفاء لدنیا الطباعة والنشر، الإسکندریة، 2011م.
- مدکور، علی أحمد، تدریس فنون اللغة العربیة، دار الفکر العربی، القاهرة، 2006م.
- النووی، یحیى بن شرف أبو زکریا، شرح النووی على مسلم، إعداد: مجموعة من المحققین وبإشراف: علی عبد الحمید أبو الخیر، دار الخیر، 1996م.
ثانیا. الدوریات:
- دبّاس، صادق فوزی، جهود علماء العربیة فی تیسیر النحو وتجدیده، مجلة القادسیة، کلیة الآداب والعلوم التربویة، جامعة القادسیة، العراق، مج7، العددان 1-2، 2008م.