ملامح من شخصیة الـمهلب بن أبي صفرة العُمانيّ.

الباحث المراسلأ.د. محمد أحمد الدیباجي

تاريخ نشر البحث :2022-11-10
الإحالة إلى هذه المقالة   |   إحصائيات   |   شارك  |   تحميل المقال

 

فی تاریخ الأمم والشعوب ولا سیما تاریخ الأمم العریقة الضاربة فی التاریخ والحضارة الإنسانیة، مثل الأمة العربیة، شخصیات وأعلام بَصَمَتِ التاریخَ، وترکت وراءها لأبنائها وأحفادها من الأعمال والآثار ما تعتز به وتتناقله جِیلا بعد جیل، وأمّة بعد أخرى على تعاقب الأزمنة والدهور، وتصاقب السنین والشهور.

ومن هذه الشخصیات التی یحق للأمة العربیة بصفة عامة، ولسلطنة عُمان بصفة خاصة، أن تعتز بها القائدُ الهمام الـمهلبُ بنُ أبی صفرة الأزدی العُمانی. لقد شهد هذا القائد النور فی بلده وبلد أجداده: أرض عُمان الـمبارکة، درج فوق تربتها ولیداً، وشاباً یافعا، وتشبّع فیها بالخصال الحمیدة والشیم العربیة العریقة، ولا سیما الشجاعةُ والحزم. فقد تربى علیهما إذ کان أبوه سیدَ قومه وأشجعهم وأکرمهم. ورَوى الواقِدی وابنُ حجر فی (الإصابة) وغیرهما أن رسول الله، صلى الله علیه وسلم، هو الذی لَقَّبَهُ "أبا صفرة" عندما وفد علیه لیعلن إسلامه وقال له الرسول الکریم: " أنت أبو صفرة فَدعْ عنک سارقا وظالما"

ورُوی أن أبا صفرة تقدم الوفدَ الذی خرج من عُمان لتعزیة أبی بکر الصدیق وأهلِ المدینة فی وفاة رسول الله، صلى الله علیه وسلم، فاستقبلهم الصدیقُ خیرَ استقبال وشکر أفضالهم، وحکى لهم حب النبی الکریم لعُمان وأهلها.

ثم انتقل أبو صفرة إلى العراق وشارک فی الفتوحات الإسلامیة فیعهد الخلیفة عمر بنِ الخطاب وفی الحروب التی کان یُضْرِمها الخارجون على بنی أمیة هنا أو هناک فی العراق وغیره، وشارک فیها بجانبه أبناؤه، وکان المهلّبُ أکثرَهم شجاعةً وإقداما وخِبرة بالحروب. ولـما نثر عبد الملک بن مروان کِنانته لیحارب الأزارقة ـــ وقد أرهقوه ـــ لم یجد فیها عودا یرمیهم به أصلبَ من الـمهلب، فسلّطه علیهم، فحاربهم محاربة الأبطال. وما زال معهم فی أخذ وشدٍّ، حتى انتصر علیهم نصرا عزیزا مؤزّرا، وقطع دابرهم. وبذلک خَلُصَ الـمُلک لبنی مروان. ولولا الـمهلب لدکّ الأرازقةُ عرشَ بنی أمیة وقضوا على حکمهم وهو بعدُ فی مهده.

وقد تحدث الـمؤرخون القدماء، ورواة اللغة والأدب، عن الـمهلب وذکائه ودهائه وشخصیته. ولعل خیر ما تتجلى لنا فیه شخصیة الـمهلب وصیتُه لأبنائه عندما نزلت به الـمنیّةُ، وقد أورد هذه الوصیة أبو العباس محمد بن یزید المبرد فی کتابه (التعازی والمراثی) (حققه أ.د محمد الدیباجی وطبعه مجمع اللغة العربیة بدمشق سنة 1978). وقد جمع المبرد فی هذا الکتاب، الذی ألفه "والشمس على أطراف النخیل" کما قال (أی فی آخر عمره)، جمع فیه جملةً من الوصایا الذی ترکها عظماءُ الرجال لأبنائهم عندما نزل الموت بساحتهم. ومن هؤلاء الرجال الذی اختارهم أبو العباس المبرد: المهلبُ بن أبی صفرة. وهی وصیة مهمة جدا لأنها خلاصة العمر، وفیها تتجلى الکثیر من ملامح شخصیة المهلب.

ویبدو الـمهلب من خلال وصیته هذه رجلاً مؤمنا متشبّعا بإیمانه، حریصا على الائتمار بأوامر الله، والانتهاء بنواهیه، والسعی إلى الفوز برضاه فی دنیاه وآخرته، فقد افتتح وصیته بقوله لأبنائه: «أوصیکم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن تقوى الله تعقب الجنة، وإن صلة الرحم تنسىء فی الأجل، وتثری المال، وتجمع الشمل، وتکثر العدد، وتعمر الدیار، وتعز الجانب. وأنهاکم عن معصیة الله، فإنها تعقب النار، وإن قطیعة الرحم تورث القلة والذلة، وتفرق الجمع، وتذر الدیار بلقعا، وتذهب المال، وتطمع العدو، وتبدی العورة». واختتم وصیته بقوله لأبنائه: «ولیکن أوَّل ما تبدؤون به إذا أصبحتم تعلیم القرآن والسُّنن والفرائض».

کما یبدو المهلب من خلال وصیته هذه رجلا قوی الشخصیة، إذا وعد وفّى، وإذا قال فعل. فالرجولة إنما تکون بالفعل لا بالقول، إذ کان فضل الرجل یظهر فی فعله لا على طرف لسانه، ولا خیر فیمن یقول ولا یفعل، وکما قال الله تعالى: ﴿کَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ﴾ (سورة الصف، الآیة 3). وفی هذا یقول الـمهلب: «یا بَنِیَّ إنی أُحبُّ للرجل منکم أن یکون لفعله الفضل على لسانه، وأکره للرجل منکم أن یکون للسانه الفضل على فعله. یا بنیَّ، اتقوا الجواب وزلة اللسان، فإنی وجدت الرجل تَعْثُرُ قدمه فیقوم من زلَّته وینتعش منها، ویزل لسانه فیوبقه، وتکون فیه هلکته، وإیاکم والخفة فی مجالسکم وکثرة الکلام، فإنه لا یَسْلَمُ منه صاحبه. وأدّوا حق الله علیکم فإنی قد أبلغت إلیکم فی وصیتی واتخذت لله الحجة علیکم».

وفی وصیته یظهر حرصه على التشبث بالأخلاق التی ینبغی أن یسود بها سید القوم وقائدهم. یقول: «یا بنیَّ، أحبوا المعروف، واکرهوا المنکر واجتنبوه، وآثروا الجود على البُخل، واصطنعوا العَرب وأکرموهم، فإنّ العربیّ تَعِدُهُ العِدَةَ فیموت دونک ویشکر لک، فکیف بالصنیعة إذا وصلت إلیه، فی احتماله لها، وشکره والوفاء لصاحبها. یا بنیَّ، سوّدوا کبارکم واعرفوا فضل ذوی أسنانکم تعظموا به، وارحموا صغیرکم وقربوه وألطفوه، واجْبُرُوا یتیمکم وعودوا علیه بما قدرتم، وخذوا على یدی سفهائکم، وتعاهدوا فقراءکم وجیرانکم بما قدرتم علیه، واصبروا للحقوق ونوائب الدهر، وتأدبوا بآداب الصالحین من سلفکم، ولا تقاعدوا أهل الدعارة والربا، ولا یطمع فی ذلک منکم طامع».

وتظهر فی وصیته هذه خبرته الواسعة بالحروب، فنجاح القائد وظفره فی الحروب لا یتوقف على شجاعته فحسب، بل یتوقف قبل کل شیء على الدهاء والذکاء والمکیدة، ثم على الثبات فی مواجهة العدو، فیقول الـمهلب: «وعلیکم بالتماس الخدیعة، فی الحرب، لعدوّکم، وإیاکم والنَّزق والعجلة، فإن الـمکیدة والأناة والخدیعة فی الحرب أنفع من الشجاعة. واعلموا أن القتال والـمکیدة مع الصبر، فإذا کان اللقاء نزل القضاء، فإن ظفر امرؤ وقد أخذ بالحزم قال القائل: قد أتى الأمر من وجهه، وإن لم یظفر قال: ما ضیع ولا فرط ولکن القضاء غالب. والزموا الحزم على أی الحالتین وقع الأمر، والزموا الطاعة والجماعة، وإیاکم والخلاف».

وفی هذه الوصیة تظهر شیمة أخرى من شیم القائد، وسید القوم، وهی الاعتناء  بقومه وإکرامهم والحرص على جمع شملهم، وضم شَعَثِهم. یقول المهلب: "یا بنی، قومکم (قومکم)ǃ إنه لیس لکم علیهم فضل بل هم أفضل منکم إذ فضلوکم وسوّدوکم ووطّؤوا أعقابکم، وبلغوا حاجاتکم لـما أردتم، وأعانوکم، فلهم بذلک حق علیکم، وبلاء عندکم لا تؤدّون شکره (ولا تقومون بحقه، فإن طلبوا فأطلبوهم، وإن سألوا) فأعطوهم، وإن لم یسألوا فابتدئوهم، وإن شتموا فاحتملوهم، وإن غشوا أبوابکم فلتفتح لهم ولا تغلق دونهم. یا بنیَّ، إذا غدا علیکم رجل أو راح فکفى بذلکم مسألةً وتذکرةً بنفسه. یا بنیَّ، ثیابکم على غیرکم أحسنُ منها علیکم، ودوابّکم تحت غیرکم أحسن منها تحتکم».

وخلاصة الکلام،  أن المهلب بن أبی صفرة علم باذخ من أعلام الأمة العربیة، ومن خیرة الأبناء الذین أنجبتهم هذه الأرض، أرض عمان المبارکة. ومما تجدر الإشارة إلیه والتنصیص علیه أن أسرة المهالبة أنجبت ثلة من السادة والقادة والعلماء والشعراء والأدباء، نذکر منهم على سبیل التمثیل الأدیب اللودعی، والوزیر الألمعی، أبا محمد المهلبی، وزیر معز الدولة البویهی، فقد جمع علما جمّاً، وحزما وعزما، وذکاء متوقداً، وکرما حاتمیا، وقد قال فیه کثیر ممن ترجموا له: «إنه کان أعجوبة من أعاجیب الدهر».

فنحن نحیی أرض عمان المبارکة، ونحیی تاریخها المجید، وأهلها الطیبین الکرماء. ونحیی بکل إجلال وتقدیر واحترام السلطان قابوس المعظم وندعو له بالنصر المبین والعز المکین ودوام الصحة والعافیة، وللشعب العمانی الشقیق بالرقی والازدهار.