تجليات اللون في رواية (لأني أسود) لسعداء الدعاس

الباحث المراسلعلي بن خزام المعمري وزارة التربية والتعليم

تاريخ تسليم البحث :2023-04-18
تاريخ تسليم البحث :2023-04-25
تاريخ قبول البحث :2023-04-29
تاريخ نشر البحث :2024-02-28
الإحالة إلى هذه المقالة   |   إحصائيات   |   شارك  |   تحميل المقال

 

تجليات اللون في رواية "لأني أسود" لسعداء الدعاس

 

 

علي بن خزام بن مسعود المعمري، رئيس مركز التدريب بمحافظة شمال الباطنة التابع للمعهد التخصصي للتدريب المهني للمعلمين، وزارة التربية والتعليم

 

طالب دكتوراه في جامعة منوبة – الجمهورية التونسية

 

 

     الملخص:

      يهدف هذا البحث إلى الكشف عن تجليات اللون في رواية "لأني أسود" للكاتبة سعداء الدعاس، من خلال محورين هما: النص الموازي، والاستهلال السردي للرواية؛ ليكشف إلى أي مدى استطاعت الكاتبة سعداء الدعاس توظيف هذين المحورين لخدمة الثيمة الأساسية لروايتها المتمظهرة في تمثلات الجسد بصفته علامة عرقية، وقد اتبع الباحث طريقة المنهج الوصفي التحليلي مستعينا بما أنتجته الدراسات السيميائية مـن أدوات وآليـات للكشـف عن الدلالات الإيحائية وتأويلاتها في ميدان علم النقد الحديث، مع الاستفادة من الأدوات التـي أفرزتهـا الدراسـات السرديـة الحديثـة، وأهم نتيجة توصل إليها الباحث في هذه الدراسة أن النص الموازي يحمل دلالة عميقة لمضمون النص المتني الذي يناقش التمييز العرقي بتمايز لوني في الغلاف، فالأسود قد استحوذ على الغلاف، ولم يترك مجالا للون الأبيض إلا لبروز لونه الأسود، ومن طريف إخراج هذه الرواية أن كلمة أسود كتبت بلون أبيض، وكأن الأخير هو من أبرز الأسود، كما يبرز الاستهلال السردي إشكاليات الأنا والآخر من خلال طرح أسئلة بلا إجابات، توحي بأن الحوار بينهما مفقود، أو أنه حوار من طرف واحد فقط، ويوصي الباحث بمزيد من الدراسات العميقة حول أهمية النص الموازي والاستهلال السردي وانعكاسه على الثيمة الأساسية للرواية.

 

الكلمات المفتاحية: اللون، النص الموازي، الاستهلال السردي، تجليات، رواية لأني أسود.

 

 

Manifestations of colour in the novel “Because I am Black” by Su’ada ad-Da’as

 

Ali Khuzam Masood Almamari

 

Head of the Training Center in North Al Batinah Governorate

Affiliated to the specialized institute for vocational training for teachers Ministry of Education

 

alikhuzaam@gmail.com

 

Abstract:

 

This study aims to shed the light on the manifestations of colour in a novel entitled as “Because I am Black” written by Saa’daa Al Da’as through two axes which are: the parallel text and the narrative inception. In more depth, it is expected to lead us to discover the extent of employing the above-mentioned axes to serve the main theme of the novel which is apparent in the representations of the body as a sign of race.

 

The researcher has applied a descriptive analysis methodology based on two main resources. The first one is what semiotic previous literature produced including tools, mechanisms of discovering suggestive significance, their interpretations in the field of modern criticism science. The second one is the benefits provided by the tools produced by the narrative modern literature.

 

The main finding of this study is that the parallel text has a deep significance for the content of the body text which discusses race discrimination as a colour differentiation apparent in the cover page of the novel to a degree that does not manifest the white colour of the cover page without the presence of its black colour. The second finding is that the narrative initiation shows some problematic issues of the concepts of “the self” and “the other” through asking questions without answers.

 

As a recommendation, the researcher suggests dedicating more study on the importance of the parallel text, the narrative initiation, and their reflection on the main theme of the novel. 

 

 

Key words: 

Color, the parallel text, the narrative initiation, manifestations.

 

 

 المقدمة:     

      كان ومازال لون البشرة ثيمة أساسية في العمل الروائي العالمي والعربي على حد سواء، ولقد فرض نفسه على ثيمات الرواية بحكم الطبيعة البشرية القائمة على تعدد ألوان البشرة من ناحية، ووجود تابوهات محظورة في تلك المجتمعات من ناحية أخرى حاول الروائيون اقتحام أسوارها، وإخراجها من تلك العزلة من أجل تسليط الأضواء على تمثلات الجسد بصفته علامة عرقية تستند على إشكالية ثنائية قائمة على "أفعل التفضيل"، أي بين الفضل والأفضل، وبين السامي والأسمى، وما يدور في فلكها، فعندما نضع أنفسنا في مقارنة مع الآخر يبرز العرق الآري مقابل السامي، والأفريقي الأسود مقابل الأوروبي الأبيض، وابن البلد الأصيل مقابل البدون، عندها تؤثر هذه المقارنة في مدى تقبل الآخر من عدمه، عندها تظهر -في حالة عدم التقبل- العنصرية المقيتة.

        ونجد على الصعيد الخليجي -مثلا-  اشتغال الروائيين الخليجيين والنقاد على الجسد بصفته علامة عرقية اعترافا منهم بوجودها في المجتمع الخليجي أولا، ثم اتخاذ موقف حيالها اتسم بمحاربتها ونبذها، فقد أوضح حسن النعمي (جريدة الشرق الأوسط، 2020، العدد 5181) أن الربط بين الرواية والخطاب العنصري يأتي في سياق العلاقة الجدلية بين الرواية والمجتمع، فالرواية -حسب تعبيره- هي العين الناقدة والنافذة في طبقات المجتمع، وليست مجرد نص للتوثيق والتأريخ، وهنا تبرز أهمية الرواية في معالجة القضايا المجتمعية، ونظرة الناقد الخليجي لرسالة العمل الروائي القائمة على نظرية الفن للمجتمع التي تتمثل في أن الأدب عامة والرواية خاصة لها أهداف اجتماعية وأخلاقية تسعى من ورائها إلى التعبير عن قضايا المجتمع وتبني مثله العليا، وتعمل على تهذيب النفس وتطوير المجتمع للأفضل.

         ومن الروايات التي اشتغلت على هذه الثيمة رواية "لأني أسود" للكاتبة الكويتية سعداء الدعاس، وعنوان الرواية يشي بمضمون الرواية ويجيب عن عدة تساؤلات تتعلق بنظرة المجتمع لأصحاب البشرة السوداء، ويأتي السرد على لسان رجل أسود في مجتمع ينظر لهذا اللون نظرة دونية، وكأنها رسالة مبطنة بقيمة هذا الرجل الأسود.

      تدور أحداث الرواية عن فتاة أمريكية اسمها (جوان) تعاني من التمييز العنصري في بلادها، فتقع في حب شاب كويتي (فوزي) ذي البشرة السوداء الذي قدم لأمريكا للدراسة، ورغم رفض أسرته زواجه منها إلا أن هذه العلاقة توجت بالزواج، بل أفضت عن ولادة الابن (جمال)، ثم توفي فوزي، وعادت الأم لأمريكا لتكتشف سر زوجها الذي هو الآخر كان يمارس التمييز الطائفي ضد أخته عندما رفض زواجها من حبيبها الشيعي، وليواجه الابن (جمال) المصير ذاته من التمييز العنصري عندما رفضت أسرة كويتية زواجه من ابنتهم؛ ليكون التعليل والمسوغ ذاته: لأني أسود.

       تثير هذه الرواية إشكاليات التمييز العنصري المتمثل في اللون الأسود في مجتمع مسلم ينبذ هذا التمييز، ويدعو للتسامح مع الآخر، وذلك من خلال شخصيات متنوعة منها الاجتماعية والمجازية والرمزية.

     ويمكن تلخيص الأسباب التي دفعت الباحث إلى اختيار هذا الموضوع في النقاط الآتية:

  1. أهمية ثيمة هذه الرواية، كونها تجرأت على إثارة مثل هذه القضية المسكوت عنها في مجتمعاتنا العربية.
  2. الدهشة المتولدة بعد قراءة عنوان الرواية الذي يحوي إجابة لسؤال مجهول، يدفعك إلى قراءة الرواية بعمق وتأنٍ.
  3. محاولة الكشف عن تجليات اللون في المحورين اللذين اختارهما الباحث.

   وبعد القراءة الفاحصة للرواية وجد الباحث بعض السمات التي تميزها عن غيرها من الأعمال الروائية، ولهذا يمكن للباحث أن يثير سؤالين هما:

  1. هل لسعداء الدعاس طريقة خاصة في كتابة هذا العمل الروائي وإخراجه؟
  2. إلى أي مدى نجحت سعداء الدعاس في توظيف المتن الموازي، والاستهلال السردي؛ لمناقشة الثيمة الأساسية لروايتها؟

  وقد اقتضت خطة البحث أن تكون مبنية على مبحثين:

المبحث الأول: اللون في النص الموازي، واشتمل على الغلاف، ورمزية ألوان العنوان، والعنوان في مستويين: المستوى اللغوي، والمستوى الدلالي.

المبحث الثاني: اللون في الاستهلال السردي، واشتمل على مقدمة مختصرة عن تعريف الاستهلال، وأهميته، ثم تحليل استهلال الرواية وتجلي اللون فيه.

        وقد اقتضت طبيعة البحث -كذلك- اتباع طريقة المنهج الوصفي التحليلي مستعينا بما أنتجته الدراسات السيميائية مـن أدوات وآليـات للكشـف عن الدلالات الإيحائية وتأويلاتها في ميدان علم النقد الحديث، مع الاستفادة من الأدوات التـي أفرزتهـا الدراسـات السرديـة الحديثـة.

 

المبحث الأول: اللون في النص الموازي:

        تكشف النصوص الموازية المتمثلة في غلاف الرواية، والعنوان، وألوان الغلاف أغوار الروايات بصفة خاصة، والنص الأدبي بصفة عامة، فهي تشكل "حقلا معرفيا قائما بذاته" (الأحمر، 2010، ص226) ، وهي "حلقة وسطى بين المؤلف والقارئ، وبين النص والعالم" (القاضي، 2010، ص462)، كما تعد النصوص الموازية بوابة مشرعة الظلفتين على النص فهي "تساعد في فتح مغاليق المخطوطات، وتساعد في قراءتها وتحديد قيمتها المعرفية والتاريخية" (بلال، 2000، ص22)، كما تفتح أبواب الدهشة والإمتاع لاقتناء كتاب معين،  فالنصوص الموازية تشكل علامة سيميائية للتأويل والتحليل والقراءة الهادفة؛ للوقوف على بعض الدلالات في النص السردي، فالعنوان -مثلا- عبارة عن أنظمة دلالية سيمولوجية تحمل قيما أخلاقية، واجتماعية، وايدلوجية (بارت، 1993)، كما يذهب ياكبسون (د.ت) إلى أن للعنوان وظائف انفعالية، ومرجعية، وانتباهية، وجمالية، وميتالغوية.

      وتأتي أهمية النصوص الموازية كونها قادرة على أن "تسجل إضافة أخرى لممكنات القراءة، وقد درجت العمليات التجريبية المتعاقبة على النصوص الأدبية في المحاولة لإضافات جديدة على النص الأدبي شكلا ومضمونا" (مراشدة، 2012، ص185) ومنها وبها ينطلق المتلقي لاستيعاب النص الأدبي استيعابا يحلق به في فضاءات القراءة والتأويل والفهم، "فالعتبة تقوم في الغالب بتوضيح المتن النصي، والإيحاء بمضامينه" (الحجلاوي، 2018، ص248).

 

      1- الغلاف:

      يتألف الغلاف في هذه الرواية من لونين: الأبيض والأسود الذي يشغل مساحة كبيرة من الغلاف، مع نصف وجه رجل أسود وخلفية بيضاء، وعنوان الرواية (لأني أسود)، ونوع الجنس الأدبي (رواية)، واسم الروائية (سعداء الدعاس) مكتوب بلون أبيض، وهذا التمازج بين اللونين أعطى اللون الأسود سلطة مساحية على حساب اللون الأبيض، وهذه السلطة تترجم الخوف الذي يسكن كل امرأة بيضاء تود الزواج من رجل أسود "أطفالي سيحملون الصبغة ذاتها؛ لأن صبغتك أقوى، هذا الأمر يشكل كارثة بالنسبة لأمي، والأهم بالنسبة للمجتمع الذي ما زال يتعامل معك بعنصرية، كما تؤيد أنت دائما" (الدعاس، 2015، ص252) وكأنه ردة فعل على الواقع الذي يسيطر عليه الرجل الأبيض بقوانينه وعاداته ونظمه، كما أن احتلال اللون الأسود للغلاف يترجم القرار الذي اتخذه جمال بعد فشل تجربته العاطفية مع سارة البيضاء "اليوم أعود لبلد احتل فيه الأسود.. البيت الأبيض" (الدعاس، 2015، ص255).

 

2 - رمزية ألوان الغلاف:

    يأتي اللون الأسود شاغلا الغلاف الأمامي والخلفي للرواية، فهو في العموم "رمز الحزن والألم والموت، كما أنه رمز الخوف من المجهول، والميل إلى التكتم، ولكونه سلب اللون يدل على العدمية والفناء" (عمر، د.ت، ص186)، وهو هنا في هذه الرواية محمل بحمولات ثقافية وإيديولوجية ترمز للتمييز العنصري العرقي للسود، فكأنه يبعث رسالة للمهمشين من ذوي البشرة السوداء بأنكم وإن كنتم ضمن الأقليات والمهمشين إلا أن قضيتكم في هذه الرواية تشغل الحيز الأوفر من الاهتمام في النص الموازي والنص المتني، أما صورة الرجل الأسود ذي الوجه النصفي في وسط الغلاف بخلفية بيضاء فربما أرادت الكاتبة من ورائه بعث رسالة أخرى للعالم الذي لا يرى في الرجل الأسود إلا لونه، أو ينظر له نظرة سلبية من خلال رؤية نصف الكأس الفارغ فقط، أو يراه ناقصا غير مكتمل كالرجل الأبيض، والخلفية البيضاء تميز هذا الوجه، فبين اللون الأبيض واللون الأسود قصة "تلازم" أبدية، وفي هذه الرواية قصة عشق جسدتها قصة جمال الأسود مع سارة البيضاء: "بعد أكثر من ثلاث سنوات.. صارت علاقتي بـ "سارة" عشقا بلا مواربة.

  • ألا يزعجك لون بشرتي؟!
  • لماذا؟!
  • أن تعشقي الأسود وأنت بيضاء... (صمت طويل بانتظار مبادرتها، فأردفت لإنهاء حالة الصمت المعلق) أليست مسألة صعبة؟
  • (ابتسمت، مدت يدها ووضعتها بجانب يدي) انظر كيف لسوادك أن يزيدني بياضا (ضحكت بعمق، فبدت مثيرة حد الجنون)" (الدعاس، 2015، ص243، ص244).

كما أن معاناة السود في أحياء البيض في أمريكا، أو معاناة "الخوال" في المجتمع الكويتي مرتبطة بوجود اللونين في مكان واحد، وسيطرة اللون الأبيض ونظرته تجاه السود، والقضية الأزلية مستمرة، لكن الرواية لم تكتف بسرد معاناة الأسود مع الآخر فقط، وإنما أبرزت إشكاليات أخرى ذات كثافة سردية موازية لمعاناة الأسود، فنجدت إشكاليات الديانة، والمذهب، والفكر، والهوية، والجنس، والاختلاف السياسي، وكل هذه الإشكاليات لم تبرز في العنوان، ولا في ألوانه، إلا إذا اعتبرنا اللون الأسود رمزا لكل إشكالية سلبية للبشرية.

 

3_ العنوان:

  1. المستوى اللغوي:
  • الحذف النحوي: يمكننا إعراب (لأني أسود) خبرا مرفوعا، وعلامة رفعة الضمة المقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، ومبتدؤه محذوف تقديره عنوان الرواية، أو إعراب (لأني أسود) مبتدأ مرفوعا، وعلامة رفعة الضمة المقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، وخبره محذوف تقديره (عنوان الرواية).
  • الحذف المضموني: لا شك أن مضمون الرواية يشي بأكثر من سؤال يكون جوابه "لأني أسود"، ويمكن تأويل أحدها بـ "لماذا يحدث لك هذا"؟؟ شريطة أن يوجه لشخصية سوداء في الرواية.

 

  1. المستوى الدلالي:

        يعد الغلاف نصا بصريا مختزلا فيه مضامين النص الأدبي، لاسيما إن كان هذا النص رواية قد أحسن الروائي إخراج غلاف روايته عاكسا تلك المضامين؛ ليكون مفتاحا لباب الولوج لذلك النص.

    وفي رواية (لأني أسود) يحمل الغلاف دلالة عميقة لمضمون النص المتني الذي يناقش التمييز العرقي بتمايز لوني في الغلاف، فالأسود قد استحوذ على الغلاف، ولم يترك مجالا للون الأبيض إلا لبروز لونه الأسود، ومن طريف إخراج هذه الرواية أن كلمة أسود كتبت بلون أبيض، وكأن الأخير هو من أبرز الأسود.

    وقد ذكرنا سابقا أن اللون الأسود لا يكون أكثر بروزا إلا في وجود اللون الأبيض، فالغلاف يبرز نصف رأس رجل أسود بخلفية بيضاء فأراد الإنسان الأسود وعبر بجزء منه وهو الرأس، بل إن الرواية في غلافها لم تبرز الرأس كاملا، وإنما نصف الرأس طوليا، "وبإمكان المرء من خلال حركات الرأس وحده، ومن خلال حركات الأعضاء المشتمل عليها أن يتواصل بيسر وسهولة مع غيره، بمصاحبة الكلام، أو دونما مصاحبة له في بعض الأحيان" (النوري، 2018، ص125).

      أما في سيميائيات النسق الإيمائي فيوضح سعيد بنكراد (2019) الجسد -كلا وأجزاء- يولد معطى انفعاليا وغريزيا وثقافيا عاما، لكن هذا المعطى لا يدرك إلا من خلال الأجزاء، ولا يستقيم وجود هذه الأجزاء إلا من خلال اندراجها ضمن هذا الكل الذي هو الجسد، وعلى ذلك فإن وجود صورة شخصية لرأس إنسان أسود بخلفية بيضاء تعد صورة رسمية، أو تستخدم في الاستعمالات الرسمية كوثائق الجواز مثلا، ولعل هذه الصورة ترمز إلى أول لقاء جمع (جوان) الأمريكية بـ (فوزي) الكويتي:

  • "نعم طلبت مني صورا شخصية (مد يده بالصور).
  • نعم أبلغتني بذلك سأرفق الصور بطلبك، هي في مكتب المديرة الآن، إن أردت انتظارها" (الدعاس، 2015، ص47).

            وكأن هذه الصورة الشخصية على الغلاف ترمز لفوزي الكويتي الذي اختفى نصف وجهه، في إشارة واضحة لحادثة اكتشاف جوان لعنصرية فوزي الطائفية بعد وفاته عندما كان رافضا زواج أخته نادية من حبيبها الشيعي، فالجزء الظاهر من وجهه يرمز للمثالية والنمذجة، كما كانت جوان تنظر إليه في حياته، بينما كان يخفي الجانب الآخر من شخصيته العنصرية. 

       ومجمل القول في هذا المبحث إن تجليات اللون بدت حاضرة حضورا مكثفا سواء أكان هذا الحضور في العنوان أم في ألوانه أم في مستوييه: اللغوي والدلالي، فاتحاد العنوان مع لون الكتابة يوحي للمتلقي بالطبيعة الإيحائية التي يتضمنها النص من خلال متنه النصي، فقد لاحظنا انعكاس لون العنوان على العنوان ذاته، ثم انعكاسه على أحداث الرواية لاحقا.

 

المبحث الثاني: اللون في الاستهلال السردي:

        تتضح أهمية الاستهلال السردي في كونه نقطة البدء السردي التي تفتح نوافذ النص الروائي للأحداث والشخصيات من خلال مبناها الحكائي، كما أن الاستهلال السردي هو الخطوة الأولى للمتلقي لتخطي العتبة النصية (العنوان)؛ ليشرع بعد ذلك في سبر أغوار النص الروائي، وفك شفراته ورموزه، وطلاسمه.

      وعند الرجوع إلى أمات الكتب النقدية والبلاغية القديمة في تراثنا العربي نجد إشارات للاستهلال من مثل: براعة الاستهلال، وحسن الابتداءات، وحسن الافتتاح، وقد ورد ذكر الاستهلال عند أبي علي الحسن بن رشيق القيرواني (ت 463هـ/ 1071م) في كتابه العمدة، وعند أبي هلال الحسن العسكري (ت 395هـ/ 1005م) في كتابه سر الصناعتين: الكتابة والشعر، وعند جلال الدين القزويني (ت 739هـ/ 1338م) في كتابه التلخيص في علوم البلاغة، وعند ضياء الدين ابن الأثير (ت 63هـ/ 1239م) في كتابه المثل السائر.

     وفي النقد الحديث دأب النقاد المحدثون على وضع تصوراتهم للاستهلال وتبيان وظائفه وتأثيره في المبنى الحكائي، فهو "مدخل أساسي لولوج عالم الرواية الحكائي إذ يرتبط به علاقة تواصلية حقيقية، وهو يساهم في استكناه النص الروائي: تشكيلا ودلالة" (حمداوي، 2004)، ويعده عبد الملك أشهبون "وعاء معرفيا وأيديولوجيا تختزن رؤية المؤلف، وموقفه من العالم، وتتيح للكاتب العديد من إمكانات التعبير والتعليق والشرح" (أشبهون، 2004، ص87 ص88)، وهذا الوعاء المعرفي يحمل "بعدا فلسفيا شاملا" حسب تعبير ياسين النصير(1993) يؤثر إيجابا أو سلبا في المتلقي، لكنه يبرز أهمية هذا الاستهلال في النص الأدبي، كما يبرز من جانب آخر مدى الصعوبة التي يلاقيها الروائي في صياغة هذه الاستهلالات، فهي "من أعقد وأصعب المكونات المتعلقة بالنص الإبداعي" (حافظ، 1986، ص141)؛ لأنه يمتلك "توازنا داخليا إن فقده الروائي أو لم يحسن بناءه تخلخل العمل، وله قدرة على التركيز والإيحاء والتأويل" (صبري، 1986، ص399).

      وتبدأ الرواية باستهلال سردي عبارة عن رسالة موقعة باسم "جمال" وهي شخصية مجهولة حتى الآن، مع بيانات المكان "السالمية- الكويت"، وبيانات الزمان " 18-9-2009م"، لكن هذه الرسالة غير معنونة، فلا نعلم لمن أرسل جمال هذه الرسالة، مما يجعلها كمونولوج (حوار داخلي) بين كاتبها ونفسه، وهو إحدى تقنيات التقديم غير المباشر للشخصيات، وهذه الرسالة مختومة بسؤال يلخص الحدث المحوري للرواية:

  • هل تقبل أن تعرف بـ "العبد"؟! (الدعاس، 2015، ص4)

     وترد لفظة "العبد" في هذا السياق بصفتها علامة ثقافية اجتماعية سيميائية للحدث المحوري للرواية، فهي "تأخذ بعدها الدلالي من خلال المواضعة الاجتماعية داخل الثقافة الواحدة" (توهاني، 2012/2013، ص16)، فالعلامة الثقافية تتكون من ثلاثة مكونات: الدال المتمثل في لفظة العبد، والمدلول المتمثل في الصور المرتبطة بهذه اللفظة، والمرجع المتمثل في مجموع الترسبات الفكرية في المخيال الثقافي لهذه اللفظة، فالمرجعية هنا هي الثقافة العربية ولاسيما الثقافة الخليجية بدولة الكويت عام 2009، كما أن توقيع الرسالة باسم "جمال" يحمل بعدين دلاليين: الأول أن كاتبة الرواية ترى أن صاحب اللون الأسود ليس بقبيح، لذا أطلقت عليه هذا الاسم، والبعد الآخر يرجع إلى ما اشتهر عند العرب من تسمية الأسماء بضدها تفاؤلا، فكانوا يسمون اللديغ بالسليم، والصحراء بالمفازة متفائلين بالفوز في عبورها، وإن كان البعد الأول هو الذي ينسجم مع مضمون الرواية، والقضية المحورية التي تسردها.

       وتتمثل المرجعية الثقافية الاجتماعية في هذا الاستهلال/ الرسالة وهو " محمل بإرث عنصري لا فكاك منه" (الدعاس، 2015، ص1)، بين تناقضات اللونين: الأبيض والأسود، فـ "جمال" لم يختر لونه، كما أنه لم يختر ألوان الغرفة المفعمة بالبياض التي ولد فيها، ولا تلك الأكف البيضاء التي حملته وليدا صارخا معلنا للعالم سواده" (الدعاس، 2015، ص2).

         والاستهلال يثير قضية الملونين، ويوضح الصراع النفسي للملونين في المجتمعات العنصرية، ويركز على المستويين: الحسي والمعنوي، فالحسي يكثف حضور شخصية "جمال" باسمها الصريح، ولونه الأسود، والمعنوي يكشف نفسية شخصية جمال وصراعه مع مجتمعه، ومع نفسه أولا، ويثير أسئلة حائرة تكشف عمق معاناته النفسية:

  • "هل أتشبث بلون يسكن جيناتي؟ أم أتحول إلى مسخ لا لون له؟
  • هل أستخدم ألفاظا تصف سوادي؟ أم استبدلها بـ "سمار" لا علاقة لي به؟
  • هل أفخر بحضارة تبيت بين مساماتي؟ أم أتنصل من بؤس يتوسد أبناء جلدتي؟" (الدعاس، 2015، ص2).

وتبرز هنا إشكاليات الأنا/ الأسود والآخر/ الأبيض من خلال هذه الأسئلة وغيرها المنتشرة بين سطور هذه الرسالة بلا إجابات:

  • "هذه هويتي... هل تقبل بها أنت؟
  • هل تقبل أن تكبل حياتك في أحياء لا يسكنها غيرك؟
  • هل تقبل أن تقنن مشاعرك بنساء لا يخرجن عن حدود هويتك؟
  • هل تقبل أن تعيش يومك رهن حماقات ونكات تتلذذ بصفعك؟" (الدعاس، 2015، ص4)

    ثم تختم هذه الأسئلة بسؤال جوهري محوري "هل تقبل أن تعرف بـ "العبد"؟ ولفظة "العبد" لو اختيرت عنوانا لهذه الرواية لكانت أفضل؛ لأن الترسبات الفكرية للفظة "العبد" ضاربة في الجذور، وتطلق على الرجل الأسود بظلال العبودية والقسوة وهذه اللفظة تقابل الرجل الحر، كما لها مقابلات أخرى كـ "الأصيل" و"ابن الحمولة"، وهو إرث ثقافي مشبع بالعنصرية والتفرقة عند بعض العائلات في الدول الخليجية.

 

الخاتمة:

     توصل الباحث إلى جملة من النتائج في هذا البحث نجملها فيما يلي:

  1. يعد الجسد بصفته علامة عرقية ثيمة أساسية في الرواية العربية، ولاسيما في رواية "لأني أسود" للكاتبة سعداء الدعاس.
  2. استطاعت الكاتبة توظيف النص الموازي، والاستهلال السردي لروايتها خدمة للثيمة الأساسية للرواية، فالنص الموازي يحمل دلالة عميقة لمضمون النص المتني الذي يناقش التمييز العرقي بتمايز لوني في الغلاف، فالأسود قد استحوذ على الغلاف، ولم يترك مجالا للون الأبيض إلا لبروز لونه الأسود، ومن طريف إخراج هذه الرواية أن كلمة أسود كتبت بلون أبيض، وكأن الأخير هو من أبرز الأسود.
  3. يشغل اللون الأسود مساحة كبرى على الغلاف الأمامي والخلفي للرواية على حساب اللون الأبيض، وهذه "الغلبة" الرمزية للون الأسود يمكن فك شفرتها باعتبارها ردة فعل على الواقع الذي يسيطر عليه الرجل الأبيض بقوانينه، وعاداته، وأعرافه، فغلبة اللون الأسود رسالة لذوي البشرة السوداء بأنكم وإن كنتم ضمن الأقليات والمهمشين إلا أن قضيتكم في هذه الرواية تشغل الحيز الأوفر من الاهتمام.
  4.  أرادت الكاتبة من وراء صورة الرجل الأسود ذي الوجه النصفي في وسط الغلاف بخلفية بيضاء بعث رسالة للعالم الذي لا يرى في الرجل الأسود إلا لونه، أو ينظر له نظرة سلبية من خلال رؤية نصف الكأس الفارغ فقط، أو يراه ناقصا غير مكتمل كالرجل الأبيض، والخلفية البيضاء تميز هذا الوجه، فبين اللون الأبيض واللون الأسود قصة "تلازم" أبدية.
  5. حاول الباحث من خلال الحذف المضموني للعنوان الذي يشي بأكثر من سؤال يكون جوابه "لأني أسود"، ويمكن تأويل أحدها بـ "لماذا يحدث لك هذا"؟؟
  6. وجود صورة شخصية لنصف رأس إنسان أسود بخلفية بيضاء رمز لعنصرية فوزي الطائفية، فالجزء الظاهر من وجهه يرمز للمثالية والنمذجة، بينما كان يخفي الجانب الآخر من شخصيته العنصرية. 
  7. يحمل توقيع "رسالة" الاستهلال السردي باسم "جمال" بعدين دلاليين: الأول أن كاتبة الرواية ترى أن صاحب اللون الأسود ليس بقبيح، لذا أطلقت عليه هذا الاسم، والبعد الآخر يرجع إلى ما اشتهر عند العرب من تسمية الأسماء بضدها تفاؤلا، وإن كان البعد الأول هو الذي ينسجم مع مضمون الرواية، والقضية المحورية التي تسردها.
  8. يوضح الاستهلال السردي الصراع النفسي لذوي البشرة السوداء في المجتمعات العنصرية، ويركز على المستويين: الحسي والمعنوي، فالحسي يكثف حضور شخصية "جمال" باسمها الصريح، ولونه الأسود، والمعنوي يكشف نفسية شخصية جمال وصراعه مع مجتمعه، ومع نفسه أولا، ويطرح أسئلة حائرة تكشف عمق معاناته النفسية.
  9. يبرز الاستهلال السردي إشكاليات الأنا والآخر من خلال إثارة أسئلة بلا إجابات، توحي بأن الحوار بينهما مفقود، أو أنه حوار من طرف واحد فقط.

 

 

 

 

 

المراجع:

الكتب:

  1. الأحمر، فيصل، معجم السيميائيات، ط1، الدار العربية للعلوم، ناشرون، بيروت، 2010.
  2. الحجلاوي، زياد، الجسد ولعبة التخييل السردي في رواية الحبيب السالمي "بكارة"؛ ضمن كتاب الجسد في النص السردي، راجع النصوص وأعدها للنشر البشير الوسلاتين وحدة البحث، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة، ط1، زينب للنشر والتوزيع، تونس، 2018.
  3. الدعاس، سعداء، رواية لأني أسود، ط3، 2015.
  4. القاضي، محمد، معجم السرديات، ط1، دار الفارابي، بيروت،2010.
  5. النصير، ياسين، الاستهلال، فن البدايات في النص الأدبي، ط1، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1993.
  6. النوري، محمد جواد، لغة الجسد، علم الكينات؛ دراسة نظرية تطبيقية، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2018.
  7. بارت، رولان، المغامرة السيمولوجية، ترجمة عبد الرحيم حزل، ط1، دار تيمتل للطباعة والنشر، مراكش، المغربن 1993
  8. بلال، عبد الرزاق، مدخل إلى عتبات النص؛ دراسة في مقدمات النقد العربي القديم، (د.ط)، أفريقيا للنشر، بيروت، لبنان، 2000.
  9. عمر، أحمد مختار، اللغة واللون، ط2، عالم الكتاب، القاهرة.
  10. مراشدة، عبد الرحيم، الخطاب السردي والشعر العربي، ط1، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، إربد، الأردن، 2012.
  11. ياكبسون، رومان، قضايا شعرية، ترجمة محمد الولي، ومبارك حنوز، د.ط، دار توبقال للنشر، د.ت.

المواقع الإلكترونية:

  1. بنكراد، سعيد، 26 يوليو 2019، سيميائيات النسق الإيمائي؛ الجسد ولغاته، (on-line)، https://bilarabiya.net/2897.html
  2. جريدة الشرق الأوسط، 21/6/2020، هل نجحت الرواية الخليجية في تفكيك الخطاب العنصري؟ (on-line) ، العدد 5181،  https://aawsat.com/home/article/2345536/
  3. حمداوي، جميل، الاستهلال الروائي، (on-line) ، أكتوبر/ديسمبر 2004، مجلة ندوة الإلكترونية للشعر المترجم،https://www.arabicnadwah.com/articles/istihlal-hamadaoui.htm

الدوريات:

  1. أشبهون، عبد الملك، خطاب المقدمات في الرواية العربية؛ التنوع، والتشكل، والوظائف، مجلة عالم الفكر، 2004، المجلد33، العدد2، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.
  2. حافظ، صبري، فن البدايات ووظيفتها في النص القصصي، مجلة الكرمل، العدد 21-22، 1986.
  3. صبري، ياسين، الاستهلال الروائي، ديناميكية البدايات في النص الروائي، مجلة الأقلام العراقية، العدد 11-12، تشرين الثاني- كانون الأول، 1986.

الرسائل الجامعية:

  1. توهاني، إيمان، سيميائية الجسد في رواية أحلام مريم الوديعة لواسيني الأعرج، (رسالة ماجستير)، جامعة محمد بن خضير – الجزائر، السنة الجامعية 2012/2013.