المشاهد المكانية في قصيدة السياحة الرخيوتية لأبي الصوفي

الباحث المراسلد. علي بن قاسم الكلباني جامعة السلطان قابوس

تاريخ تسليم البحث :2023-02-22
تاريخ نشر البحث :2023-02-22
الإحالة إلى هذه المقالة   |   إحصائيات   |   شارك  |   تحميل المقال

 

مقدّمة:


أدب الرحلة هو نقطة التقاء الأدب مع العلوم الإنسانية مثل الجغرافيا والتاريخ والسياحة فلذا يسمّى أحيانًا بالأدب الجغرافي وبأدب السِّيَر وبأدب السياحة، وشعر الرحلة هو قسم من هذا الأدب وهو أقدم من أدب الرحلة النثري ويتميز بقيمة علميّة وفائدة مهمّة، وقد توفّر هذا النمط في الشعر العماني قديمًا وحديثًا لكنّه لم يدرس ولم يجد الباحث في هذا السياق أي دراسة منشورة، وقد يكون هذا البحث أولّ دراسة للرّحلة في الشعر العماني الحديث، واقتصر على دراسة خصائص المكان في نص واحد ولم يتسع المقام لدراسة غيره من العناصر الفنيّة.

 

المبحث الأول: الرحلة في الشعر العماني الحديث من خلال تجربة الشاعر أبي الصوفي


ولد الشاعر أبو الصوفي (سعيد بن مسلّم بن سالم) في عام 1281هـ/1862م ( )بولاية (سمائل) ونشأ في محلّة تسمّى (البستان) ( )، وعندما بلغ التاسعة من العمر في عام 1871م دفع به أبوه إلى معلمي (سمائل) ليتعلم القراءة والكتابة، وعرف بميله إلى الشعر وحفظه، كما اشتهر بحسن خطه وتكسّب بالكتابة لأن الطباعة لم تكن متوفّرة آنذاك، واندمج في الفئة المتعلّمة بمجالس العلم في بلدته (سمائل)، وقد صرّح في إحدى قصائده بأنه كان يدمن حضور تلك المجالس( )، قبل أن يقُدّر له لاحقًا أن يفتح مجلسًا أدبيًّا سمّاه "مجلس الناقد" ( )، وأسهمت العوامل المذكورة في صقل موهبته الشعرية فبدأ ينظم الشعر ويعرضه على أساتذته وأصحابه مستفيداً من ملاحظاتهم وتوجيههم. وبعد أن بلغ العشرين من عمره اشتغل بمهنة التدريس والأرجح أنه مارسها إلى جانب مهنة النسخ، وفي عام 1888م بلغ السادسة والعشرين من عمره وانتقل إلى (مسقط) وقدّم أولى مدائحه للسلطان (فيصل بن تركي) ( ) بعدما عمل كاتباً لأحد مساعديه ( )، وكانت هذه مرحلة فارقة في حياته إذ نقلته من هامش الحياة إلى أحد مواقع الصدارة حيث كان يلقّب من الحاشية وأبناء السلطان بـ«الأستاذ»( ) وهو لقب كانت له قيمة كبيرة آنذاك، ومنذ ذلك التاريخ لازم السلطان (فيصل بن تركي)، ثم لازم ابنه السلطان (تيمور بن فيصل) ثم كان بمعية السلطان (سعيد بن تيمور) إلى أن توفي الشاعر عام 1372هـ/1953م ( ).


وأسهم اشتغال أبي الصوفي بالكتابة في تدوين نصوصه وتنقيحها وقد أعاد كتابتها وترتيبها سنة 1935م عندما أرسل إليه السلطان (تيمور) أثناء إقامته في (أوساكا) باليابان يطلب ديوانه للطبع، فقام الشاعر بجمعه وترتيبه ثم أرسله مع مبعوث السلطان الذي استلمه وطبعه عام 1937م بعد أن قدّم له بمقدّمة طويلة حث فيها الميسورين من أبناء وطنه على طبع الكتب، وشرح سبب طبعه للديوان قائلاً:
"قدّر الله لي بالسفر في سنة ألف وثلاثمئة وثمان وأربعين للهجرة، سافرت من مسقط وانتهى بي السير إلى الشرق الأقصى واستتب لي القطون في المملكة الجابانية بعد أسفاري بالهند، وقدّر الله لي السفر إلى اليورب ورزقني حج بيته الحرام، وزرت الصين وبرماء وملايو، وهنا وجدت ما أتمنّاه من مناسبة الطقس، وكنت أفكّر في ماذا أنتج من سنوح هذه الفرصة فخطرت لي هذه الخاطرة وهي طبع ديوان شعر لأحد شعراء بلادي عمان، فطلبت من شاعر الأسرة المالكة (أبوالصوفي سعيد بن مسلّم المجيزي السمايلي) بأن يتكلف في جمع ما نظمه من الشعر بعد التصحيح، فلبّا طلبي، وقد ساعدتني ألطاف الله وتوفيقه على طبع ديوانه هذا وسمّيته: الشعر المسقطي في القرن الرابع عشر للهجرة النبوية، وقد تم الطبع في سنة ألف وثلاثمئة وست وخمسين للهجرة، مطابق سنة ألف وتسعة وسبعة وثلاثين ميلادية" ( ).
وحفظ هذا الطبع ديوان الشاعر فظلّ متداولاً بتلك الصورة لأربعة عقود حتى ارتأت وزارة التراث القومي والثقافة تحقيق الديوان وطبعه من جديد في عام 1982م بتحقيق الدكتور (حسين نصّار)، وأصبحت هذه الطبعة هي الطبعة المتداولة التي عليها الاعتماد، وأضاف المحقق إلى الديوان ملاحق بأسماء الأعلام والمواضع والنبات والحيوان، وقام بشرح بعض المفردات والتعليق عليها ونصّ في ضميمة أرفقها بالديوان على أنه انتهى من كل ذلك في 5 حزيران 1982م. وينقسم الديوان في هذه الطبعة إلى ثلاثة أقسام:


الأول في السلطان (فيصل بن تركي): ويضم ستاً وعشرين قصيدة ومقطوعة.


الثاني في السلطان (تيمور بن فيصل): ويضم أربعين قصيدة ومقطوعة، ومُشطّرتين.


الثالث في المتفرّقات: ويضم هذا القسم تسعين مخمّسة وتسع مشطّرات وإجازة واحدة.


وقد أتى شعر الرحلة في القسم الثاني من الديوان لأنّه في جوهره نتيجة للعلاقة بين الشاعر والسلطان (تيمور)، حيث انعكس الطابع الخاص لحياة السلطان على شعر أبي الصوفي. فهذا السلطان، الذي تولّى الحكم في عام 1913، كان يؤثر السلم وكان محبّاً للسفر والسياحة فلا يكاد يمكث في (عُمان) برهة حتى يغادرها إلى مكان ما، وبدا ذلك جليّاً واضحاً في شعر أبي الصوفي حيث توزع ما بين تهنئة بقدوم أو توديع أو وصف رحلة، وفي المقابل غاب عن شعره في عهد السلطان (تيمور) كل ما يتصل بالصراع السياسي، ويظهر أن العلاقة توطّدت بين السلطان والشاعر الذي أصبح يسجّل بشعره تحرّكات السلطان وأحواله واهتماماته، ونراه يصحبه عام 1338هـ/1919م في إحدى زياراته إلى (الهند) ثم يفترقان في (دلهي) فيغادرها السلطان بالقطار متوجّهاً بصحبة قنصل الإنجليز (ونكيت) إلى (جوالير) فيقول أبوالصوفي مخاطباً سائق القطار، ويسميه هنا بـ«الريل» على عادة الإنجليز (الطويل) ( ):

 

على مَهلٍ، إنَّ الجفونَ تقرَّحتْ  وإنَّ فؤادي مسـلكَ «الريلِ» يتبعُ!


ويظهر أنّ الشاعر غادر (دلهي) عائداً إلى (عُمان) بينما ظلّ السلطان في (الهند) لأكثر من سنة، وعند رجوعه منتصف 1339هـ/1920م استقبله الشاعر بقصيدة يقول فيها (الرمل) ( ):


دمعتْ عيني سـروراً وعَـــــدَتْ   كــلُّ عينٍ، من سروري، تدمــــــــــعُ


ولا يكاد السلطان يستقر في (مسقط) حتى يعود إلى (الهند) ويظل بها فترة طويلة، ويرسل في 16 رجب 1340هـ/1921م لأبي الصوفي بأربعة أشطار غزلية ورسالة نثرية تعبّر عن حاله طالباً من الشاعر أن يسلك ذلك في قصيدة ففعل؛ وبتأثير من حال السلطان امتلأت هذه القصيدة بالألفاظ المدنية البحتة وبالأمور التي لم تكن منتشرة في ذلك الوقت من مثل استعمال الهاتف، فنرى الشاعر يقول مثلاً (الطويل)(  ):


وأعـــــــــدو لأسلاكِ التليفون معرضا  وأسلكُ أحياناً خــلالَ المخادعِ

وأهفو إلى الرّكَّاب إن عنَّ سائحٌ  أرددُّ طرفي في جهاتِ الشوارعِ


وعند عودة السلطان إلى (عُمان) في منتصف 1341هـ/1922م ويستقبله أبوالصوفي بهمزيّة تحمل شيئاً من العتاب على غيابه عن بلده فيقول (الكامل) ( ):
 

فالقِ العصا واربعْ فثمَّ مرابـعٌ   يعتـــزُّ فيها المرءُ عن أعدائهِ


لكنّ السلطان لم يكد يصل (مسقط) حتى غادرها إلى (ظفار) مصطحبًا الشاعر ليصلها في بداية عيد الأضحى لسنة 1341هـ/1922م فيهنّئه الشاعر بقصيدته (الكامل) ( ):
 

بَرحَ الخفاءُ وزالتِ الأوهــــامُ   وعلى الهنا تتبسّمُ الأعــــوامُ


ثم عاد السلطان إلى (مسقط) لكنّه رحل في أوائل السنة التالية بحراً إلى (ظفار) وأيضًا اصطحب أبا الصوفي ووصل إلى (صلالة) في العاشر من جمادى الثانية 1342هـ/1923م ليُمضي بها فصل الخريف، وفي تلك الأثناء يلقي أبو الصوفي على مسمعه مطوّلة تصوّر طبيعة (ظفار) في فصل الخريف قائلاً (البسيط) ( ):
 

فيالهُ من خريفٍ زادني كَلَـفَاً    ما أبهجَ الأنس أنْ لو طالَ إدمانُ


وفي رمضان من تلك السنة يعود السلطان إلى (مسقط)، ولم يكد يصل حتى غادرها في ثالث أيام العيد إلى ‹الهند› فودعه أبو الصوفي بقصيدته (الطويل) ( ):
 

ألي بعد سكّانِ الفؤادِ سـكونُ؟  وعيشي عُقيبَ الظاعنينَ سُجونُ؟


ولا يحتوي ديوان أبي الصوفي على تهنئة بعودة السلطان لكنّنا نلاحظ أن الشاعر يودّع (ظفار) في 24 جمادى الثانية سنة 1343هـ/1925م عندما يغادرها بمعيّة السلطان عائداً إلى (مسقط) قائلاً (الطويل) ( ):
 

فلا يجعلُ الرحمنُ ذا العهدَ آخراً  ففيكِ فؤادي – يا ظفارُ- تعلّـقا


ولا يلبث السلطان أن يغادر (مسقط) متوجّهاً في 19 رمضان سنة 1343هـ/1925م مرة أخرى إلى (الهند)، فيودّعه أبو الصوفي قائلاً (الطويل) ( ):
 

ومن لا يلذُّ العيشُ إلا بقربـه  فإنّ عـلى رغمي يكونُ التنائيـا


ويظهر أنّ السلطان عاد هذه المرّة سريعًا من (الهند) حيث نتفاجأ بأبي الصوفي يصف رحلة صيد للسلطان في جبال (ظفار) ابتدأها قبيل فجر الثالث من شوال سنة 1343هـ/1925م ( )، وكذلك يظهر السلطان والشاعر في نهاية هذه السنة بمجلس سمر في ولاية (مرباط) يتطارحان الشعر ويتبادلان الإنشاد فينظم السلطان بيتاً ويجيزه أبوالصوفي بأبيات أو قصيدة، ومن ذلك أن السلطان أنشد قائلاً (البسيط) ( ):
 

يا ندامايَ طـــابَ لـيَ السمرُ   وزادَ وجـدي وقلَّ مصــطبرُ( )


فأكمل عليه الشاعر، ويتنقّل الاثنان إبّان وجودهما في (ظفار) من بلد إلى بلد وكان ذلك مكسباً للشعر؛ إذ ينشئ أبوالصوفي في وصف تلك الرحلات قصيدة إثر قصيدة، ونجد السلطان يجتاز بلدات سلسلة (جبال القمر) الشاهقة ويصل في سادس ذي القعدة 1343هـ/1925م إلى ولاية (رَخْيوت) فينشئ أبو الصوفي في ذلك مطوّلة سمّاها "السياحة الرخيوتيّة" عبّر مطلعها عن تلك الرحلات المستمرّة، إذ يقول (الكامل) ( ):
 

هوّنْ عليكَ فليسَ فوقكَ مَرْقـى  نِلتَ السماءَ فأينَ تقصدُ ترقى!


ويثبت ديوان أبي الصوفي أن إقامة السلطان بـ(ظفار) امتدت إلى آخر الربع الأول من سنة 1344هـ/1926م فامتدّت بها أيضًا إقامة الشاعر، وتحققت أحلامه فكاد لا يغادرها إلا ليعود إليها، وهو يعلن ذلك في إحدى قصائده بهذه السنة (1344/1926م) قائلاً (الطويل) ( ):
 

سقاكِ الحَيا يا ظفارُ وغرّدت  قمـاريكِ دهراً بالأفانين تسجعُ
فإنْ أقفرت منا لياليكِ إنـنا  سنأتيكِ يوماً عن قريبٍ ونرجــــعُ


وينص الديوان على وجود الشاعر في الربع الأخير من سنة 1345هـ/1927م بمعيّة السلطان في (ظفار) حيث يمدحه ويهنئه بعيد الأضحى في قصيدته (البسيط) ( ):
هذي المعاهدُ قفْ بالحمى واتَّئدِ  وقــوفَ صبٍّ رماهُ الشوقُ بالكمدِ


ويظهر أن السلطان لم يغادر (ظفار) طيلة سنة 1346هـ/1928م إذ ينشئ أبوالصوفي في صفر( ) وربيع الثاني( ) ورمضان( ) قصائد كلها في (ظفار)، ويبدو أن سبب ذلك هو اشتغال السلطان ببناء منزل على نهر (أرزات)، وقد ذكره أبوالصوفي في قصيدة طويلة قال فيها (البسيط) ( ):
 

يا منزلاً بالحمى قد شِيــدَ بالهــــممِ   أصبحتَ في ذروةِ العليــاءِ كالعَلمِ


ومن (ظفار) يرحل أبوالصوفي بمعيّة السلطان إلى (مسقط) ثم (صحار) العاصمة القديمة لعُمان، ولا يلبث أن يغادر السلطان إلى أوروبا للعلاج، ويعود في نهاية شعبان سنة 1347هـ/1929م فيستقبله أبوالصوفي بقصيدة يقول فيها (الخفيف) ( ):
 

جئتَ للعالمين غوثاً وغيثــاً       يا مليك الأنـامِ أنتَ هُداها


وينوي السلطان في منتصف سنة 1348هـ/1930م زيارة (ظفار) فيستبق أبوالصوفي ذلك الحدث بقصيدة مديح يتشوّق فيها إلى (ظفار)، فيأخذه السلطان بمعيته فينشئ أبوالصوفي قصيدة أخرى يقول فيها (الطويل) ( ):
 

لقد ظفرت مني ظفارُ وأوثقتْ  بأسبابها وتداً بقلبي لهُ شدّ


وبعد شهرين يهم السلطان بالعودة إلى (مسقط) فيودّع أبوالصوفي (ظفار) بقصيدة سمّاها ‹رشقات الشِّفار على القلب أهون من فراقِ ظفار› قال فيها (مجزوء الرمل) ( ):
 

مزج القلبُ هُيامـــــاً   بهــــواها واستطابا


ويظهر أن السلطان غادر بعد ذلك إلى (الهند) وبقي فيها إلى أن تنازل في سنة 1350هـ/1932م لولي عهده عن العرش بموجب وثيقة أصدرها من محلّ إقامته بالهند، ولم يعد إلى (عمان) حيث بقي في (الهند) ثم سافر في رحلة طويلة حول العالم، وفي تلك السنة كتب أبوالصوفي آخر قصائد الديوان وهي مقصورة ( ) طويلة يركز معظمها على ترك السلطان للبلاد وتأثيرات ذلك على الشاعر، وقد توقّف الشاعر عن كتابة شعر الرحلة بعد هجرة السلطان ويثبت هذا أن شعر الرحلة لا يعكس لدية الرحلة الشخصيّة بل الرحلة الغيريّة.

 

المبحث الثاني: مجال البحث وموضوعه وهدفه


يتناول هذا البحث بالدراسة نصًّا من شعر ‹الرّحلة›، و‹الرِّحلة› بكسر الراء اسم هيئة مشتق من الفعل ‹رحل› بمعنى غادر، "والارتحال: الانتقال، وهو مصدر. والرحلة اسم للارتحال، يقال: دنت رحلتنا، ورَحَل فلان وارتحل وترحّل" ( )، ومن مشتقاته أيضًا "الرحيل بمعنى الارتحال الكثير، و الترحيل بمعنى الإشخاص والإزعاج، يقال: رحل الرجل إذا سار، وأرحلته أنا. ورجل رحول وقوم رحّل: أي يرتحلون كثيرا" ( )، ومشتقات مادة ‹رَحَلَ›كثيرة وكلها تدلّ على الحركة لأن الرحلة في الحقيقة ما هي إلا حركة وانتقال( )، وليست  كلمة ‹رحلة› هي الكلمة الوحيدة التي تدل على السفر والانتقال لكنها الكلمة الجامعة للمعاني وأما غيرها فيدل على صفة للسفر وذلك من مثل الزيارة والغدو والجوب والتطواف والتجوال والانتجاع والإسراء والهجرة والسياحة والمغامرة، وقد تكون الرحلة طقسًا مثل الحج والعمرة وقد تكون عملا وتجارة وقد تكون حرّة أو بعثة.


وينظر الدارسون إلى أدب الرحلة على أنه مصدر من مصادر الثقافة الإنسانية حيث يزخر باللغة والاعتقادات والتقاليد والعادات والطباع والقيم وأساليب العيش والعلاقات التي تقرأ وتسجّل من الواقع،  فهو "مجموعة الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف عن رحلاته في بلاد مختلفة، قد يتعرض فيها لوصف ما يراه من عادات وسلوك وأخلاق، أو يسجّل المناظر الطبيعية التي يشاهدها، أو يسرد مراحل رحلته مرحلةً مرحلةً، أو يجمع بين كل هذا في آن واحد"( )، وأدب الرحلة هو نقطة التقاء الأدب مع العلوم الإنسانية مثل الجغرافيا والتاريخ والسياحة فلذا يسمّى أحيانًا بالأدب الجغرافي وبأدب السِّيَر وبأدب السياحة، وهذا يجعل من نصوصه "نصوصـا مفتوحـة علـى كافـة الحقـول بأشكال مكتملة أو جزئية"( )، وينطبق هذا الأدب على الكتابة الفنيّة عن الرحلة الداخلية والخارجية، وقد لا يكون للرحلة أي هدف وقد يكون لها هدف محدد مثل الاطلاع على التراث الشفوي والمادي الرسمي والشعبي، وبذلك يكون أدب الرحلة "مصدرا لوصف الثقافات الإنسانية، ولرصد بعض جوانب حياة الناس اليومية في مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة"( )، والرحلة هي اكتشاف للذات وترويح للنفس وتمرين للحواس وصقل للمعرفة، وهي قبل كل شيء توكّل على الله تعالى وتعلّق به "لأن الله تعالى لم يجمع منافع الدنيا في أرض واحدة بل فرق المنافع والجهات أحوج بعضها إلى بعض. ولذلك كانت الأسفار مما تزيد علما بقدرة الله وحكمته، وتدعو إلى شكر نعمته، والمسافر يجمع العجائب ويكسب التجارب ويجلب المكاسب"( ).


وينقسم أدب الرحلة إلى قسمين: الرحلة النثرية والرحلة الشعرية، والرحلة الشعرية أسبق في الأدب من الرحلة النثرية، ومنها ما كان يذكره الشعراء الجاهليون في قصائدهم من وصف الطلول والصحاري والمهامه والمفاوز والتنائف والأودية والقيعان والرمال والجبال والإنسان والحيوان والشجر والنبات، وقد تحوّل ذلك كلّه إلى الرحلة النثرية حيث نجد (المسعودي) الذي كان من أوائل مدوّنيها في القرن (4هـ) يقول: "إنا صنفنا كتابنا في أخبار الزمان، وقدمنا القول فيه في هيئة الأرض، ومدنها، وعجائبها، وبحارها، وأغوارها، وجبالها، وأنهارها، وبدائع معادنها وأصناف مناهلها، وأخبار غياضها، وجزائر البحار، والبحيرات الصغار، وأخبار الأبنية المعظمة، والمساكن المشرفة، وذكر شأن المبدأ، وأصل النسل، وتباين الأوطان"( ).


ويتنوّع أدب الرحلة من الناحية الأسلوبية من سرد إلى حوار ووصف للمشاهد المختلفة والعجيبة دون تكلف أو مبالغة،  وكثيرا ما يلجأ الرحّالة إلى التصوير لإبراز فكرته عن طريق "تحويل غير المرئي من المعاني إلى المحسوس، وتحويل الغائب إلى ضرب من الحضور" ( )، وهو يعمد إلى السرد لأنه يسمح بالتفصيل والاسترسال وضرب الأمثلة: "إنّ القول بأن  أدب الرحلة فن  يقترب من فن القصة راجع بالدرجة الأولى إلى طبيعة بعض الرحّالة. هؤلاء الذين جنحوا إلى سرد القصص الّتي عاشوها أو سمعوا بها، وكان سردهم لهذه  القصص بعفوية وحيوية، قرّبت الرحلة من عالم القصّ" ( )، وجوهر الرحلة "هو وصف السفر من موضع إلى آخر، وما تقع أبصار المسافر عليه من مشاهدات، وما يستطرفه من أخبار" ( )، والأساليب الفنية التي تقدم فيها مواد الرحلة "ترتفع بها إلى عالم الأدب، وترقى بها إلى مستوى الخيال الفني"( ).


أمّا شعر الرحلة بأنواعه فهو نوع من القراءة لمفردات الطبيعة والآثار والموروثات، وبخلاف أنواع الشعر الأخرى يتميز هذا النوع بقيمة علميّة وفائدة مهمّة لجميع التخصصات، وفي الغالب ينظم شعر الرحلة على وزن الرجز إلا أن ذلك ليس مضطردًا، وينقسم شعر الرحلة إلى شعر يسجّل الرحلة البحرية وشعر يسجّل الرحلة البريّة، فمن الذين سجّلوا رحلات البحر الرحّال العماني المشهور (أحمد بن ماجد) الذي له في الرحلات البحرية أراجيز مشهورة، ومن الشعراء الذين اهتموا بالرحلات البريّة في العصر الحديث الشاعر أبو الصوفي الذي يدرس البحث قصيدته "السياحة الرخيوتيّة"، ولأن المقام لا يتسع لدراسة كل العناصر الفنيّة للنّص من مثل الشخصيات والزمان واللغة والأسلوب فإنّ البحث سيقتصر على دراسة عنصر واحد هو المكان، والمكان المقصود بالبحث هو الفضاء الفعلي للرحلة الذي تتوالى فيه المواضع وتتحرك فيه الشخصيات وتقع فيه الأحداث.

 

المبحث الثالث: منهج البحث ومفهوم المكان وأهميّته في شعر الرحلة


ينتمي ‹المكان› إلى العناصر السرديّة الأساسيّة، والسرد هو خطاب فنّي يوظّف اللغة وتدرس عناصره ومن ضمنها ‹المكان› بمنهج تحليل الخطاب، وعلى عكس الشائع فإن السرد ليس حكرًا على النثر الفنّي بل هو خطاب أدبي عام عابر للأنواع الأدبيّة حيث يوجد في النثر الفنّي بأنماطه من مثل القصّة والرواية، ويوجد في الشعر من مثل شعر الرحلة وشعر الملاحم، ويرى (سعيد يقطين) أن السرد هو "تجلّ خطابي يتشكّل من توالي أحداث مترابطة تحكمها علاقات متداخلة بين مختلف مكوّناتها وعناصرها" ( )، وبهذا المفهوم فإن هذا البحث يدرس الخطاب السردي في شعر الرحلة من خلال تحليل عنصر ‹المكان›.


وتدل كلمة ‹المكان› على الموضع والمنزل، وتعيدها المعاجم إلى جذرين: الأول هو ‹كَوَن› حيث تُشتقّ مصدرًا من ‹كان› فيُقال: مكان والجمع أماكن ( )، والثاني هو ‹مَكَـن› لأن ‹فَعال› أصله ‹مَفْعَل›  فيُقـال: مكـان وأمكنة كقذال وأقذلـة( )، ويعرّف صاحب معجم تاج العـروس المكان بقولـه" :والمكـان هـو الموضــع المحــاذي للشــيء"( ). 


وأمّا مفهوم ‹المكان› في الاصطلاح فهو أوسع من ذلك وقـد تعـددت الآراء حـوله، فذهب Gaston Blasher (جاسـتون باشلار) إلى أن ‹المكان› هو" المكان المنجذب نحو الخيال وليس مكاناً ذا أبعاد هندسية وحسب، بل هو مكان قد عـاش فيـه بشـر بشـكل موضوعي وبكل ما للخيال من تميز" ( )، ويقصد أن ‹المكان› في الأدب يكتنز الأحاسيس والمشاعر والأحلام، لذا يوضّح مفهومه قائلاً" إن المكان ليس بمثابة الوعاء أو الإطـار العرضي التكميلي، بـل هـو علاقته بالإنسان علاقة جوهريـة تلـزم ذات الإنسـان وكيانه"( )، وفي المقابل ترى (سيزا قاسم) أن تعريف ‹المكان› يتغيّر لأنّه؛ قد يدل على الموقع وقد يدل على الفضاء الروائي قائلةً "إنّ النقاد المحدثين يستخدمون ما يقابل كلمة الموقع (المكان/الفراغ) للتعبير عن مستويين مختلفين للبعد المكاني: أحدهما محدد يتركّز فيه مكان وقوع الحدث، والآخر أكثـر اتسـاعاً ويعبر عـن الفـراغ المتّسع الذي تنكشف فيـه أحداث الرواية"( )، وذهب (لحمداني) إلى قريب من ذلك حيث ميّز بين ‹المكان الجغرافي› و‹المكان النصّي› و‹المكان الدلالي› فرأى أنّه قد يقصد بالمكان الفضاء الجغرافي وهو الفضاء الذي يتحرك فيه الأبطال، وقد يقصد به الفضاء النصي وهو متعلّق فقط بالمكان الذي تشغله الكتابة باعتبارها أحرفا طباعية، وقد يقصد به الفضاء الدلالي وهو فضاء له صلة بالصورة المجازية، ومالها من أبعاد مجازية دلالية أي يدرس جماليته عن طريق المجاز، ومن حيث الوظيفة يرى (لحمداني) أن "المكان هو الذي يؤسس الحكي لأنه يجعل القصة المتخيلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة"( ).


ويشير (حسن بحراوي) إلى علاقة المكان بوجود الشخصيّات ونمو الأحداث قائلاً إنّ "ظهـور الشخصيات ونمو الأحداث يساعدان على تشـكيل البناء المكاني للنّص، فالمكان لا يتشكل إلاّ باختراق الأبطال له وليس هناك، بالنتيجة أي مكان محدد مسبقاً، وإنمّا تتشكل الأمكنة من خلال الأحداث الـتي يقـوم بهـا الأبطـال ومـن المميزات التي تخصهم، ولا يمكن أن يعـيش المكان منعزلاً عـن باقي عناصر السرد، وإنما يـدخل في علاقات متعددة مع المكوّنات الحكائية للسرد"( )، بالتالي فإن (بحراوي) يرى أنه لا يوجد تعريف للمكان لأنّه يختلف من نص إلى آخر، ومحصّلة الآراء السابقة عن المكان أنّه يتصف بالتنوّع وأنّه أكثر سعة من الدلالة اللغوية بكثير، وهو مثلما  رآه (ياسين النصير) ناتج عن التفاعل بين الإنسان والمجتمع "يحتوي على خلاصة التفاعل بـين الإنسان ومجتمعه، ولـذا فشأنه شأن أي نتاج اجتماعي آخر يحمل جزءاً من أخلاقية وأفكار ووعي ساكنيه"( ).


وللمكان أهميّة بالغة في شعر الرحلة وشعر الحكاية والمحكيّات عمومًا لأنّه "يمثّل مع الحدث عمود الحكاية"( ) ، وتنطبق على المكان في شعر الرحلة عبارة "حيث لا توجد أمكنة لا توجـد أحداث"( )، فمن غير المكان لا توجد رحلة ولا سياحة، لذا يؤثّر المكان على الأحداث كما تؤثّر الأحداث على المكان( )، ومع ذلك تتجاوز أهميّة المكان في شعر الرحلة فكرة الحدث ليصبح شـرطاً لوجود النص، وعاملا من عوامل بناء الشخصية وتحديد استجاباتها، وتتقدّم أهميّة المكان في شعر الرحلة على أهميّة البطل لأن البطل لا يمثّل دور الفاعل وإنما المتفاعل مع المكان، ومن خصائص نصوص شعر الرحلة أنها تتوقف عند العجائب والغرائب الفعليّة وليس المتخيّلة، وربما تنجذب إلى الغرائب بسبب الطبيعة الأدبية والشعرية التي تميل إلى المجاز والرمز والإيحاء.ومن أهمّ ما يميّز المكان في شعر الرحلة أنّه يحددّ السياق الزمني للرحلة ونوعه وحجمه ومساحته، وهذا نادرًا ما يكون في غير الرحلة والسفر، فالمكان هنا هو الحيـّز الـذي يسيطر على حركة الشخصية وتوقيتها وسرعتها ويتكيّف الزمن تبعًا لذلك، لذا يختلف الزمن في شعر الرحلة عن الزمن في غيره من الأجناس.

 

المبحث الرابع: المشاهد المكانيّة في قصيدة "السياحة الرخيوتيّة"


نجد عنوان "السياحة الرخيوتيّة" في طبعة  (أوساكا) للديوان، وقد وضعه الشاعر  للنص الذي مطلعه (الكامل) ( ):
هَوّنْ عليكَ فليسَ فـوقَــكَ مـرقــــــــــى  نِلتَ السماءَ فأينَ تَقصـدُ تـــرقـــــى؟!
ويصوّر النص رحلة للشاعر بمعيّة السلطان من صلالة إلى رخيوت عبر سلسلة جبال القمر الشاهقة، ويسيطر ضمير «المخاطب» الذي يقصد به السلطان على السرد منذ بدايته إلى نهايته ولا يظهر السارد بصوته إلا بعد الفراغ من معظم عمليّات السرد، ولعدم استقرار الفضاء المكاني تتبدّل الصور المكانية وتتغيّر باستمرار، ويدفع النص قارئه ليشاهد الصور المكانيّة التي تظهر على طول المحور الزمني للقراءة منذ البداية وحتى النهاية، وكلّما نشأت صورة غطّت على ما قبلها وأفسحت المجال لما بعدها وتجتمع الصور على هيئة مشاهد مكانيّة وتضفي على كل مشهد معناه المحدّد، وتعتمد بنية النص على هذه المشاهد وتتوسع بها، وهي تظهر في القراءة على هذا النحو:
 مشهد التحرّك نحو «رخيوت»


1.  هَـوّنْ عليكَ فليسَ فـوقَــكَ مـرقـــــى          نِلـتَ السماءَ فأينَ تَقصـدُ تـــرقــــى؟!
2.  حَفـّـتْ عليـــــكَ مـنَ السمـاءِ غَـمامـــــةٌ          فــــاربأْ بنفســــكَ عَـلَّ يومكَ تُسْقــى!
3.  وإذا سقتــــكَ غـمـامـةٌ مـن دونــهــــــا          قـــــومٌ ترى قــــــــدْحَ السنابكِ بَـرْقــــا!
4.  خاضـتْ جيـــــادُكَ بـالمـجـــــــرّةِ أبحُـــــــراً          حتّى غــــــــدتْ بيـنَ المجرّةِ غرقـــــــى!
5.  خيّـــمـــــــتَ تحـتَ سمــــاءِ ربّـكَ راقــيــــاً          يكفيكَ مـن شـرفٍ لجــاهــــكَ أبقــى:
6.  أنَّ الـــــــمـــــلائــكَ يحْسـبونـكَ زُرْتَهـــــم          إذْ صــــــرتَ تخترقُ السحــــائبَ خرقـــا
7.  هِمَـــمٌ تُريــــــــكَ النـجمَ تحتـــكَ منـــزلاً          والشمسَ أدنـى من جيـادكَ سبْقَــــا!
8.  مـــــا ســـــارَ سيــــرَكَ ذوالسيــادةِ تُبَّـــعٌ          أبـداً ولا كِســـــــرى المملّكِ أتـــْقـــى
9.  فأتيـتَ تَخْتـرِقُ السـحــــــــائبَ بعـدمـــــــا          شَقّـــــتْ سَوابِقُــكَ المَهامِهَ شـــقَّـــا
10.  سـافــــــــرْتَ تنْتَهـــبُ الفدافِـدَ طـالبـــــاً          «رَخْيوتَ» إذْ طارتْ لوصـلكَ شوقــا
11.  فطَفِقتَ تقطـعُ وَعْـرَها وسُهـولَهـــــا          تَعــــــــلو السّمـا غرباً، وتنزلُ شرقـا!

يبدأ مشهد التحرّك نحو «رخيوت» في البيت (1) وتنشأ من الإشارات المكانيّة التي تدل على العلو: «فوق» و«مرقى» و«السماء» و«ترقى»، صورة مكانية لا تكتمل لأن بنية السؤال «فأين تقصد ترقى؟» تحيل القارئ إلى البيت (2) ليرى المخاطب - وهو يستعد للتحرّك - تحوطه غمامة، كما يظهر العلوّ المكانيّ للمخاطب في البيت (3) حين تجعله الصورة قريبًا من «الغمامة» بعيدًا عن «قوم ترى قدح السنابك برقا»، والتباين المكاني بين الموقعين يوجد تباينًا بين الحركة والعتمة في الأعلى والثبات والإضاءة في الأدنى، لكنّ أبعاد الصورة المكانيّة لا تظهر إلا في البيت (4) حيث تجعل تحوّل المكان بين «الأبحر» و«المجرّة» في مقابل تحوّل الحركة من «خاضت» إلى «غدت غرقى»! وبذلك تتحول الأمكنة الأرضية إلى أمكنة سماوية وتثبت المشهد في الأعلى. وينتقل القارئ في البيت (5) إلى صور جديدة ليكمل بناء المشهد المكانيّ فيرى المخاطب في الصورة المكانيّة الجديدة وهو يقوم بفعل مكاني «يخيّم» تحت «سماء ربّه»، وحيث أن كل السموات للرب فإن إشارة «سماء» تدل على فضاء مكانيّ لا يصله الإنسان العادي، ويجد القارئ نفسه مطالباً بربط العلامات النصية فيندفع مواصلاً القراءة ليرى أن المشهد المكاني يمتد إلى البيتين (6) و(7) لكن تطور بناء المشهد يتعطل في البيت (8) لأن النص ينتزع القارئ من بنية التصوير إلى بنية المديح، ومع ذلك القارئ يعود ليندمج في المشهد بالتركيز على السير «مـا سـارَ سيـركَ»، ويتابع القارئ في البيت (9) المخاطب في صورة مكانيّة جديدة وهو يمتطي السوابق ويخترق السحائب ليتفاجأ بـأن الأمكنة المذكورة مؤقتة لأن المشهد يتمدّد في البيتين (10) و(11) بالإشارة إلى الأمكنة التي اجتازها أو سيجتازها «المخاطب» في الطريق إلى «رخيوت»: «سـافرْتَ تنْتَهـبُ الفدافِـدَ طـالباً رَخْيوتَ..فطَفِقتَ تقطـعُ وَعْـرَها وسُهـولَها» وهكذا تتصل الصورة المكانيّة الحركية في البيت (10) بالزمنين الماضي والمستقبل لتعود في البيت(11) إلى الحاضر وقد امتدّت حركة المخاطب لتشمل الأرض والسماء، ففي الأرض أصبح «يقطع وعرها وسهولها»، وفي السماء «يعلو غرباً وينزل شرقا»، ويتمكن القارئ بملكاته التصويرية من رصد الحركة فوق الجبال والمرتفعات بالصعود الرأسي أو الأفقي وتغير الجهات بفعل المنحنيات والتغلب عل العقبات الشاهقة بالالتفاف حول الجبال، ولا تقتصر الحركة على الحركة المكانية فقط، بل يرصد القارئ أيضًا حركة ضوئية حيث يتغير الوضع الضوئي من العتمة «عندما تسد الجبال مطلع الشمس» إلى الضياء «عندما يتسرب ضوء الشمس من المنافذ الجبلية»، وبذلك يكتمل مشهد التحرّك نحو «رخيوت».

 مشهد «عوقد»
12. فبـ«عَوْقَدٍ» عَقَـدَ الكتائبُ قسْطـــلاً         سُحُباً نُصبْنَ إلى الكواكبِ طُرْقَــــى
13. فظللتَ فيها ســائراً و الرّكبُ فـي         أثَـــــرِ الصــــــواهلِ يَقْتَفونـكَ عَنْـقـــا

يبدأ مشهد «عوقد» في البيت (12) بصورة مكانيّة للكتائب عند استعدادها للانطلاق، ويظهر المكان غائمًا لأن جموع الجند حرّكت الغبار ليكوّن سحبًا غطّت الأفق، وتتحول هذه السحب في الصورة إلى طرق للكواكب، وبذلك تتوسع الحركة في مساحة شاسعة تمتد من الأرض إلى السماء، ويتصل امتداد المكان في البيت (13) بسير المخاطَب «فظللت فيها سائراً» حيث يتميز عن السائرين بالسرعة «يقتفونك عَنقا»، وباشتداد السرعة تتقلص المساحة الضوئية وعند ذلك يتقلص المكان فيصل المشهد إلى نهايته.

 مشهد «مفتلكوت»


14.  حتّـــــى إذا بردَ النّهـارُ وأطرَقـَـــتْ    شمسُ الظهيــرةِ للتَّـغَيـُّبِ طرقــا
15.  ألقيـــــــتَ رَحْـلَكَ للمَبيتِ وطُنِّبـتْ     خِيَـمٌ حَدَقْـنَ بها المكــارمُ حَدْقــا!
16.  بِتْنـــا بِـ«مَفْتَلْكوتَ» تَعْلِكُ خيـلـُنـا     لُجُمـاً ويسْحقـنَ الحِجـارةَ سَحْـقــا
17.  والقـــومُ بالتكـبيرِ تُعْلِـنُ والظُّـبـا     مسلولـــــةٌ والركـبُ يَحْنـَقُ حَنـْقَــا
18.  وَدَنـا الصّبـاحُ فهبّتِ الرُّكبانُ مـنْ    وَهـدٍ تسيـرُ على الرَّكـائبِ عَنْقَــــا

يبدأ هذا المشهد الليلي بالبيت (14) وينتهي في البيت (18)، ويتكوّن المشهد المكاني من صور الاطّراح «للمبيت»، وتطنيب «الخيم»، والنوم المقتضب «بتنا»، وتوتر الخيل «تعلك خيلنا لجماً ويسحقنَ الحجارة»، والنشاط الصوتي «بالتكبير»، والنشاط الحركي «الظّبا مسلولة»، والتلاحم «الركب يحنق حنقا»، والتحوّل الزمني «ودنا الصباح»، وبهذا التحوّل ينتهي المشهد بحركة مفاجئة «فهبّت الرّكبان»، لينتقل القارئ إلى المشهد الآخر.

 

 مشهد «المغسيل»


19.  فأقَلْتَ بـ«المَغْسِيلِ» يَنبـِطُ مـاؤهـا     كالبـحرِ يَدْفـقُ بالأبـاطِحِ دَفْـقَــا
20.  فأقمْـــــتَ فرضَ الظّـهرِ ثمَّ رَحَلْتَهـا    كالطيـرِ تعتَنِـقُ الفدافِــدَ عَنْـقــا

يبدأ هذا المشهد المكاني في البيت (19) وينتهي في البيت (20) وتسيطر الحركة في المكان على مجمل المشهد، وتنشأ الصورة المكانية من القيلولة بالمغسيل: « فأقَلْتَ بـالمَغْسِيلِ»، وعندما تتوقّف حركة البشر بلفظة «أقلتَ» فإن الصورة المكانيّة تنقل القارئ ليرى حركة نوافير الماء، وهي تربط بين النوافير والبحر بـ«كاف المشابهة» لتصوّر الحركة المائية للبحر، ومن ترديد النظر بين المكانين (النوافير والبحر) يدرك القارئ أن علاقتهما هي علاقة سبب بنتيجة، فقد نحتت الأمواج العاتية الجزء السفلي للمسطّح الجبلي وشقّت به فجوات إلى الأعلى، وعندما ترتطم أمواج البحر بأسفل الجبل ترتفع المياه من الثقوب الصخرية على هيئة نوافير، وفي لحظة حركة مياه النوافير إلى أسفل ترتطم الأمواج من جديد بقاع الجبل لترتفع النوافير مرة أخرى، وهكذا تستمر الحركة المائية في المكان على المستويين الأفقي والعمودي، وتتغيّر حركة البشر في المكان عند حلول الظهر بالفعل «فأقمت» بما يتسق مع المعايير الإيديولوجية لأداء «فرض الظهر»، وبجمع العناصر المكانيّة والشخوص يكمل القارئ هذه الصورة لينتقل إلى صورة مكانيّة حركيّة تبعثها اللازمة «ثم رحلتَها»، وبهذا يأخذ القارئ الصورة الحركية السريعة من الجملة التشبيهية «كالطير تعتنقُ الفدافد عنقا» ليزرعها في المساحة الدلالة الضئيلة للفظة «رحلتها»، وبذلك يكوّن صورة حركية تشمل الأرض والجو ويتضح له البعد المكاني ويكتمل المشهد.

 مشهد «جمجوم»


21.  فبــــدوتَ من «جَمْجومَ» تسمــو    صادِراً دَرَجَاتِها أفْـقاً وتـقـطـعُ أفْـقـا!
22.  فتـــرى المُقـدَّمَ كالخيـالِ  بكفّـهِ     ينتاشُ مـــنْ «عينِ الحَميئــةِ» وَدْقـا
23.  فنَزَلـتَ فيـها والنّفوسُ زَواهِـقٌ    يخْشـــــــــونَ من وطـءِ الرّكائـبِ زَلْقـا!

يبدأ هذا المشهد في البيت (21) لينتهي في البيت (23)، وتوجّه المعطيات المكانيّة القارئ ليصوّر الحركة الثقيلة للركب عند الصعود إلى «جمجوم» وهو موضع مرتفع في سلسلة جبال القمر، ولم يعبّر النص عن الصعود بالفعل «تصعد» بل بالفعل «تسمو» ليجعل القارئ يدرك الوضع العمودي للحركة الثقيلة، لذلك تحوّل الطريق إلى «درجات» وتحوّلت الجبال إلى «آفاق» وتحوّلت الشخوص إلى «خيالات»، ولصعوبة الوضع يضطر النص –في لحظة الحقيقة- إلى إغفال الشخصية الأساسيّة بتحويل القارئ ليرى «مقدّمَ» الجند «كالخيال» حتى يتصوّر الأبعاد الضبابية للمكان، وعند وصول «المقدم» إلى «عين الحميئة» في «جمجوم» يركّز القارئ على علو المكان وحركة جمع الماء بالكف «ينتاش من عين الحميئة ودقا»، وعندما يظهر المخاطب في المكان باللازمة «فنزلت فيها» ينقطع مسار الحركة وتطغى على المشهد صورة الإنهاك والإعياء للشخوص بسبب ارتفاع المكان وصعوبته وبذلك يكتمل المشهد.

  مشهد «وادي عقول»


24.  تنحـطُّ مــــــــــن فَـلكِ السمـاءِ كأنّهـا      شُــــــهُبٌ تَخِرّ من الكواكـبِ صَعْقَــا!
25.  فَنَصَبْـتَ في «وادي عُقُولَ» مُخيَّمــاً      كالسُّحْبِ أبيضَ ما يكـونُ وأنقـــى
يبدأ مشهد «وادي عقول» بلحظة النزول من أعلى «جمجوم»، وتدل الكوامن الدلاليّة للبيتين (24-25) على بدء الحركة في منتصف النهار وانتهائها ليلاً، ويتمكّن من تصوّر «الركائب» وهي «تنحطّ من فلك السماء» على خلفية صورة «شهب تخرّ من الكواكب صعقا»، ويتيح اتصال الأمكنة في الصورتين للقارئ أن ينتقل ليصوّر «مهبط» و«مستقرّ» الشهب والركائب، وبينما لا يجد ذكراً لـمهبط «الشهب» فإنه يجد أن «الركائب» استقرّت في «وادي عقول»، وبتوقف «الحركة» وحلول «الليل» يلاحظ القارئ صورة الخيام «النائمة» في أحضان الوادي المرتفع، ولأن الصورة التشبيهية تمثل-هنا- مرجعية جمالية للصورة المكانيّة فإن القارئ يربط صورة «الخيام البيضاء في قاع الوادي» بصورة «السحب البيضاء فوق الوادي»، ويثبّت هذا الانعكاس ملامح «العلو» و«البياض» و«المساحات الفاصلة» و«المساحات المتداخلة» ويحفظ للصورة –في الوقت نفسه- «قابلية الحركة» التي ستبدأ عند حلول النهار، وعلى هذا الوضع يتضح هذا المشهد لينتقل القارئ إلى مشهد جديد.

 مشهد «قِيشان»


26.  ثــــمَّ ابتــــــدرتَ مـن الصّباحِ مُيمِّـمــاً    «قِيشَــــانَ» أقربَ للنجـومِ وأرقــى!
27.  فَعَلوتَـها والشمـسُ تَرْمـقُ عينُهــا     فرأتكَ أعـظمَ في المكارمِ خَلْـقــا!
28.  فسمـــوتَ ذِروَتَـها لِتَنْتَـاشَ السُّهـــا    والقـومُ قدْ مـلأوا بِفَخْـرِكَ شِدْقــا

يبدأ هذا المشهد بالبيت (26) لينتهي في البيت (28)، وتشير الدلالة إلى ابتداء الصعود نحو «قيشان» في الصباح الباكر والوصول إليها قبل غروب الشمس، والمرجّح أنها كانت-أيضاً- مركزاً للمبيت حيث أشار النص إلى قرب المخاطَب من نجم «السّها» أحد أبعد النجوم عن الأرض. ويتمكن النص من شحذ مخيلة القارئ ليكوّن الصور المكانيّة لهذا المشهد بما يتناسب مع الحدث المثير، وفي الحقيقة فإن القارئ لا يجد تفصيلاً في وصفِ حركة الصعود إلى «قيشان» بسبب أن النص لم يكن باستطاعته تصوير الحركة بأي لفظ كان، ومن ذكاء الشاعر في نصه أن ركّز على نتائج الحركة وليس على وسائلها أو كيفيتها، ولهذا لم يكد النص أن يقول «ميمّماً قيشانَ» حتّى قال «فَعلوتَها»، فعل ذلك لأنه يدرك أن النقص الحاد في التعبير لا يمكن تلافيه إلا بتصوّرات القارئ، فالوصف المكاني «قيشان أقرب للنجوم وأرقى» يتحوّل في ذهن القارئ إلى سيلٍ من الصور التي تتعلق بـ«علو» قيشان و«مجاورتها» للنجوم و«ارتفاعها» ومقدار الجهد الذي بذل للوصول إليها وصور أخرى للمعاناة والصبر والحيَل والأماكن التي تم قطعها في أثناء الصعود، وهذا كله –بطبيعة الحال- يتم تصويره لونيّاً في مقابل الصورة اللونية لـ«قيشان» وهي معلقة بالسماء وسط النجوم، وعندما يقول النص «فعلوتها» فإنه –بذلك- يحشر كل الصور المفترضة والسابقة في نتيجة «فعلوتها» ليكتسح خيال القارئ كل الفراغات الدلاليّة التي نتجت عن قلّة حيلة النص، ويدرك القارئ أيضاً أن سبب إسناد الفعل «علوتها» إلى المخاطب هو حاجة هذا الكائن لما يثبت وصوله وتحقيقه لصفة «العلو». ولهذا فإن النص يربط مقابلة «الشمس» للمخَاطب بوصوله إلى «قيشان»: «فرأتكَ أعظمَ في المكارمِ خَلْقا»، وبناءً على ذلك يتصوّر القارئ مقابلة الشمس للمخاطب بأنها مقابلة المضيف للضيف أو مقابلة المالك للزائر، ولأن وصول المخاطب كان مستبعداً قياساً على غيره فإن إنجازه أثار تعجّب الشمس فرأته أعظم في المكارم من غيره، ولمّا ارتقى المخاطب إلى «الشمس» جعله النص يحاول لمس «السّها»، ومع أن النص رّتب ارتفاع الأمكنة على هيئة درجات جامدة كدرجات السلّم إلا أن القارئ يقرأها على هيئة صور تلتحم بما قبلها وما بعدها ليتكوّن المشهد، وهكذا يستطيع القارئ أن يشاهد الأمكنة وما يجري فيها ليكتشف المشهد.
 

 مشهد «التّهائم»


29.  فَحَـدرتَ منهـا والسمـاءُ بغِبْطــــةٍ     والجـنُّ منْ فــــــــــرحٍ تُصَـفِّقُ صَفْقــــا
30.  لمّا رأتْـكَ تَحُـثُّ رَكْبَــــــــكَ نَحوَهـــــا     وتَؤمُّ مـــــن «أرضِ التَّهائمِ» عُـمْقـــا
31.  ظنـَّتـْكَ منْ طـربٍ تَؤمُّ رِحـابَهــــــــــا     فتنـــــــالَ مـــــــنْ أسْـرِ التَّمـلُّكِ عِتْـقَــا
32.  فَغَدَتْ بـكَ الخيلُ الجِيادُ عَواصِـفــاً    كالرّيحِ تَخْفِقُ في السَّباسِبِ خَفْـقَــا!

يبدأ هذا المشهد بالنزول من «قيشان» في البيت(29) وينتهي في البيت (32) عند مغادرة «التّهائم» إلى «الصبارة»، وباستقراء النص يصل القارئ إلى أن الصور المكانيّة الحركية للمشهد ابتدأت قبل طلوع الفجر وانتهت ظهراً، ومن معطيات النص يتصوّر القارئ نزول المخاطب ومرافقيه بعد أن أسعدَ السماءَ بزيارته «فحدرت منها والسماء بغبطةٍ»، وبذلك تتحرك الصور على منحدرات الجبال وحول المنعطفات وفوق الجروف والشعاب وصولاً إلى الأعماق، وترتبط بالأنماط المكانية للصوّرة سلوكيات «الجن» التي تسكن تلك الأعماق، و يملي النص على القارئ النتائج المترتبة على وصول المخاطب إلى تلك الأمكنة، حيث تصفّق الجنّ فرحًا «والجن من فرحٍ تصفّق صفقا»، ويسرع المخاطب ومرافقوه في الصعود من القيعان إلى الأعالي حيث تتسارع وتيرة الحركة عند ارتفاع النهار فتتحول «الجياد» إلى «عواصف» و«الجبال» إلى «سباسب» و«الركض» إلى «خفقان»، وعندما تصل الصورة الحركية إلى ذروة السرعة يتفاجأ القارئ بتوقف الحركة وعدول «الركب» إلى الراحة، وبذلك يكتمل المشهد ويبدأ مشهد جديد.

 

 مشهد «الصبارة»


33.  فأرحْتَ عِيسَكَ بـ«الصُّبارةِ» تبتغي    ترويحَ قـومٍ أُرهِقوا بـكَ رَهْـقـــا

يختصر النص مساحة هذا المشهد الذي تكوّن عند الظهر في بيت واحد هو (33)، وتجعل المعطيات النصية القارئ يرى «العيس» و«القوم» مستلقين في المكان على صورة بالغة من الإعياء والتعب، مما يجمّد عمليات التصوير وتسيطر الحالة «الساكنة» على المشهد بأكمله.

 

 مشهد «مداحق»


34.  فأطَـرْتَها رَهَـجَاً تُحلّقُ في الـهوا      تبغي «مداحقَ» للمبيتِ مُـحــقّــا
35.  فحللتَـها كالبـدرِ فـي مَلَكــوتِــــــهِ      دارتْ عليــــــكَ عُيــونُ جُنْدِكَ زُرْقـــا


يبدأ هذا المشهد بلحظة مغادرة الصبارة في البيت (34) وينتهي مساء ذلك اليوم في البيت(35)، ولا يكاد القارئ يقرأ البيتين حتى يتصور مقدار الجهد والسرعة التي بذلها الرحل في قطع المسافة إلى «مداحق»، وبدلاً من المشي أو الركض تمارس الخيول حركة من نوع آخر هي الطيران والتحليق «فأطرتها رَهَجَاً تُحلِّقُ في الهوا»، وانتقال «الخيول» إلى الجو بما تحمله يتناسب مع المسافة الجغرافية الصعبة التي تسعى لقطعها، وقد تغيرت الصورة المكانيّة الحركية عند الوصول إلى صورة مكانيّة ضوئية وكان ذلك مؤذناً بتغير الوقت من النهار إلى الليل، وفي الصورة الجديدة نرى المخاطب يمثل صورة القمر عند اكتماله «البدر» بينما مثلّ «الجند» صورة النجوم البعيدة، وبهذه الصورة يكتمل المشهد المكانيّ لينتقل القارئ إلى مشهد جديد.

 مشهد «امجدروت»


36.  فَقَصَدْتَ «امَجْدَرَوتَ» ترْهق ظلَّها    كيما تـُقيـلَ بها وتَرْتـقُ فَـتـْقَــــا

يبدأ هذا المشهد في البيت (36)، وتقلّص قلة المعطيات النصية مساحة الصورة المكانية بأبعادها الحركية، فالحركة لا تكاد تبدأ بلازمة «فقصدت» حتى تنتهي بلازمة «تقيل بها»، أما صورة المكان «امجدروت» فهي أكثر إيجابية من المواضع الجبلية السابقة، إذ تبدو فيه الأشجار ذات الظلال الوارفة مما جعله مقيلاً للرحل، وبهذه اللقطة ينتهي المشهد.

 مشهد «وادي شق»


37.  شاهدْتَ بعدَ العصرِ أفْـقَ مَشـاهِدٍ    فَـــــأدَرتَ عَزْمــــــَكَ أنْ تُيممَ «شِــقّــا»
38.  فأنخْتَها قُلُصاً حَنايا طـُـلـّـُحــاً    مثلَ القِسِيْ سـودَ المحـادِقِ وُرْقـــا
39.  تتخلّـلُ الغِيطـانَ  بيـنَ حدائــــقٍ    يَمْرُقْنَ في ضِيقِ المسـالِكِ مـَرْقــــا

يبدأ مشهد وادي «شق» في البيت (37) لينتهي بالبيت (39)، أما المساحة الزمنية لهذا المشهد فتمتد من بعد الظهر إلى المساء ومن المرجّح أن ذلك الوادي كان محّلاً لمبيت «الركب»، وتركز الصورة المكانيّة في مجملها على دخول «الجياد» للوادي وخروجها منه، حيث كان يظهر عليها -عند دخول الوادي- الهزال والتعب «فأنختها قُلُصاً حَنايا طلّـحاً»، أمّا عند خروجها فتندمج مع طبيعة المكان فتظهر «تتخللُ الغِيطان بين حدائقٍ، يمرُقنَ في ضيقِ المسالكِ مَرْقَا»، وتبدو الصورة المكانية لـ«وادي شق» على أنّه ضيّق وتكثر فيه المياه والأشجار والغيطان والحدائق، وبهذه الصورة يكتمل المشهد.

 مشهد «عقبة القمر»


40.  ثمَّ انطلقتَ وأنتَ تَسمـكُ صاعـداً    في «عَقْبَةِ القمرِ» المُنيفَـةِ طَلْـقَــا
41.  نافتْ على سَمْكِ السّـحابِ ترفّـعــاً   وَرَسَــــتْ بِقـــــــاعِ الأرضِ تَنْزِلُ عُمْقَـــا

يظهر هذا المشهد في البيتين (40) و(41)، وقد ركّز النص على الوصف المكاني «لعقبة القمر»، فمنظرها المهيب يمتد من قاع الأرض حيث «ترسو» إلى فوق السحاب حيث تعلوه «مترفّعة»، وكان لا بد من اجتياز هذه العقبة للوصول إلى «رخيوت» لأنه لا يوجد طريق آخر إلا البحر الذي تحيط به سلاسل جبال القمر، وعلى «ارتفاع» و«انحدار» المكان تقوم الصورة المكانيّة الحركية بتصوير مشقة «الصعود» وسرعة «الهبوط»، وهذا التضاد كان سبباً للإيجاز الذي لخّص لقطات الوصول إلى «رخيوت» ليكتمل المشهد.


 مشهد الوصول إلى «رَخيوت»


42.  للهِ دارٌ بالسُّـعُـــــــــودِ نزلْتَـــــهـــــــــــــــا!      زَادَتْ بِوصْلِكَ فـــــي البريّةِ وَمْقَـــــا
43.  حَيَّتْكَ لمّـا أنْ نَزَلـــــــــتَ بسُـوحِـهــــــــــــــا      «رَخْيوتُ» والتَزَمتْ لـمُلكِكَ رِقّـــــــــا
44.  لمْ يبـقَ من فـخرِ الكـــــــرامِ بقـيّـــــــــــَةٌ      إلا ونِسْبَتُــــــهــــا لفخــــركَ صِدْقَــــا
45.  فليفخرِ القُـطرُ الــــــــذي بكَ فَخْــــــــرُهُ      إذْ بالقيــــــادِ لطــــوعِ كفِّـكَ ألـقَــى!
46.  إنْ طاولتكَ ملــــــوكُ عَصْرِكَ رِفْعَــــــــــةً      يا ابنَ الملـوكِ فأنتَ أطـولُ عُنْقَــــا
47.  طِيبي«ظُفارُ» فذا أوانُكِ فافـخــــــــري      بأبي سعيــــــدٍ، إنَّ فَـخْــرَكِ أبْـقَـــى!
48.  قامتْ سُعُودُكِ فاستَقِيـمي للعُــــــلى      فيـــدُ المليكِ تَجـسُّ هامـَكِ رِفْـقَـــا
49.  ثـمَّ اسْتَفيضـي منْ يَديْــــــهِ فإنّـــــــــــَهُ      أوفـــى البريـةِ في العَـطـيَّةِ رِزْقَــــا
50.  وإليـكَ، يـــــا ابنَ الأكرمينَ، قلائـــــــــداً      يَفْـلُقـــــــْنَ هامـاتِ المدائـحِ فَـلْقــــَا
51.  قلّـدنَ جيـدَ الدّهرِ منــــــــــكَ مَفاخــــــراً      طَــــــارتْ بها فوقَ الكواكـبِ عَنْقَـــا
52.  أرْسَلتـُها بيضـاءَ تَسْحــــــــرُ للنُّهــــــــى      حَدَقــــتْ إلى غُررِ المَفـاخرِ حَـدْقَـــــــا
53.  في القعدةِ الشَّهرِ الحـرامِ تشرَّفــــتْ     «رَخْيوتُ» إذْ رَسخــــتْ بوصلِكَ عِرْقَــا
54.  أرّختُ إذْ بـ «ظفار» قــــــامَ بعدلــــــــــهِ      ملــــكٌ و َلـي وِفْـرُ المحاسـنِ خَلْقَـــا

على عكس المتوقّع، لم يغط النص مشهد الوصول إلى «رخيوت» إلا في بيتين: (42) و(43)، ولم يظهر هذان البيتان للقارئ جمال «رخيوت» لأن النص توجّه فيهما للاهتمام بالمخاطب، وظهرت «رخيوت» على أنها سعيدة بوصول المخاطب وأنها استحقت التهنئة على ذلك: «لله دارٌ بالسعود..»، وفي البيت التالي يرى القارئ أن العلاقة بين «رخيوت» والمخاطب هي علاقة التابع بمتبوعه وكان هذا الوضع كفيلاً بإحباط القارئ الذي يعلم القيمة الجمالية العالية للمدينة التي تمتد على هضبة جبلية تشرف على البحر، ويتحول النص بدءاً من البيت (44) إلى تمجيد المخاطب لنجاحه بالوصول إلى «رخيوت» برّاً، ويشكل هذا البيت مع الأبيات اللاحقة خاتمة للنص الذي ينتهي في البيت(54).

 

المبحث الخامس: أنواع المكان في النص


 المكان الجغرافي: لا يقتصر المكان الجغرافي على التضاريس من سهل وجبل ونهر وبحر، وإنّما "يشـير إلى المشهد أو البنيـة الطبيعيـة أو الاصطناعية التي تعيش فيها الشخصية وتتحـرك وتمـارس وجودها، كما يضـم قطع الأثاث والديكور والأدوات كافة بمختلـف أنواعها واستعمالاتها، كما يشغل الوقت من اليوم وما يترتـب عليـه مـن أضـواء مختلفـة أو ظلمـة، والطقـس بكـل أحوالـه، وتـدخل ضــمن المكــان الأصــوات والــروائح" ( )، ونحن نجد أنّ الأماكن الجغرافيّة تسيطر على معظم المشاهد المكانيّة في النص وأنّها تدلّ على الارتفاع والبعد، ومن ذلك في المشهد الأول «السمـاءِ» و«الغمامة » و«البَـرْق» و«المجرّة»، ومنه في المشهد الثاني«النّهـارُ» و«شمسُ الظهيــرةِ» و «الرَحْـل»،وقد أضفت هذه المفردات نموًّا على المشاهد وجعلت الشخصيّات تتفاعل معها بالأحداث المناسبة.


 المكان المتخيّل: يتجاوز هذا النوع الطبيعة الجغرافيّة إلى "الجانب الحكائي التخيلي للفضاء، أي الدور الحكائي النصي الـذي يقوم به داخل السرد" ( )، وفي هذا النوع يمزج النص الملامح الطبغرافية المعروفة بغير المعروفة لأنه يقصد تقريب الفكرة بالصورة، ومن ذلك قوله في المشهد الأول: «خاضـتْ جيـادُكَ بالمـجرّةِ أبحُــراً حتّى غـدتْ بينَ المجرّةِ غرقـى»، حيث أراد أن يصوّر ظهور الجياد واختفاءها وهي تعبر سلسلة طويلة من الجبال الشاهقة التي تحيط بها من كلّ جانب، فدلّت «خاضت» على الحركة النزّازة بين تقدّم وتأخّر، ودلّت «المجرّة» على البعد والارتفاع، ودلّت «أبحر» على القرب والإحاطة، ودلّت «غرقى» على الاختفاء في الجبال، وهذه هي نتيجة الصورة ولو حذف شيئًا منها لاختفى معنى من المعاني.


 المكان الواقعي: يشير هذا النوع إلى المكان الحقيقي باسمه وصفته، ويتأكد وجوده من "الإحالة المستمرة إلى المكان الحقيقي الواقعي، والذي يكون محدداً بالاسم وله صفات بارزة معروفة" ( ). ويدخل فيه المواضع والبلدات التي اجتازتها شخصيّات النّص من مثل «عَوْقَد» في المشهد الثاني، وهو يقع بالقرب من «صلالة» وقد دلّ على الانبساط والأرض الطينيّة المتربة وكان مركزًا للجند، ومن هذه الأماكن « المَغْسِيل» في المشهد الرابع وقد تميّز بأنه مكان جبلي ساحلي به نوافير طبيعية تنشأ من ضرب الأمواج في تجاويف الجبل ويقع في بداية سلسلة جبال القمر، ومن هذه الأماكن «جَمْجوم» في المشهد الخامس ويصوّره النّص على أنّه موضع جبلي في سلسلة جبال القمر على غاية من الارتفاع، وكذلك « قِيشَان» في المشهد السابع فهو موضع جبلي مرتفع جدّاً أكثر من «جَمْجوم»، وأمّا «الصُّبارة » التي يرد ذكرها في المشهد التاسع فهي مركز على السفح الغربي لسلسلة جبال القمر، ويظهر من ذكرها بعد سلسلة من الأماكن المرتفعة أن المرتحلين توغّلوا في الجبال، واضطرّوا إلى الالتفاف عليها بسبب وعورتها. وقد دلّ ذكر المواضع في المشاهد السابقة على تعلّق الفعل بالمكان وأن المكان هو الأساس الذي بنيت عليه المشاهد.


 المكان الإيجابي: وهو المساعد للشخصيّة، ويسمّى أحيانًا بالمألوف أو الأليف، ويرى Gaston Blasher  (غاستون باشلار) أن" المكـان الأليف هو البيت الـذي ولـدنا فيـه، أي بيـت الطفولـة الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشـكّل فيه خيالنا" ( ) ويندر هذا النوع في النّص وقد وردت في المشهد الأول لفظة «المنزل» لكنّه أراد بها «المنزلة» في قوله  «النّجم تحتـكَ منـزلاً»، ومن هذا النوع «الخيم» التي وردت في المشهد الثالث وهي تدلّ على إلفة مؤقتّة وعلى الراحة بعد تعب.


 المكان السلبي: وهو المضاد للشخصيّة حيث "يُشعر قاطنـه بالغربة الموحشة ولا يسـتطيع أن يأتلف مـع أهلـه ومواطنيـه، ولا تـربطه بهم رابطـة انتمـاء، وحين تحلّ الشخصيّة بينهم فإنما تحـل حلولاً قسرياً وتعامل فيه بازدراء"( )، وليس شرطًا أن تجتمع كل هذه السلبيات في مكان واحد، ومن الأمكنة السلبيّة المكان الخطر أو المخيف، ومن ذلك موضع « مَفْتَلْكوتَ » في المشهد الثالث ويبدو أن المرتحلين باتوا رغمًا عليهم في هذا الموضع المرتفع النائي الموحش وقضوا ليلتهم هم وجيادهم في خوف شديد وهم «يكبّرون الله تعالى» ويسلّون سيوفهم، وكانت الجياد من التوتّر تعلك اللجم وتطرق الحجر بحوافرها « بِتْنا بِـمَفْتَلْكوتَ تَعْلِكُ خيـلـُنا لُجُماً ويسْحقـنَ الحِجـارةَ سَحْـقـا، والقـومُ بالتكـبيرِ تُعْلِـنُ والظُّـبا مسلولـةٌ والركـبُ يَحْنـَقُ حَنـْقَا»، ولم يفصح النص عن سبب الخوف والتوتر لكنّ المتوقّع أن ذلك بسبب الوحوش مثل الفهود والذئاب والضباع التي تسكن المكان.


 المكان المفتوح: من الطبيعي أن تكثر الأماكن المفتوحة في الرحلة البريّة، لذا يمتلئ النص بهذا النوع من الأماكن، ومن ذلك في المشهد الأول «الفدافِـد» وهي جمع «فدفد» وهو الأرض المستوية، ومنه في المشهد الرابع «الأبـاطِح» وهي جمع «أبطح» وهو التلّ الصغير، ومنه في المشهد الثامن «السَّباسِبِ» وهي جمع «سبسب» وهو القَفر، ومنه في المشهد الثاني عشر «الغيطان» وهي جمع «غوط» وهو الروض، ومنه في المشهد الرابع عشر«سوح» وهي جمع «سيح» وهو المرعى.


 المكان المغلق: انصرف النص عن استعمال الأماكن المغلقة وكان ذلك متوقّعًا بسبب انشغاله بتصوير الترحال والتجوال والسفر والانتقال، ومع أنّه وردت لفظة «منزل» في المشهد الأول إلا أن النص استعملها بمعنى «المنزلة» مثلما أشرت عند الحديث عن المكان الأليف، ولا تدل «الخيمة» التي ذكرت في المشهد السادس على المكان المغلق بسبب أنّها مفتوحة من الأسفل.

المبحث السادس: وسائل تصوير المكان في النص


 السرد: تدلّ كلمــة سـرد في المعاجم على معاني الاتساق والتتابع والموالاة والنسج والسبك، يقال فلان يسرد الحديث سرداً إذا تابعه وتابع كلامه دون وقـوف ( )، والسرد هو الطريقة التي تنقل بها القصة أو الحدث إلى المستقبل وتحتكم عناصر السرد إلى التواصل الحادث ما بين السارد والمسرود له عبر القصة أو الحدث ( )، ومع أن الشعر لا يعتمد على السرد إلا أنّه يكثر في شعر الرحلة لأنّه يشبه الحكاية، ويناسب السرد حركة السارد في المكان وتجاوز المواضع وعبور الأمكنة، ويهيمن السارد كليّ العلم على سرد المشاهد في النص، ويركّز على تفاعل شخصية المخاطب مع المكان بصفته صاحب الرحلة، وتظهر صوّر الأماكن وتفاصيلها أثناء عبور المخاطب ورفاقه لها، ويبدأ السرد في النص بقوله في المشهد الأول «نِلتَ السماءَ فأينَ تَقصـدُ ترقـى»، ويتواصل السرد إلى آخر القصيدة بالفعل الماضي المسند إلى ضمائر المخاطب ومن أهمّها «تاء الفاعل للمخاطب» وبإضافة «كاف المخاطب» إلى الأسماء ومن ذلك قوله في المشهد الثاني «ألقيـتَ رَحْـلَكَ» وهكذا إلى آخر القصيدة.


 الوصف: الوصف لغـةً هـو "وضـعك الشـيء بحليته ونعته" ( )، وأمّا اصطلاحاً فهو "خطاب يصف المكان من غير زمن، وهـو كاشف عـن الأشياء ونعوتها"( )، وهو "ذكر الشيء على ما فيه من الأحوال والهيئات، ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبـة من المعاني، كان أحسـنهم مـن أتـى شـعره بـأكثر المعاني الموصـوفة مركّبًا ثم بأظهرها فيه وأولاها حتى يحاكيه ويمثله بنعته" ( )، ومن الوصف وصف مركز المكان ومنه في المشهد الأول «غـدتْ بينَ المجرّةِ»، أو وصف المكان من الخلف ومنه في المشهد الثاني «إثْر الصــواهلِ يَقْتَفونـكَ»، أو وصف المكان من أسفل ومنه في المشهد الأول «تُريـكَ النـجمَ تحتـكَ منـزلاً»، أو وصف المكان من أعلى ومنه في المشهد الأول «مـن دونــها قومٌ ترى قـدْحَ السنابكِ بَـرْقـا»، أو وصف المكان من الشرق أو الغرب ومنه في المشهد الأول «تَعلو السّمـا غرباً، وتنزلُ شرقـا»، ومن هذا النوع ما يدلّ على صفة للمكان من مثل استعمال «طرْقَـى» صفة للشمس في المشهد الثاني، ومنه ما يدلّ على التعلّق من مثل استعمال «ينتاشُ»  وتعني يسوق أو يأخذ برفق للدلالة على تناول الماء المنسكب من عين الماء في «جمجوم» في المشهد الخامس،  ومنه ما يدلّ على الصعود المستمر من مثل قوله «تسمو صادِراً دَرَجَاتِها» في المشهد الخامس، ومنه ما يدلّ على الامتداد الرأسي من مثل قوله «نافتْ على سَمْكِ السّـحابِ ترفّـعاً وَرَسَتْ بِقـاعِ الأرضِ تَنْزِلُ عُمْقَا» في المشهد الثالث عشر .


 اللغة الشاعريّة: يتكوّن المكان أساسًا "من مواد جامدة محايدة شعوريا، ومحايدة جماليًا إذا لم يتـدخل الـوعي والذائقـة التي هي بدورها إحدى إفرازات الوعي لاستشعار الجمال أو تـدخّل العمل البشري على تحسين المكان وتجميله"( ) ، وهذا القول يفسّر كيف يتحوّل المكان في الشعر إلى مصدر للشاعرية حيث يسمح الشعر بتجاوز الطبيعة المحايدة للمكان إلى طبيعة مثاليّة جماليًّا، ونحن نجد من ذلك قول الشاعر في المشهد الأول «خاضـتْ جيـادُكَ بالمـجرّةِ أبحُــراً حتّى غـدتْ بينَ المجرّةِ غرقـى» وقد سبق شرحه، ومنه في المشهد الخامس قوله « فتـرى المُقـدَّمَ كالخيـالِ بكفّـهِ ينتاشُ منْ عينِ الحَميئــةِ وَدْقا»، فعبّر عن ارتفاع الجبل وأنّ السحب تحيط به من خلال المنظر الشاعري لمقدّم الجند وهو مختف بين السحب ويحاول أن يجمع بعض الماء من عين الحميئة، ومنه في المشهد الخامس أيضًا قوله «تنحـطُّ مـن فَـلكِ السمـاءِ» فعبّر عن الهبوط من المكان الأعلى بالانحطاط وهو هبوط الطير، ومنه في المشهد الثامن «فَغَدَتْ بـكَ الخيلُ الجِيادُ عَواصِـفاً كالرّيحِ تَخْفِقُ في السَّباسِبِ خَفْـقَا» فعبّر عن اندفاع الخيل في القفار باندفاع الريح، ومنه في المشهد العاشر «فحللتَـها كالبـدرِ فـي مَلَكــوتِهِ» فعبّر عن احتفاء «رخيوت» بالمخاطب بصورة النجم في مجموعته، ومنه في المشهد الثاني عشر «تتخلّـلُ الغِيطـانَ بيـنَ حدائـقٍ يَمْرُقْنَ في ضِيقِ المسـالِكِ مـَرْقا» فعبّر عن العبور السريع للمكان بالمروق. وكلّ ما ورد في الأمثلة السابقة من تعبير عن المكان أو ما يتصل به كان بصورة غير مباشرة وهذا ما أتاحته اللغة الشاعريّة.


 السلوك:من المتفق عليه أن المكان بإمكانه الكشف عـن "نفسـية البطـل والمساهمة في نمـوّه وتطـوّره، وقــد يكون ســببًا لتغيير حياتــه ووجهات نظره، مما يساعدنا على فهم تصرفات الأبطال وقـراءة نفسـياتهم وطريقـة حياتهم وكيفية تعاملهم مع بيئتهم وأحـداثها"( )، والتصوير بالسلوك هو تصوير غير مباشر للمكان ونجده مثلاً في قوله من المشهد الثالث «والقـومُ بالتكـبيرِ تُعْلِـنُ والظُّـبا مسلولـةٌ والركـبُ يَحْنـَقُ حَنـْقَا» فقد صوّر المكان بأنّه مخيف وموحش من خلال سلوك الشخصيات وارتفاع صوتها بالتكبير وحمل السلاح، ومن ذلك قوله في المشهد الخامس « يخْشونَ من وطـءِ الرّكائـبِ زَلْقا » حيث صوّر المكان بأنّه خطير وفي عبوره مجازفة من خلال تردّد الشخصيات في عبوره.

الخاتمة:


أوضح البحث أن شعر الرحلة يتوفّر في الشعر العماني قديمًا وحديثًا لكنّه لم يدرس بعمق، ومن الذين كتبوا قصيدة الرحلة في العصر الحديث الشاعر أبو الصوفي، لكنّ شعر الرحلة عنده لم يعكس الرحلة الشخصيّة وإنمّا الرحلة الغيريّة.
بيّن البحث أنّ شعر الرحلة يعتمد على السرد لأنه يسمح بالتفصيل والاسترسال وضرب الأمثلة، و‹المكان› هو من أهم العناصر السرديّة في شعر الرحلة وتتجاوز أهميّته فكرة الحدث ليصبح شـرطاً لوجود النص، ويقوم البطل والشخصيّات الأخرى في شعر الرحلة بدور المتفاعل مع المكان الذي يتوقف عند العجائب والغرائب الفعليّة وليس المتخيّلة.
وجد البحث أن البنية في نص "السياحة الرخيوتيّة" تعتمد على تقديم المشاهد المكانيّة وتتوسع بها، وأنّه سيطرت العناصر الجغرافيّة التي دلّت على الارتفاع والبعد على معظم المشاهد المكانيّة في النص، ومزج النص الملامح الطبغرافية المعروفة بغير المعروفة لرغبته في تقريب الفكرة بالصورة، كما انصرف النص عن استعمال الأماكن المغلقة، وقلّت فيه الأماكن المألوفة، واستعمل المكان السلبي المضاد للشخصيّة للدلالة على الخطر والخوف، وتأكّد وجود المكان الواقعي في النص من الإحالة المستمرّة إلى المكان الحقيقي باسمه وصفته، وامتلأ النص بالأماكن المفتوحة.
وصل البحث من خلال التحليل إلى أن النص اعتمد في تصوير المشاهد المكانيّة على السرد الذي ناسب تصوير حركة الشخصيّات وتجاوز المواضع وعبور الأمكنة، وعلى الوصف الذي ملأ النص بأنواع محددة من وصف الأمكنة ومنها وصف للتوسّط وللتقابل وللفوق وللتحت وللأمام وللخلف وللأعلى وللأسفل وللشرق وللغرب، وعلى اللغة الشاعرية التي تحوّل الأمكنة إلى مثاليّة، وعلى تصوير المكان بسلوك الشخصيّة.

المصادر والمراجع:


1. ابن جعفر، قدامة (1978)، نقد الشعر، تحقيق كمال مصطفى، ط3، مكتبة الخانجي، القاهرة.
2. ابن منظور، جمال الدين (د.ت)، لسان العرب، ط1، دار المعارف، القاهرة.
3. أبو الصوفي، سعيد بن مسلم (1982)، ديوان أبي الصوفي، تحقيق حسين نصّار، ط1، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط.
4. أبو الصوفي، الشيخ الورع المحترم سعيد بن مسلم العماني المسقطي (1937)، الشعر العماني المسقطي في القرن الرابع عشر للهجرة النبوية ط1، دار الطباعة الإسلامية العربية، أوساكا.
5. إسماعيل، السيد محمّد (2002)، بناء فضاء المكان في القصّة العربيّة القصيرة، ط1، دائرة الثقافة والإعلام، الإمارات  
6. باشلار، غاستون (1980)، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد.
7. بحراوي، حسن (1990)، بنية الشكل الروائي، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت.
8. بوعزة، محمد (2010)، تحليل النص السردي، ط1، دار الأمان، الرباط.
9. حسين، حسني محمد (1983)، أدب الرحلة عند العرب، ط2، دار الأندلس، بيروت.
10. حليفي، شعيب (2006)، الرحلة في الأدب العربي، ط1، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة. 
11. الخصيبي، محمد بن راشد (1989)، شقائق النعمان، ط2، نشر وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط. 
12. الزبيدي، محمّد مرتضى الحسيني (2007)، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق عبدالمنعم خليل وكريم سيد محمود، ط1، دار الكتب العلميّة، بيروت.
13. السنوسي، محمد (1976)، الرحلة الحجازية، ج 1، تحقيق علي الشنوفي، ط (غ.م)، الشركة التونسية للتوزيع، تونس.
14. الشريف، حبيلة (2011)، مكونات الخطاب السردي، ط1، عالم الكتب الحديث، عمّان.
15. الشوابكة، نوال عبد الرحمن (2008)، أدب الرحلة الأندلسية والمغربية حتى نهاية القرن التاسع الهجري، ط1، دار المأمون، عمّان.
16. صالح، بشرى محمد (1994)، الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت.
17. صالح، صلاح (1997)، قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر، ط1، دار شرقيّات للنشر والتوزيع، القاهرة.
18. الصقلاوي، سعيد (1996)، شعراء عمانيون، ط1، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة. 
19. العبيدي، علي عزيز (2009)، الرواية العربية في البيئة المغلقة، ط1، دار فضاءات، عمّان.
20. علوش، سعيد (1986)، معجم المصطلحات الدبيّة المعاصرة، ط1، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
21. فارس، محمد (2010)، معجم السرديات، ط1، دار الفارابي، بيروت.
22. فهيم، حسين محمد (1989)، أدب الرحلات، عالم المعرفة 138، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
23. قاسم، سيزا (1984)، بناء الرواية، الهيئة المصرية العامة، القاهرة.
24. القواسمة، محمّد عبدالله (2008)، البنية الروائية في رواية الأخدود (مدن الملح) لعبدالرحمن لمنيف، ط1، مكتبة المجمع العربي، الأردن.
25. الكردي، عبدالرحيم (1992)، السرد في الرواية المعاصرة، ط1، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة.
26. لحمداني، حميد (1991)، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ط1، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.
27. المسعودي، أبو الحسين علي بن الحسين (1986)، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ط6، دار الأندلس، بيروت.
28. الموافي، ناصر عبد الرزاق (1995)، الرحلة في الأدب العربي حتى نهاية القرن الرابع، ط1، مكتبة الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة. 
29. نصار، حسين (1991)، أدب الرحلة، ط1، المصريّة العالميّة للنشر، الجيزة.
30. النصير، ياسين (2010)، الرواية والمكان دراسة المكان الروائي، ط2، دار نينوى، دمشق.
31. يقطين، سعيد (1997)، تحليل الخطاب الروائي، ط3، المركز الثقافي العربي، بيروت.

الهوامش:

 

[1] الصقلاوي، شعراء عمانيون، ص:147.

[1] الخصيبي، شقائق النعمان، ج3، ص: 93 (الهامش).

[1]  ديوان أبي الصوفي، ص: 67.

[1]  الخصيبي، شقائق النعمان، ج1، ص: 249. وأيضاً ج3، ص: 185 (متن منظومة بعنوان: التذكار الوطني).

[1] المرجع السابق، ج1، ص: 224.

[1] الصقلاوي، شعراء عمانيون، ص:147.

[1]  نجد ذلك في رسالة السلطان تيمور إليه التي طبعت في الطبعة الحجرية لديوانه عام 1937، ص: 129.

[1] الخصيبي، شقائق النعمان، ج1، ص: 224.

[1] أبوالصوفي، الشعر العماني المسقطي، ص: 2 وما بعدها (بتصرّف).

[1] ديوان أبي الصوفي، ص: 142.

[1] المصدر السابق، ص: 143.

[1] المصدر السابق، ص: 145.

[1] المصدر السابق، ص: 105.

[1] المصدر السابق، ص: 173.

[1] المصدر السابق، ص: 183.

[1] المصدر السابق، ص: 174.

[1] المصدر السابق، ص: 164.

[1] المصدر السابق، ص: 189.

[1] المصدر السابق، ص: 112.

[1] المصدر السابق، ص: 135.

[1] وزن هذا البيت مضطرب جدّاً، ويغاير وزن أبيات المقطوعة.

[1] المصدر السابق، ص: 161.

[1] المصدر السابق، ص: 148.

[1] المصدر السابق، ص: 120.

[1] المصدر السابق، ص: 138.

[1] المصدر السابق، ص: 168.

[1] المصدر السابق، ص: 165.

[1] المصدر السابق، ص: 170.

[1] المصدر السابق، ص: 185.

[1] المصدر السابق، ص: 119.

[1] المصدر السابق، ص: 107.

[1] المصدر السابق، ص: 194.

[1] ابن منظور، لسان العرب، ص 1611

[1] المرجع السابق، ص 1611

[1] الموافي، الرحلة في الأدب العربي، ص 23 .

[1] المرجع السابق، ص 38

[1] حليفي ، الرحلة في الأدب العربي، ص : 7.

[1] فهيم، أدب الرحلات، ص 15.

[1] السنوسي، الرحلة الحجازية، ص 45.

[1] المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج 1 ،ص 3.

[1] صالح، الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث، ص3

[1] الشوابكة، أدب الرحلة الأندلسية والمغربية، ص 30

[1] نصار، أدب الرحلة، ص 1

[1] حسين، أدب الرحلة عند العرب، ص 8.

[1] يقطين، تحليل الخطاب، ص 46.

[1] ابن منظور، لسان العرب، مادة (ك.و.ن.)، ص 3959 

[1] المصدر السابق، مادة (م.ك ن.) ص 4250

[1] الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، ص 94. 

[1] باشلار، جماليات المكان، ص 179

[1] المرجع السابق، ص 180

[1] سيزا، بناء الرواية، الهيئة المصرية العامة، القاهرة، ص 83

[1] لحمداني، بنية النص السردي من منظور النقد األدبي62-66

[1] بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص 30

[1] النصير، الرواية والمكان دراسة المكان الروائي، ص 70

[1] فارس، معجم السرديات، ص 270

[1] بحراوي، بنية الشكل الروائي، ص 30

[1] القواسمة، البنية الروائية، ص 101

[1] ديوان أبي الصوفي، ص: 161.

[1] صالح، قضايا المكان الروائي، ص 50

[1] بوعزة، تحليل النص السردي، ص 100

[1] إسماعيل، بناء فضاء المكان، ص 20

[1]  باشلار، جماليات المكان، ص 6

[1] العبيدي، الرواية العربية في البيئة المغلقة، ص 240

[1] الكردي، السرد في الرواية المعاصرة، ص 100

[1] بوعزّة: تحليل النص السردي، ص: 71.

[1] ابن منظور، لسان العرب، مادة (و.ص.ف)

[1] علوش، معجم المصطلحات الأدبيّة، ص 228

[1] ابن جعفر، نقد الشعر، ص 70

[1] صالح، قضايا المكان الروائي، ص 250

[1]  الشريف، مكونات الخطاب السردي، ص 45