المنهج التربوي عند الشیخ منصور بن ناصر الفارسي في التعلیم

الباحث المراسلحمد بن سالم بن صالح الراجحي وزارة التربية والتعليم

تاريخ نشر البحث :2022-11-10
الإحالة إلى هذه المقالة   |   إحصائيات   |   شارك  |   تحميل المقال

 

تهدف هذه الدراسة عن البحث والکشف عن طبیعة المنهج التربوی الذی انتهجه الشیخ منصور بن ناصر الفارسی فی التعلیم، وتدریس الأبناء طرائق العلم، وذلک من خلال الإجابة عن الأسئلة الآتیة:

ا- ما الطرق العلمیة والتدریسیة التی انتهجها الشیخ منصور الفارسی فی العملیة التعلیمیة أثناء تعلیمه الطلبة فی مسجد الجماعة بفنجا؟

2- ما الطرق العلمیة الحدیثة التی انتهجها الشیخ منصور الفارسی أثناء تعلیمه الطلبة فی جامع نزوى بعد انتقاله إلیها؟

3- هل انفرد الشیخ منصور الفارسی بطرق تدریسیة علمیة عن غیره من العلماء والمعلمین، وما السبب فی ذلک؟

وللإجابة على الأسئلة السابقة یقوم الباحث بتقصی السیرة العلمیة للشیخ منصور الفارسی باستعمال ثلاث طرق علمیة:

الأولى: دراسة نماذج من کتبه الفقهیة العلمیة:

1-   رسالة الکلمة المحکمة فی الرد على قضاة المحکمة، وهی رسالة مبسطة، رد فیها الشیخ منصور على رأی قضاة محکمة مسقط فی أحکام قضائیة.

2-   رسالة الدلیل الواضح فی حط الجوائح، وهی عبارة عن رد على الشیخ العلامة عیسى بن صالح الحارثی والإمام غالب بن علی الهنائی فی مسألة حط الجوائح.

3-   عنوان الآثار، ویشتمل الکتاب على (806) مسائل فقهیة متنوعة، قامت وزارة الأوقاف والشؤون الدینیة بطباعته مؤخرا.

4-   الغایة القصوى فی الأحکام والفتوى، کتاب مخطوط.

الثانیة: التواصل مع أصحاب الشأن من أقاربه ومعارفه:

1-   الشیخ ناصر بن منصور بن ناصر الفارسی (ولده).

2-   الشیخ سعود بن عبد الله بن حمد الفارسی (محقق کتاب عنوان الآثار).

3-   الشیخ ناصر بن محمد الزیدی (من أصهار الشیخ).

الثالثة: الاطلاع، وتحلیل ما کتبه الشیخ سیف بن محمد الفارسی فی سیرته الذاتیة (حیاتی) حول شخصیة الشیخ القاضی منصور بن ناصر الفارسی وحیاته العلمیة.

    وستکون النتائج التی سیخلص إلیها الباحث فی ضوء ما تتوصل إلیه الدراسة، من إظهار المکانة العلمیة للشیخ منصور بن ناصر الفارسی، وطرائق التدریس العلمیة التی انتهجها الشیخ فی التعلیم. وستخلص الدراسة أیضا إلى توصیات عدة یستفید منها التربویون، والباحثون، والمهتمون برجالات العلم والعلماء خاصة فی هذا الوطن العزیز سلطنة عمان.

المبحث الأول: مفهوم المنهج التربوی:

    یعد المنهج التربوی من أهم الموضوعات فی المنظومة التربویة؛ لأنه أساس العملیة التعلیمیة، قدیما وحدیثا، فهو یُستعمل کأداة لتحقیق الأهداف التی یسعى إلیها لبناء المجتمع، وتحقیق الخطط التنمویة الشاملة على المدى الطویل والقصیر، کما یعد وسیلة لتشکیل أفراد المجتمع وتقویم سلوکیاته فی الحاضر والمستقبل، والمنهج التربوی یزود الطلبة بالمفاهیم والحقائق التی تحفزهم على البحث والاستمراریة فی طلب العلم والتعلم، کما أنّه یحد من ظاهرة الاعتماد على النقل والتقلید إن کانت أسسه متطورة وفعالة.

    وقد أخذ المنهج التربوی مجموعة من التعریفات بناءً على اختلاف آراء ووجهات نظر الکتاب والباحثین، فمنهم من اعتبره خطة مکتوبة، ومنهم من اعتبره مجموعة من المواد التی یدرسها التلامیذ، ونتیجة للدراسات العلمیة التی ظهرت فی وقتنا الراهن([1]) توسَّعَ مفهوم المنهج التربوی، وأصبح أکثر شمولیة وموضوعیة مما کان علیه فی السابق، لذا سنعرض أهم المفاهیم المرتبطة بالمنهج التربوی.

أولا: المفهوم التقلیدی للمنهج التربوی:

    هو عبارة عن منهج دراسی یتضمن مجموعة من المواد والمقررات الدراسیة النظریة التی تشتمل على مجموعة من المعلومات والحقائق والمفاهیم والأفکار التی یتلقاها الطلاب فی الحجرات الدراسیة على هیئة مواد دراسیة، تنتهی بالحصول على شهادة دراسیة فی حقل معین من حقول المعرفة.([2])

ثانیا: المفهوم الحدیث للمنهج التربوی:

    یعرِّف البعض([3]) المنهج التربوی الحدیث بأنه جمیع الأنشطة والخبرات التی تقدمها المدرسة للطلبة تحت إشرافها، سواء داخل المدرسة أو خارجها، والبعض الآخر یعرّفه بأنّه مجموعة من الأنشطة والممارسات المخططة والهادفة التی توفرها المدرسة لمساعدة المتعلمین على تحقیق مجموعة من الأهداف التعلیمیة، والحصول على أفضل النتائج بناءً على قدراتهم وإمکانیاتهم داخل الصف الدراسی.

ثالثا: مفهوم المنهج التربوی فی الإسلام:

     المنهج التربوی فی الإسلام کما یراه الدکتور صالح عبد الرحمن([4]): نظام من الخبرات التربویة المتکاملة المتفاعلة مصدرها ما أوحى به الله تعالى لنبیه محمد –صلى الله علیه وسلم- ثم ما اکتسبه الإنسان فی أثناء عمارته للبیئة والتفاعل معها، وهذه الخبرات تهیؤها المؤسسة التربویة للدارسین لتنمیتهم تنمیة شاملة متکاملة متوازنة وتنضبط أقوالهم وأعمالهم لضوابط الشرع، فالمنهج فی الإسلام نظام أو طریق واضح قال تعالى: ﭐﱡﭐﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏﱠ. [المائدة/48]

المبحث الثانی: الطرق العلمیة والتدریسیة التی انتهجها الشیخ منصور الفارسی فی بدایة تدریسه بمسجد الجماعة بفنجاء، بعد أن عینه الإمام محمد بن عبد الله الخلیلی معلما سنة 133هـ.

  وهب الله تعالى الشیخ منصور بن ناصر الفارسی غزارة فی العلم، فرأى أنه من الواجب أن ینفق علمه للمریدین من الطلبة، ففی بدایة الأمر عینه الإمام محمد بن عبد الله الخلیلی – رحمه الله – مدرسا للعلوم الدینیة فی بلده فنجاء، وکان ذلک فی عام 1339هـ، فکانت مدرسته فی مسجد الجماعة بفنجاء، إضافة إلى إقامة حلقات تدریسیة أخرى بمنزله([5]). وقد انتهج الشیخ منصور بن ناصر الفارسی فی هذه المرحلة أسالیب تربویة تتوافق مع الحاجة الحقیقیة للمجتمع، وللمتعلم على حد سواء، من حیث ترجمة الأهداف التربویة إلى أنماط سلوکیة تطبیقیة لدى المتعلم تتوافق مع طبیعة العملیة التعلیمیة التی یرتضیها المجتمع وتقرها الأعراف، وذلک من خلال محاور عدة، منها:

أولا: التأکید على القیم الجوهریة للمجتمع العمانی المسلم:

    بحیث تکون طبیعة العملیة التعلیمیة لدیه منبثقة مما یسود المجتمع من قیم واتجاهات، وما یتضمنه من حراک فکری وثقافی متکامل، فالعملیة التربویة فی نظر الشیخ منصور الفارسی([6]) متعددة الأطر، وینبغی لها أن تشمل أوجـه النشاط البشری: ( الفردی والمجتمعی على حد سواء)، ویرى أن عملیة التعلیم لابد أن یصاحبها الإخلاص والورع؛ لأنها صیاغة إلهیة تسعى إلى تمکین الإنسان من مهمة الخلافة فی الأرض؛ لأجل إصلاح الذات وإصلاح المجتمع من حوله، ولا فائدة ترتجى من المتعلم ما لم یؤهله علمه إلى إصلاح ذاته، وإصلاح مجتمعه، وهذا ما یؤکده بقوله: (فالعلم بغیر ورع لیس بنافع، ولا ینتفع العالم بعلمه حتى یعمل به، وما لم یعمل به فهو غیر عالم)([7]).

ثانیا: مراعاة قدرات المتعلمین، ومیولهم، ودوافعهم النفسیة:

    فلا یکلفهم فوق ما یطیقون، بل یُفرد الطلبة بحسب قدراتهم العقلیة، فإن کان التلمیذ رکیک الفهم، ضعیف العلم، قلیل المعرفة بتأویل کتاب الله تعالى، وسنة رسوله r وما علیه من إجماع المسلمین، فلا یجیز له أن یُفتی أو أن یُعلّم غیره، ویرى أن ذلک من القول بغیر علم، وهو ممنوع ولو صادف قوله الحق([8]). أما الطلبة المتفوقون فیکلفهم بتدریس بعض زملائهم ومعاونتهم فی حل المسائل، وقراءة القرآن الکریم وتجویده، وینمی لدیهم مهارة البحث وتقصی المسائل بحسب میولهم الفقهیة أو النحویة، أو الأدبیة، ویعرضون له ما یتوصلون إلیه من نتاجات علمیة، فیشجع المجید، ویأخذ بید المتوسط والضعیف. کما یعرض هذه النتاجات أمام العلماء، ومشایخ العلم؛ حتى یزداد الطلبة تعلما، وثقة بأنفسهم، فیطمحون لاکتساب العلوم بشکل أفضل([9]).

ثالثا: مخالطته لتلامیذه، واقترابه منهم:

    هذه الخاصیة مکنت الشیخ منصور الفارسی من مدّ جسور التواصل بینه وبین تلامیذه، مما ساعد على بعث روح الثقة فی نفوس المتعلمین، ویسّر أسباب التکافل والتعارف، وتبادل الخبرات والمعارف، فکثیرا ما کان یتفقد أحوالهم، ویتحسس أخبارهم، ویزورهم فی منازلهم، ویعود مرضاهم، ویحنو على ضعیفهم، وکان یصنع لهم أدوات الکتابة بنفسه ([10]) من وحی إبداعه، وجمیل حرفته، فکان ینتقی الأقلام من البیئة المحلیة من خلال أشجار قصب السیب أو الحِلْف، أو أغصان شجر الرّوْغ الشبیهة بالخیزران، ثم یصنع الحبر النقی الخالص من أزهار الحشائش وورودها، کالعصفر، والزعفران وعصارة ثمر الرمان، فیغلیها فی وعاء خاص بماء حار مع بقایا برادة الحدید، بحیث یفرز کل لون على حدة، ثم یضیف إلیه صمغ الطلح، وشیء من الرمل([11]) ـ رَمْلُ تَرْتر ناعم لمّاع ـ یشتریه من سوق مطرح، فیجعله على الکتابة فیلتصق الرمل على الکتابة وتعطی شکلا جمیلا لمّاعا. وبعد جفاف الکتابة یمسح علیها خفیفا، فیعید المنتشر منها إلى علبته؛ لیعاود الکرة مرة أخرى فی کتابة قادمة.

    هذا التقارب بین المعلم والمتعلم هو أساس النظریات التربویة الحدیثة التی ینادی بها فلاسفة التربیة، ورواد علم النفس التربوی أمثال([12]): جون دیوی صاحب کتاب الدیموقراطیة والتربیة، وآرثر جیتس صاحب کتاب علم النفس التربوی، وغیرهم.

رابعا: إیجاد التنافسیة الإبداعیة فی فنون الکتابة:

    التنافس مصطلح إسلامی أصیل استعمله المربون المسلمون فی مؤلفاتهم وطبقوه فی طرق تعلیمهم لطلابهم، ومریدیهم، ویقصد به إیجاد جو تفاعلی بین الطلبة لإظهار إبداعاتهم العلمیة، والمهاریة فی شتى فنون العلم، وقد جاء فی القرآن الکریم قوله تعالى: "خِتَامُهُ مِسْکٌ ۚ وَفِی ذَٰلِکَ فَلْیَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ" [المطففین/26]. وقد استفاد طلبة الشیخ منصور الفارسی من جمیل الخط الکتابی الذی تمیز به الشیخ، فأتقنوا مهارات فنون الکتابة الإملائیة، حیث کان الشیخ یقیم حلقاً تنافسیة بینهم، فیرسم على لوح أحدهم آیة قرآنیة أو حدیثا نبویا أو حکمة عربیة، ویطلب من کل مجموعة محاکاة ذلک الرسم الإملائی، فیعرضوا علیه ما کتبوه، فیمیز الأجمل فالأجمل من هذه الخطوط بحسب تدرجات إتقان الطلبة،([13]) ویبدو أن هذه الطریقة کانت سائدة بین معلمی القرآن الکریم فی تلک الحقبة، فقد ورد ذلک أیضا فی مدارس عدة للقرآن الکریم فی ولایة الرستاق([14]).

خامسا:  الاهتمام بالعلوم الأساسیة من المحتوى التعلیمی للمنهج الدراسی:

    فقد رکز الشیخ منصور الفارسی على العلوم الأولیة من تعلیم الطلبة فنون القراءة، والکتابة، والنحو، والصرف، کما أدخل على محتوى المنهج شیئا من الشروحات البلاغیة على بعض الجُمل التی تعیق فهم الطلبة، وشرح بعض المفردات القرآنیة التی تُشکل علیهم أثناء تلاوتهم وفهمهم للقرآن الکریم، أو أثناء حفظهم ومناقشاتهم للأحادیث النبویة الشریفة، وکانت الکتب المعتمدة الآتیة، هی المراجع الرئیسة للمحتوى التعلیمی:

-         مسند الإمام الربیع بن حبیب الفراهیدی.

-         شرح ألفیة ابن مالک.

-         الدرة البهیة فی علم العربیة: وهو عبارة عن شرح أرجوزة فی النحو والصرف، والکتاب والأرجوزة من تألیف الشیخ نفسه.

     یمکن القول أن هذه الأسالیب التربویة للمنهج التدریسی لدى الشیخ منصور الفارسی، أطرت بواقع الطلبة ذاتهم، کما أطرت بالواقع الاجتماعی والثقافی للمجتمع المحلی آنذاک فترة وجوده بفنجاء. فقد تدرج الشیخ بطلبته وفق مستویاتهم العمریة والعقلیة، ووفق ما تیسر له من منهج دراسی، فقد کان الرجل مشغولا أیضا بمهام أخرى، یقتضیها وضعه الاجتماعی؛ لکونه مسؤولا عن قبیلته، ومباشرا لمتطلبات هذه القبیلة کحال المجتمعات القبلیة الأخرى، کما کان مهتما بتوفیر رغد العیش له ولأفراد أسرته؛ لذلک امتهن صیاغة الذهب، وصناعة المجوهرات.

المبحث الثالث: الطرق العلمیة الحدیثة التی انتهجها الشیخ منصور الفارسی أثناء تعلیمه الطلبة فی جامع نزوى بعد انتقاله إلیها سنة 1339هـ:

     افتتح الشیخ منصور بن ناصر الفارسی مدرسته الثانیة بولایة نزوى، بعدما عیّنه الإمام محمد بن عبد الله الخلیلی قاضیا على نزوى؛ فذاع صیته وتوافد إلیه طلاب العلم ینهلون من معین معارفه، ومما یمیز هذه المدرسة أنها کانت فی الفترة اللیلیة من بعد صلاة المغرب وحتى العاشرة، یتخللها صلاة العشاء مع الطلبة؛ کما یمیزها أیضا أنّ الفئة العمریة للطلبة تختلف عن مدرسته الفنجاویة، فالطلبة هنا أعمارهم متقدمة، وقد أنهوا العلوم الأساسیة، وأتقنوا مهارات الحیاة المختلفة، وفنونها، فتخرج من هذه المدرسة زهاء أربعین عالما، منهم من أصبح قاضیا، أو والیا أو معلما؛ لذا فلا بد من اختلاف منهجیة التدریس العلمی لهذه المدرسة بناء على المعطیات السابقة، فما الطرق العلمیة التی اعتمدها الشیخ منصور فی هذه المدرسة؟

أولا: غرس مبدأ الإرادة الذاتیة لدى المتعلم:

     ونقصد به حث الطلبة على الانطلاق فی مجالات التعلم، ومیادین العلم دون تردد أو تکاسل، مفرقا بین مفهومی التواضع، وضرورة العزیمة فی الأمر([15])، وکثیرا ما کان یعجب بالطالب النبیه الذی یحاور ویناقش، ویبدی الآراءمن غیر عجرفة أو تعال على الآخرین.

ثانیا: تقصی الحقائق العلمیة:

    وهذا ما یؤکد علیه الشیخ منصور الفارسی، ویطبقه بنفسه ثم یکلف به المتعلمین، فیرکز فی تدریسهم على طریقتین تربویتین فی هذا المجال، الأولى: قائمة على منهج یعتمد على الاستقراء، وعلى التأمل الدقیق، ومثاله ما ورد فی کتابه الغایة القصوى فی الأحکام والفتوى: فی الرد على سؤال السید حمد بن سیف بن محمد البوسعیدی فی رجل باع مالا وله شریک ولم یبلغ شریکه بذلک، والمشتری فی عجلة من أمره قاصدا حج بیت الله الحرام، فما صفة هذا البیع؟ فکان الجواب بما أورده السلف من الأقوال فی المسألة ثم بیّن رأیه وطلب منه ضرورة التمحیص والتدقیق فی المسألة([16]). والثانیة قائمة على المنهج العملی التطبیقی للمسائل التی قام بتدریسها لطلبته، فکثیرا ما کان یکلف تلامیذه بتطبیق الحلول العملیة على الصعوبات التی تعترضهم سواء فی المسائل الفقهیة، أو النحویة، أو البلاغیة، فإن عجزوا عن ذلک بیّن لهم، ووضح ما أشکل علیهم فی جوابات أو مؤلفات مختصرة کما صرح بذلک فی مقدمة کتابه: تقریب الأذهان إلى علمیّ المعانی والبیان.([17])

ثالثا: الصحبة والملازمة:

    ونقصد بها ملازمة مشایخ العلم، ذلک أن الطرائق التدریسیة تختلف من شیخ إلى آخر، وکما یقال فلکل شیخ طریقته، وعلـى المتعلم الباحث ضرورة الاستزادة من العلم وتقویة ملکته بمصاحبة المشایخ وملازمتهم حذو النعل بالنعل، وممن کان یوصی الشیخ الفارسی طلابه بملازمتهم: (الشیخ عامر بن خمیس المالکی، والشیخ عبد الله بن عامر العزری، والشیخ سعید بن أحمد الکندی .. الخ)، وغیرهم من الأساتذة والعلماء. وهذا الأسلوب طبقه الشیخ الفارسی بدایة على نفسه قبل أن یأمر به طلابه، فقد لازم([18]) العلامة الإمام محمد بن عبد الله الخلیلی -رحمه الله- فی غالب مجالسه، کما لازم الشیخ قسور بن حمود الراشدی، والشیخ عامر بن خمیس المالکی، وغیرهم.

رابعا: الجمع بین أسلوب الانضباطیة السلوکیة، والمرونة العملیة:

  فقد جمع الشیخ منصور الفارسی فی عمله التربوی بین مفهومین قد یبدوان للبعض أنهما متناقضان، ولکنهما فی الحقیقة متلازمان، وهما:

أ‌-       الانضباطیة السلوکیة.

ب‌- التمسک بالأصول والمبادئ.

  فالانضباطیة السلوکیة تقتضی من المعلم أداء وظیفته التربویة على أکمل وجه وأفضل أداء من حیث تطبیق قواعد العمل، والتمسک بالأصول والمبادئ، ومتابعة الطلبة، وتصحیح سلوکیاتهم بصفة مستمرة، والمرونة العلمیة تقتضی مراعاة ظروف الطلبة وواقعهم المَعیش، فیکیف حلقاته التدریسیة مع المستجدات الطارئة، ویتناول المسائل العلمیة وفقا لهذه المقتضیات. وقد یغض الطرف عن بعض الهنات التی تقع بین المتعلمین؛ مراعاة للفطرة البشریة من المزاح والفکاهة، ما لم تخل بشیء من أصول الدین وقیمه.

خامسا: اعتماد أسلوب الإقناع والحوار:

  هذا الأسلوب اتخذه الشیخ الفارسی مسلکا رئیسا فی کافة تعاملاته وحواراته الفقهیة، والثقافیة سواء أکان بینه وبین زملائه من العلماء والقضاة وأصحاب البلاغة والأدب، أم بینه وبین الطلبة الذین یدرسهم، وغالب مؤلفاته الفقهیة قائمة على هذا المبدأ، ومن بین هذه المؤلفات التی اعتمدت على هذا المبدأ: الدلیل والبرهان فی جواز إقامة صلاة الجمعة مع وجود السلطان، وکتابه هدایة الرحمن بثبوت خلق القرآن، وکتابه الکلمة المحکمة فی الرد على قضاة المحکمة([19]). وما جاء فی موقفه الإیجابی الذی أصر علیه وبیّنه فی کتابه الدلیل الواضح فی حط الجوائح حیث خالف فیه رأی کبار العلماء، فنازعوه وثارت ثائرتهم علیه، لکنه تمسک بحمید رأیه موضحا لهم ما استشکل علیهم، فناصره الإمام محمد بن عبد الله الخلیلی بنفسه وکانت کلمته المشهورة: منصورٌ یا منصور([20]).

سادسا: اختیار المحتوى التعلیمی، والمواد العلمیة بما یتناسب مع المستوى التحصیلی للطلبة:

    اختلفت المواد الدراسیة فی مدرسة الشیخ منصور الفارسی بنزوى عمّا کانت علیه بمدرسته الأولى بفنجاء، وهذا الاختلاف نابع من أمور عدة، أبرزها: (الفئة العمریة ونوعیة المتعلمین، الانتقال من المرحلة التأسیسیة إلى المرحلة التخصصیة فی مجالات الفقه والعقیدة، والأدب، والبلاغة، وعلوم القرآن الکریم، وعلوم الحدیث الشریف). وقد کانت أبرز المقررات الدراسیة التی تناولها الشیخ فی تدریسه([21]) هی: تفسیر الکشاف للزمخشری، شرح الأجرومیة لعالم اللغة محمد بن محمد بن داود الصنهاجی، الإتقان فی علوم القرآن لجلال الدین السیوطی، شرح طلعة الشمس للإمام نور الدین السالمی وغیرها من الکتب.

    والمتتبع للأدب التربوی المتعلق بتدریس المقررات الفقهیة، أو العقدیة، أو اللغویة یدرک تمام الإدراک أنه لا توجد طریقة مُثلى فی التدریس، ولکن لکل موقف تعلیمی طریقة تناسبه، والمعلم مطالب بإتقان مجموعة من الأسالیب العلمیة التربویة، بما یمکّن الطلاب من تحقیق أهداف العملیة التعلیمیة التی خطط لها المعلم ذاته([22]).

    ولقد سعى الشیخ الفارسی إلى تنویع طرائق التدریس لدیه حسب مقتضیات الأحوال السائدة عند انتقاله لنزوى، وتولّیه منصب القضاء، واشتغاله بملازمة الإمام لتنفیذ المطالب المترتبة على هذه الملازمة، والحکم بین المتخاصمین، والإصلاح بین الناس، وغیر ذلک من مجالات الحیاة ومتطلباتها.

المبحث الرابع: الطرق التدریسیة العلمیة التی انفرد بها الشیخ منصور عن غیره من العلماء والمعلمین، والسبب فی ذلک:

    من خلال تحلیل المواقف التعلیمیة، والطرائق التدریسیة التی انتهجها الشیخ الفارسی أثناء تدریسه للطلبة سواء أکان فی مدرسته الأولى بفنجاء أم بمدرسته الثانیة بنزوى یتبین لنا أنه انفرد ببعض الطرق التی استعملها فی التدریس دون غیره من العلماء والمدرسین، وسنبین بعض هذه الطرق، مقرونة بسبب الاستعمال مباشرة:

أولا: اهتمامه بزمن التعلم وفق حاجة المتعلم:

    حیث کان یقسم الطلبة فی مجموعات صغیرة وفق احتیاجاتهم التعلیمیة؛ فالطلبة المهتمون بأصول الفقه مثلا یقنن لهم وقتا معینا لتدارس المسائل العویصة التی تواجههم، ویقنن وقتا منضبطا للطلبة الذین یریدون الاستزادة فی علم الکلام ومجالات العقیدة، ویخصص وقتا ثالثا للطلبة الذین یریدون الاستفادة من علوم القرآن الکریم، ولاسیما التفسیر وأصوله، وهکذا فی سائر العلوم الشرعیة والأدبیة.

ثانیا: اتباع أسلوب المناظرة فی الإقناع؛ لدمغ الحجة بالحجة الأقوى، والدلیل بالدلیل الأقوى منه:

   حیث شاع لدى العلماء والمتعلمین على حد سواء، أسلوب المناظرات الفقهیة، وتمحیص الأدلة والبراهین، وتدعیمها بالنصوص الشرعیة وتفنید جمیع الآراء وبیان قویها من ضعیفها، وراجحها من مرجوحها، فتشتد المناظرات بناء على قوة الدلیل أو تمکّن الخصم من امتلاک أدوات المناظرة، والمثال الواضح لذلک ما استعمله الشیخ منصور من مناظرة أقرانه من العلماء فی مسألة الحط عن المال عند إصابة الجوائح، حتى خاصمه أکابر ذوی الرأی وأصحاب الوجاهة فی دولة الإمام الخلیلی، وما ذلک إلا تبیانا للحق ووصولا إلى الحقیقة.

ثالثا: ربط النتاجات التعلیمیة بالحاجات المجتمعیة:

   فالعملیة التعلیمة لدى الشیخ منصور الفارسی مقصودة بذاتها؛ لأجل توفیر احتیاجات المجتمع من الخریجین، وأصحاب الخبرات التعلیمیة، فکانت مدرسته تؤهل مختلف الکوادر البشریة فی مختلف المجالات مثل: القضاء، والتعلیم، والطب، والأدب، والتخصصات اللغویة. فعند استقرائنا لمخرجات مدرسته – خاصة النزوانیة – نجد من بین تلامیذه: القاضی، والوالی، والمدرس، والنحوی، والشاعر، والطبیب؛ وذلک لإحساسه بشمولیة العملیة التعلیمیة، وضرورة ربطها باحتیاجات المجتمع العمانی آنذاک.

رابعا: تنویع مصادر التعلم، وفق قدرات المتعلم:

     فمع کون مصادر التعلم شحیحة فی تلک الحقبة الزمنیة، إلا أن الشیخ منصور الفارسی استطاع توفیر جملة من المصادر التعلیمیة، وأدوات المعرفة، فقد استطاع من خلال رحلته للحج أن یلتقی بثلة من العلماء والفقهاء، بعضهم من المذهب الإباضی، وبعضهم من مذاهب أخرى، فتحصّل على المعارف، ودوّن الملاحظات فی کراریس خاصة؛ لیُطلع تلامیذه على تلک المعارف، کما أنه عاد من رحلة الحج بما یقارب حملیّ بعیر من شتى الکتب فی مجالات متنوعة([23])، وقد وظّف هذه المصادر بناء على قدرات المتعلمین من حیث السهولة والصعوبة، ونوّع لهم معارفها بناء على تنوع تخصصاتهم واحتیاجاتهم.

خامسا: شمولیة التقویم، وفق نظرته الشمولیة للعملیة التعلیمیة:

   تأخذ العملیة التقویمیة -عند الشیخ الفارسی- الأداء الطلابی بجمیع مجالاته؛ وفقا لنظرته الشمولیة للعملیة التعلیمیة برمتها، فهو یقوّم مدى تحقق الأهداف لدى الطلبة، کما یقوّم أداءهم العملی، وانضباط سلوکیاتهم وفقا لما تعلموه، فیثیب المحسن ویکافئه، ویوبخ المقصر ویعاتبه، ویصحح الأخطاء التی یقع فیها الطلبة، کما یقوّم کفاءة المحتوى التدریسی المقرر بین الفترة والأخرى، وینوع لطلبته مصادر التعلم، وفق قدراتهم واستعداداتهم.

   فالعملیة التعلیمیة منظومة متکاملة من حیث الأهداف الاستراتیجیة، والمحتوى المتقن، ووسائل التعلیم وأدواته، وطرائق التدریس، وأسالیب التقویم ونشاطاته. والمعلم الحصیف من یستطیع فعلا، أن یدرک کل ذلک، والأریب من یبتکر فضاءات تعلیمیة تتوافق مع ظروف العصر، وتراعی اختلاف المواقف التدریسیة، وقد استطاع الشیخ منصور الإلمام بجمیع ذلک.

الخاتمة:

خلصت هذه الدراسة البحثیة إلى جملة من النتائج، لعل أهمها:

1-   مکانة الشیخ منصور الفارسی العلمیة، ویتضح ذلک من جملة التصانیف التی ألفها فی کافة فنون العلم والمعرفة: سواء الفقهیة أو الأدبیة أو تناوله للقضایا المعاصرة فی زمانه بجملة الشروحات والإیضاحات العلمیة المناسبة.

2-   المکانة المجتمعیة للشیخ منصور، ویتضح ذلک من خلال کونه رئیسا لقبیلته التی ترجع إلیه فی شتى أمورها، بالإضافة إلى مکانته المقربة من الإمام محمد بن عبد الله الخلیلی.

3-   قدرة الشیخ على استیعاب مجریات الحیاة آنذاک، ویتضح ذلک من خلال مواءمته بین الأحوال المعیشیة فی التعامل مع طلبته، ومناقشتهم فیما یصلح أحوالهم.

4-   التنویع فی الأسالیب التدریسیة وفق مقتضیات العملیة التعلیمیة التعلمیة، فلم یکتفِ الشیخ بأسلوب التحفیظ والتلقین، بل تطور إلى أسالیب الاستنباط والاستنتاج، والحوار الهادف مع الأقران، ومع المشایخ والعلماء.

التوصیات:

من خلال هذه الدراسة فإنّ الباحث یوصی بالآتی:

1-   استکمال البحوث التربویة فی مجال المنهج العلمی التعلیمی لدى الشیخ منصور بن ناصر الفارسی، بصورة أکثر عمقا.

2-   تخصیص رسائل جامعیة تبحث فی مجالات العملیة التربویة لدى الشیخ منصور بن ناصر الفارسی.

3-   تحقیق وطباعة الکتب التی ألفها الشیخ منصور الفارسی؛ لتکون مرجعا لطلبة العلم ینهلون منها شتى المعارف والقیم.

4-   الاستمرار فی إقامة الندوات العلمیة التی تعرّف بشیوخ العلم العمانیین، الذین لهم دور بارز فی العملیة التعلیمیة.

([1]) وزارة التربیة والتعلیم: وثیقة مناهج التربیة الإسلامیة، سلطنة عمان. 2018م.

([2]) صالح، عبد الرحمن: المنهاج الدراسی رؤیة إسلامیة، دار البشیر الأردن، 1999م، ص10، (بتصرف)

([3]) الجمالی، محمد فاضل: تربیة الإنسان الجدید، المملکة الأردنیة الهاشمیة، 2008م.

([4]) صالح، عبد الرحمن: المنهاج المدرسی رؤیة إسلامیة، مرجع سابق.

([5]) الفارسی، سعود بن عبد الله: سلسلة عظماء عمان، عمان مهد الحضارات الأولى، مخطوط، 2018م.

([6]) الفارسی: ناصر بن منصور، مقابلة سابقة.

([7]) الفارسی، منصور بن ناصر: عنوان الآثار، ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الدینیة، سلطنة عمان، 2016م، ص67.

([8]) الفارسی، منصور: عنوان الآثار، مصدر سابق: ص69 ص70.

([9]) الراجحی، سالم بن صالح: مقابلة حول أسالیب التدریس فی مدارس القرآن الکریم فی عهد الإمام الخلیلی. بتاریخ 20 دیسمبر 2017م.

([10]) الفارسی، ناصر بن منصور: مقابلة سابقة بتاریخ 10 ینایر 2018م.

([11]) الفارسی، ناصر بن منصور: المقابلة السابقة.

([12]) إبراهیم، محمود: المناهج الدراسیة: تخطیطها وتدریسها، الاسکندریة، 1994م، ص20.

([13]) الفارسی، ناصر: مقابلة سابقة.

([14]) الراجحی: سالم بن صالح: مقابلة سابقة.

([15]) الزیدی: ناصر بن محمد (من أصهار الشیخ منصور) عمل فی سفارة السلطنة بالجزائر، ثم عمل فی زارة التربیة والتعلیم بسلطنة عمان. مقابلة بتاریخ:20 / 1 /2018م.

([16]) الفارسی، منصور بن ناصر: الغایة القصوى، فی الأحکام والفتوى (مخطوط) ص6.

([17]) الفارسی، منصور بن ناصر: تقریب الأذهان إلى علمی المعانی والبیان (مخطوط) ص1.

([18]) الفارسی، سیف بن محمد: حیاتی، ط1، مکتبة خزائن الآثار، برکاء، سلطنة عمان، 2017، ص22.

([19]) جمیع هذه الکتب المذکورة ما تزال مخطوطة، أو قید الطباعة حتى وقت کتابة هذا البحث.

([20]) الفارسی، منصور: الدلیل الواضح فی حط الجوائح (مخطوط)، ینظر أیضا: الفارسی، عنوان الآثار، ص22.

([21]) الفارسی، ناصر بن منصور: مقابلة سابقة.

([22]) وزارة التربیة والتعلیم، دلیل معلم التربیة الإسلامیة، ط1، سلطنة عمان، 2013م، ص9 (بتصرف).

([23]) الفارسی، ناصر بن منصور، مقابلة، مرجع سابق.
 

أولا: المصادر:

القرآن الکریم.

1-   الفارسی، سیف بن محمد: حیاتی، ط1، مکتبة خزائن الآثار، برکاء، سلطنة عمان، 2017م.

2-    الفارسی، منصور بن ناصر: عنوان الآثار، ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الدینیة. سلطنة عمان، 2016م.

3-   الفارسی، منصور بن ناصر: (مصادر مخطوطة): حط الجوائح، الدلیل والبرهان فی جواز إقامة صلاة الجمعة مع وجود السلطان، وهدایة الرحمن بثبوت خلق القرآن، والکلمة المُحْکَمة فی الرد على قضاة المَحْکَمة.

ثانیا: المراجع:

1-   إبراهیم، محمود، المناهج الدراسیة: تخطیطها وتدریسها، الاسکندریة، 1994م.

2-   الجمالی، محمد فاضل: تربیة الإنسان الجدید، المملکة الأردنیة الهاشمیة، 1994م.

3-   صالح، عبد الرحمن: المنهاج الدراسی رؤیة إسلامیة، دار البشیر الأردن، 1999م.

4-   الفارسی، سعود بن عبد الله: سلسلة عظماء عمان، عمان مهد الحضارات الأولى، مخطوط (2018م).

5-   وزارة التربیة والتعلیم، سلطنة عمان، دلیل معلم التربیة الإسلامیة للصف الثانی عشر، 2016م.

6-    وزارة التربیة والتعلیم، سلطنة عمان، وثیقة مناهج التربیة الإسلامیة، 2017م.

ثالثا: المقابلات الشخصیة:

1-   الراجحی، سالم بن صالح، معلم قرآن کریم: مقابلة شخصیة عن آلیات تدریس القرآن الکریم وعلومه فی زمن الإمام محمد بن عبد الله الخلیلی -رحمه الله-.

1-   الزیدی، ناصر بن محمد: مقابلة شخصیة عن الإرادة الذاتیة لدى المتعلمین فی مدرسة الشیخ منصور الفارسی، بتاریخ 20 ینایر 2018م.

2-   الفارسی، سعود بن عبد الله: مقابلة شخصیة عن الحیاة العلمیة عند الشیخ منصور الفارسی، فنجاء، 2018م.

3-   الفارسی، ناصر بن منصور: مقابلة شخصیة عن حیاة الشیخ منصور بن ناصر الفارسی، ودوره العلمی، بتاریخ 10 ینایر 2018م بفنجاء.